الباحث القرآني

﴿وأيُّوبَ إذْ نادى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِن ضُرٍّ وآتَيْناهُ أهْلَهُ ومِثْلَهم مَعَهم رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وذِكْرى لِلْعابِدِينَ﴾ ﴿وإسْماعِيلَ وإدْرِيسَ وذا الكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ ﴿وأدْخَلْناهم في رَحْمَتِنا إنَّهم مِنَ الصّالِحِينَ﴾ ﴿وذا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى في الظُّلُماتِ أنْ لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ ونَجَّيْناهُ مِنَ الغَمِّ وكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وزَكَرِيّا إذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وأنْتَ خَيْرُ الوارِثِينَ﴾ ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ ووَهَبْنا لَهُ يَحْيى وأصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إنَّهم كانُوا يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ ويَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا وكانُوا لَنا خاشِعِينَ﴾ ﴿والَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِن رُوحِنا وجَعَلْناها وابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ﴾ . طَوَّلَ الأخْبارِيُّونَ في قِصَّةِ أيُّوبَ، وكانَ أيُّوبُ رُومِيًّا مِن ولَدِ إسْحاقَ بْنِ يَعْقُوبَ، اسْتَنْبَأهُ اللَّهُ وبَسَطَ عَلَيْهِ الدُّنْيا وكَثَّرَ أهْلَهُ ومالَهُ، وكانَ لَهُ سَبْعُ بَنِينَ وسَبْعُ بَناتٍ، ولَهُ أصْنافُ البَهائِمِ وخَمْسُمِائَةِ فَدّانٍ يَتَّبِعُها خَمْسُمِائَةِ عَبْدٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ امْرَأةٌ ووَلَدٌ ونَخِيلٌ، فابْتَلاهُ اللَّهُ بِذَهابِ ولَدِهِ انْهَدَمَ عَلَيْهِمُ البَيْتُ فَهَلَكُوا وبِذَهابِ مالِهِ وبِالمَرَضِ في بَدَنِهِ ثَمانَ عَشْرَةَ سَنَةً. وقِيلَ دُونَ ذَلِكَ فَقالَتْ لَهُ امْرَأتُهُ يَوْمًا لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَقالَ لَها: كَمْ كانَتْ مُدَّةُ الرَّخاءِ ؟ فَقالَتْ: ثَمانِينَ سَنَةً، فَقالَ: أنا أسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أنْ أدْعُوَهُ وما بَلَغَتْ مُدَّةُ بَلائِي مُدَّةَ رَخائِي، فَلَمّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ أحْيا ولَدَهُ ورَزَقَهُ مِثْلَهم ونَوافِلَ مِنهم. ورُوِيَ أنَّ امْرَأتَهُ ولَدَتْ بَعْدُ سِتَّةً وعِشْرِينَ ابْنًا وذَكَرُوا كَيْفِيَّةً في ذَهابِ مالِهِ وأهْلِهِ وتَسْلِيطِ إبْلِيسَ عَلَيْهِ في ذَلِكَ اللَّهُ أعْلَمُ بِصِحَّتِها. وقَرَأ الجُمْهُورُ (أنِّي) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وعِيسى بْنُ عُمَرَ بِكَسْرِها إمّا عَلى إضْمارِ القَوْلِ أيْ قائِلًا (أنِّي) وإمّا عَلى إجْراءِ (نادى) مَجْرى قالَ وكَسْرِ إنِّي بَعْدَها وهَذا الثّانِي مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، والأوَّلُ مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ و(الضُّرُّ) بِالفَتْحِ الضَّرَرُ في كُلِّ شَيْءٍ، وبِالضَّمِّ الضَّرَرُ في النَّفْسِ مِن مَرَضٍ وهُزالٍ فَرْقٌ بَيْنَ البِناءَيْنِ لِافْتِراقِ المَعْنَيَيْنِ، وقَدْ ألْطَفَ أيُّوبُ في السُّؤالِ حَيْثُ ذَكَرَ نَفْسَهُ بِما يُوجِبُ الرَّحْمَةَ وذَكَرَ رَبَّهُ بِغايَةِ الرَّحْمَةِ ولَمْ يُصَرِّحْ بِالمَطْلُوبِ ولَمْ يُعَيِّنِ الضُّرَّ الَّذِي مَسَّهُ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في ذَلِكَ عَلى سَبْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا أمْثَلُها أنَّهُ نَهَضَ لِيُصَلِّيَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلى النُّهُوضِ، فَقالَ: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ إخْبارًا عَنْ حالَةٍ لا شَكْوى لِبَلائِهِ رَواهُ أنَسٌ مَرْفُوعًا، والألِفُ واللّامُ في (الضُّرُّ) لِلْجِنْسِ تَعُمُّ (الضُّرُّ) في البَدَنِ والأهْلِ والمالِ. وإيتاءُ أهْلِهِ ظاهِرُهُ أنَّ ما كانَ لَهُ مِن أهْلٍ رَدَّهُ عَلَيْهِ وأحْياهم لَهُ بِأعْيانِهِمْ، وآتاهُ مِثْلَ أهْلِهِ مَعَ أهْلِهِ مِنَ الأوْلادِ والأتْباعِ، وذُكِرَ أنَّهُ جَعَلَ لَهُ مَثَلَهم عِدَّةً في الآخِرَةِ. وانْتَصَبَ (رَحْمَةً) عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ أيْ لَرَحِمَتِنا إيّاهُ (وذِكْرى) مِنّا بِالإحْسانِ لِمَن عِنْدَنا أوْ (رَحْمَةً) مِنّا لِأيُّوبَ (وذِكْرى) أيْ مَوْعِظَةً لِغَيْرِهِ مِنَ العابِدِينَ، لِيَصْبِرُوا كَما صَبَرَ حَتّى يُثابُوا كَما أُثِيبَ. وقالَ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ ومُجاهِدٌ: كانَ ذُو الكِفْلِ عَبْدًا صالِحًا ولَمْ يَكُنْ نَبِيًّا. وقالَ الأكْثَرُونَ: هو نَبِيٌّ فَقِيلَ: هو إلْياسُ. وقِيلَ: زَكَرِيّا. وقِيلَ: يُوشَعُ، والكِفْلُ النَّصِيبُ والحَظُّ أيْ ذُو الحَظِّ مِنَ اللَّهِ المَحْدُودِ عَلى الحَقِيقَةِ. وقِيلَ: كانَ لَهُ ضِعْفُ عَمَلِ الأنْبِياءِ في زَمانِهِ وضِعْفُ ثَوابِهِمْ. وقِيلَ: في تَسْمِيَتِهِ ذا الكِفْلِ أقْوالٌ مُضْطَرِبَةٌ لا تَصِحُّ. وانْتَصَبَ ﴿مُغاضِبًا﴾ عَلى الحالِ. فَقِيلَ: مَعْناهُ غَضْبانُ وهو مِنَ المُفاعَلَةِ الَّتِي لا تَقْتَضِي اشْتِراكًا، نَحْوَ: عاقَبْتُ اللِّصَّ وسافَرْتُ. وقِيلَ ﴿مُغاضِبًا﴾ لِقَوْمِهِ أغْضَبَهم بِمُفارَقَتِهِ وتَخَوُّفِهِمْ حُلُولَ العَذابِ، وأغْضَبُوهُ حِينَ دَعاهم إلى اللَّهِ مُدَّةً فَلَمْ يُجِيبُوهُ فَأوْعَدَهم بِالعَذابِ، ثُمَّ خَرَجَ مِن بَيْنِهِمْ عَلى (p-٣٣٥)عادَةِ الأنْبِياءِ عِنْدَ نُزُولِ العَذابِ قَبْلَ أنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ في الخُرُوجِ. وقِيلَ ﴿مُغاضِبًا﴾ لِلْمَلِكِ حِزْقِيا حِينَ عَيَّنَهُ لِغَزْوِ مَلِكٍ كانَ قَدْ عابَ في بَنِي إسْرائِيلَ فَقالَ لَهُ يُونُسُ: آللَّهُ أمْرَكَ بِإخْراجِي ؟ قالَ: لا، قالَ فَهَلْ سَمّانِي لَكَ ؟ قالَ: لا، قالَ هَهُنا غَيْرِي مِنَ الأنْبِياءِ، فَألَحَّ عَلَيْهِ فَخَرَجَ ﴿مُغاضِبًا﴾ لِلْمَلِكِ. وقَوْلُ مَن قالَ ﴿مُغاضِبًا﴾ لِرَبِّهِ وحَكى في المُغاضَبَةِ لِرَبِّهِ كَيْفِيّاتٍ يَجِبُ اطِّراحَهُ إذْ لا يُناسِبُ شَيْءٌ مِنها مَنصِبَ النُّبُوَّةِ، ويَنْبَغِي أنْ يَتَأوَّلَ لِمَن قالَ ذَلِكَ مِنَ العُلَماءِ كالحَسَنِ والشَّعْبِيِّ وابْنِ جُبَيْرٍ وغَيْرِهِمْ مِنَ التّابِعِينَ، وابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحابَةِ بِأنْ يَكُونَ مَعْنى قَوْلِهِمْ ﴿مُغاضِبًا﴾ لِرَبِّهِ أيْ لِأجْلِ رَبِّهِ ودِينِهِ، واللّامُ لامُ العِلَّةِ لا اللّامُ المُوَصِّلَةُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ. وقَرَأ أبُو شَرَفٍ مُغْضِبًا اسْمَ مَفْعُولٍ. ﴿فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ أيْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ مِنَ القَدْرِ لا مِنَ القُدْرَةِ، وقِيلَ: مِنَ القُدْرَةِ بِمَعْنى ﴿أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ الِابْتِلاءَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (نَقْدِرَ) بِنُونِ العَظَمَةِ مُخَفَّفًا. وقَرَأ ابْنُ أبِي لَيْلى وأبُو شَرَفٍ والكَلْبِيُّ وحُمَيدُ بْنُ قَيْسٍ ويَعْقُوبُ بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الدّالِّ مُخَفَّفًا، وعِيسى والحَسَنُ بِالياءِ مَفْتُوحَةً وكَسْرِ الدّالِ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ واليَمانِيُّ بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ القافِ والدّالِ مُشَدَّدَةً، والزُّهْرِيُّ بِالنُّونِ مَضْمُومَةً وفَتْحِ القافِ وكَسْرِ الدّالِ مُشَدَّدَةً. ﴿فَنادى في الظُّلُماتِ﴾ في الكَلامِ جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ قَدْ أُوضِحَتْ في سُورَةِ والصّافّاتِ، وهُناكَ نَذْكُرُ قِصَّتَهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى وجَمَعَ (الظُّلُماتِ) لِشِدَّةِ تَكاثُفِها فَكَأنَّها ظُلْمَةٌ مَعَ ظُلْمَةٍ. وقِيلَ: ظُلُماتُ بَطْنِ الحُوتِ والبَحْرِ واللَّيْلِ. وقِيلَ: ابْتَلَعَ حُوتَهُ حُوتٌ آخَرُ فَصارَ في ظُلْمَتَيْ بَطْنَيْ الحُوتَيْنِ وظُلْمَةِ البَحْرِ. ورُوِيَ أنَّ يُونُسَ سَجَدَ في جَوْفِ الحُوتِ حِينَ سَمِعَ تَسْبِيحَ الحِيتانِ في قَعْرِ البَحْرِ، و(أنْ) في ﴿أنْ لا إلَهَ إلّا أنْتَ﴾ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأنَّهُ سَبَقَ (فَنادى) وهو في مَعْنى القَوْلِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ بِأنَّهُ فَتَكُونُ مُخَفِّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ حَصْرَ الأُلُوهِيَّةِ فِيهِ تَعالى ثُمَّ نَزَّهَهُ عَنْ سِماتِ النَّقْصِ ثُمَّ أقَرَّ بِما بَعْدَ ذَلِكَ. وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ: (ما مِن مَكْرُوبٍ يَدْعُو بِهَذا الدُّعاءِ إلّا اسْتُجِيبَ لَهُ) . و(الغَمُّ) ما كانَ نالَهُ حِينَ التَقَمَهُ الحُوتُ ومُدَّةُ بَقائِهِ في بَطْنِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (نُنْجِي) مُضارِعُ أنْجى، والجَحْدَرِيُّ مُشَدَّدًا مُضارِعُ نَجّى. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وأبُو بَكْرٍ ( نَجّى ( بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ وياءٍ ساكِنَةٍ، وكَذَلِكَ هي في مُصْحَفِ الإمامِ ومَصاحِفِ الأمْصارِ بِنُونٍ واحِدَةٍ، واخْتارَها أبُو عُبَيدٍ لِمُوافَقَةِ المَصاحِفِ فَقالَ الزَّجّاجُ والفارِسِيُّ هي لَحْنٌ. وقِيلَ: هي مُضارِعٌ أُدْغِمَتِ النُّونُ في الجِيمِ ورُدَّ بِأنَّهُ لا يَجُوزُ إدْغامُ النُّونِ في الجِيمِ الَّتِي هي فاءُ الفِعْلِ لِاجْتِماعِ المِثْلَيْنِ كَما حُذِفَتْ في قِراءَةِ مَن قَرَأ ونَزَلَ المَلائِكَةُ يُرِيدُ ونُنْزِلُ المَلائِكَةَ، وعَلى هَذا أخْرَجَها أبُو الفَتْحِ. وقِيلَ: هي فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ لِما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ وسُكِّنَتِ الياءُ كَما سَكَّنَها مَن قَرَأ وذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا والمَقامُ مَقامُ الفاعِلِ ضَمِيرُ المَصْدَرِ أيْ نَجّى، هو أيِ النَّجاءُ المُؤْمِنِينَ كَقِراءَةِ أبِي جَعْفَرٍ ﴿لِيَجْزِيَ قَوْمًا﴾ [الجاثية: ١٤] أيْ ولِيَجْزِيَ هو أيِ الجَزاءَ، وقَدْ أجازَ إقامَةَ غَيْرِ المَفْعُولِ مِن مَصْدَرٍ أوْ ظَرْفِ مَكانٍ أوْ ظَرْفِ زَمانٍ أوْ مَجْرُورٍ الأخْفَشُ والكُوفِيُّونَ وأبُو عُبَيدٍ، وذَلِكَ مَعَ وُجُودِ المَفْعُولِ بِهِ وجاءَ السَّماعُ في إقامَةِ المَجْرُورِ مَعَ وُجُودِ المَفْعُولِ بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ: ؎أُتِيحَ لِي مِنَ العِدا نَذِيرا بِهِ وُقِيتُ الشَّرَّ مُسْتَطِيرا وقالَ الأخْفَشُ: في المَسائِلِ ضَرَبَ الضَّرْبَ الشَّدِيدَ زَيْدًا، وضَرَبَ اليَوْمانِ زَيْدًا، وضَرَبَ مَكانُكَ زَيْدًا وأعْطى إعْطاءَ حَسَنٍ أخاكَ دِرْهَمًا مَضْرُوبًا عَبْدَهُ زَيْدًا. وقِيلَ: ضَمِيرُ المَصْدَرِ أُقِيمَ مَقامَ الفاعِلِ و(المُؤْمِنِينَ) مَنصُوبٌ بِإضْمارِ فِعْلٍ أيْ ﴿وكَذَلِكَ نُنْجِي﴾ هو أيِ النَّجاءُ ﴿نُنْجِي المُؤْمِنِينَ﴾ والمَشْهُورُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ أنَّهُ مَتى وُجِدَ المَفْعُولُ بِهِ لَمْ يُقِمْ غَيْرُهُ إلّا أنَّ صاحِبَ اللُّبابِ حَكى الخِلافَ في ذَلِكَ عَنِ البَصْرِيِّينَ، وأنَّ بَعْضَهم أجازَ ذَلِكَ. ﴿لا تَذَرْنِي فَرْدًا﴾ أيْ وحِيدًا بِلا وارِثَ، سَألَ رَبَّهُ أنْ يَرْزُقَهُ ولَدًا يَرِثُهُ (p-٣٣٦)ثُمَّ رَدَّ أمْرَهُ إلى اللَّهِ فَقالَ ﴿وأنْتَ خَيْرُ الوارِثِينَ﴾ أيْ إنْ لَمْ تَرْزُقْنِي مَن يَرِثُنِي فَأنْتَ خَيْرُ وارِثٍ، وإصْلاحُ زَوْجِهِ بِحُسْنِ خُلُقِها، وكانَتْ سَيِّئَةَ الخُلُقِ قالَهُ عَطاءٌ ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وعَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وقِيلَ: إصْلاحُها لِلْوِلادَةِ بَعْدَ أنْ كانَتْ عاقِرًا قالَهُ قَتادَةُ. وقِيلَ: إصْلاحُها رَدُّ شَبابِها إلَيْهِ، والضَّمِيرُ في (إنَّهم) عائِدٌ عَلى الأنْبِياءِ السّابِقُ ذِكْرُهم أيْ إنَّ اسْتِجابَتِنا لَهم في طَلَباتِهِمْ كانَ لِمُبادَرَتِهِمُ الخَيْرَ ولِدُعائِهِمْ لَنا. ﴿رَغَبًا ورَهَبًا﴾ أيْ وقْتَ الرَّغْبَةِ ووَقْتَ الرَّهْبَةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: ٩] وقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلى (زَكَرِيّا) و(زَوْجَهُ) وابْنَهُما يَحْيَـى. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ يَدْعُونا حُذِفَتْ نُونُ الرَّفْعِ وطَلْحَةُ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ أدْغَمَ نُونَ الرَّفْعِ في نا ضَمِيرِ النَّصْبِ. وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ ووَهْبُ بْنُ عَمْرٍو والنَّحْوِيُّ وهارُونُ وأبُو مَعْمَرٍ والأصْمَعِيُّ واللُّؤْلُؤِيُّ ويُونُسُ وأبُو زَيْدٍ سَبْعَتُهم عَنْ أبِي عُمْرٍو ﴿رَغَبًا ورَهَبًا﴾ بِالفَتْحِ وإسْكانِ الهاءِ، والأشْهُرُ عَنِ الأعْمَشِ بِضَمَّتَيْنِ فِيهِما. وقَرَأ فِرْقَةٌ: بِضَمِّ الراءَيْنِ وسُكُونِ الغَيْنِ والهاءِ، وانْتَصَبَ ﴿رَغَبًا ورَهَبًا﴾ عَلى أنَّهُما مَصْدَرانِ في مَوْضِعِ الحالِ أوْ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ. ﴿والَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها﴾ هي مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرانَ أُمُّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، والظّاهِرُ أنَّ الفَرْجَ هُنا حَياءُ المَرْأةِ أحْصَنَتْهُ أي مَنَعَتْهُ مِنَ الحَلالِ والحَرامِ كَما قالَتْ ﴿ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ولَمْ أكُ بَغِيًّا﴾ [مريم: ٢٠] . وقِيلَ: الفَرْجُ هُنا جَيْبُ قَمِيصِها مَنَعَتْهُ مِن جِبْرِيلَ لَمّا قَرُبَ مِنها لِيَنْفُخَ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفْ، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ ﴿فَنَفَخْنا فِيها مِن رُوحِنا﴾ كِنايَةٌ عَنْ إيجادِ عِيسى حَيًّا في بَطْنِها، ولا نَفْخَ هُناكَ حَقِيقَةً، وأضافَ الرُّوحَ إلَيْهِ تَعالى عَلى جِهَةِ التَّشْرِيفِ. وقِيلَ: هُناكَ نَفْخٌ حَقِيقَةً وهو أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ نَفَخَ في جَيْبِ دِرْعِها وأسْنَدَ النَّفْخَ إلَيْهِ تَعالى لَمّا كانَ ذَلِكَ مِن جِبْرِيلَ بِأمْرِهِ تَعالى تَشْرِيفًا. وقِيلَ: الرُّوحُ هُنا جِبْرِيلُ كَما قالَ ﴿فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها﴾ [مريم: ١٧] والمَعْنى ﴿فَنَفَخْنا فِيها﴾ مِن جِهَةِ جِبْرِيلَ وكانَ جِبْرِيلُ قَدْ نَفَخَ مِن جَيْبِ دِرْعِها فَوَصَلَ النَّفْخُ إلى جَوْفِها. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: نَفْخُ الرُّوحِ في الجَسَدِ عِبارَةٌ عَنْ إحْيائِهِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ [الحجر: ٢٩] أيْ أحْيَيْتُهُ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ كانَ قَوْلُهُ ﴿فَنَفَخْنا فِيها مِن رُوحِنا﴾ ظاهِرُ الإشْكالِ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى إحْياءِ مَرْيَمَ. قُلْتُ: مَعْناهُ نَفَخْنا الرُّوحَ في عِيسى فِيها أيْ أحْيَيْناهُ في جَوْفِها، ونَحْوَ ذَلِكَ أنْ يَقُولَ الزَّمّارُ نَفَخْتُ في بَيْتِ فُلانٍ أيْ نَفَخْتُ في المِزْمارِ في بَيْتِهِ. انْتَهى. ولا إشْكالَ في ذَلِكَ لِأنَّهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ (فَنَفَخْنا في) ابْنِها ﴿مِن رُوحِنا﴾ وقَوْلُهُ قُلْتُ مَعْناهُ نَفَخْنا الرُّوحَ في عِيسى فِيها اسْتَعْمَلَ نَفَخَ مُتَعَدِّيًا، والمَحْفُوظُ أنَّهُ لا يَتَعَدّى فَيَحْتاجُ في تَعَدِّيهِ إلى جِماعٍ وغَيْرِ مُتَعَدٍّ اسْتَعْمَلَهُ هو في قَوْلِهِ أيْ نَفَخْتُ في المِزْمارِ في بَيْتِهِ. انْتَهى. ولا إشْكالَ في ذَلِكَ. وأفْرَدَ (آيَةً) لِأنَّ حالَهُما لِمَجْمُوعِهِما آيَةٌ واحِدَةٌ وهي وِلادَتُها إيّاهُ مِن غَيْرِ فَحْلٍ، وإنْ كانَ في مَرْيَمَ آياتٌ وفي عِيسى آياتٌ لَكِنَّهُ هُنا لَحَظَ أمْرَ الوِلادَةِ مِن غَيْرِ ذِكْرٍ، وذَلِكَ هو آيَةٌ واحِدَةٌ وقَوْلُهُ (لِلْعالِمِينَ) أيْ لِمَنِ اعْتَبَرَ بِها مِن عالِمِي زَمانِها فَمَن بَعْدَهم، ودَلَّ ذِكْرُ مَرْيَمَ مَعَ الأنْبِياءِ في هَذِهِ السُّورَةِ عَلى أنَّها كانَتْ نَبِيَّةً إذْ قُرِنَتْ مَعَهم في الذِّكْرِ، ومَن مَنَعَ تَنَبُّؤَ النِّساءِ قالَ ذُكِرَتْ لِأجْلِ عِيسى وناسَبَ ذِكْرُهُما هُنا قِصَّةَ زَكَرِيّا وزَوْجِهِ ويَحْيَـى لِلْقَرابَةِ الَّتِي بَيْنَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب