الباحث القرآني

(p-٣٣٧)﴿إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكم أُمَّةً واحِدَةً وأنا رَبُّكم فاعْبُدُونِ﴾ ﴿وتَقَطَّعُوا أمْرَهم بَيْنَهم كُلٌّ إلَيْنا راجِعُونَ﴾ ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وهو مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وإنّا لَهُ كاتِبُونَ﴾ ﴿وحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أنَّهم لا يَرْجِعُونَ﴾ ﴿حَتّى إذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ وهم مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ ﴿واقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ فَإذا هي شاخِصَةٌ أبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ياوَيْلَنا قَدْ كُنّا في غَفْلَةٍ مِن هَذا بَلْ كُنّا ظالِمِينَ﴾ ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَها وارِدُونَ﴾ ﴿لَوْ كانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً ما ورَدُوها وكُلٌّ فِيها خالِدُونَ﴾ ﴿لَهم فِيها زَفِيرٌ وهم فِيها لا يَسْمَعُونَ﴾ . والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ (أُمَّتُكم) خِطابٌ لِمُعاصِرِي الرَّسُولِ ﷺ و(هَذِهِ) إشارَةٌ إلى مِلَّةِ الإسْلامِ، أيْ إنَّ مِلَّةَ الإسْلامِ هي مِلَّتُكُمُ الَّتِي يَجِبُ أنْ تَكُونُوا عَلَيْها لا تَنْحَرِفُونَ عَنْها مِلَّةً واحِدَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ (هَذِهِ) إشارَةً إلى الطَّرِيقَةِ الَّتِي كانَ عَلَيْها الأنْبِياءُ المَذْكُورُونَ مِن تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى هي طَرِيقَتُكم ومِلَّتُكم طَرِيقَةً واحِدَةً لا اخْتِلافَ فِيها في أُصُولِ العَقائِدِ، بَلْ ما جاءَ بِهِ الأنْبِياءُ مِن ذَلِكَ هو ما جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ . وقِيلَ: مَعْنى ﴿أُمَّةً واحِدَةً﴾ مَخْلُوقَةً لَهُ تَعالى مَمْلُوكَةً لَهُ، فالمُرادُ بِالأُمَّةِ النّاسُ كُلُّهم. وقِيلَ: الكَلامُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقِصَّةِ مَرْيَمَ وابْنِها أيْ ﴿وجَعَلْناها وابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ٩١] بِأنْ بُعِثَ لَهم بِمِلَّةٍ وكِتابٍ، وقِيلَ لَهم ﴿إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ﴾ أيْ دَعا الجَمِيعَ إلى الإيمانِ بِاللَّهِ وعِبادَتِهِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهم بَعْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا ﴿وتَقَطَّعُوا أمْرَهُمْ﴾ وقَرَأ الجُمْهُورُ (أُمَّتُكم) بِالرَّفْعِ خَبَرُ إنَّ ﴿أُمَّةً واحِدَةً﴾ بِالنَّصْبِ عَلى الحالِ، وقِيلَ بَدَلٌ مِن (هَذِهِ) وقَرَأ الحَسَنُ (أُمَّتَكم) بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِن (هَذِهِ) . وقَرَأ أيْضًا هو وابْنُ إسْحاقَ والأشْهَبُ العُقَيْلِيُّ وأبُو حَيْوَةَ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ والجُعْفِيُّ وهارُونُ عَنْ أبِي عَمْرٍو والزَّعْفَرانِيِّ ﴿أُمَّتُكم أُمَّةً واحِدَةً﴾ بِرَفْعِ الثَّلاثَةِ عَلى أنَّ (أُمَّتُكم) و﴿أُمَّةً واحِدَةً﴾ خَبَرُ (أنَّ) أوْ ﴿أُمَّةً واحِدَةً﴾ بَدَلٌ مِن (أُمَّتُكم) بَدَلُ نَكِرَةٍ مِن مَعْرِفَةٍ، أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ هي ﴿أُمَّةً واحِدَةً﴾ والضَّمِيرُ في (وتَقَطَّعُوا) عائِدٌ عَلى ضَمِيرِ الخِطابِ عَلى سَبِيلِ الِالتِفاتِ أيْ وتَقَطَّعْتُمْ. ولَمّا كانَ هَذا الفِعْلُ مَن أقْبَحِ المُرْتَكَباتِ عَدَلَ عَنِ الخِطابِ إلى لَفْظِ الغَيْبَةِ كَأنَّ هَذا الفِعْلَ ما صَدَرَ مِنَ المُخاطَبِ لِأنَّ في الإخْبارِ عَنْهم بِذَلِكَ نَعْيًا عَلَيْهِمْ ما أفْسَدُوهُ، وكَأنَّهُ يُخْبِرُ غَيْرَهم ما صَدَرَ مِن قَبِيحِ فِعْلِهِمْ ويَقُولُ ألا تَرى إلى ما ارْتَكَبَ هَؤُلاءِ في دِينِ اللَّهِ جَعَلُوا أمْرَ دِينِهِمْ قِطَعًا كَما يَتَوَزَّعُ الجَماعَةُ الشَّيْءَ لِهَذا نَصِيبٌ ولِهَذا نَصِيبٌ، تَمْثِيلًا لِاخْتِلافِهِمْ (p-٣٣٨)ثُمَّ تَوَعَّدَهم بِرُجُوعِ هَذِهِ الفِرْقَةِ المُخْتَلِفَةِ إلى جَزائِهِ. وقِيلَ: كُلٌّ مِنَ الثّابِتِ عَلى دِينِهِ الحَقِّ والزّائِغِ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ. وقَرَأ الأعْمَشُ زُبُرًا بِفَتْحِ الباءِ جَمْعُ زُبْرَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ حالَ المُحْسِنِ وأنَّهُ لا يُكْفَرُ سَعْيُهُ والكُفْرانُ مَثَلٌ في حِرْمانِ الثَّوابِ كَما أنَّ الشُّكْرَ مَثَلٌ في إعْطائِهِ إذا قِيلَ لِلَّهِ شَكُورٌ ولا لِنَفْيِ الجِنْسِ فَهو أبْلَغُ مِن قَوْلِهِ فَلا يُكْفَرُ سَعْيُهُ، والكِتابَةُ عِبارَةٌ عَنْ إثْباتِ عَمَلِهِ الصّالِحِ في صَحِيفَةِ الأعْمالِ لِيُثابَ عَلَيْهِ، ولا يَضِيعُ، والكُفْرانُ مَصْدَرٌ كالكُفْرِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎رَأيْتُ أُناسًا لا تَنامُ جُدُودُهم وجَدِّي ولا كُفْرانَ لِلَّهِ نائِمُ وفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ لا كُفْرَ و(لِسَعْيِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أيْ نَكْفُرُ (لِسَعْيِهِ) ولا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِكُفْرانٍ إذْ لَوْ كانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ لَكانَ اسْمًا لا مُطَوَّلًا فَيَلْزَمُ تَنْوِينُهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (وحَرامٌ) وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وأبُو بَكْرٍ وطَلْحَةُ والأعْمَشُ وأبُو حَنِيفَةَ وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةٍ (وحِرْمٌ) بِكَسْرِ الحاءِ وسُكُونِ الرّاءِ. وقَرَأ قَتادَةُ ومَطَرٌ الوَرّاقُ ومَحْبُوبٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو بِفَتْحِ الحاءِ وسُكُونِ الرّاءِ. وقَرَأ عِكْرِمَةُ (وحَرِمٌ) بِكَسْرِ الرّاءِ والتَّنْوِينِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ أيْضًا وابْنُ المُسَيَّبِ وقَتادَةُ أيْضًا بِكَسْرِ الرّاءِ وفَتْحِ الحاءِ والمِيمِ عَلى المُضِيِّ بِخِلافٍ عَنْهُما، وأبُو العالِيَةِ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِضَمِّ الرّاءِ وفَتْحِ الحاءِ والمِيمِ عَلى المُضِيِّ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا بِفَتْحِ الحاءِ والرّاءِ والمِيمِ عَلى المُضِيِّ. وقَرَأ اليَمانِيُّ (وحُرِّمَ) بِضَمِّ الحاءِ وكَسْرِ الرّاءِ مُشَدَّدَةً وفَتْحِ المِيمِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (أهْلَكْناها) بِنُونِ العَظَمَةِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ وقَتادَةُ بِتاءِ المُتَكَلِّمِ، واسْتُعِيرَ الحَرامُ لِلْمُمْتَنِعِ وُجُودُهُ ومِنهُ ﴿إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلى الكافِرِينَ﴾ [الأعراف: ٥٠] ومَعْنى (أهْلَكْناها) قَدَّرْنا إهْلاكَها عَلى ما هي عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، فالإهْلاكُ هُنا إهْلاكٌ عَنْ كُفْرٍ و(لا) في (لا يَرْجِعُونَ) صِلَةٌ وهو قَوْلُ أبِي عُبَيدٍ كَقَوْلِكَ: ما مَنَعَكَ أنْ لا تَسْجُدَ، أيْ يَرْجِعُونَ إلى الإيمانِ والمَعْنى ومُمْتَنِعٌ عَلى أهْلِ قَرْيَةٍ قَدَّرْنا عَلَيْهِمْ إهْلاكَهم لِكُفْرِهِمْ رُجُوعَهم في الدُّنْيا إلى الإيمانِ إلى أنْ تَقُومَ القِيامَةُ، فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُونَ ويَقُولُونَ ﴿ياوَيْلَنا قَدْ كُنّا في غَفْلَةٍ مِن هَذا﴾ وغَيًّا بِما قَرُبَ مِن مَجِيءِ السّاعَةِ وهو فَتْحُ ﴿يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ﴾ وقُرِئَ (إنَّهم) بِالكَسْرِ فَيَكُونُ الكَلامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ (أهْلَكْناها) ويُقَدَّرُ مَحْذُوفٌ تَصِيرُ بِهِ ﴿وحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها﴾ جُمْلَةُ أيْ ذاكَ، وتَكُونُ إشارَةً إلى العَمَلِ الصّالِحِ المَذْكُورِ في قَسِيمِ هَؤُلاءِ المُهْلَكِينَ، والمَعْنى ﴿وحَرامٌ عَلى﴾ أهْلِ (قِرْيَةٍ) قَدَّرْنا إهْلاكَهم لِكُفْرِهِمْ عَمَلًا صالِحًا يَنْجُونَ بِهِ مِنَ الإهْلاكِ ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ وعَلَّلَهُ بِأنَّهم (لا يَرْجِعُونَ) عَنِ الكُفْرِ، فَكَيْفَ لا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فالمَحْذُوفُ مُبْتَدَأٌ والخَبَرُ (وحَرامٌ) وقَدَّرَهُ بَعْضُهم مُتَقَدِّمًا كَأنَّهُ قالَ: والإقالَةُ والتَّوْبَةُ حَرامٌ. وقِراءَةُ الجُمْهُورِ بِالفَتْحِ تَصِحُّ عَلى هَذا المَعْنى وتَكُونُ (لا) نافِيَةً عَلى بابِها والتَّقْدِيرُ لِأنَّهم لا يَرْجِعُونَ. وقِيلَ (أهْلَكْناها) أيْ وقَعَ إهْلاكُنا إيّاهم ويَكُونُ رُجُوعُهم إلى الدُّنْيا فَيَتُوبُونَ بَلْ هم صائِرُونَ إلى العَذابِ. وقِيلَ: الإهْلاكُ بِالطَّبْعِ عَلى القُلُوبِ، والرُّجُوعُ هو إلى التَّوْبَةِ والإيمانِ. وقالَ الزَّجّاجُ ﴿وحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها﴾ حَكَمْنا بِإهْلاكِها أنْ نَتَقَبَّلَ أعْمالَهم لِأنَّها ﴿لا يَرْجِعُونَ﴾ أيْ لا يَتُوبُونَ، ودَلَّ عَلى هَذا المَعْنى قَوْلُهُ قَبْلُ ﴿فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ﴾ أيْ يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ هَذا عَقِيبَهُ وبَيَّنَ أنَّ الكافِرَ لا يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ. وقالَ أبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ (حَرامٌ) مُمْتَنِعٌ و﴿أنَّهم لا يَرْجِعُونَ﴾ انْتِقامُ الرُّجُوعِ إلى الآخِرَةِ، وإذا امْتَنَعَ الِانْتِفاءُ وجَبَ الرُّجُوعُ فالمَعْنى أنَّهُ يَجِبُ رُجُوعُهم إلى الحَياةِ في الدّارِ الآخِرَةِ ويَكُونُ الغَرَضُ إنْكارَ قَوْلِ مَن يُنْكِرُ البَعْثَ، وتَحْقِيقَ ما تَقَدَّمَ مِن أنَّهُ لا كُفْرانَ لِسَعْيِ أحَدٍ وأنَّهُ يُجْزى عَلى ذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ. وقِيلَ: الحَرامُ يَجِيءُ بِمَعْنى الواجِبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكم عَلَيْكم ألّا تُشْرِكُوا﴾ [الأنعام: ١٥١] وتَرْكُ الشِّرْكِ واجِبٌ. وقالَتِ الخَنْساءُ:(p-٣٣٩) ؎حَرامٌ عَلَيَّ أنْ لا أرى الدَّهْرَ باكِيًا ∗∗∗ عَلى شَجْوِهِ إلّا بَكَيْتُ عَلى صَخْرِ وأيْضًا فَمِنَ الِاسْتِعْمالِ إطْلاقُ الضَّمِيرِ عَلى ضِدِّهِ، وعَلى هَذا فَقالَ مُجاهِد والحَسَنُ ﴿لا يَرْجِعُونَ﴾ عَنِ الشِّرْكِ. وقالَ قَتادَةُ ومُقاتِلٌ إلى الدُّنْيا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَتَّجِهُ في الآيَةِ مَعْنى ضِمْنُهُ وعِيدٌ بَيِّنٌ وذَلِكَ أنَّهُ ذَكَرَ مَن عَمِلَ صالِحًا وهو مُؤْمِنٌ ثُمَّ عادَ إلى ذِكْرِ الكَفَرَةِ الَّذِينَ مِن كَفْرِهِمْ ومُعْتَقَدِهِمْ أنَّهم لا يُحْشَرُونَ إلى رَبٍّ ولا يَرْجِعُونَ إلى مَعادٍ فَهم يَظُنُّونَ بِذَلِكَ أنَّهُ لا عِقابَ يَنالُهم، فَجاءَتِ الآيَةُ مُكَذِّبَةً لِظَنِّ هَؤُلاءِ أيْ ومُمْتَنِعٌ عَلى الكَفَرَةِ المُهْلِكِينَ ﴿أنَّهم لا يَرْجِعُونَ﴾ بَلْ هم راجِعُونَ إلى عِقابِ اللَّهِ وألِيمِ عَذابِهِ، فَيَكُونُ لا عَلى بابِها والحَرامُ عَلى بابِهِ. وكَذَلِكَ الحُرُمُ فَتَأمَّلْهُ. انْتَهى. و(حَتّى) قالَ أبُو البَقاءِ مُتَعَلِّقَةٌ في المَعْنى بِحَرامٍ أيْ يَسْتَمِرُّ الِامْتِناعُ إلى هَذا الوَقْتِ ولا عَمَلَ لَها في (إذا) . وقالَ الحَوْفِيُّ (حَتّى) غايَةٌ، والعَمَلُ فِيها ما دَلَّ عَلَيْهِ المَعْنى مِن تَأسُّفِهِمْ عَلى ما فَرَّطُوا فِيهِ مِنَ الطّاعَةِ حِينَ فاتَهُمُ الِاسْتِدْراكُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: بِمَ تَعَلَّقَتْ (حَتّى) واقِعَةً غايَةً لَهُ وأيَّةُ الثَّلاثِ هي ؟ قُلْتُ: هي مُتَعَلِّقَةٌ بِحَرامٍ، وهي غايَةٌ لَهُ لِأنَّ امْتِناعَ رُجُوعِهِمْ لا يَزُولُ حَتّى تَقُومَ القِيامَةُ، وهي (حَتّى) الَّتِي تَحْكِي الكَلامَ، والكَلامُ المَحْكِيُّ الجُمْلَةُ مِنَ الشَّرْطِ والجَزاءِ أعْنِي إذا وما في حَيِّزِها. انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هي مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ ﴿وتَقَطَّعُوا﴾ ويُحْتَمَلُ عَلى بَعْضِ التَّأْوِيلاتِ المُتَقَدِّمَةِ أنْ تُعَلَّقَ بِيَرْجِعُونَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ حَرْفَ ابْتِداءٍ وهو الأظْهَرُ بِسَبَبِ (إذْ) لِأنَّها تَقْتَضِي جَوابًا هو المَقْصُودُ ذِكْرُهُ. انْتَهى. وكَوْنُ (حَتّى) مُتَعَلِّقَةً فِيهِ بُعْدٌ مِن حَيْثُ ذِكْرُ الفَصْلِ لَكِنَّهُ مِن جِهَةِ المَعْنى جَيِّدٌ، وهو أنَّهم لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ غَيْرَ مُجْتَمِعِينَ عَلى دِينِ الحَقِّ إلى قُرْبِ مَجِيءِ السّاعَةِ، فَإذا جاءَتِ السّاعَةُ انْقَطَعَ ذَلِكَ الِاخْتِلافُ وعَلِمَ الجَمِيعُ أنَّ مَوْلاهُمُ الحَقُّ وأنَّ الدِّينَ المُنَجِّيَ هو كانَ دِينَ التَّوْحِيدِ. وجَوابُ (إذا) مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ﴿قالُوا ياوَيْلَنا﴾ [الأنبياء: ١٤] قالَهُ الزَّجّاجُ وجَماعَةٌ أوْ تَقْدِيرُهُ، فَحِينَئِذٍ يُبْعَثُونَ ﴿فَإذا هي شاخِصَةٌ﴾ . أوْ مَذْكُورٌ وهو واقْتَرَبَ عَلى زِيادَةِ الواوِ قالَهُ بَعْضُهم، وهو مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ وهم يُجِيزُونَ زِيادَةَ الواوِ والفاءِ في فَإذا هي قالَهُ الحَوْفِيُّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإذا هي المُفاجَأةُ وهي تَقَعُ في المُفاجَآتِ سادَةً مَسَدَّ الفاءِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا هم يَقْنَطُونَ﴾ [الروم: ٣٦] فَإذا جاءَتِ الفاءُ مَعَها تَعاوَنَتا عَلى وصْلِ الجَزاءِ بِالشَّرْطِ، فَيَتَأكَّدُ ولَوْ قِيلَ ﴿فَإذا هي شاخِصَةٌ﴾ كانَ سَدِيدًا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والَّذِي أقُولُ أنَّ الجَوابَ في قَوْلِهِ ﴿فَإذا هي شاخِصَةٌ﴾ وهَذا هو المَعْنى الَّذِي قُصِدَ ذِكْرُهُ لِأنَّهُ رُجُوعُهُمُ الَّذِي كانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ وحَرَّمَ عَلَيْهِمُ امْتِناعَهُ، وتَقَدَّمَ الخِلافُ في (فُتِحَتْ) في الأنْعامِ ووافَقَ ابْنَ عامِرٍ أبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ وكَذا الَّتِي في الأنْعامِ والقَمَرِ في تَشْدِيدِ التّاءِ، والجُمْهُورُ عَلى التَّخْفِيفِ فِيهِنَّ و﴿فُتِحَتْ يَأْجُوجُ﴾ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ سَدُّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ. وتَقَدَّمَ الخِلافُ في قِراءَةِ (يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ) والظّاهِرُ أنَّ ضَمِيرَ (وهم) عائِدٌ عَلى ﴿يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ﴾ أيْ يَطْلُعُونَ مِن كُلِّ ثَنِيَّةٍ ومُرْتَفَعٍ ويَعُمُّونَ الأرْضَ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْعالَمِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وابْنِ عَبّاسٍ (مِن كُلِّ جَدَثٍ) بِالثّاءِ المُثَلَّثَةِ وهو القَبْرُ. وقُرِئَ بِالفاءِ الثّاءِ لِلْحِجازِ والفاءِ لِتَمِيمٍ وهي بَدَلٌ مِنَ الثّاءِ كَما أبْدَلُوا الثّاءَ مِنها قالُوا وأصْلُهُ مَغْفُورٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (يَنْسِلُونَ) بِكَسْرِ السِّينِ وابْنُ أبِي إسْحاقَ وأبُو السَّمّالِ بِضَمِّها ﴿واقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ﴾ أيِ الوَعْدُ بِالبَعْثِ الحَقِّ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ (واقْتَرَبَ) قِيلَ: أبْلَغُ في القُرْبِ مِن قَرُبَ وضَمِيرُ (هي) لِلْقِصَّةِ كَأنَّهُ قِيلَ: فَإذا القِصَّةُ والحادِثَةُ ﴿أبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (شاخِصَةً) ويَلْزَمُ أنْ تَكُونَ (شاخِصَةً) الخَبَرَ و(أبْصارُ) مُبْتَدَأً، ولا يَجُوزُ ارْتِفاعُ أبْصارٌ شاخِصَةٌ لِأنَّهُ يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ بَعْدَ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، أوِ القِصَّةِ جُمْلَةٌ تُفَسِّرُ الضَّمِيرَ مُصَرَّحٌ بِجُزْأيْها، ويَجُوزُ ذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (هي) ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ تُوَضِّحُهُ الأبْصارُ وتُفَسِّرُهُ كَما فَسَّرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وأسَرُّوا. (p-٣٤٠)انْتَهى. ولَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَذا الوَجْهِ وهو قَوْلٌ لِلْفَرّاءِ. قالَ الفَرّاءُ: (هي) ضَمِيرُ الأبْصارِ تَقَدَّمَتْ لِدَلالَةِ الكَلامِ ومَجِيءِ ما يُفَسِّرُها وأنْشَدَ عَلى ذَلِكَ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎فَلا وأبِيها لا تَقُولُ خَلِيلَتِي ∗∗∗ إلّا قَرَّ عَنِّي مالِكُ بْنُ أبِي كَعْبِ وذَكَرَ أيْضًا الفَرّاءُ أنَّ (هي) عِمادٌ يَصْلُحُ في مَوْضِعِها هو وأنْشَدَ: ؎بِثَوْبٍ ودِينارٍ وشاةٍ ودِرْهَمٍ ∗∗∗ فَهَلْ هو مَرْفُوعٌ بِما هَهُنا رَأسُ وهَذا لا يَتَمَشّى إلّا عَلى أحَدِ قَوْلَيِ الكِسائِيِّ في إجازَتِهِ تَقْدِيمَ الفَصْلِ مَعَ الخَبَرِ عَلى المُبْتَدَأِ أجازَ هو القائِمُ زِيدٌ عَلى أنَّ زَيْدًا هو المُبْتَدَأُ والقائِمُ خَبَرُهُ، وهو عِمادٌ وأصْلُ المَسْألَةِ زَيْدٌ هو القائِمُ، ويَقُولُ: أصْلُهُ هَذِهِ فَإذا ﴿أبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هي (شاخِصَةٌ) فَشاخِصَةٌ خَبَرٌ عَنْ (أبْصارُ) وتَقَدَّمَ مَعَ العِمادِ، ويَجِيءُ عَلى مَذْهَبِ مَن يُجِيزُ العِمادُ قَبْلَ خَبَرِهِ نَكِرَةً، وذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وجْهًا آخَرَ وهو أنَّ الكَلامَ ثَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: (فَإذا هي) أيْ بارِزَةٌ واقِعَةٌ يَعْنِي السّاعَةَ، ثُمَّ ابْتَدَأ فَقالَ ﴿شاخِصَةٌ أبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهَذا وجْهٌ مُتَكَلَّفٌ مُتَنافِرُ التَّرْكِيبِ. ورَوى حُذَيْفَةُ: لَوْ أنَّ رَجُلًا اقْتَنى فَلَوْ أبْعَدَ خُرُوجَ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ لَمْ يَرْكَبْهُ حَتّى تَقُومَ السّاعَةُ يَعْنِي في مَجِيءِ السّاعَةِ إثْرَ خُرُوجِهِمْ. ﴿ياوَيْلَنا﴾ مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَقْدِيرُهُ يَقُولُونَ وهو في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّجّاجِ أنَّ هَذا القَوْلَ جَوابُ (إذا) والشُّخُوصُ إحْدادُ النَّظَرِ دُونَ أنْ يَطْرِفَ في غَفْلَةٍ مِن هَذا. انْتَهى. أيْ مِمّا وجَدْنا الآنَ وتَبَيَّنّا مِنَ الحَقائِقِ ثُمَّ أضْرَبُوا عَنْ قَوْلِهِمْ ﴿قَدْ كُنّا في غَفْلَةٍ﴾ وأخْبَرُوا بِما قَدْ كانُوا تَعَمَّدُوهُ مِنَ الكُفْرِ والإعْراضِ عَنِ الإيمانِ فَقالُوا ﴿بَلْ كُنّا ظالِمِينَ﴾ والخِطابُ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ لِلْكُفّارِ المُعاصِرِينَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، ولا سِيَّما أهْلُ مَكَّةَ ومَعْبُوداتُهم هي الأصْنامُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (حَصَبُ) بِالحاءِ والصّادِ المُهْمَلَتَيْنِ، وهو ما يُحْصَبُ بِهِ أيْ يُرْمى بِهِ في نارِ جَهَنَّمَ. وقَبْلَ أنْ يُرْمى بِهِ لا يُطْلَقُ عَلَيْهِ حَصَبٌ إلّا مَجازًا. وقَرَأ ابْنُ السُّمَيْفِعِ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ ومَحْبُوبٌ وأبُو حاتِمٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِإسْكانِ الصّادِ، ورُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وهو مَصْدَرٌ يُرادُ بِهِ المَفْعُولُ أيِ المَحْصُوبُ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: بِالضّادِ المُعْجَمَةِ المَفْتُوحَةِ وعَنْهُ إسْكانُها، وبِذَلِكَ قَرَأ كُثَيِّرُ عِزَّةَ: والحَضْبُ ما يُرْمى بِهِ في النّارِ، والمِحْضَبِ العُودُ أوِ الحَدِيدَةُ أوْ غَيْرُهُما مِمّا تَحَرَّكَ بِهِ النّارُ. قالَ الشّاعِرُ: ؎فَلا تَكُ في حَرْبِنا مُحْضِبًا ∗∗∗ فَتَجْعَلَ قَوْمَكَ شَتّى شُعُوبا وقَرَأ أُبَيٌّ وعَلِيٌّ وعائِشَةُ وابْنُ الزُّبَيْرِ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ حَطَبُ بِالطّاءِ، وجَمْعُ الكُفّارِ مَعَ مَعْبُوداتِهِمْ في النّارِ لِزِيادَةِ غَمِّهِمْ وحَسْرَتِهِمْ بِرُؤْيَتِهِمْ مَعَهم فِيها إذْ عُذِّبُوا بِسَبَبِهِمْ، وكانُوا يَرْجُونَ الخَيْرَ بِعِبادَتِهِمْ فَحَصَلَ لَهُمُ الشَّرُّ مِن قِبَلِهِمْ ولِأنَّهم صارُوا لَهم أعْداءً ورُؤْيَةُ العَدُوِّ مِمّا يَزِيدُ في العَذابِ. كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎واحْتِمالُ الأذى ورُؤْيَةُ جانِيهِ ∗∗∗ غِذاءٌ تُضْنى بِهِ الأجْسامُ ﴿أنْتُمْ لَها﴾ أيْ لِلنّارِ ﴿وارِدُونَ﴾ الوُرُودُ هُنا وُرُودُ دُخُولٍ ﴿لَوْ كانَ هَؤُلاءِ﴾ أيِ الأصْنامُ الَّتِي تَعْبُدُونَها ﴿آلِهَةً ما ورَدُوها﴾ أيْ ما دَخَلُوها ودَلَّ عَلى أنَّهُ وُرُودُ دُخُولٍ قَوْلُهُ ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ وقَرَأ الجُمْهُورُ (آلِهَةً) بِالنَّصْبِ عَلى خَبَرِ (كانَ) . وقَرَأ طَلْحَةُ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّ في (كانَ) ضَمِيرَ الشَّأْنِ ﴿وكُلٌّ فِيها﴾ أيْ كُلٌّ مِنَ العابِدِينَ ومَعْبُوداتِهِمْ. ﴿لَهم فِيها زَفِيرٌ﴾ وهو صَوْتُ نَفَسِ المَغْمُومِ يَخْرُجُ مِنَ القَلْبِ، والظّاهِرُ أنَّ الزَّفِيرَ إنَّما يَكُونُ مِمَّنْ تَقُومُ بِهِ الحَياةُ وهُمُ العابِدُونَ والمَعْبُودُونَ مِمَّنْ كانَ يَدَّعِي الإلَهِيَّةَ كَفِرْعَوْنَ وكَغُلاةِ الإسْماعِيلِيَّةِ الَّذِينَ كانُوا مُلُوكَ مِصْرَ مَن بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ أوَّلِ مُلُوكِهِمْ، ويَجُوزُ أنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْأصْنامِ الَّتِي عُبِدَتْ حَياةً فَيَكُونُ لَها زَفِيرٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إذا كانُوا هم وأصْنامُهم في (p-٣٤١)قَرْنٍ واحِدٍ جازَ أنْ يُقالَ لَهم فِيها إنْ لَمْ يَكُنِ الزّافِرِينَ إلّا وهم فِيها ﴿لا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٢] ورُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أنَّهم يُجْعَلُونَ في تَوابِيتَ مِن نارٍ فَلا يَسْمَعُونَ. وقالَ تَعالى: ﴿ونَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا﴾ [الإسراء: ٩٧] وفي سَماعِ الأشْياءِ رَوْحٌ فَمَنَعَ اللَّهُ الكُفّارَ ذَلِكَ في النّارِ. وقِيلَ ﴿لا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٢] ما يَسُرُّهم مِن كَلامِ الزَّبانِيَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب