الباحث القرآني
﴿يا أيُّها النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ﴾ ﴿ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا ومِنَ النّاسِ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا واعْبُدُوا رَبَّكم وافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ ﴿وجاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هو اجْتَباكم وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ مِلَّةَ أبِيكم إبْراهِيمَ هو سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وفي هَذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكم وتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ فَأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هو مَوْلاكم فَنِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النَّصِيرُ﴾ .
(p-٣٩٠)لَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّ الكُفّارَ يَعْبُدُونَ ما لا دَلِيلَ عَلى عِبادَتِهِ لا مِن سَمْعٍ ولا مِن عَقْلٍ ويَتْرُكُونَ عِبادَةَ مَن خَلَقَهم، ذَكَرَ ما عَلَيْهِ مَعْبُوداتُهم مِنِ انْتِفاءِ القُدْرَةِ عَلى خَلْقِ أقَلِّ الأشْياءِ بَلْ عَلى رَدِّ ما أخَذَهُ ذَلِكَ الأقَلُّ مِنهُ، وفي ذَلِكَ تَجْهِيلٌ عَظِيمٌ لَهم حَيْثُ عَبَدُوا مَن هَذِهِ صَفَتُهُ لِقَوْلِهِ ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ بِتاءِ الخِطابِ. وقِيلَ: خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أرادَ اللَّهُ أنْ يُبَيِّنَ لَهم خَطَأ الكافِرِينَ فَيَكُونُ (تَدْعُونَ) خِطابًا لِغَيْرِهِمُ الكُفّارِ عابِدِي غَيْرِ اللَّهِ. وقِيلَ: الخِطابُ عامٌّ يَشْمَلُ مَن نَظَرَ في أمْرِ عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ قُبْحُ ذَلِكَ. و(ضُرِبَ) مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، والظّاهِرُ أنَّ ضارِبَ المَثَلِ هو اللَّهُ تَعالى، ضَرَبَ مَثَلًا لِما يُعْبَدُ مِن دُونِهِ أيْ بَيَّنَ شُبَهًا لَكم ولِمَعْبُودِكم. وقِيلَ: ضارِبُ المَثَلِ هُمِ الكُفّارُ، جَعَلُوا مَثَلًا لِلَّهِ تَعالى أصْنامَهم وأوْثانَهم أيْ فاسْمَعُوا أنْتُمْ أيُّها النّاسُ لِحالِ هَذا المَثَلِ ونَحْوِهِ ما قالَ الأخْفَشُ قالَ: لَيْسَ هَهُنا (مَثَلٌ) وإنَّما المَعْنى جَعَلَ الكُفّارَ لِلَّهِ مَثَلًا. وقِيلَ: هو (مَثَلٌ) مِن حَيْثُ المَعْنى لِأنَّهُ (ضُرِبَ مَثَلٌ) مَن يَعْبُدُ الأصْنامَ بِمَن يَعْبُدُ ما لا يَخْلُقُ ذُبابًا.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: الَّذِي جاءَ بِهِ لَيْسَ بِمَثَلٍ فَكَيْفَ سَمّاهُ مَثَلًا ؟ قُلْتُ: قَدْ سَمَّيْتُ الصِّفَةَ أوِ القِصَّةَ الرّائِقَةَ المُتَلَقّاةَ بِالِاسْتِحْسانِ والِاسْتِغْرابِ مَثَلًا تَشْبِيهًا لَها بِبَعْضِ الأمْثالِ المُسَيَّرَةِ لِكَوْنِها مُسْتَحْسَنَةً مُسْتَغْرَبَةً عِنْدَهم. انْتَهى.
وقَرَأ الجُمْهُورُ (تَدْعُونَ) بِالتّاءِ. وقَرَأ الحَسَنُ ويَعْقُوبُ وهارُونُ والخُفافُ ومَحْبُوبٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو بِالياءِ وكِلاهُما مَبْنِيٌّ لِلْفاعِلِ. وقَرَأ اليَمانِيُّ ومُوسى الأُسْوارِيُّ بِالياءِ مِن أسْفَلُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (لَنْ) أُخْتُ لا في نَفْيِ المُسْتَقْبَلِ إلّا أنْ تَنْفِيَهُ نَفْيًا مُؤَكَّدًا، وتَأْكِيدُهُ هُنا الدَّلالَةُ عَلى أنَّ خَلْقَ الذُّبابِ مِنهم مُسْتَحِيلٌ مُنافٍ لِأحْوالِهِمْ كَأنَّهُ قالَ: مُحالٌ أنْ يَخْلُقُوا. انْتَهى. وهَذا القَوْلُ الَّذِي قالَهُ في (لَنْ) هو المَنقُولُ عَنْهُ أنَّ (لَنْ) لِلنَّفْيِ عَلى التَّأْيِيدِ، ألا تَراهُ فَسَرَّ ذَلِكَ بِالِاسْتِحالَةِ وغَيْرُهُ مِنَ النُّحاةِ يَجْعَلُ (لَنْ) مِثْلَ لا في النَّفْيِ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ ﴿أفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ﴾ [النحل: ١٧] كَيْفَ جاءَ النَّفْيُ بِلا وهو الصَّحِيحُ، والِاسْتِدْلالُ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ في النَّحْوِ. وبَدَأ تَعالى بِنَفْيِ اخْتِراعِهِمْ وخَلْقِهِمْ أقَلَّ المَخْلُوقاتِ مِن حَيْثُ إنَّ الِاخْتِراعَ صِفَةٌ لَهُ تَعالى ثابِتَةٌ مُخْتَصَّةٌ لا يُشْرِكُهُ فِيها أحَدٌ، وثَنّى بِالأمْرِ الَّذِي بَلَغَ بِهِمْ غايَةَ التَّعْجِيزِ وهو أمْرُ سَلْبِ (الذُّبابُ) وعَدَمُ اسْتِنْقاذِ شَيْءٍ مِمّا (يَسْلُبُهم) وكانَ الذُّبابُ كَثِيرًا عِنْدَ العَرَبِ، وكانُوا يُضَمِّخُونَ أوْثانَهم بِأنْواعِ الطِّيبِ فَكانَ الذُّبابُ يَذْهَبُ بِذَلِكَ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كانُوا يَطْلُونَها بِالزَّعْفَرانِ ورُؤُوسَها بِالعَسَلِ ويُغْلِقُونَ عَلَيْها فَيَدْخُلُ الذُّبابُ مِنَ الكُوى فَيَأْكُلُهُ. ومَوْضِعُ ﴿ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُصِبَ عَلى الحالِ كَأنَّهُ قالَ مُسْتَحِيلٌ: أنْ يَخْلُقُوا الذُّبابَ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمُ اجْتِماعُهم جَمِيعًا لِخَلْقِهِ، وتَعاوُنِهِمْ عَلَيْهِ. انْتَهى.
وتَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ عَلى نَظِيرِ (ولَوْ) هَذِهِ، وتَقَرَّرَ أنَّ الواوَ فِيهِ لِلْعَطْفِ عَلى حالٍ مَحْذُوفَةٍ، كَأنَّهُ قِيلَ ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا﴾ عَلى كُلِّ حالٍ ولَوْ في هَذِهِ الحالِ الَّتِي كانَتْ تَقْتَضِي أنْ يَخْلُقُوا لِأجْلِ اجْتِماعِهِمْ، ولَكِنَّهُ لَيْسَ في مَقْدُورِهِمْ ذَلِكَ.
﴿ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الصَّنَمُ والذُّبابُ، أيْ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الضَّمُّ طالِبًا لِما سُلِبَ مِن طِيبِهِمْ عَلى مَعْهُودِ الأنَفَةِ في الحَيَوانِ. وقِيلَ (المَطْلُوبُ) الآلِهَةُ و(الطّالِبُ) الذُّبابُ فَضَعْفُ الآلِهَةِ أنْ لا مَنَعَةَ لَهم، وضَعْفُ الذُّبابِ في اسْتِلابِهِ ما عَلى الآلِهَةِ. وقالَ الضَّحّاكُ: العابِدُ والمَعْبُودُ فَضَعْفُ العابِدِ في طَلَبِهِمُ الخَيْرَ مِن غَيْرِ جِهَتِهِ، وضَعْفُ المَعْبُودِ في إيصالِ ذَلِكَ لِعابِدِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَوْلُهُ ﴿ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ﴾ كالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهم وبَيْنَ الذُّبابِ في الضَّعْفِ، ولَوْ حَقَّقْتَ وجَدْتَ الطّالِبَ أضْعَفَ وأضْعَفَ، لِأنَّ الذُّبابَ حَيَوانٌ وهو جَمادٌ، وهو غالِبٌ وذاكَ مَغْلُوبٌ، والظّاهِرُ أنَّهُ إخْبارٌ بِضَعْفِ الطّالِبِ والمَطْلُوبِ، ﴿ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أيْ: ما عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، حَيْثُ عَبَدُوا مَن هو مُنْسَلِخٌ عَنْ صِفاتِهِ وسَمَّوْهُ بِاسْمِهِ، ولَمْ يُؤَهِّلُوا خالِقَهم لِلْعِبادَةِ، ثُمَّ خَتَمَ بِصِفَتَيْنِ مُنافِيَتَيْنِ لِصِفاتِ آلِهَتِهِمْ مِنَ القُوَّةِ والغَلَبَةِ، ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي﴾ الآيَةَ. نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْلِ (p-٣٩١)الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ ﴿أؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنا﴾ [ص: ٨] الآيَةَ، وأنْكَرُوا أنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِنَ البَشَرِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأنَّ رُسُلَهُ مَلائِكَةٌ وبَشَرٌ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ عالِمٌ بِأحْوالِ المُكَلَّفِينَ لا يَخْفى عَلَيْهِ مِنهم شَيْءٌ، وإلَيْهِ مَرْجِعُ الأُمُورِ كُلِّها.
ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ اصْطَفى رُسُلًا مِنَ البَشَرِ إلى الخَلْقِ، أمَرَهم بِإقامَةِ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ التَّكالِيفِ، وهو الصَّلاةُ، قِيلَ: كانَ النّاسُ أوَّلَ ما أسْلَمُوا يَسْجُدُونَ بِلا رُكُوعٍ، ويَرْكَعُونَ بِلا سُجُودٍ، فَأُمِرُوا أنْ تَكُونَ صَلاتُهم بِرُكُوعٍ وسُجُودٍ، واتَّفَقُوا عَلى مَشْرُوعِيَّةِ السُّجُودِ في آخِرِ آيَةِ: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ﴾ [الحج: ١٨]، وأمّا في هَذِهِ الآيَةِ، فَمَذْهَبُ مالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ لا يُسْجَدُ فِيها، ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ أنَّهُ يُسْجَدُ فِيها، وبِهِ قالَ عُمَرُ وابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وعُثْمانُ، وأبُو الدَّرْداءِ، وأبُو مُوسى، وابْنُ عَبّاسٍ، ﴿واعْبُدُوا رَبَّكُمْ﴾ أيْ: أفْرِدُوهُ بِالعِبادَةِ، ﴿وافْعَلُوا الخَيْرَ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: صِلَةُ الأرْحامِ ومَكارِمُ الأخْلاقِ، ويَظْهَرُ في هَذا التَّرْتِيبِ أنَّهم أُمِرُوا أوَّلًا: بِالصَّلاةِ، وهي نَوْعٌ مِنَ العِبادَةِ، وثانِيًا: بِالعِبادَةِ، وهي نَوْعٌ مِن فِعْلِ الخَيْرِ، وثالِثًا: بِفِعْلِ الخَيْرِ، وهو أعَمُّ مِنَ العِبادَةِ، فَبَدَأ بِخاصٍّ ثُمَّ بِعامٍّ ثُمَّ بِأعَمَّ.
﴿وجاهِدُوا في اللَّهِ﴾ أمْرٌ بِالجِهادِ في دِينِ اللَّهِ وإعْزازِ كَلِمَتِهِ، يَشْمَلُ جِهادَ الكُفّارِ والمُبْتَدِعَةِ، وجِهادَ النَّفْسِ. وقِيلَ: أمْرٌ بِجِهادِ الكُفّارِ خاصَّةً، ﴿حَقَّ جِهادِهِ﴾ أيِ اسْتَفْرِغُوا جُهْدَكم وطاقَتَكم في ذَلِكَ، وأضافَ الجِهادَ إلَيْهِ تَعالى، لَمّا كانَ مُخْتَصًّا بِاللَّهِ مِن حَيْثُ هو مَفْعُولٌ لِوَجْهِهِ ومِن أجْلِهِ، فالإضافَةُ تَكُونُ بِأدْنى مُلابَسَةٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُتَّسَعَ في الظَّرْفِ كَقَوْلِهِ: ويَوْمَ شَهِدْناهُ سُلَيْمًا وعامِرًا، انْتَهى. يَعْنِي بِالظَّرْفِ الجارَّ والمَجْرُورَ، كَأنَّهُ كانَ الأصْلُ حَقَّ جِهادٍ فِيهِ فاتَّسَعَ بِأنْ حُذِفَ حَرْفُ الجَرِّ وأُضِيفَ جِهادٌ إلى الضَّمِيرِ. و﴿حَقَّ جِهادِهِ﴾ مِن بابِ هو حَقُّ عالِمٍ وجِدُّ عالِمٍ، أيْ: عالِمٌ حَقًّا وعالِمٌ جِدًّا. وعَنْ مُجاهِدٍ والكَلْبِيِّ أنَّهُ مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] .
﴿هُوَ اجْتَباكُمْ﴾ أيْ: اخْتارَكم لِتَحَمُّلِ تَكْلِيفاتِهِ، وفي قَوْلِهِ: (هو) تَفْخِيمٌ واخْتِصاصٌ، أيْ هو لا غَيْرُهُ. (مِن حَرَجٍ) مِن تَضْيِيقٍ بَلْ هي حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ لَيْسَ فِيها تَشْدِيدُ بَنِي إسْرائِيلَ، بَلْ شُرِعَ فِيها التَّوْبَةُ والكَفّاراتُ والرُّخَصُ. وانْتَصَبَ ﴿مِلَّةَ أبِيكُمْ﴾ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ جَعَلَها (مِلَّةَ) وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَصَبَ المِلَّةَ بِمَضْمُونِ ما تَقَدَّمَها كَأنَّهُ قِيلَ: وسَّعَ دِينَكم تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أبِيكم، ثُمَّ حَذَفَ المُضافَ وأقامَ المُضافَ إلَيْهِ مَقامَهُ، أوْ عَلى الِاخْتِصاصِ أيْ أعْنِي بِالدِّينِ ﴿مِلَّةَ أبِيكُمْ﴾ كَقَوْلِهِ: الحَمْدُ لِلَّهِ الحَمِيدَ، وقالَ الحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ: اتِّبِعُوا مِلَّةَ إبْراهِيمَ. وقالَ الفَرّاءُ: هو نَصْبٌ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ الكافِ، كَأنَّهُ قِيلَ كَلِمَةُ (أبِيكم) بِالإضافَةِ إلى أبِيهِ الرَّسُولِ، وأُمَّةُ الرَّسُولِ في حُكْمِ أوْلادِهِ، فَصارَ أبًا لِأُمَّتِهِ بِهَذِهِ الوَساطَةِ. وقِيلَ: لَمّا كانَ أكْثَرُهم مِن ولَدِهِ كالرَّسُولِ ورَهْطِهِ وجَمِيعِ العَرَبِ طُلِبَ الأكْثَرُ فَأُضِيفَ إلَيْهِمْ. وجاءَ قَوْلُهُ: (مِلَّةَ) (إبْراهِيمَ) بِاعْتِبارِ عِبادَةِ اللَّهِ، وتَرْكِ الأوْثانِ، وهو المَسُوقُ لَهُ الآياتُ المُتَقَدِّمَةُ، فَلا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلى الِاتِّباعِ في تَفاصِيلِ الشَّرائِعِ.
والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿هُوَ سَمّاكُمُ﴾ عائِدٌ عَلى (إبْراهِيمَ)، وهو أقْرَبُ مَذْكُورٍ، ولِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجابَةٌ، ودَعا إبْراهِيمُ فَقالَ: ﴿رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ومِن ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] فاسْتَجابَ اللَّهُ لَهُ فَجَعَلَها أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - وقالَهُ ابْنُ زَيْدٍ والحَسَنُ. وقِيلَ: يَعُودُ (هو) إلى اللَّهِ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ، ومُجاهِدٍ، والضَّحّاكِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ اللَّهَ ﴿سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ﴾ أيْ: في كُلِّ الكُتُبِ، (وفي هَذا) أيِ القُرْآنِ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ لِلَّهِ قِراءَةُ أُبَيٍّ: اللَّهُ سَمّاكم. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذِهِ اللَّفْظَةُ - يَعْنِي قَوْلَهُ: (وفي هَذا) - تَضْعِيفُ قَوْلِ مَن قالَ الضَّمِيرُ لِ إبْراهِيمَ، ولا يَتَوَجَّهُ إلّا عَلى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ مِنَ الكَلامِ مُسْتَأْنَفٍ انْتَهى. وتَقْدِيرُ المَحْذُوفِ وسُمِّيتُمْ في هَذا القُرْآنِ المُسْلِمِينَ، والمَعْنى أنَّهُ فَضَّلَكم عَلى الأُمَمِ، وسَمّاكم بِهَذا الِاسْمِ.
﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ﴾ أنَّهُ قَدْ بَلَّغَكم ﴿وتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾ بِأنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْهم، وإذْ قَدْ خَصَّكم بِهَذِهِ الكَرامَةِ والأثَرَةِ فاعْبُدُوهُ وثِقُوا بِهِ ولا تَطْلُبُوا (p-٣٩٢)النُّصْرَةَ والوِلايَةَ إلّا مِنهُ، فَهو خَيْرُ مَوْلًى وناصِرٍ.
وعَنْ قَتادَةَ: أُعْطِيَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ ما لَمْ يُعْطَهُ إلّا نَبِيٌّ. قِيلَ لِلنَّبِيِّ: أنْتَ شَهِيدٌ عَلى أُمَّتِكَ. وقِيلَ لَهُ: لَيْسَ عَلَيْكَ حَرَجٌ. وقِيلَ لَهُ: سَلْ تُعْطَ. وقِيلَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ: ﴿وتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾، وقِيلَ لَهم: ﴿ما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾، وقِيلَ لَهم: ﴿ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠]، ﴿واعْتَصِمُوا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: سَلُوا رَبَّكم أنْ يَعْصِمَكم مِن كُلِّ ما يَكْرَهُ. وقالَ الحَسَنُ: تَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ.
{"ayahs_start":73,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلࣱ فَٱسۡتَمِعُوا۟ لَهُۥۤۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن یَخۡلُقُوا۟ ذُبَابࣰا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُوا۟ لَهُۥۖ وَإِن یَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَیۡـࣰٔا لَّا یَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ","مَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ","ٱللَّهُ یَصۡطَفِی مِنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ رُسُلࣰا وَمِنَ ٱلنَّاسِۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعُۢ بَصِیرࣱ","یَعۡلَمُ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱرۡكَعُوا۟ وَٱسۡجُدُوا۟ وَٱعۡبُدُوا۟ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُوا۟ ٱلۡخَیۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ۩","وَجَـٰهِدُوا۟ فِی ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلدِّینِ مِنۡ حَرَجࣲۚ مِّلَّةَ أَبِیكُمۡ إِبۡرَ ٰهِیمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ مِن قَبۡلُ وَفِی هَـٰذَا لِیَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِیدًا عَلَیۡكُمۡ وَتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُوا۟ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِیرُ"],"ayah":"مَا قَدَرُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق