الباحث القرآني
﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَتَكُونَ لَهم قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾ ﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذابِ ولَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وعْدَهُ وإنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَألْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ﴾ ﴿وكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ أمْلَيْتُ لَها وهي ظالِمَةٌ ثُمَّ أخَذْتُها وإلَيَّ المَصِيرُ﴾ ﴿قُلْ ياأيُّها النّاسُ إنَّما أنا لَكم نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿فالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهم مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ ﴿والَّذِينَ سَعَوْا في آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولَئِكَ أصْحابُ الجَحِيمِ﴾ .
لَمّا ذَكَرَ تَعالى مَن كَذَّبَ الرُّسُلَ مِنَ الأُمَمِ الخالِيَةِ وكانَ عِنْدَ العَرَبِ أشْياءُ مِن أحْوالِهِمْ يَنْقُلُونَها وهم عارِفُونَ بِبِلادِهِمْ وكَثِيرًا ما يَمُرُّونَ عَلى كَثِيرٍ مِنها قالَ (أفَلَمْ يَسِيرُوا) فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ حَثًّا عَلى السَّفَرِ لِيُشاهِدُوا مَصارِعَ الكُفّارِ فَيَعْتَبِرُوا، أوْ يَكُونُوا قَدْ سافَرُوا وشاهَدُوا فَلَمْ يَعْتَبِرُوا فَجُعِلُوا كَأنْ لَمْ يُسافِرُوا ولَمْ يَرَوْا. وقَرَأ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ: فَيَكُونُ بِالياءِ والجُمْهُورِ بِالتّاءِ (فَتَكُونَ) مَنصُوبٌ عَلى جَوابِ الِاسْتِفْهامِ قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وعَلى جَوابِ التَّقْرِيرِ قالَهُ الحَوْفِيُّ. وقِيلَ: عَلى جَوابِ النَّفْيِ، ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ أنَّ النَّصْبَ بِإضْمارِ أنْ ويَنْسَبِكُ مِنها ومِنَ الفِعْلِ مَصْدَرٌ يُعْطَفُ (p-٣٧٨)عَلى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، ومَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ أنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى الصَّرْفِ إذْ مَعْنى الكَلامِ الخَبَرُ صَرَفُوهُ عَنِ الجَزْمِ عَلى العَطْفِ عَلى (يَسِيرُ)، ورَدُّوهُ إلى أخِي الجَزْمِ وهو النَّصْبُ هَذا مَعْنى الصَّرْفِ عِنْدَهم، ومَذْهَبُ الجَرْمِيِّ أنَّ النَّصْبَ بِالفاءِ نَفْسِها وإسْنادُ العَقْلِ إلى القَلْبِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ مَحَلُّهُ، ولا يُنْكَرُ أنَّ لِلدِّماغِ بِالقَلْبِ اتِّصالًا يَقْتَضِي فَسادَ العَقْلِ إذا فَسَدَ الدِّماغُ ومُتَعَلِّقُ ﴿يَعْقِلُونَ بِها﴾ مَحْذُوفٌ أيْ ما حَلَّ بِالأُمَمِ السّابِقَةِ حِينَ كَذَّبُوا أنْبِياءَهم و(يَعْقِلُونَ) ما يَجِبُ مِنَ التَّوْحِيدِ، وكَذَلِكَ مَفْعُولُ (يَسْمَعُونَ) أيْ يَسْمَعُونَ أخْبارَ تِلْكَ الأُمَمِ أوْ ما يَجِبُ سَماعُهُ مِنَ الوَحْيِ. والضَّمِيرُ في (فَإنَّها) ضَمِيرُ القِصَّةِ وحَسُنَ التَّأْنِيثُ هُنا ورَجَّحَهُ كَوْنُ الضَّمِيرِ ولِيَهُ فِعْلٌ بِعَلامَةِ التَّأْنِيثِ وهي التّاءُ في (لا تَعْمى) ويَجُوزُ في الكَلامِ التَّذْكِيرُ وقَرَأ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ فَإنَّهُ لا تَعْمى.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُبْهَمًا يُفَسِّرُهُ (الأبْصارُ) وفي (تَعْمى) راجِعٌ إلَيْهِ. انْتَهى.
وما ذَكَرَهُ لا يَجُوزُ لِأنَّ الَّذِي يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ مَحْصُورٌ، ولَيْسَ هَذا واحِدًا مِنها وهو في بابِ رُبَّ وفي بابِ نِعْمَ. وبِئْسَ، وفي بابِ الأعْمالِ، وفي بابِ البَدَلِ، وفي بابِ المُتَبَدَّأِ والخَبَرِ عَلى خِلافٍ في هَذِهِ الأرْبَعَةِ عَلى ما قَرَّرَ ذَلِكَ في أبْوابِهِ. وهَذِهِ الخَمْسَةُ يُفَسِّرُ الضَّمِيرُ فِيها المُفْرَدَ وفي ضَمِيرِ الشَّأْنِ ويُفَسَّرُ بِالجُمْلَةِ عَلى خِلافٍ فِيهِ أيْضًا وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ واحِدًا مِن هَذِهِ السِّتَّةِ فَوَجَبَ اطِّراحُهُ والمَعْنى أنَّ أبْصارَهم سالِمَةٌ لا عَمى بِها، وإنَّما العَمى بِقُلُوبِهِمْ، ومَعْلُومٌ أنَّ الأبْصارَ قَدْ تَعْمى لَكِنَّ المَنفِيَّ فِيها لَيْسَ العَمى الحَقِيقِيَّ وإنَّما هو ثَمَرَةُ البَصَرِ وهو التَّأْدِيَةُ إلى الفِكْرَةِ فِيما يُشاهِدُ البَصَرُ لَكِنَّ ذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلى العَقْلِ الَّذِي مَحَلُّهُ القَلْبُ، ووُصِفَتْ (القُلُوبُ) بِالَّتِي (في الصُّدُورِ) . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مُبالَغَةٌ كَقَوْلِهِ ﴿يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٧] وكَما تَقُولُ نَظَرْتُ إلَيْهِ بِعَيْنِي.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِي قَدْ تُعُورِفَ واعْتُقِدَ أنَّ العَمى عَلى الحَقِيقَةِ مَكانُ البَصَرِ وهو أنْ تُصابَ الحَدَقَةُ بِما يَطْمِسُ نُورَها، واسْتِعْمالُهُ في القَلْبِ اسْتِعارَةٌ ومَثَلٌ، فَلَمّا أُرِيَ إثْباتُ ما هو خِلافُ المُعْتَقَدِ مِن نِسْبَةِ العَمى إلى القُلُوبِ حَقِيقَةً ونَفْيِهِ عَنِ الأبْصارِ احْتاجَ هَذا التَّصْوِيرُ إلى زِيادَةِ تَعْيِينٍ وفَضْلِ تَعْرِيفٍ لِتَقَرُّرِ أنَّ مَكانَ العَمى هو القُلُوبُ لا الأبْصارُ، كَما تَقُولُ: لَيْسَ المَضاءُ لِلسَّيْفِ ولَكِنَّهُ لِلِسانِكَ الَّذِي بَيْنَ فَكَّيْكَ، فَقَوْلُكُ: الَّذِي بَيْنَ فَكَّيْكَ تَقْرِيرٌ لِما ادَّعَيْتَهُ لِلِسانِهِ، وتَثْبِيتٌ لِأنَّ مَحَلَّ المَضاءِ هو هو لا غَيْرُ وكَأنَّكَ قُلْتَ: ما نَفَيْتَ المَضاءَ عَنِ السَّيْفِ وأثْبَتَّهُ لِلِسانِكَ فَلْتَةً ولا سَهْوًا مِنِّي ولَكِنْ تَعَمَّدْتُ بِهِ إيّاهُ بِعَيْنِهِ تَعَمُّدًا. انْتَهى.
وقَوْلُهُ ولَكِنْ تَعَمَّدْتُ بِهِ إيّاهُ بِعَيْنِهِ تَعَمُّدًا فَصْلَ الضَّمِيرِ ولَيْسَ مِن مَواضِعِ فَصْلِهِ، والصَّوابُ ولَكِنْ تَعَمَّدْتُهُ بِهِ كَما تَقُولُ السَّيْفُ ضَرَبْتُكَ بِهِ ولا تَقُولُ: ضَرَبْتُ بِهِ إيّاكَ، وفَصْلُهُ في مَكانِ اتِّصالِهِ عُجْمَةٌ، وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: وعِنْدِي فِيهِ وجْهٌ آخَرُ وهو أنَّ القَلْبَ قَدْ يُجْعَلُ كِنايَةً عَنِ الخاطِرِ، والتَّدْبِيرُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق: ٣٧] وعِنْدَ قَوْمٍ أنَّ مَحَلَّ الفِكْرِ هو الدِّماغُ فاللَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ هو الصَّدْرُ.
والضَّمِيرُ في (ويَسْتَعْجِلُونَكَ) لِقُرَيْشٍ، وكانَ ﷺ يُحَذِّرُهم نَقَماتِ اللَّهِ ويُوعِدُهم بِذَلِكَ دُنْيا وآخِرَةً وهم لا يُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ ويَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ، فَكانَ اسْتِعْجالُهم عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ وأنَّ ما تَوَعَّدَتْنا بِهِ لا يَقَعُ وإنَّهُ لا بَعْثَ وفي قَوْلِهِ ﴿ولَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وعْدَهُ﴾ أيْ إنَّ ذَلِكَ واقِعٌ لا مَحالَةَ، لَكِنْ لِوُقُوعِهِ أجَلٌ لا يَتَعَدّاهُ. وأضافَ الوَعْدَ إلَيْهِ تَعالى لِأنَّ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ هو المُخْبِرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعالى.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أنْكَرَ اسْتِعْجالَهم بِالمُتَوَعَّدِ بِهِ مِنَ العَذابِ العاجِلِ والآجِلِ، كَأنَّهُ قالَ: ولِمَ يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ كَأنَّهم يُجَوِّزُونَ الفَوْتَ وإنَّما يَجُوزُ ذَلِكَ عَلى مِيعادِ مَن يَجُوزُ عَلَيْهِ الخُلْفُ واللَّهُ عَزَّ وعُلا لا يُخْلِفُ المِيعادَ، وما وعَدَهُ لِيُصِيبَهم ولَوْ بَعْدَ حِينٍ وهو سُبْحانُهُ حَلِيمٌ لا يُعَجَّلُ. انْتَهى.
وفِي قَوْلِهِ وإنَّما يَجُوزُ ذَلِكَ عَلى مِيعادِ مَن يَجُوزُ عَلَيْهِ الخُلْفُ دَسِيسَةَ الِاعْتِزالِ.
وقِيلَ: ﴿ولَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وعْدَهُ﴾ في النَّظْرَةِ والإمْهالِ (p-٣٧٩)واخْتَلَفُوا في هَذا التَّشَبُّهِ. فَقِيلَ: في العَدَدِ أيِ اليَوْمُ عِنْدَ اللَّهِ ألْفُ سَنَةٍ مِن عَدَدِكم. وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَدْخُلُ فُقَراءُ المُسْلِمِينَ الجَنَّةَ قَبْلَ الأغْنِياءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ عامٍ»، فالمَعْنى وإنْ طالَ الإمْهالُ فَإنَّهُ في بَعْضِ يَوْمٍ مِن أيّامِ اللَّهِ. وقِيلَ: التَّشْبِيهُ وقَعَ في الطُّولِ لِلْعَذابِ فِيهِ، والشِّدَّةِ أيْ ﴿وإنَّ يَوْمًا﴾ مِن أيّامِ عَذابِ اللَّهِ لِشِدَّةِ العَذابِ فِيهِ وطُولِهِ ﴿كَألْفِ سَنَةٍ﴾ مِن عَدَدِكم إذْ أيّامُ التَّرِحَةِ مُسْتَطالَةٌ وأيّامُ الفَرْحَةِ مُسْتَقْصِرَةٌ، وكانَ ذَلِكَ اليَوْمُ الواحِدُ كَألْفِ سَنَةٍ مِن سِنِي العَذابِ والمَعْنى أنَّهم لَوْ عَرَفُوا حالَ الآخِرَةِ ما اسْتَعْجَلُوهُ وهَذا القَوْلُ قَرِيبٌ مِن قَوْلِ أبِي مُسْلِمٍ.
وقِيلَ: التَّشْبِيهُ بِالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِهِ تَعالى وقُدْرَتِهِ وإنْفاذِ ما يُرِيدُ ﴿كَألْفِ سَنَةٍ﴾ واقْتَصَرَ عَلى ألْفِ سَنَةٍ وإنْ كانَ اليَوْمُ عِنْدَهُ كَما لا نِهايَةَ لَهُ مِنَ العَدَدِ لِكَوْنِ الألْفِ مُنْتَهى العَدَدِ دُونَ تَكْرارٍ، وهَذا القَوْلُ لا يُناسِبُ مَوْرِدَ الآيَةِ إلّا إنْ أُرِيدَ أنَّهُ القادِرُ الَّذِي لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، فَإذا لَمْ يَسْتَبْعِدُوا إمْهالَ يَوْمٍ فَلا يَسْتَبْعِدُوا أيْضًا إمْهالَ ألْفِ سَنَةٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أرادَ بِاليَوْمِ مِنَ الأيّامِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيها السَّماواتِ والأرْضَ. وقالَ ابْنُ عِيسى يُجْمَعُ لَهم عَذابُ ألْفِ سَنَةٍ في يَوْمٍ واحِدٍ، ولِأهْلِ الجَنَّةِ سُرُورُ ألْفِ سَنَةٍ في يَوْمٍ واحِدٍ. وقالَ الفَرّاءُ: تَضَمَّنَتِ الآيَةُ عَذابَ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وأُرِيدَ العَذابُ في الدُّنْيا أيْ ﴿ولَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وعْدَهُ﴾ في إنْزالِ العَذابِ بِكم في الدُّنْيا، ﴿وإنَّ يَوْمًا﴾ مِن أيّامِ عَذابِكم في الآخِرَةِ ﴿كَألْفِ سَنَةٍ﴾ مِن سِنِي الدُّنْيا فَكَيْفَ تَسْتَعْجِلُونَ العَذابَ. وقالَ الزَّجّاجُ: تَفَضَّلَ تَعالى عَلَيْهِمْ بِالإمْهالِ والمَعْنى أنَّ اليَوْمَ عِنْدَ اللَّهِ والألْفَ سَواءٌ في قُدْرَتِهِ بَيْنَ ما اسْتَعْجَلُوا بِهِ وبَيْنَ تَأخُّرِهِ.
وقَرَأ الأخَوانِ وابْنُ كَثِيرٍ يَعُدُّونَ بِياءِ الغَيْبَةِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِتاءِ الخِطابِ وعُطِفَتْ (فَكَأيِّنْ) الأُولى بِالفاءِ وهَذِهِ الثّانِيَةُ بِالواوِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الأُولى وقَعَتْ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) وأمّا هَذِهِ فَحُكْمُها حُكْمُ ما تَقَدَّمَها مِنَ الجُمْلَتَيْنِ المَعْطُوفَتَيْنِ بِالواوِ أعْنِي قَوْلَهُ ﴿ولَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وعْدَهُ وإنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَألْفِ سَنَةٍ﴾ وتَكَرَّرَ التَّكْثِيرُ بِكائِنٍ في القُرى لِإفادَةِ مَعْنى غَيْرِ ما جاءَتْ لَهُ الأُولى لِأنَّهُ ذَكَرَ فِيها القُرى الَّتِي أهْلَكَها دُونَ إمْلاءٍ وتَأْخِيرٍ، بَلْ أعْقَبَ الإهْلاكَ التَّذْكِيرُ وهَذِهِ الآيَةُ لَمّا كانَ تَعالى قَدْ أمْهَلَ قُرَيْشًا حَتّى اسْتَعْجَلَتْ بِالعَذابِ جاءَتْ بِالإهْلاكِ بَعْدَ الإمْلاءِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ قُرَيْشًا وإنْ أمْلى تَعالى لَهم وأمْهَلَهم فَإنَّهُ لا بُدَّ مِن عَذابِهِمْ فَلا يَفْرَحُوا بِتَأْخِيرِ العَذابِ عَنْهم.
ثُمَّ أمَرَ نَبِيَّهُ أنْ يَقُولَ لِأهْلِ مَكَّةَ ﴿ياأيُّها النّاسُ إنَّما أنا لَكم نَذِيرٌ﴾ مِن عَذابِ اللَّهِ مُوَضَّحٌ لَكم ما تَحْذَرُونَ أوْ مُوَضَّحُ النِّذارَةِ لا تَلَجْلُجَ فِيها، وذَكَرَ النِّذارَةَ دُونَ البِشارَةِ وإنْ كانَ التَّقْسِيمُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقْتَضِيهِما لِأنَّ الحَدِيثَ مَسُوقٌ لِلْمُشْرِكِينَ، و﴿ياأيُّها النّاسُ﴾ نِداءٌ لَهم وهُمُ المَقُولُ فِيهِمْ ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا﴾ والمَخْبَرُ عَنْهم بِاسْتِعْجالِ العَذابِ وإنَّما ذُكِرَ المُؤْمِنُونَ هُنا وما أعَدَّ اللَّهُ لَهم مِنَ الثَّوابِ لِيُغاظَ المُشْرِكُونَ بِذَلِكَ ولِيُحَرِّضَهم عَلى نَيْلِ هَذِهِ الرُّتْبَةِ الجَلِيلَةِ الَّتِي فِيها فَوْزُهم، وحَصَرَ النِّذارَةَ لِأنَّ المَعْنى لَيْسَ لِي تَعْجِيلُ عَذابِكم ولا تَأْخِيرِهِ عَنْكم وإنَّما أنا مُنْذِرُكم بِهِ.
وقالَ الكِرْمانِيُّ: التَّقْدِيرُ بَشِيرٌ ونَذِيرٌ فَحُذِفَ والتَّقْسِيمُ داخِلٌ في المَقُولِ، والسَّعْيُ الطَّلَبُ والِاجْتِهادُ في ذَلِكَ، ويُقالُ: سَعى فُلانٌ في أمْرِ فُلانٍ فَيَكُونُ بِإصْلاحٍ وبِإفْسادٍ وقَدْ يُسْتَعْمَلُ في الشَّرِّ، يُقالُ فِيهِ: سَعى بِفُلانٍ سِعايَةً أيْ تَحَيَّلَ، وكادَ في إيصالِ الشَّرِّ إلَيْهِ وسَعْيِهِمْ بِالفَسادِ في آياتِ اللَّهِ حَيْثُ طَعَنُوا فِيها فَسَمُّوها سِحْرًا وشِعْرًا وأساطِيرَ الأوَّلِينَ، وثَبَّطُوا النّاسَ عَنِ الإيمانِ بِها.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو والجَحْدَرِيُّ وأبُو السَّمّالِ والزَّعْفَرانِيُّ مُعَجِّزِينَ بِالتَّشْدِيدِ هُنا وفي حَرْفَيْ سَبَأٍ زادَ الجَحْدَرِيُّ في جَمِيعِ القُرْآنِ أيْ مُثَبِّطِينَ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِألِفٍ. وقَرَأ ابْنُ الزُّبَيْرِ مُعْجِزِينَ بِسُكُونِ العَيْنِ وتَخْفِيفِ الزّايِ مَن أعْجَزَنِي إذا سَبَقَكَ فَفاتَكَ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: لَكِنَّهُ هُنا بِمَعْنى مُعاجِزِينِ أي ظانِّينَ أنَّهم يُعْجِزُونَنا، وذَلِكَ لِظَنِّهِمْ أنَّهم لا يُبْعَثُونَ. وقِيلَ (p-٣٨٠)فِي (مُعاجِزِينِ) مُعانِدِينَ، وأمّا مُعَجِّزِينِ بِالتَّشْدِيدِ فَإنَّهُ بِمَعْنى مُثَبِّطِينَ النّاسَ عَنِ الإسْلامِ، ويُقالُ: مُثَبِّطِينَ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عاجَزَهُ سابَقَهُ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما في طَلَبِ إعْجازِ الآخَرِ عَنِ اللَّحاقِ بِهِ، فَإذا سَبَقَهُ قِيلَ أعْجَزَهُ وعَجَّزَهُ، فالمَعْنى سابِقِينَ أوْ مُسابِقِينَ في زَعْمِهِمْ وتَقْدِيرِهِمْ، طامِعِينَ أنَّ كَيْدَهم لِلْإسْلامِ يَتِمُّ لَهم. انْتَهى.
وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: مُعَجِّزِينِ مَعْناهُ ناسِبِينَ أصْحابَ النَّبِيِّ ﷺ إلى العَجْزِ كَما تَقُولُ: فَسَّقْتُ فُلانًا إذا نَسَبْتَهُ إلى الفِسْقِ. وتَقَدَّمَ شَرَحُ أُخْرى هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ الوارِدَتَيْنِ تَقْسِيمًا.
{"ayahs_start":46,"ayahs":["أَفَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبࣱ یَعۡقِلُونَ بِهَاۤ أَوۡ ءَاذَانࣱ یَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِی فِی ٱلصُّدُورِ","وَیَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ وَلَن یُخۡلِفَ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥۚ وَإِنَّ یَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَةࣲ مِّمَّا تَعُدُّونَ","وَكَأَیِّن مِّن قَرۡیَةٍ أَمۡلَیۡتُ لَهَا وَهِیَ ظَالِمَةࣱ ثُمَّ أَخَذۡتُهَا وَإِلَیَّ ٱلۡمَصِیرُ","قُلۡ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ لَكُمۡ نَذِیرࣱ مُّبِینࣱ","فَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَرِزۡقࣱ كَرِیمࣱ","وَٱلَّذِینَ سَعَوۡا۟ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا مُعَـٰجِزِینَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَحِیمِ"],"ayah":"أَفَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبࣱ یَعۡقِلُونَ بِهَاۤ أَوۡ ءَاذَانࣱ یَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِی فِی ٱلصُّدُورِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق