الباحث القرآني

﴿أمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هم يُنْشِرُونَ﴾ ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهم يُسْألُونَ﴾ ﴿أمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكم هَذا ذِكْرُ مَن مَعِيَ وذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهم مُعْرِضُونَ﴾ ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إلّا نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاعْبُدُونِ﴾ ﴿وقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾ ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وهم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ولا يَشْفَعُونَ إلّا لِمَنِ ارْتَضى وهم مِن خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ ﴿ومَن يَقُلْ مِنهم إنِّي إلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ﴾ . (p-٣٠٤)لَمّا ذَكَرَ تَعالى الدَّلائِلَ عَلى وحْدانِيَّتِهِ وأنَّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ كُلَّهم مِلْكٌ لَهُ، وأنَّ المَلائِكَةَ المُكَرَّمِينَ هم في خِدْمَتِهِ لا يَفْتُرُونَ عَنْ تَسْبِيحِهِ وعِبادَتِهِ، عادَ إلى ما كانَ عَلَيْهِ مِن تَوْبِيخِ المُشْرِكِينَ وذَمِّهِمْ وتَسْفِيهِ أحْلامِهِمْ و(أمْ) هُنا مُنْقَطِعَةٌ تَتَقَدَّرُ بِـ (بَلْ والهَمْزَةِ)، فَفِيها إضْرابٌ وانْتِقالٌ مِن خَبَرٍ إلى خَبَرٍ، واسْتِفْهامٌ مَعْناهُ التَّعَجُّبُ والإنْكارُ أيِ: ﴿اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ﴾ يَتَّصِفُونَ بِالإحْياءِ ويَقْدِرُونَ عَلَيْها وعَلى الإماتَةِ، أيْ لَمْ يَتَّخِذُوا آلِهَةً بِهَذا الوَصْفِ بَلِ اتَّخَذُوا آلِهَةً جَمادًا لا يَتَّصِفُ بِالقُدْرَةِ عَلى شَيْءٍ فَهي غَيْرُ آلِهَةٍ لِأنَّ مِن صِفَةِ الإلَهِ القُدْرَةَ عَلى الإحْياءِ والإماتَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ أنْكَرَ عَلَيْهِمُ اتِّخاذَ آلِهَةٍ تُنْشِرُ وما كانُوا يَدَّعُونَ ذَلِكَ لِآلِهَتِهِمْ، وهم أبْعَدُ شَيْءٍ عَنْ هَذِهِ الدَّعْوى لِأنَّهم مَعَ إقْرارِهِمْ بِأنَّ اللَّهَ خالِقُ السَّماواتِ والأرْضِ، وبِأنَّهُ قادِرٌ عَلى المَقْدُوراتِ كُلِّها وعَلى النَّشْأةِ الأُولى مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، وكانَ عِنْدَهم مِن قَبِيلِ المُحالِ الخارِجِ عَنْ قُدْرَةِ القادِرِ فَكَيْفَ يَدَّعُونَهُ لِلْجَمادِ الَّذِي لا يُوصَفُ بِالقُدْرَةِ ؟ قُلْتُ: الأمْرُ كَما ذَكَرْتَ ولَكِنَّهم بِادِّعائِهِمُ الإلَهِيَّةَ يَلْزَمُهم أنْ يَدَّعُوا لَها الإنْشاءَ لِأنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ هَذا الِاسْمَ إلّا القادِرُ عَلى كُلِّ مَقْدُورٍ، والإنْشاءُ مِن جُمْلَةِ المَقْدُوراتِ وفِيهِ بابٌ مِنَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ والتَّوْبِيخِ والتَّجْهِيلِ، وإشْعارٌ بِأنَّ ما اسْتَبْعَدُوهُ مِنَ اللَّهِ لا يَصِحُّ اسْتِبْعادُهُ لِأنَّ الإلَهِيَّةَ لَمّا صَحَّتْ صَحَّ مَعَها الِاقْتِدارُ عَلى الإبْداءِ والإعادَةِ ونَحْوُ قَوْلِهِ: (مِنَ الأرْضِ) قَوْلُكَ: فُلانٌ مِن مَكَّةَ أوْ مِنَ المَدِينَةِ، تُرِيدُ مَكِّيًّا أوْ مَدَنِيًّا، ومَعْنى نِسْبَتِها إلى الأرْضِ الإيذانُ بِأنَّها الأصْنامُ الَّتِي تُعْبَدُ في الأرْضِ لا أنَّ الآلِهَةَ أرْضِيَّةٌ وسَماوِيَّةٌ، مِن ذَلِكَ حَدِيثُ الأمَةِ الَّتِي قالَ لَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أيْنَ رَبُّكِ ؟ ) فَأشارَتْ إلى السَّماءِ قالَ: ( إنَّها مُؤْمِنَةٌ) لِأنَّهُ فَهِمَ مِنها أنَّ مُرادَها نَفْيُ الآلِهَةِ الأرْضِيَّةِ الَّتِي هي الأصْنامُ لا إثْباتُ السَّماءِ مَكانًا لِلَّهِ تَعالى. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ آلِهَةٌ مِن جِنْسِ الأرْضِ لِأنَّها إمّا أنْ تُنْحَتَ مِن بَعْضِ الحِجارَةِ أوْ تُعْمَلَ مِن بَعْضِ جَواهِرِ الأرْضِ. فَإنْ قُلْتَ: لا بُدَّ مِن نُكْتَةٍ في قَوْلِهِ (هم) قُلْتُ: النُّكْتَةُ فِيهِ إفادَةُ مَعْنى الخُصُوصِيَّةِ كَأنَّهُ قِيلَ: أمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً لا تَقْدِرُ عَلى الإنْشاءِ إلّا هم وحْدَهم. انْتَهى. و(اتَّخَذُوا) هُنا يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى فِيها صَنَعُوا وصَوَّرُوا، و(مِنَ الأرْضِ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (اتَخَذُوا)، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى جَعَلُوا الآلِهَةَ أصْنامًا مِنَ الأرْضِ كَقَوْلِهِ: ﴿أتَتَّخِذُ أصْنامًا آلِهَةً﴾ [الأنعام: ٧٤] وقَوْلِهِ ﴿واتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: ١٢٥] وفِيهِ مَعْنى الاصْطِفاءِ والِاخْتِيارِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿يُنْشِرُونَ﴾ مُضارِعُ أنْشَرَ ومَعْناهُ يُحْيُونَ. وقالَ قُطْرُبٌ: مَعْناهُ يَخْلُقُونَ كَقَوْلِهِ: ﴿أفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ﴾ [النحل: ١٧] . وقَرَأ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ ﴿يَنْشُرُونَ﴾ مُضارِعُ نَشَرَ، وهُما لُغَتانِ: نَشَرَ وأنْشَرَ مُتَعَدِّيانِ، ونَشَرَ يَأْتِي لازِمًا، تَقُولُ: أنْشَرَ اللَّهُ المَوْتى فَنَشَرُوا أيْ فَحَيُوا، والضَّمِيرُ في (فِيهِما) عائِدٌ عَلى السَّماءِ والأرْضِ وهُما كِنايَةٌ عَنِ العالَمِ. و(إلّا) صِفَةٌ لِـ (آلِهَةٌ) أيْ آلِهَةٌ غَيْرُ (اللَّهِ) وكَوْنُ (إلّا) يُوصَفُ بِها مَعْهُودٌ في لِسانِ العَرَبِ، ومِن ذَلِكَ ما أنْشَدَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: ؎وكُلُّ أخٍ مُفارِقُهُ أخُوهُ لَعَمْرُ أبِيكَ إلّا الفَرْقَدانِ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَنَعَكَ مِنَ الرَّفْعِ عَلى البَدَلِ ؟ قُلْتُ: لِأنَّ (لَوْ) بِمَنزِلَةِ (إنَّ) في أنَّ الكَلامَ مَعَهُ مُوجَبٌ، والبَدَلُ لا يَسُوغُ إلّا في الكَلامِ غَيْرِ المُوجَبِ كَقَوْلِهِ: ﴿ولا يَلْتَفِتْ مِنكم أحَدٌ إلّا امْرَأتَكَ﴾ [هود: ٨١] وذَلِكَ لِأنَّ أعَمَّ العامِّ يَصِحُّ نَفْيُهُ ولا يَصِحُّ إيجابُهُ، والمَعْنى لَوْ كانَ يَتَوَلّاهُما ويُدَبِّرُ أمْرَهُما آلِهَةٌ شَتّى غَيْرُ الواحِدِ الَّذِي هو فاطِرُهُما ﴿لَفَسَدَتا﴾ وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أمْرَيْنِ أحَدُهُما: وُجُوبُ أنْ لا يَكُونَ مُدَبِّرُهُما إلّا واحِدًا، والثّانِي أنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ الواحِدُ إلّا إيّاهُ وحْدَهُ كَقَوْلِهِ: (إلّا اللَّهُ) . فَإنْ قُلْتَ: لِمَ وجَبَ الأمْرانِ (p-٣٠٥)قُلْتُ: لِعِلْمِنا أنَّ الرَّعِيَّةَ تَفْسُدُ بِتَدْبِيرِ المَلِكَيْنِ لِما يَحْدُثُ بَيْنَهُما مِنَ التَّغالُبِ والتَّناكُرِ والِاخْتِلافِ. وعَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوانَ حِينَ قَتَلَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ الأشْدَقَ: كانَ واللَّهِ أعَزَّ عَلَيَّ مِن دَمِ ناظِرَيَّ ولَكِنْ لا يَجْتَمِعُ فَحْلانِ في شَوْلٍ، وهَذا ظاهِرٌ. وأمّا طَرِيقَةُ التَّمانُعِ فَلِلْمُتَكَلِّمِينَ فِيها تَجادُلٌ وطِرادٌ ولِأنَّ هَذِهِ الأفْعالَ مُحْتاجَةٌ إلى تِلْكَ الذّاتِ المُتَمَيِّزَةِ بِتِلْكَ الصِّفاتِ حَتّى تَثْبُتَ وتَسْتَقِرَّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وذَلِكَ بِأنَّهُ كانَ يَبْغِي بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ ويَذْهَبُ بِما خَلَقَ، واقْتِضابُ القَوْلِ في هَذا أنَّ إلَهَيْنِ لَوْ فَرَضْنا بَيْنَهُما الِاخْتِلافَ في تَحْرِيكِ جِسْمٍ ولا تَحْرِيكِهِ فَمُحالٌ أنْ تَتِمَّ الإرادَتانِ، ومُحالٌ أنْ لا تَتِمَّ جَمِيعًا، وإذا تَمَّتِ الواحِدَةُ كانَ صاحِبُ الأُخْرى عاجِزًا وهَذا لَيْسَ بِإلَهٍ، وجَوازُ الِاخْتِلافِ عَلَيْهِما بِمَنزِلَةِ وُقُوعِهِ مِنهُما، ونَظَرٌ آخَرُ وذَلِكَ أنَّ كُلَّ جُزْءٍ يَخْرُجُ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ فَمُحالٌ أنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ قُدْرَتانِ، فَإذا كانَتْ قُدْرَةُ أحَدِهِما تُوجِدُهُ فَفي الآخَرِ فَضْلًا لا مَعْنى لَهُ في ذَلِكَ الجُزْءِ ثُمَّ يَتَمادى النَّظَرُ هَكَذا جُزْءٌ جُزْءٌ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: لَوْ فَرَضْنا مَوْجُودَيْنِ واجِبَيِ الوُجُودِ لِذاتِهِما فَلا بُدَّ أنْ يَشْتَرِكا في الوُجُودِ ولا بُدَّ أنْ يَمْتازَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَنِ الآخَرِ بِمَعِيَّتِهِ وما بِهِ المُشارَكَةُ غَيْرُ ما بِهِ المُمايَزَةُ، فَيَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مُشارِكًا لِلْآخَرِ وكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهو مُفْتَقِرٌ إلى آخَرَ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، فَإذًا واجِبُ الوُجُودِ لَيْسَ إلّا واحِدًا فَكُلُّ ما عَدا هَذا فَهو مُحْدَثٌ، ويُمْكِنُ جَعْلُ هَذا تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الآيَةِ لِأنّا لَمّا دَلَلْنا عَلى أنَّهُ يَلْزَمُ مِن فَرْضِ مَوْجُودَيْنِ واجِبَيْنِ أنْ لا يَكُونُ شَيْءٌ مِنهُما واجِبًا، وإذا لَمْ يُوجَدِ الواجِبُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِن هَذِهِ المُمْكِناتِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الفَسادُ في كُلِّ العالَمِ. وقالَ أبُو البَقاءِ: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا لِأنَّ المَعْنى يَصِيرُ إلى قَوْلِكَ ﴿لَوْ كانَ فِيهِما﴾ اللَّهُ ﴿لَفَسَدَتا﴾ ألا تَرى أنَّكَ لَوْ قُلْتَ: ما جاءَنِي قَوْمُكَ إلّا زَيْدٌ عَلى البَدَلِ لَكانَ المَعْنى جاءَنِي زَيْدٌ وحْدَهُ. وقِيلَ: يَمْتَنِعُ البَدَلُ لِأنَّ ما قَبْلَهُ إيجابٌ ولا يَجُوزُ النَّصْبُ عَلى الاسْتِثْناءِ لِوَجْهَيْنِ، أحَدُهُما أنَّهُ فاسِدٌ في المَعْنى وذَلِكَ أنَّكَ إذا قُلْتَ: لَوْ جاءَنِي القَوْمُ إلّا زَيْدًا لَقَتَلْتُهم كانَ مَعْناهُ أنَّ القَتْلَ امْتَنَعَ لِكَوْنِ زَيْدٍ مَعَ القَوْمِ، فَلَوْ نُصِبَ في الآيَةِ لَكانَ المَعْنى فَسادَ السَّماواتِ والأرْضِ امْتَنَعَ لِوُجُودِ اللَّهِ مَعَ الآلِهَةِ، وفي ذَلِكَ إثْباتُ الإلَهِ مَعَ اللَّهِ، وإذا رُفِعَتْ عَلى الوَصْفِ لا يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ لِأنَّ المَعْنى ﴿لَوْ كانَ فِيهِما﴾ غَيْرُ ﴿اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ . والوَجْهُ الثّانِي أنْ (آلِهَةٌ) هُنا نَكِرَةٌ، والجَمْعُ إذا كانَ نَكِرَةً لَمْ يُسْتَثْنَ مِنهُ عِنْدَ جَماعَةٍ مِنَ المُحَقِّقِينَ لِأنَّهُ لا عُمُومَ لَهُ بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِيهِ المُسْتَثْنى لَوْلا الِاسْتِثْناءُ. انْتَهى. وأجازَ أبُو العَبّاسِ المُبَرِّدُ في (إلّا اللَّهُ) أنْ يَكُونَ بَدَلًا لِأنَّ ما بَعْدَ لَوْ غَيْرُ مُوجَبٍ في المَعْنى، والبَدَلُ في غَيْرِ الواجِبِ أحْسَنُ مِنَ الوَصْفِ. وقَدْ أمْعَنّا الكَلامَ عَلى هَذِهِ المَسْألَةِ في شَرْحِ التَّسْهِيلِ. وقالَ الأُسْتاذُ أبُو عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينُ في مَسْألَةِ سِيبَوَيْهِ: لَوْ كانَ مَعَنا رَجُلٌ إلّا زَيْدًا لَغَلَبْنا أنَّ المَعْنى لَوْ كانَ مَعَنا رَجُلٌ مَكانَ زَيْدٍ لَغَلَبْنا فَإلّا بِمَعْنى غَيْرِ الَّتِي بِمَعْنى مَكانٍ. وقالَ شَيْخُنا الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ بْنُ الصّائِغِ: لا يَصِحُّ المَعْنى عِنْدِي إلّا أنْ تَكُونَ (إلّا) في مَعْنى غَيْرِ الَّذِي يُرادُ بِها البَدَلُ أيْ ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ﴾ عِوَضٌ واحِدٌ أيْ بَدَلُ الواحِدِ الَّذِي هو ﴿اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ وهَذا المَعْنى أرادَ سِيبَوَيْهِ في المَسْألَةِ الَّتِي جاءَ بِها تَوْطِئَةً. انْتَهى. ولَمّا أقامَ البُرْهانَ عَلى وحْدانِيِّتِهِ وانْفِرادِهِ بِالأُلُوهِيَّةِ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَمّا وصَفَهُ بِهِ أهْلُ الجَهْلِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ﴾ ثُمَّ وصَفَ نَفْسَهُ بِأنَّهُ مالِكُ هَذا المَخْلُوقِ العَظِيمِ الَّذِي جَمِيعُ العالَمِ هو مُتَضَمِّنُهم ثُمَّ وصَفَ نَفْسَهُ بِكَمالِ القُدْرَةِ ونِهايَةِ الحُكْمِ فَقالَ: ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ﴾ إذْ لَهُ أنْ يَفْعَلَ في مُلْكِهِ ما يَشاءُ، وفِعْلُهُ عَلى أقْصى دَرَجاتِ الحِكْمَةِ فَلا اعْتِراضَ ولا تَعَقُّبَ عَلَيْهِ، ولَمّا كانَتْ عادَةُ المُلُوكِ أنَّهم لا يُسْألُونَ عَمّا يَصْدُرُ مِن أفْعالِهِمْ مَعَ إمْكانِ الخَطَأِ فِيها، كانَ مَلِكُ المُلُوكِ أحَقَّ بِأنْ لا يُسْألَ هَذا مَعَ عِلْمِنا أنَّهُ لا يَصْدُرُ عَنْهُ إلّا ما اقْتَضَتْهُ الحِكْمَةُ العارِيَةُ عَنِ الخَلَلِ والتَّعَقُّبِ، وجاءَ ﴿عَمّا يَفْعَلُ﴾ إذِ الفِعْلُ (p-٣٠٦)جامِعٌ لِصِفاتِ الأفْعالِ مُنْدَرِجٌ تَحْتَهُ كُلُّ ما يَصْدُرُ عَنْهُ مِن خَلْقٍ ورِزْقٍ ونَفْعٍ وضُرٍّ وغَيْرِ ذَلِكَ، والظّاهِرُ في قَوْلِهِ: ﴿لا يُسْألُ﴾ العُمُومُ في الأزْمانِ. وقالَ الزَّجّاجُ: أيْ في القِيامَةِ ﴿لا يُسْألُ﴾ عَنْ حُكْمِهِ في عِبادِهِ ﴿وهم يُسْألُونَ﴾ عَنْ أعْمالِهِمْ. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: لا يُحاسَبُ وهم يُحاسَبُونَ. وقِيلَ: لا يُؤاخَذُ وهم يُؤاخَذُونَ. انْتَهى. ﴿وهم يُسْألُونَ﴾ لِأنَّهم مَمْلُوكُونَ مُسْتَعْبَدُونَ واقِعٌ مِنهُمُ الخَطَأُ كَثِيرًا فَهم جَدِيرُونَ أنْ يُقالَ لَهم لِمَ فَعَلْتُمْ كَذا. وقَرَأ الحَسَنُ: لا يُسَلُ ويُسَلُونَ بِفَتْحِ السِّينِ نَقَلَ حَرَكَةَ الهَمْزَةِ إلى السِّينِ وحَذَفَ الهَمْزَةَ. ثُمَّ كَرَّرَ تَعالى عَلَيْهِمُ الإنْكارَ والتَّوْبِيخَ فَقالَ: ﴿أمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً﴾ اسْتِفْظاعًا لِشَأْنِهِمْ واسْتِعْظامًا لِكُفْرِهِمْ، وزادَ في هَذا التَّوْبِيخِ قَوْلُهُ: ﴿مِن دُونِهِ﴾ فَكَأنَّهُ وبَّخَهم عَلى قَصْدِ الكُفْرِ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ثُمَّ دَعاهم إلى الإتْيانِ بِالحُجَّةِ عَلى ما اتَّخَذُوا ولا حُجَّةَ تَقُومُ عَلى أنَّ لِلَّهِ تَعالى شَرِيكًا لا مِن جِهَةِ العَقْلِ ولا مِن جِهَةِ النَّقْلِ، بَلْ كُتُبُ اللَّهِ السّابِقَةُ شاهِدَةٌ بِتَنْزِيهِهِ تَعالى عَنِ الشُّرَكاءِ والأنْدادِ كَما في الوَحْيِ الَّذِي جِئْتُكم بِهِ ﴿هَذا ذِكْرُ مَن مَعِيَ﴾ أيْ عِظَةٌ لِلَّذِينَ مَعِي وهم أُمَّتُهُ (وذِكْرُ) لِلَّذِينَ ﴿مَن قَبْلِي﴾ وهم أُمَمُ الأنْبِياءِ، فالذِّكْرُ هُنا مُرادٌ بِهِ الكُتُبُ الإلَهِيَّةُ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (هَذا) إشارَةً إلى القُرْآنِ. والمَعْنى فِيهِ ذِكْرُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ فَذِكْرُ الآخِرِينَ بِالدَّعْوَةِ وبَيانِ الشَّرْعِ لَهم، وذِكْرُ الأوَّلِينَ بِقَصِّ أخْبارِهِمْ وذِكْرِ الغُيُوبِ في أُمُورِهِمْ. والمَعْنى عَلى هَذا عَرْضُ القُرْآنِ في مَعْرِضِ البُرْهانِ أيْ ﴿هاتُوا بُرْهانَكُمْ﴾ فَهَذا بُرْهانِي في ذَلِكَ ظاهِرٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِإضافَةِ (ذِكْرُ) إلى (مَن) فِيهِما عَلى إضافَةِ المَصْدَرِ إلى المَفْعُولِ كَقَوْلِهِ: ﴿بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ﴾ [ص: ٢٤] . وقُرِئَ بِتَنْوِينِ (ذِكْرُ) فِيهِما و(مَن) مَفْعُولٌ مَنصُوبٌ بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ: ﴿أوْ إطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا﴾ [البلد: ١٤] . وقَرَأ يَحْيَـى بْنُ يَعْمَرَ وطَلْحَةُ بِتَنْوِينٍ (ذِكْرٌ) فِيهِما وكَسْرِ مِيمِ (مِن) فِيهِما، ومَعْنى (مَعِي) هُنا عِنْدِي، والمَعْنى (هَذا ذِكْرٌ مِن) عِنْدِي و(مِن قَبْلِي) أيْ أُذَكِّرُكم بِهَذا القُرْآنِ الَّذِي عِنْدِي كَما ذَكَّرَ الأنْبِياءُ مِن قَبْلِي أُمَمَهم، ودُخُولُ (مِن) عَلى مَعَ نادِرٌ، ولَكِنَّهُ اسْمٌ يَدُلُّ عَلى الصُّحْبَةِ والِاجْتِماعِ أُجْرِيَ مَجْرى الظَّرْفِ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ (مِن) كَما دَخَلَتْ عَلى قَبْلُ وبَعْدُ وعِنْدَ، وضَعَّفَ أبُو حاتِمٍ هَذِهِ القِراءَةَ لِدُخُولِ (مِن) عَلى مَعَ ولَمْ يَرَ لَها وجْهًا. وعَنْ طَلْحَةَ (ذِكْرٌ) مُنَوَّنًا (مَعِيَ) دُونَ (مَن) (وذِكْرٌ) مُنَوَّنًا (قَبْلِي) دُونَ (مَن) . وقَرَأتْ فِرْقَةٌ (وذِكْرِ مَن) بِالإضافَةِ (وذِكْرٍ) مُنَوَّنًا (مِن قَبْلِي) بِكَسْرِ مِيمِ مِن. وقَرَأ الجُمْهُورُ (الحَقَّ) بِالنَّصْبِ والظّاهِرُ نَصْبُهُ عَلى المَفْعُولِ بِهِ فَلا يَعْلَمُونَ أيْ أصْلَ شَرِّهِمْ وفَسادِهِمْ هو الجَهْلُ وعَدَمُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، ومِن ثَمَّ جاءَ الإعْراضُ عَنْهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَنصُوبُ أيْضًا عَلى مَعْنى التَّوْكِيدِ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ كَما تَقُولُ: هَذا عَبْدُ اللَّهِ الحَقُّ لا الباطِلُ، فَأكَّدَ نِسْبَةَ انْتِفاءِ العِلْمِ عَنْهم، والظّاهِرُ أنَّ الإعْراضَ مُتَسَبِّبٌ عَنِ انْتِفاءِ العِلْمِ لَمّا فَقَدُوا التَّمْيِيزَ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ أعْرَضُوا عَنِ الحَقِّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِمْ تَعالى بِأنَّ ﴿أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ الحَقَّ﴾ لِإعْراضِهِمْ عَنْهُ ولَيْسَ المَعْنى ﴿فَهم مُعْرِضُونَ﴾ لِأنَّهم لا يَعْلَمُونَ بَلِ المَعْنى ﴿فَهم مُعْرِضُونَ﴾ ولِذَلِكَ ﴿لا يَعْلَمُونَ الحَقَّ﴾ وقَرَأ الحَسَنُ وحُمَيدٌ وابْنُ مُحَيْصِنٍ (الحَقُّ) بِالرَّفْعِ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: ابْتِداءٌ والخَبَرُ مُضْمَرٌ، أوْ خَبَرٌ والمُبْتَدَأُ قَبْلَهُ مُضْمَرٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا القَوْلُ هو (الحَقُّ) والوَقْفُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ عَلى (لا يَعْلَمُونَ) . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ (الحَقُّ) بِالرَّفْعِ عَلى تَوْسِيطِ التَّوْكِيدِ بَيْنَ السَّبَبِ والمُسَبَّبِ، والمَعْنى أنَّ إعْراضَهم بِسَبَبِ الجَهْلِ هو الحَقُّ لا الباطِلُ. انْتَهى. ولَمّا ذَكَرَ انْتِفاءَ عِلْمِهِمُ الحَقَّ وإعْراضَهم أخْبَرَ أنَّهُ ما أرْسَلَ ﴿مِن رَسُولٍ﴾ إلّا جاءَ مُقَرِّرًا لِتَوْحِيدِ اللَّهِ وإفْرادِهِ بِالإلَهِيَّةِ والأمْرِ بِالعِبادَةِ. ولَمّا كانَ ﴿مِن رَسُولٍ﴾ عامًّا لَفْظًا ومَعْنًى، أُفِرَدَ عَلى اللَّفْظِ في قَوْلِهِ إلّا يُوحى إلَيْهِ ثُمَّ جُمِعَ عَلى المَعْنى في قَوْلِهِ (فاعْبُدُونِ) ولَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ فاعْبُدْنِي، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الأمْرُ لَهُ ولِأُمَّتِهِ، وهَذِهِ العَقِيدَةُ مِن (p-٣٠٧)تَوْحِيدِ اللَّهِ لَمْ تَخْتَلِفْ فِيها النُّبُوّاتُ وإنَّما وقَعَ الِاخْتِلافُ في أشْياءَ مِنَ الأحْكامِ. وقَرَأ الأخَوانِ والأعْمَشُ وطَلْحَةُ وابْنُ أبِي لَيْلى والقُطَعِيُّ وابْنُ غَزْوانَ عَنْ أيُّوبَ وخَلَفٍ وابْنِ سَعْدانَ وابْنِ عِيسى وابْنِ جَرِيرٍ (نُوحِيَ) بِالنُّونِ وباقِي السَّبْعَةِ بِالياءِ وفَتْحِ الحاءِ، واخْتُلِفَ عَنْ عاصِمٍ. ثُمَّ نَزَّهَ تَعالى نَفْسَهُ عَمّا نَسَبُوا إلَيْهِ مِنَ الوَلَدِ. قِيلَ: ونَزَلَتْ في خُزاعَةَ حَيْثُ قالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ، وقالَتِ النَّصارى نَحْوَ هَذا في عِيسى، واليَهُودُ في عُزَيْرٍ ثُمَّ أضْرَبَ تَعالى عَنْ نِسْبَةِ الوَلَدِ إلَيْهِ فَقالَ: ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾ ويَشْمَلُ هَذا اللَّفْظُ المَلائِكَةَ وعُزَيْرًا والمَسِيحَ، ويَظْهَرُ مِن كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالمَلائِكَةِ قالَ: نَزَلَتْ في خُزاعَةَ حَيْثُ قالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ نَزَّهَ ذاتَهُ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أخْبَرَ عَنْهم بِأنَّهم (عِبادٌ) والعُبُودِيَّةُ تُنافِي الوِلادَةَ إلّا أنَّهم (مُكْرَمُونَ) مُقَرَّبُونَ عِنْدِي مُفَضَّلُونَ عَلى سائِرِ العِبادِ لِما هم عَلَيْهِ مِن أحْوالٍ وصِفاتٍ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ، فَذَلِكَ هو الَّذِي غَرَّ مِنهم مَن زَعَمَ أنَّهم أوْلادِي تَعالَيْتُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. انْتَهى. وقَرَأ عِكْرِمَةُ (مُكَرَّمُونَ) بِالتَّشْدِيدِ والجُمْهُورُ بِالتَّخْفِيفِ، وقَرَأ ﴿لا يَسْبِقُونَهُ﴾ بِكَسْرِ الباءِ. وقُرِئَ بِضَمِّها مِن سابَقَنِي فَسَبَقْتُهُ أسْبِقُهُ، والمَعْنى أنَّهم يَتَّبِعُونَ قَوْلَهُ ولا يَقُولُونَ شَيْئًا حَتّى يَقُولَهُ: فَلا يَسْبِقُ قَوْلُهم قَوْلَهُ. و(أل) في بِالقَوْلِ نابَتْ مَنابَ الضَّمِيرِ عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ أيْ بِقَوْلِهِمْ وكَذا قالالزَّمَخْشَرِيُّ: والمُرادُ بِقَوْلِهِمْ فَأُنِيبَتِ اللّامُ مَنابَ الإضافَةِ أوِ الضَّمِيرُ مَحْذُوفٌ أيْ بِالقَوْلِ مِنهم، وذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ. ﴿وهم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ فَكَما أنَّ قَوْلَهم تابِعٌ لِقَوْلِهِ كَذَلِكَ فِعْلُهم مَبْنِيٌّ عَلى أمْرِهِ لا يَعْمَلُونَ عَمَلًا ما لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ، وهَذِهِ عِبارَةٌ عَنْ تَوَغُّلِهِمْ في طاعَتِهِ والِامْتِثالِ لِأمْرِهِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾ أيْ ما تَقَدَّمَ مِن أفْعالِهِمْ وأقْوالِهِمْ، والحَوادِثُ الَّتِي لَها إلَيْهِمْ تَسَبُّبٌ وما تَأخَّرَ وعَلِمُهُ بِذَلِكَ يَجْرِي مَجْرى السَّبَبِ لِطاعَتِهِمْ لِما عَلِمُوهُ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ وظَواهِرِهِمْ وبَواطِنِهِمْ كانَ ذَلِكَ داعِيًا لَهم إلى نِهايَةِ الخُضُوعِ والدَّؤُوبِ عَلى العِبادَةِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: (يَعْلَمُ) ما قَدَّمُوا وما أخَّرُوا مِن أعْمالِهِمْ. وقالَ نَحْوَهُ عَمّارُ بْنُ ياسِرٍ، قالَ: ما عَمِلُوا وما لَمْ يَعْمَلُوا بَعْدُ، وقِيلَ ﴿ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾ الآخِرَةُ (وما خَلْفَهم) الدُّنْيا. وقِيلَ عَكْسُ ذَلِكَ. وقِيلَ (يَعْلَمُ) ما كانَ قَبْلَ أنْ خَلَقَهم وما كانَ بَعْدَ خَلْقِهِمْ. ولَمّا كانُوا مَقْهُورِينَ تَحْتَ أمْرِهِ ومَلَكُوتِهِ وهو مُحِيطٌ بِهِمْ لَمْ يَجْسُرُوا عَلى أنْ يَشْفَعُوا إلّا لِمَنِ ارْتَضاهُ اللَّهُ وأهَّلَهُ لِلشَّفاعَةِ في زِيادَةِ الثَّوابِ والتَّعْظِيمِ، ثُمَّ (هم) مَعَ ذَلِكَ ﴿مِن خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ مُتَوَقِّعُونَ حَذِرُونِ لا يَأْمَنُونَ مَكْرَ اللَّهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ﴿لِمَنِ ارْتَضى﴾ هو مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وشَفاعَتُهُمُ: الِاسْتِغْفارُ. وقالَ مُجاهِد: لِمَنِ ارْتَضاهُ اللَّهُ أنْ يَشْفَعَ. وقِيلَ: شَفاعَتُهم في القِيامَةِ وفي الصَّحِيحِ أنَّهم يَشْفَعُونَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. وبَعْدَ أنْ وصَفَ كَرامَتَهم عَلَيْهِ وأثْنى عَلَيْهِمْ وأضافَ إلَيْهِمْ تِلْكَ الأفْعالَ السَّنِيَّةَ فاجَأ بِالوَعِيدِ الشَّدِيدِ وأنْذَرَ بِعَذابِ جَهَنَّمَ مَنِ ادَّعى مِنهم أنَّهُ إلَهٌ وذَلِكَ عَلى سَبِيلِ العَرْضِ والتَّمْثِيلِ مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّهُ لا يَكُونُ كَقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٨٨] قَصَدَ بِذَلِكَ تَفْظِيعَ أمْرِ الشِّرْكِ وتَعْظِيمَ شَأْنِ التَّوْحِيدِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿نَجْزِيهِ﴾ بِفَتْحِ النُّونِ. وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ المُقْرِي بِضَمِّها أرادَ نُجْزِئُهُ بِالهَمْزِ مَن أجْزانِي كَذا كَفانِي، ثُمَّ خَفَّفَ الهَمْزَةَ فانْقَلَبَتْ ياءً كَذَلِكَ أيْ مِثْلِ هَذا الجَزاءِ ﴿نَجْزِي الظّالِمِينَ﴾ وهُمُ الكافِرُونَ والواضِعُونَ الشَّيْءَ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وأداةُ الشَّرْطِ تَدْخُلُ عَلى المُمْكِنِ والمُمْتَنِعِ نَحْوَ قَوْلِهِ ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ﴾ [الزمر: ٦٥] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب