الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصّابِئِينَ والنَّصارى والمَجُوسَ والَّذِينَ أشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ والجِبالُ والشَّجَرُ والدَّوابُّ وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ وكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذابُ ومَن يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن مُكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ﴾ ﴿هَذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا في رَبِّهِمْ فالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهم ثِيابٌ مِن نارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحَمِيمُ﴾ ﴿يُصْهَرُ بِهِ ما في بُطُونِهِمْ والجُلُودُ﴾ ﴿ولَهم مَقامِعُ مِن حَدِيدٍ﴾ ﴿كُلَّما أرادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنها مِن غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وذُوقُوا عَذابَ الحَرِيقِ﴾ ﴿إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِن أساوِرَ مِن ذَهَبٍ ولُؤْلُؤًا ولِباسُهم فِيها حَرِيرٌ﴾ ﴿وهُدُوا إلى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وهُدُوا إلى صِراطِ الحَمِيدِ﴾ . لَمّا ذَكَرَ قَبْلُ أنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن (p-٣٥٩)يُرِيدُ أعْقَبَ بِبَيانِ مَن يَهْدِيهِ ومَن لا يَهْدِيهِ، لِأنَّ ما قَبْلَهُ يَقْتَضِي أنَّ مَن لا يُرِيدُ هِدايَتَهُ لا يَهْدِيهِ يَدُلُّ إثْباتُ الهِدايَةِ لِمَن يُرِيدُ عَلى نَفْيِها عَمَّنْ لا يُرِيدُ، والَّذِينَ أشْرَكُوا هم عَبَدَةُ الأوْثانِ والأصْنامِ، ومَن عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ودَخَلَتْ (إنَّ) عَلى كُلِّ واحِدِ جُزْأيِ الجُمْلَةِ لِزِيادَةِ التَّأْكِيدِ، ونَحْوُهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: ؎إنَّ الخَلِيفَةَ إنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ سِرْبالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجى الخَواتِيمُ وظاهِرُ هَذا أنَّهُ شَبَّهَ البَيْتَ بِالآيَةِ، وكَذَلِكَ قَرَنَهُ الزَّجّاجُ بِالآيَةِ ولا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ البَيْتُ كالآيَةِ لِأنَّ البَيْتَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرَ إنَّ الخَلِيفَةَ قَوْلُهُ: بِهِ تُرْجى الخَواتِيمُ، ويَكُونُ إنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ سِرْبالَ مُلْكٍ جُمْلَةً اعْتِراضِيَّةً بَيْنَ اسْمِ إنَّ وخَبَرِها بِخِلافِ الآيَةِ فَإنَّهُ يَتَعَيَّنُ قَوْلُهُ ﴿إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ﴾ وحَسَّنَ دُخُولَ (إنَّ) عَلى الجُمْلَةِ الواقِعَةِ خَبَرًا طُولُ الفَصْلِ بَيْنَهُما بِالمَعاطِيفِ، والظّاهِرُ أنَّ الفَصْلَ بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ هو بِصَيْرُورَةِ المُؤْمِنِينَ إلى الجَنَّةِ والكافِرِينَ إلى النّارِ، وناسَبَ الخَتْمَ بِقَوْلِهِ (شَهِيدًا) الفَصْلُ بَيْنَ الفَرْقِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الفَصْلُ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ الفَصْلَ بَيْنَهم في الأحْوالِ والأماكِنِ جَمِيعًا فَلا يُجازِيهِمْ جَزاءً واحِدًا بِغَيْرِ تَفاوُتٍ، ولا يَجْمَعُهم في مَوْطِنٍ واحِدٍ. وقِيلَ ﴿يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ﴾ يَقْضِي بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ، والظّاهِرُ أنَّ السُّجُودَ هُنا عِبارَةٌ عَنْ طَواعِيَةِ ما ذَكَرَ تَعالى والِانْقِيادِ لِما يُرِيدُهُ تَعالى، وهَذا مَعْنى شَمِلَ مَن يَعْقِلُ وما لا يَعْقِلُ، ومَن (يَسْجُدُ) سُجُودَ التَّكْلِيفِ ومَن لا يَسْجُدُهُ، وعَطَفَ عَلى ما مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ فَفي (السَّماواتِ) المَلائِكَةُ كانَتْ تَعْبُدُها و(الشَّمْسُ) عَبَدَتْها حِمْيَرُ. وعَبَدَ (القَمَرَ) كِنانَةُ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والدَّبَرانَ تَمِيمٌ. والشِّعْرى لَخْمٌ وقُرَيْشٌ. والثُّرَيّا طَيِّئٌ وعُطارِدًا أسَدٌ. والمُرْزِمُ رَبِيعَةُ. و﴿فِي الأرْضِ﴾ مَن عُبِدَ مِنَ البَشَرِ والأصْنامِ المَنحُوتَةِ مِنَ (الجِبالُ والشَّجَرُ) والبَقَرُ وما عُبِدَ مِنَ الحَيَوانِ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ (والدَّوابُ) بِتَخْفِيفِ الباءِ. قالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ ولا وجْهَ لِذَلِكَ إلّا أنْ يَكُونَ فِرارًا مِنَ التَّضْعِيفِ مِثْلُ ظَلَّتْ وقَرَنَ ولا تَعارُضَ بَيْنَ قَوْلِهِ ﴿ومَن في الأرْضِ﴾ لِعُمُومِهِ وبَيْنَ قَوْلِهِ ﴿وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ﴾ لِخُصُوصِهِ لِأنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ عَطْفُ (وكَثِيرٌ) عَلى ما قَبْلَهُ مِنَ المُفْرَداتِ المَعْطُوفَةِ الدّاخِلَةِ تَحْتَ يَسْجُدُ إذْ يَجُوزُ إضْمارُ ﴿يَسْجُدُ لَهُ﴾ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ سُجُودَ عِبادَةٍ دَلَّ عَلَيْهِ المَعْنى لا أنَّهُ يُفَسِّرُهُ (يَسْجُدُ) الأوَّلُ لِاخْتِلافِ الِاسْتِعْمالَيْنِ، ومَن يَرى الجَمْعَ بَيْنَ المُشْرِكِينَ وبَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ يُجِيزُ عَطْفَ ﴿وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ﴾ عَلى المُفْرَداتِ قَبْلَهُ، وإنِ اخْتَلَفَ السُّجُودُ عِنْدَهُ بِنِسْبَتِهِ لِما لا يَعْقِلُ ولِمَن يَعْقِلُ ويَجُوزُ أنْ يَرْتَفِعَ عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلى مُقابَلَةِ الَّذِينَ في الجُمْلَةِ بَعْدَهُ أيْ ﴿وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ﴾ مُثابٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (مِنَ النّاسِ) خَبَرًا لَهُ أيْ (مِنَ النّاسِ) الَّذِينَ هُمُ النّاسُ عَلى الحَقِيقَةِ وهُمُ الصّالِحُونَ والمُتَّقُونَ، ويَجُوزُ أنْ يُبالِغَ في تَكْثِيرِ المَحْقُوقِينَ بِالعَذابِ فَعُطِفَتْ كَثِيرٌ عَلى كَثِيرٍ ثُمَّ عَبَّرَ عَنْهم بِحَقَّ عَلَيْهِمُ العَذابُ كَأنَّهُ قالَ (وكَثِيرٌ) ﴿وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ وكَثِيرٌ﴾ عَلَيْهِمُ (العَذابُ) . انْتَهى. وهَذانِ التَّخْرِيجانِ ضَعِيفانِ. وقَرَأ جَناحُ بْنُ حُبَيْشٍ: وكَبِيرٌ حَقَّ بِالباءِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ﴿وكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذابُ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى ما تَقَدَّمَ أيْ ﴿وكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذابُ﴾ يَسْجُدُ أيْ كَراهِيَةً وعَلى رُغْمِهِ إمّا بِظِلِّهِ وإمّا بِخُضُوعِهِ عِنْدَ المَكارِهِ، ونَحْوَ ذَلِكَ قالَهُ مُجاهِدٌ وقالَ: سُجُودُهُ بِظِلِّهِ. وقُرِئَ (وكَثِيرٌ) حَقًّا أيْ (حَقَّ عَلَيْهِمُ العَذابُ) حَقًّا. وقُرِئَ (حُقَّ) بِضَمِّ الحاءِ ومِن مَفْعُولٍ مُقَدَّمٍ بِيُهِنْ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (مِن مُكْرِمٍ) اسْمُ فاعِلٍ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ بِفَتْحِ الرّاءِ عَلى المَصْدَرِ أيْ مِن إكْرامٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَن أهانَهُ اللَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِ الشَّقاوَةَ لِما سَبَقَ في عِلْمِهِ مِن كُفْرِهِ أوْ فِسْقِهِ، فَقَدْ بَقِيَ مُهانًا لِمَن يَجِدُ لَهُ مُكْرِمًا أنَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ مِنَ الإكْرامِ والإهانَةِ، ولا يَشاءُ مِن ذَلِكَ (p-٣٦٠)إلّا ما يَقْتَضِيهِ عَمَلُ العامِلِينَ واعْتِقادُ المُعْتَقِدِينَ. انْتَهى. وفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أهْلَ السَّعادَةِ وأهْلَ الشَّقاوَةِ ذَكَرَ ما دارَ بَيْنَهم مِنَ الخُصُومَةِ في دِينِهِ، فَقالَ (هَذانِ) قالَ قَيْسُ بْنُ عَبّادٍ وهِلالُ بْنُ يَسافٍ، نَزَلَتْ في المُتَبارِزِينَ يَوْمَ بَدْرٍ حَمْزَةُ وعَلِيٌّ وعُبَيْدَةُ بْنُ الحارِثِ بَرَزَ والعُتْبَةُ وشَيْبَةُ ابْنَيْ رَبِيعَةَ والوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. وعَنْ عَلِيٍّ: أنا أوَّلُ مَن يَجْثُو يَوْمَ القِيامَةِ لِلْخُصُومَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعالى، وأقْسَمَ أبُو ذَرٍّ عَلى هَذا ووَقَعَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ أنَّ الآيَةَ فِيهِمْ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الإشارَةُ إلى المُؤْمِنِينَ وأهْلِ الكِتابِ وقَعَ بَيْنَهم تَخاصُمٌ، قالَتِ اليَهُودُ: نَحْنُ أقْدَمُ دِينًا مِنكم فَنَزَلَتْ. وقالَ مُجاهِد وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ والحَسَنُ وعاصِمٌ والكَلْبِيُّ: الإشارَةُ إلى المُؤْمِنِينَ والكُفّارِ عَلى العُمُومِ، وخَصْمُ مَصْدَرٌ وأُرِيدَ بِهِ هُنا الفَرِيقُ، فَلِذَلِكَ جاءَ ﴿اخْتَصَمُوا﴾ مُراعاةً لِلْمَعْنى إذْ تَحْتَ كُلِّ خَصْمٍ أفْرادٌ، وفي رِوايَةٍ عَنِ الكِسائِيِّ (خِصْمانِ) بِكَسْرِ الخاءِ ومَعْنى ﴿فِي رَبِّهِمْ﴾ في دِينِ رَبِّهِمْ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ اخْتَصَما، راعى لَفْظَ التَّثْنِيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى ما أعَدَّ لِلْكُفّارِ. وقَرَأ الزَّعْفَرانِيُّ في اخْتِيارِهِ: (قُطِعَتْ) بِتَخْفِيفِ الطّاءِ كَأنَّهُ تَعالى يُقَدِّرُ لَهم نِيرانًا عَلى مَقادِيرَ جُثَثِهِمْ تَشْتَمِلُ عَلَيْهِمْ كَما تُقَطَّعُ الثِّيابُ المَلْبُوسَةُ، والظّاهِرُ أنَّ هَذا المُقَطَّعَ لَهم يَكُونُ مِنَ النّارِ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ (ثِيابٌ) مِن نُحاسٍ مُذابٍ ولَيْسَ شَيْءٌ إذا حَمِيَ أشَدَّ حَرارَةً مِنهُ، فالتَّقْدِيرُ مِن نُحاسٍ مَحْمِيٍّ بِالنّارِ. وقِيلَ: الثِّيابُ مِنَ النّارِ اسْتِعارَةٌ عَنْ إحاطَةِ النّارِ بِهِمْ كَما يُحِيطُ الثَّوْبُ بِلابِسِهِ. وقالَ وهْبٌ: يُكْسى أهْلُ النّارِ والعُرْيُ خَيْرٌ لَهم، ويَحْيَوْنَ والمَوْتُ خَيْرٌ لَهم. ولَمّا ذَكَرَ ما يُصَبُّ عَلى رُؤُوسِهِمْ إذْ يَظْهَرُ في المَعْرُوفِ أنَّ الثَّوْبَ إنَّما يُغَطّى بِهِ الجَسَدُ دُونَ الرَّأْسِ فَذَكَرَ ما يُصِيبُ الرَّأْسَ مِنَ العَذابِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: لَوْ سَقَطَتْ مِنَ الحَمِيمِ نُقْطَةٌ عَلى جِبالِ الدُّنْيا لَأذابَتْها. ولَمّا ذَكَرَ ما يُعَذِّبُ بِهِ الجَسَدَ ظاهِرَهُ وما يُصَبُّ عَلى الرَّأْسِ ذَكَرَ ما يَصِلُ إلى باطِنِ المُعَذَّبِ وهو الحَمِيمُ الَّذِي يُذِيبُ ما في البَطْنِ مِنَ الحَشا ويَصِلُ ذَلِكَ الذَّوْبُ إلى الظّاهِرِ وهو الجِلْدُ فَيُؤَثِّرُ في الظّاهِرِ تَأْثِيرَهُ في الباطِنِ كَما قالَ تَعالى: ﴿فَقَطَّعَ أمْعاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٥] وقَرَأ الحَسَنُ وفِرْقَةٌ (يَصَهَّرُ) بِفَتْحِ الصّادِ وتَشْدِيدِ الهاءِ. وفي الحَدِيثِ: (إنَّ الحَمِيمَ لَيُصَبُّ عَلى رُؤُوسِهِمْ فَيَنْفُذُ الجُمْجُمَةَ حَتّى يَخْلُصَ إلى جَوْفِهِ فَيَسْلِبَ ما في جَوْفِهِ حَتّى يَمْرُقَ مِن قَدَمَيْهِ وهو الصَّهْرُ ثُمَّ يُعادُ كَما كانَ) . والظّاهِرُ عَطْفُ ﴿والجُلُودُ﴾ عَلى (ما) مِن قَوْلِهِ ﴿يُصْهَرُ بِهِ ما في بُطُونِهِمْ﴾ وأنَّ (الجُلُودَ) تُذابُ كَما تُذابُ الأحْشاءُ. وقِيلَ: التَّقْدِيرُ وتَخْرُقُ (الجُلُودُ) لِأنَّ الجُلُودَ لا تُذابُ إنَّما تَجْتَمِعُ عَلى النّارِ وتَنْكَمِشُ وهَذا كَقَوْلِهِ: ؎عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدا ( أيْ وسَقَيْتُها ماءً. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (ولَهم) عائِدٌ عَلى الكُفّارِ، واللّامُ لِلِاسْتِحْقاقِ. وقِيلَ: بِمَعْنى عَلى أيٍّ وعَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ ﴿ولَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ [غافر: ٥٢] أيْ وعَلَيْهِمْ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلى ما يُفَسِّرُهُ المَعْنى وهو الزَّبانِيَةُ. وقالَ قَوْمٌ مِنهُمِ الضَّحّاكُ: المَقامِعُ المَطارِقُ. وقِيلَ: سِياطٌ مِن نارٍ. وفي الحَدِيثِ: (لَوْ وُضِعَ مَقَمَعٌ مِنها في الأرْضِ ثُمَّ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الثَّقَلانِ ما أقَلُّوهُ مِنَ الأرْضِ) و﴿مِن غَمٍّ﴾ بَدَلٌ مِن مِنها بَدَلُ اشْتِمالٍ، أُعِيدَ مَعَهُ الجارُّ وحُذِفَ الضَّمِيرُ لِفَهْمِ المَعْنى أيْ مِن غَمِّها، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مِن لِلسَّبَبِ أيْ لِأجْلِ الغَمِّ الَّذِي يَلْحَقُهم، والظّاهِرُ تَعْلِيقُ الإعادَةِ عَلى الإرادَةِ لِلْخُرُوجِ فَلا بُدَّ مِن مَحْذُوفٍ يَصِحُّ بِهِ المَعْنى، أيْ مِن أماكِنِهِمُ المُعَدَّةِ لِتَعْذِيبِهِمْ ﴿أُعِيدُوا فِيها﴾ أيْ في تِلْكَ الأماكِنِ. وقِيلَ ﴿أُعِيدُوا فِيها﴾ بِضَرْبِ الزَّبانِيَةِ إيّاهم بِالمَقامِعِ (وذُوقُوا) أيْ ويُقالُ لَهم ذُوقُوا. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى ما أعَدَّ لِأحَدِ الخَصْمَيْنِ مِنَ العَذابِ ذَكَرَ ما أعَدَّ مِنَ الثَّوابِ لِلْخَصْمِ الآخَرِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (يُحَلَّوْنَ) بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الحاءِ وتَشْدِيدِ اللامِ. وقِيلَ بِضَمِّ الياءِ والتَّخْفِيفِ. وهو بِمَعْنى المُشَدَّدِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ (يَحْلَوْنَ) بِفَتْحِ الياءِ واللّامِ وسُكُونِ الحاءِ مِن قَوْلِهِمْ: حَلِيَ الرَّجُلُ وحَلِيَتِ المَرْأةُ إذا صارَتْ ذاتَ حُلِيٍّ والمَرْأةُ ذاتُ (p-٣٦١)حُلِيٍّ والمَرْأةُ حالٌّ. وقالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن حَلِيَ بِعَيْنِي يَحْلى إذا اسْتَحْسَنْتَهُ، قالَ فَتَكُونُ (مِن) زائِدَةً فَيَكُونُ المَعْنى يَسْتَحْسِنُونَ فِيها الأساوِرَةَ المَلْبُوسَةَ. انْتَهى. وهَذا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأنَّهُ جَعَلَ حَلِيَ فِعْلًا مُتَعَدِّيًا ولِذَلِكَ حَكَمَ بِزِيادَةِ (مِن) في الواجِبِ ولَيْسَ مَذْهَبَ البَصْرِيِّينَ، ويَنْبَغِي عَلى هَذا التَّقْدِيرِ أنْ لا يَجُوزَ لِأنَّهُ لا يَحْفَظُ لازِمًا فَإنْ كانَ بِهَذا المَعْنى كانَتْ (مِن) لِلسَّبَبِ أيْ بِلِباسِ أساوِرِ الذَّهَبِ يَحْلَوْنَ بِعَيْنِ مَن يَراهم أيْ يَحْلى بَعْضُهم بِعَيْنِ بَعْضٍ. قالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ (مِن) حَلَيْتُ بِهِ إذا ظَفِرْتُ بِهِ، فَيَكُونُ المَعْنى ﴿يُحَلَّوْنَ فِيها﴾ بِأساوِرَ فَتَكُونُ (مِن) بَدَلًا مِنَ الباءِ، والحِلْيَةُ مِن ذَلِكَ فَإمّا إذا أخَذْتَهُ مِن حَلَيْتُ بِهِ فَإنَّهُ الحِلْيَةُ، وهو مِنَ الياءِ وإنْ أخَذْتَهُ مِن حَلِيَ بِعَيْنِي فَإنَّهُ مِنَ الحَلاوَةِ مِنَ الواوِ. انْتَهى. ومِن مَعْنى الظَّفَرِ قَوْلُهم: لَمْ يَحْلُ فُلانٌ بِطائِلٍ، أيْ لَمْ يَظْفَرْ. والظّاهِرُ أنَّ (مِن) في ﴿مِن أساوِرَ﴾ لِلتَّبْعِيضِ وفي ﴿مِن ذَهَبٍ﴾ لِابْتِداءِ الغايَةِ أيْ أُنْشِئَتْ مِن ذَهَبٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (مِن) في ﴿مِن أساوِرَ﴾ لِبَيانِ الجِنْسِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلْتَبْعِيضِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ في الكَهْفِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ مِن أسْوَرَ بِفَتْحِ الرّاءِ مِن غَيْرِ ألِفٍ ولا هاءٍ، وكانَ قِياسَهُ أنْ يَصْرِفَهُ لِأنَّهُ نَقَصَ بِناؤُهُ فَصارَ كَجَنْدَلٍ لَكِنَّهُ قَدَّرَ المَحْذُوفَ مَوْجُودًا فَمَنَعَهُ الصَّرْفَ. وقَرَأ عاصِمٌ ونافِعٌ والحَسَنُ والجَحْدَرِيُّ والأعْرَجُ وأبُو جَعْفَرٍ وعِيسى بْنُ عُمَرَ وسَلامٌ ويَعْقُوبُ (ولُؤْلُؤًا) هُنا وفي فاطِرٍ بِالنَّصْبِ وحَمَلَهُ أبُو الفَتْحِ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ ويُؤْتَوْنَ ﴿لُؤْلُؤًا﴾ [الإنسان: ١٩] ومَن جَعَلَ (مِن) في ﴿مِن أساوِرَ﴾ زائِدَةً جازَ أنْ يَعْطِفَ (ولُؤْلُؤًا) عَلى مَوْضِعِ (أساوِرَ) وقِيلَ يُعْطَفُ عَلى مَوْضِعِ ﴿مِن أساوِرَ﴾ لِأنَّهُ يُقَدَّرُ و(يُحَلَّوْنَ) حُلِيًّا ﴿مِن أساوِرَ﴾ . وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ والحَسَنُ أيْضًا وطَلْحَةُ وابْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ. وأهْلُ مَكَّةَ (ولُؤْلُؤٌ) بِالخَفْضِ عَطْفًا عَلى (أساوِرَ) أوْ عَلى (ذَهَبٍ) لِأنَّ السِّوارَ يَكُونُ مِن ذَهَبٍ ولُؤْلُؤٍ، يُجْمَعُ بَعْضُهُ إلى بَعْضٍ. قالَ الجَحْدَرِيُّ: الألِفُ ثابِتَةٌ بَعْدَ الواوِ في الإمامِ. وقالَ الأصْمَعِيُّ: لَيْسَ فِيها ألِفٌ، ورَوى يَحْيى عَنْ أبِي بَكْرٍ هَمْزَ الأخِيرِ وإبْدالَ الأُولى. ورَوى المُعَلّى بْنُ مَنصُورٍ عَنْهُ ضِدَّ ذَلِكَ. وقَرَأ الفَيّاضُ: ولُولِيًّا قَلَبَ الهَمْزَتَيْنِ واوًا صارَتِ الثّانِيَةُ واوًا قَبْلَها ضَمَّةٌ، عَمِلَ فِيها ما عَمِلَ في أدَلَّ مِن قَلْبِ الواوِ ياءً والضَّمَّةُ قَبْلَها كَسْرَةٌ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ولَيْلِيًّا أبْدَلَ الهَمْزَتَيْنِ واوَيْنِ ثُمَّ قَلَبَهُما ياءَيْنِ أتْبَعَ الأُولى لِلثّانِيَةِ. وقَرَأ طَلْحَةُ ولُولٍ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلى ما عُطِفَ عَلَيْهِ المَهْمُوزُ. و﴿الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ﴾ إنْ كانَتِ الهِدايَةُ في الدُّنْيا فَهو قَوْلَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، والأقْوالُ الطَّيِّبَةُ مِنَ الأذْكارِ وغَيْرِها، ويَكُونُ الصِّراطُ طَرِيقَ الإسْلامِ وإنْ كانَ إخْبارًا عَمّا يَقَعُ مِنهم في الآخِرَةِ فَهو قَوْلُهم: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وعْدَهُ وما أشْبَهَ ذَلِكَ مِن مُحاوَرَةِ أهْلِ الجَنَّةِ، ويَكُونُ الصِّراطُ الطَّرِيقَ إلى الجَنَّةِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: هو لا إلَهَ إلّا اللَّهُ والحَمْدُ لِلَّهِ. زادَ ابْنُ زَيْدٍ: واللَّهُ أكْبَرُ. وعَنِ السُّدِّيِّ: القُرْآنُ. وحَكى الماوَرْدِيُّ: الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: هو الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وعْدَهُ، والظّاهِرُ أنَّ (الحَمِيدَ) وصْفٌ لِلَّهِ تَعالى. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالحَمِيدِ نَفْسَ الطَّرِيقِ، فَأضافَ إلَيْهِ عَلى حَدِّ إضافَتِهِ في قَوْلِهِ: دارَ الآخِرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب