الباحث القرآني

﴿ذَلِكَ ومَن يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإنَّها مِن تَقْوى القُلُوبِ﴾ ﴿لَكم فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ ﴿ولِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ فَإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ فَلَهُ أسْلِمُوا وبَشِّرِ المُخْبِتِينَ﴾ [الحج: ٣٤] ﴿الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهم والصّابِرِينَ عَلى ما أصابَهم والمُقِيمِي الصَّلاةِ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ [الحج: ٣٥] ﴿والبُدْنَ جَعَلْناها لَكم مِن شَعائِرِ اللَّهِ لَكم فِيها خَيْرٌ فاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإذا وجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنها وأطْعِمُوا القانِعَ والمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْناها لَكم لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ [الحج: ٣٦] ﴿لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها ولا دِماؤُها ولَكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنكم كَذَلِكَ سَخَّرَها لَكم لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكم وبَشِّرِ المُحْسِنِينَ﴾ [الحج: ٣٧] . إعْرابُ (ذَلِكَ) كَإعْرابِ (ذَلِكَ) المُتَقَدِّمِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ﴿شَعائِرِ اللَّهِ﴾ في أوَّلِ المائِدَةِ، وأمّا هُنا فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وجَماعَةٌ: هي البُدْنُ الهَدايا، وتَعْظِيمُها تَسْمِينُها والِاهْتِبالُ بِها والمُغالاةُ فِيها. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: الشَّعائِرُ سِتٌّ: الصَّفا، والمَرْوَةُ، والبُدْنُ، والجِمارُ، والمَشْعَرُ الحَرامِ، وعَرَفَةُ، والرُّكْنُ. وتَعْظِيمُها إتْمامُ ما يُفْعَلُ فِيها. وقالَ ابْنُ عُمَرَ والحَسَنُ ومالِكٌ وابْنُ زَيْدٍ: مَواضِعُ الحَجِّ كُلُّها ومَعالِمُهُ بِمِنًى وعَرَفَةَ والمُزْدَلِفَةِ والصَّفا والمَرْوَةِ والبَيْتِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وهَذا نَحْوٌ مِن قَوْلِ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ. وقِيلَ: شَرائِعُ دِينِهِ وتَعْظِيمُها التِزامُها والمَنافِعُ الأجْرُ، ويَكُونُ الضَّمِيرُ في (فِيها) مِن قَوْلِهِ ﴿لَكم فِيها مَنافِعُ﴾ عائِدًا عَلى الشَّعائِرِ الَّتِي هي الشَّرائِعُ أيْ (لَكم في) التَّمَسُّكُ بِها ﴿مَنافِعُ إلى أجَلٍ﴾ مُنْقَطِعُ التَّكْلِيفِ ﴿ثُمَّ مَحِلُّها﴾ بِشَكْلٍ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ. فَقِيلَ: فَقِيلَ: الإيمانُ والتَّوَجُّهُ إلَيْهِ بِالصَّلاةِ، وكَذَلِكَ القَصْدُ في الحَجِّ والعُمْرَةِ، أيْ مَحَلِّ ما يَخْتَصُّ مِنها بِالإحْرامِ ﴿البَيْتِ العَتِيقِ﴾ وقِيلَ: مَعْنى ذَلِكَ ثُمَّ أجْرُها عَلى رَبِّ ﴿البَيْتِ العَتِيقِ﴾ قِيلَ: ولَوْ قِيلَ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ أنَّ ﴿البَيْتِ العَتِيقِ﴾ الجَنَّةُ لَمْ يُبْعِدُوا الضَّمِيرَ في إنَّها عائِدٌ عَلى الشَّعائِرِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ فَإنَّ تَعْظِيمَها أوْ عَلى التَّعْظِمَةِ، وأضافَ التَّقْوى إلى القُلُوبِ كَما «قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (التَّقْوى هَهُنا») . وأشارَ إلى صَدْرِهِ. «وعَنْ عُمَرَ أنَّهُ أهْدى نَجِيبَةً طُلِبَتْ مِنهُ بِثَلاثِمِائَةِ دِينارٍ فَسَألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنْ يَبِيعَها ويَشْتَرِيَ بِثَمَنِها بُدْنًا فَنَهاهُ عَنْ ذَلِكَ وقالَ: (بَلِ اهْدِها) وأهْدى هو عَلَيْهِ السَّلامُ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِيها جَمَلٌ لِأبِي جَهْلٍ في أنْفِهِ بُرَةٌ مِن ذَهَبٍ»، وكانَ ابْنُ عُمَرَ يَسُوقُ البُدْنَ مُجَلَّلَةً بِالقَباطِيِّ فَيَتَصَدَّقُ (p-٣٦٨)بِلُحُومِها وبِجِلالِها، ويَعْتَقِدُ أنَّ طاعَةَ اللَّهِ في التَّقَرُّبِ بِها وإهْدائِها إلى بَيْتِهِ المُعَظَّمِ أمْرٌ عَظِيمٌ لا بُدَّ أنْ يُقامَ بِهِ ويُسارَعَ فِيهِ، وذَكَرَ (القُلُوبَ) لِأنَّ المُنافِقَ يُظْهِرُ التَّقْوى وقَلْبُهُ خالٍ عَنْها، فَلا يَكُونُ مُجِدًّا في أداءِ الطّاعاتِ، والمُخْلِصُ التَّقْوى بِاللَّهِ في قَلْبِهِ فَيُبالِغُ في أدائِها عَلى سَبِيلِ الإخْلاصِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنَّ تَعْظِيمَها (مِن) أفْعالِ ذَوِي ﴿تَقْوى القُلُوبِ﴾ فَحُذِفَتْ هَذِهِ المُضافاتُ، ولا يَسْتَقِيمُ المَعْنى إلّا بِتَقْدِيرِها لِأنَّهُ لا بُدَّ مِن راجِعٍ مِنَ الجَزاءِ إلى (مِن) لِيَرْتَبِطَ بِهِ، وإنَّما ذُكِرَتِ (القُلُوبُ) لِأنَّها مَراكِزُ التَّقْوى الَّتِي إذا ثَبَتَتْ فِيها وتَمَكَّنَتْ ظَهَرَ أثَرُها في سائِرِ الأعْضاءِ. انْتَهى. وما قَدَّرَهُ عارٍ مِن راجِعٍ إلى الجَزاءِ إلى (مَن) ألا تَرى أنَّ قَوْلَهُ فَإنَّ تَعْظِيمَها مِن أفْعالِ القُلُوبِ لَيْسَ في شَيْءٍ مِنهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إلى (مَن) يَرْبُطُ جُمْلَةَ الجَزاءِ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ الَّذِي أداتُهُ (مَن) وإصْلاحُ ما قالَهُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَأيُّ تَعْظِيمِها مِنهُ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ في مِنهُ عائِدًا عَلى مَن فَيَرْتَبِطُ الجَزاءُ بِالشَّرْطِ. وقُرِئَ (القُلُوبُ) بِالرَّفْعِ عَلى الفاعِلِيَّةِ بِالمَصْدَرِ الَّذِي هو (تَقْوى) والضَّمِيرُ في (فِيها) عائِدٌ عَلى البُدْنِ عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ، والمَنافِعُ دَرُّها ونَسْلُها وصُوفُها ورُكُوبُ ظَهْرِها ﴿إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ وهو أنْ يُسَمِّيَها ويُوجِبَها هَدْيًا فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِن مَنافِعِها. قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةِ مِقْسَمٍ، ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ والضَّحّاكِ. وقالَ عَطاءٌ: مَنافِعُ الهَدايا بَعْدَ إيجابِها وتَسْمِيَتِها هَدْيًا بِأنْ تُرْكَبُ ويُشْرَبَ لَبَنُها عِنْدَ الحاجَةِ ﴿إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ أيْ إلى أنْ تُنْحَرَ. وقِيلَ: إلى أنْ تُشْعَرَ فَلا تُرْكَبُ إلّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. ورَوى أبُو رَزِينٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: الأجَلُ المُسَمّى الخُرُوجُ مِن مَكَّةَ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ أيْ إلى الخُرُوجِ والِانْتِقالِ مِن هَذِهِ الشَّعائِرِ إلى غَيْرِها. وقِيلَ: الأجَلُ يَوْمُ القِيامَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إلى أنْ تُنْحَرَ ويُتَصَدَّقَ بِلُحُومِها ويُؤْكَلَ مِنها. و(ثُمَّ) لِلتَّراخِي في الوَقْتِ فاسْتُعِيرَتْ لِلتَّراخِي في الأفْعالِ، والمَعْنى أنَّ لَكم في الهَدايا مَنافِعَ كَثِيرَةً في دُنْياكم ودِينِكم وإنَّما يُعْبَدُ اللَّهُ بِالمَنافِعِ الدِّينِيَّةِ قالَ تَعالى: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ [الأنفال: ٦٧] وأعْظَمُ هَذِهِ المَنافِعِ وأبْعَدُها شَوْطًا في النَّفْعِ مَحَلُّها إلى البَيْتِ أيْ وُجُوبُ نَحْرِها، أوْ وقْتَ وُجُوبِ نَحْرِها مُنْتَهِيَةً إلى البَيْتِ كَقَوْلِهِ ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥] والمُرادُ نَحْرُها في الحَرَمِ الَّذِي هو في حُكْمِ البَيْتِ لِأنَّ الحَرَمَ هو حَرِيمُ البَيْتِ، ومِثْلُ هَذا في الِاتِّساعِ قَوْلُكَ: بَلَغْنا البَلَدَ وإنَّما شارَفْتُمُوهُ واتَّصَلَ مَسِيرُكم بِحُدُودِهِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالشَّعائِرِ المَناسِكُ كُلُّها و﴿مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ يَأْباهُ. انْتَهى. وقالَ القَفّالُ: الهَدْيُ المُتَطَوِّعُ بِهِ إذا عَطِبَ قَبْلَ بُلُوغِ مَكَّةَ فَإنَّ مَحِلَّهُ مَوْضِعُهُ، فَإذا بَلَغَ مِنًى فَهي مَحِلُّهُ وكُلُّ فِجاجِ مَكَّةَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وتَكَرَّرَ (ثُمَّ) لِتَرْتِيبِ الجُمَلِ لِأنَّ المَحَلَّ قَبْلَ الأجَلِ، ومَعْنى الكَلامِ عِنْدَ هاتَيْنِ الفَرِيقَيْنِ يَعْنِي مَن قالَ مُجاهِد ومَن وافَقَهُ، ومَن قالَ بِقَوْلِ عَطاءٍ ﴿ثُمَّ مَحِلُّها﴾ إلى مَوْضِعِ النَّحْرِ فَذَكَرَ البَيْتَ لِأنَّهُ أشْرَفُ الحَرَمِ وهو المَقْصُودُ بِالهَدْيِ وغَيْرِهِ، والأجْلُ الرُّجُوعُ إلى مَكَّةَ لِطَوافِ الإفاضَةِ وقَوْلُهُ ﴿ثُمَّ مَحِلُّها﴾ مَأْخُوذٌ مِن إحْلالِ المُحْرِمِ مَعْناهُ، ثُمَّ أخَّرَ هَذا كُلَّهُ إلى طَوافِ الإفاضَةِ بِالبَيْتِ العَتِيقِ، فالبَيْتُ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ مُرادٌ بِنَفْسِهِ قالَهُ مالِكٌ في المُوَطَّأِ. انْتَهى. والمَنسَكُ مَفْعَلٌ مِن نَسَكَ واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَوْضِعًا لِلنُّسُكِ، أيْ مَكانَ نُسُكٍ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا واحْتَمَلَ أنْ يُرادَ بِهِ مَكانُ العِبادَةِ مُطْلَقًا أوِ العِبادَةُ، واحْتَمَلَ أنْ يُرادَ نُسُكٌ خاصٌّ أوْ نُسُكًا خاصًّا وهو مَوْضِعُ ذَبْحٍ أوْ ذَبْحٍ، وحَمَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلى الذَّبْحِ، يُقالُ: شَرَعَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أنْ يَنَسَكُوا لَهُ أيْ يَذْبَحُوا لِوَجْهِهِ عَلى وجْهِ التَّقَرُّبِ، وجَعَلَ العِلَّةَ في ذَلِكَ أنْ يُذْكَرَ اسْمُهُ تَقَدَّسَتْ أسْماؤُهُ عَلى المَناسِكِ. انْتَهى. وقِياسُ بِناءِ مَفْعَلٍ مِمّا مُضارِعُهُ يَفْعَلُ بِضَمِّ العَيْنِ مَفْعَلٌ بِفَتْحِها في المَصْدَرِ والزَّمانِ والمَكانِ، وبِالفَتْحِ قَرَأ الجُمْهُورُ. وقَرَأ بِكَسْرِها الأخَوانِ وابْنُ سَعْدانَ وأبُو حاتِمٍ عَنْ أبِي عَمْرٍو ويُونُسَ ومَحْبُوبٍ وعَبْدِ الوارِثِ إلّا القَصَبِيَّ عَنْهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والكَسْرُ في هَذا مِنَ الشّاذِّ ولا يُسَوَّغُ فِيهِ القِياسُ، ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ الكِسائِيُّ (p-٣٦٩)سَمِعَهُ مِنَ العَرَبِ. وقالَ الأزْهَرِيُّ: مَيْنَسَكٌ ومَنسَكٌ لُغَتانِ. وقالَ مُجاهِد: المَنسَكُ الذَّبْحُ، وإراقَةُ الدِّماءِ. يُقالُ: نَسَكَ إذا ذَبَحَ، والذَّبِيحَةُ نَسِيكَةٌ وجَمْعُها نُسُكٌ. وقالَ الفَرّاءُ: المَنسَكُ في كَلامِ العَرَبِ المُعْتادُ في خَيْرٍ وبِرٍّ. وقالَ ابْنُ عَرَفَةَ (مَنسَكًا) أيْ مَذْهَبًا مِن طاعَةِ اللَّهِ، يُقالُ: نَسَكَ نُسُكَ قَوْمِهِ إذا سَلَكَ مَذْهَبُهم. وقالَ الفَرّاءُ (مَنسَكًا) عِيدًا. وقالَ قَتادَةُ: حَجًّا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب