الباحث القرآني

(p-٣٠٠)﴿وكَمْ قَصَمْنا مِن قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وأنْشَأْنا بَعْدَها قَوْمًا آخَرِينَ﴾ ﴿فَلَمّا أحَسُّوا بَأْسَنا إذا هم مِنها يَرْكُضُونَ﴾ ﴿لا تَرْكُضُوا وارْجِعُوا إلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ومَساكِنِكم لَعَلَّكم تُسْألُونَ﴾ ﴿قالُوا يا ويْلَنا إنّا كُنّا ظالِمِينَ﴾ ﴿فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهم حَتّى جَعَلْناهم حَصِيدًا خامِدِينَ﴾ ﴿وما خَلَقْنا السَّماءَ والأرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ﴾ ﴿لَوْ أرَدْنا أنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْناهُ مِن لَدُنّا إنْ كُنّا فاعِلِينَ﴾ ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذا هو زاهِقٌ ولَكُمُ الوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ﴾ ﴿ولَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ ومَن عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ولا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ . لَمّا رَدَّ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ ما قالُوهُ بالَغَ تَعالى في زَجْرِهِمْ بِذِكْرِ ما أهْلَكَ مِنَ القُرى، فَقالَ: ﴿وكَمْ قَصَمْنا﴾ والمُرادُ أهْلُها إذْ لا تُوصَفُ القَرْيَةُ بِالظُّلْمِ كَقَوْلِهِ: ﴿مِن هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها﴾ [النساء: ٧٥] قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الإنْشاءُ إيجادُ الشَّيْءِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ أنْشَأهُ فَنَشَأ وهو ناشِئٌ والجَمْعُ نُشّاءٌ كَخَدَمٍ، والقَصْمُ أفْظَعُ الكَسْرِ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الإهْلاكِ الشَّدِيدِ (وكَمْ) تَقْتَضِي التَّكْثِيرَ، فالمَعْنى كَثِيرًا مِن أهْلِ القُرى أهْلَكْنا إهْلاكًا شَدِيدًا مُبالَغًا فِيهِ. وما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّها ”حَضُوراءُ“ قَرْيَةٌ بِاليَمَنِ، وعَنِ ابْنِ وهْبٍ عَنْ بَعْضِ رِجالِهِ أنَّهُما قَرْيَتانِ بِاليَمَنِ بَطَرَ أهْلُهُما، فَيُحْمَلُ عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لا عَلى التَّعْيِينِ في القَرْيَةِ، لِأنَّ (كَمْ) تَقْتَضِي التَّكْثِيرَ. ومِن حَدِيثِ أهْلِ حَضُوراءَ: أنَّ اللَّهَ بَعَثَ إلَيْهِمْ نَبِيًّا فَقَتَلُوهُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُ نَصَّرَ كَما سَلَّطَهُ عَلى أهْلِ بَيْتِ المَقْدِسِ بَعَثَ إلَيْهِمْ جَيْشًا فَهَزَمُوهُ، ثُمَّ بَعَثَ آخَرَ فَهَزَمُوهُ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ فَهَزَمَهم في الثّالِثَةِ، فَلَمّا أخَذَ القَتْلُ فِيهِمْ رَكَضُوا هارِبِينَ. ﴿فَلَمّا أحَسُّوا بَأْسَنا﴾ أيْ باشَرُوهُ بِالإحْساسِ، والضَّمِيرُ في ﴿أحَسُّوا﴾ عائِدٌ عَلى أهْلِ المَحْذُوفِ مِن قَوْلِهِ: ﴿وكَمْ قَصَمْنا مِن قَرْيَةٍ﴾ ولا يَعُودُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿قَوْمًا آخَرِينَ﴾ لِأنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهم ذَنْبٌ يَرْكُضُونَ مِن أجْلِهِ، والضَّمِيرُ في (مِنها) عائِدٌ عَلى القَرْيَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى (بَأْسَنا) لِأنَّهُ في مَعْنى الشِّدَّةِ، فَأُنِّثَ عَلى المَعْنى ومِن عَلى هَذا السَّبَبِ، والظّاهِرُ أنَّهم لَمّا أدْرَكَتْهم مُقَدِّمَةُ العَذابِ رَكِبُوا دَوابَّهم يَرْكُضُونَها هارِبِينَ مُنْهَزِمِينَ. قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ شُبِّهُوا في سُرْعَةِ عَدْوِهِمْ عَلى أرْجُلِهِمْ بِالرّاكِبِينَ الرّاكِضِينَ لِدَوابِّهِمْ فَهم ﴿يَرْكُضُونَ﴾ الأرْضَ بِأرْجُلِهِمْ، كَما قالَ: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ [ص: ٤٢] وجَوابُ لَمّا (إذا) الفُجائِيَّةُ وما بَعْدَها، وهَذا أحَدُ الدَّلائِلِ عَلى أنَّ (لَمّا) في هَذا التَّرْكِيبِ حَرْفٌ لا ظَرْفٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا القَوْلُ في ذَلِكَ. وقَوْلُهُ: ﴿لا تَرْكُضُوا﴾ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ رِجالِ بُخْتُ نَصَّرَ عَلى الرِّوايَةِ المُتَقَدِّمَةِ، فالمَعْنى عَلى هَذا أنَّهم خَدَعُوهم واسْتَهْزَءُوا بِهِمْ بِأنْ قالُوا لِلْهارِبِينَ مِنهم: لا تَفِرُّوا وارْجِعُوا إلى مَنازِلِكم ﴿لَعَلَّكم تُسْألُونَ﴾ صُلْحًا أوْ جِزْيَةً أوْ أمْرًا يُتَّفَقُ عَلَيْهِ، فَلَمّا انْصَرَفُوا أمَرَ بُخْتُ نَصَّرَ أنْ يُنادى فِيهِمْ يا لَثارّاتِ النَّبِيِّ المَقْتُولِ ! فَقُتِلُوا بِالسَّيْفِ عَنْ آخِرِهِمْ، هَذا كُلُّهُ مَرْوِيٌّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿لا تَرْكُضُوا﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ مِن كَلامِ مَلائِكَةِ العَذابِ، وصَفَ قِصَّةَ كُلِّ قَرْيَةٍ، وأنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَعْيِينَ حَضُوراءَ ولا غَيْرَها، فالمَعْنى عَلى هَذا: أنَّ أهْلَ هَذِهِ القُرى كانُوا بِاغْتِرارِهِمْ يَرَوْنَ أنَّهم مِنَ اللَّهِ بِمَكانٍ، وأنَّهُ لَوْ جاءَهم عَذابٌ أوْ أمْرٌ لَمْ يَنْزِلْ بِهِمْ حَتّى يَتَخاصَمُوا ويُسْألُوا عَنْ وجْهِ تَكْذِيبِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ فَيَحْتَجُّونَ هم عِنْدَ ذَلِكَ بِحُجَجٍ تَنْفَعُهم في ظَنِّهِمْ، فَلَمّا نَزَلَ العَذابُ دُونَ هَذا الَّذِي أمِلُوهُ ورَكَضُوا فارِّينَ نادَتْهُمُ المَلائِكَةُ عَلى وجْهِ الهُزْءِ بِهِمْ. ﴿لا تَرْكُضُوا وارْجِعُوا﴾ . . . ﴿لَعَلَّكم تُسْألُونَ﴾ كَما كُنْتُمْ تَطْمَعُونَ لِسَفَهِ آرائِكم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ يَعْنِي: القائِلُ بَعْضُ المَلائِكَةِ، أوْ مِن ثَمَّ مِنَ المُؤْمِنِينَ، (p-٣٠١)أوْ يُجْعَلُونَ خُلَقاءَ بِأنْ يُقالَ لَهم ذَلِكَ وإنْ لَمْ يُقَلْ، أوْ يَقُولَهُ رَبُّ العِزَّةِ ويُسْمِعَهُ مَلائِكَتَهُ لِيَنْفَعَهم في دِينِهِمْ أوْ يُلْهِمَهم ذَلِكَ فَيُحَدِّثُوا بِهِ نُفُوسَهم. ﴿وارْجِعُوا إلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ﴾ مِنَ العَيْشِ الرّافِهِ والحالِ النّاعِمَةِ، والإتْرافُ إبْطارُ النِّعْمَةِ وهي التَّرَفُّهُ: ﴿لَعَلَّكم تُسْألُونَ﴾ غَدًا عَمّا جَرى عَلَيْكم ونَزَلَ بِأمْوالِكم ومَساكِنِكم فَتُجِيبُوا السّائِلَ عَنْ عِلْمٍ ومُشاهَدَةٍ، أوِ (ارْجِعُوا) واجْلِسُوا كَما كُنْتُمْ في مَجالِسِكم وتَرَتَّبُوا في مَراتِبِكم حَتّى يَسْألَكم عَبِيدُكم وحَشَمُكم ومَن تَمْلِكُونَ أمْرَهُ ويَنْفُذَ فِيهِ أمْرُكم ونَهْيُكم، ويَقُولُوا لَكم: بِمَ تَأْمُرُونَ وماذا تَرْسُمُونَ، وكَيْفَ نَأْتِي ونَذَرُ كَعادَةِ المُنَعَّمِينَ المُخَدَّمِينَ، أوْ يَسْألُكُمُ النّاسُ في أنْدِيَتِكُمُ المُعاوِنَ في نَوازِلِ الخُطُوبِ ويَسْتَشِيرُونَكم في المُهِمّاتِ والعَوارِضِ ويَسْتَشِفُّونَ بِتَدابِيرِكم ويَسْتَضِيئُونَ بِآرائِكم أوْ يَسْألُكُمُ الوافِدُونَ عَلَيْكم والطُّمّاعُ، ويَسْتَمْطِرُونَ سَحائِبَ أكُفِّكم ويَمِيرُونَ إخْلافَ مَعْرُوفِكم وأيادِيكم إمّا لِأنَّهم كانُوا أسْخِياءَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم رِياءَ النّاسِ وطَلَبَ الثَّناءِ، أوْ كانُوا بُخَلاءَ فَقِيلَ لَهم ذَلِكَ تَهَكُّمًا إلى تَهَكُّمٍ وتَوْبِيخًا إلى تَوْبِيخٍ. انْتَهى. ونِداءُ الوَيْلِ هو عَلى سَبِيلِ المَجازِ، كَأنَّهم قالُوا: يا ويْلُ هَذا زَمانُكَ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الوَيْلِ في البَقَرَةِ. والظُّلْمُ هُنا الإشْراكُ وتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وإيقاعُ أنْفُسِهِمْ في الهَلاكِ، واسْمُ (زالَتْ) هو اسْمُ الإشارَةِ وهو (تِلْكَ) وهو إشارَةٌ إلى الجُمْلَةِ المَقُولَةِ أيْ فَما زالَتْ تِلْكَ الدَّعْوى (دَعْواهم) . قالَ المُفَسِّرُونَ: فَما زالُوا يُكَرِّرُونَ تِلْكَ الكَلِمَةَ فَلَمْ تَنْفَعْهم كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهم إيمانُهم لَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ [غافر: ٨٥] والدَّعْوى مَصْدَرُ دَعا يُقالُ: دَعا دَعْوى ودَعْوَةً كَقَوْلِهِ: ﴿وآخِرُ دَعْواهُمْ﴾ [يونس: ١٠] لِأنَّ المُوَيَّلَ كَأنَّهُ يَدْعُو الوَيْلَ. وقالَ الحَوْفِيُّ وتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وأبُو البَقاءِ: (تِلْكَ) اسْمُ (زالَتْ) و(دَعْواهم) الخَبَرُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (دَعْواهم) اسْمَ (زالَتْ) و(تِلْكَ) في مَوْضِعِ الخَبَرِ. انْتَهى. وهَذا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ هَؤُلاءِ قالَهُ الزَّجّاجُ قَبْلَهم، وأمّا أصْحابُنا المُتَأخِّرُونَ فاسْمُ كانَ وخَبَرُها مُشَبَّهٌ بِالفاعِلِ والمَفْعُولِ، فَكَما لا يَجُوزُ في بابِ الفاعِلِ والمَفْعُولِ إذا أُلْبِسَ أنْ يَكُونَ المُتَقَدِّمُ الخَبَرَ والمُتَأخِّرُ الِاسْمَ لا يَجُوزُ ذَلِكَ في بابِ كانَ، فَإذا قُلْتَ: كانَ مُوسى صَدِيقِي لَمْ يَجُزْ في مُوسى إلّا أنْ يَكُونَ اسْمَ كانَ وصَدِيقِي الخَبَرَ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبَ مُوسى عِيسى، فَمُوسى الفاعِلُ وعِيسى المَفْعُولُ، ولَمْ يُنازِعْ في هَذا مِن مُتَأخِّرِي أصْحابِنا إلّا أبُو العَبّاسِ أحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ عُرِفَ بابْنِ الحاجِّ وهو مِن تَلامِيذِ الأُسْتاذِ أبُو عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينُ ونُبَهائِهِمْ، فَأجازَ أنْ يَكُونَ المُتَقَدِّمُ هو المَفْعُولَ والمُتَأخِّرُ هو الفاعِلَ وإنْ أُلْبِسَ فَعَلى ما قَرَّرَهُ جُمْهُورُ الأصْحابِ يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ (تِلْكَ) اسْمَ (زالَتْ) و(دَعْواهم) الخَبَرَ. وقَوْلُهُ: (حَصِيدًا) أيْ بِالعَذابِ تُرِكُوا كالحَصِيدِ ﴿خامِدِينَ﴾ أيْ مَوْتى دُونَ أرْواحٍ مُشَبَّهِينَ بِالنّارِ إذا طُفِئَتْ و(حَصِيدًا) مَفْعُولٌ ثانٍ. قالَ الحَوْفِيُّ: و﴿خامِدِينَ﴾ نَعْتٌ لِـ (حَصِيدًا) عَلى أنْ يَكُونَ (حَصِيدًا) بِمَعْنى مَحْصُودِينَ يَعْنِي وضْعَ المُفْرَدِ ويُرادُ بِهِ الجَمْعُ، قالَ: ويَجُوزُ أنْ يُجْعَلَ ﴿خامِدِينَ﴾ حالًا مِنَ الهاءِ والمِيمِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (جَعَلْناهم) مِثْلَ الحَصِيدِ شَبَّهَهم في اسْتِئْصالِهِمْ واصْطِلامِهِمْ كَما تَقُولُ: جَعَلْناهم رَمادًا أيْ مِثْلَ الرَّمادِ، والضَّمِيرُ المَنصُوبُ هو الَّذِي كانَ مُبْتَدَأً، والمَنصُوبانِ بَعْدَهُ كانا خَبَرَينِ لَهُ، فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِما جَعَلَ نَصْبَهُما جَمِيعًا عَلى المَفْعُولِيَّةِ. فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَنْصِبُ جَعَلَ ثَلاثَةَ مَفاعِيلَ ؟ قُلْتُ: حُكْمُ الِاثْنَيْنِ الآخَرَيْنِ حُكْمُ الواحِدِ لِأنَّ مَعْنى قَوْلِكَ: جَعَلْتُهُ حُلْوًا حامِضًا جَعَلْتُهُ لِلطَّعْمَيْنِ، وكَذَلِكَ مَعْنى ذَلِكَ (جَعَلْناهم) جامِعِينَ لِمُماثَلَةِ الحَصِيدِ والخُمُودِ، والخُمُودُ عُطِفَ عَلى المُماثَلَةِ لا عَلى الحَصِيدِ. انْتَهى. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى قَصْمَ تِلْكَ القُرى الظّالِمَةِ أتْبَعَ ذَلِكَ بِما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَدْلًا مِنهُ ومُجازاةً عَلى ما فَعَلُوا، وأنَّهُ إنَّما أنْشَأ هَذا العالَمَ العُلْوِيَّ المُحْتَوِيَ عَلى عَجائِبَ مِن صُنْعِهِ وغَرائِبَ مِن فِعْلِهِ، وهَذا العالَمَ السُّفْلِيَّ وما أوْدَعَ فِيهِ مِن عَجائِبِ الحَيَوانِ والنَّباتِ والمَعادِنِ وما بَيْنَهُما مِنَ الهَواءِ والسَّحابِ والرِّياحِ عَلى سَبِيلِ اللَّعِبِ بَلْ لِفَوائِدَ دِينِيَّةٍ تَقْضِي بِسَعادَةِ الأبَدِ أوْ بِشَقاوَتِهِ، ودُنْياوِيَّةٍ لا تُعَدُّ ولا تُحْصى كَقَوْلِهِ: (p-٣٠٢)﴿وما خَلَقْنا السَّماءَ والأرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلًا﴾ [ص: ٢٧] وقَوْلِهِ: ﴿ما خَلَقْناهُما إلّا بِالحَقِّ﴾ [الدخان: ٣٩] . قالَ الكِرْمانِيُّ: اللَّعِبُ فِعْلٌ يَدْعُو إلَيْهِ الجَهْلُ يَرُوقُ أوَّلُهُ ولا ثَباتَ لَهُ، وإنَّما خَلَقْناهُما لِنُجِازِيَ المُحْسِنَ والمُسِيءَ، ولِيُسْتَدَلَّ بِهِما عَلى الوَحْدانِيَّةِ والقُدْرَةِ. انْتَهى. و﴿لَوْ أرَدْنا أنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا﴾ أصْلُ اللَّهْوِ ما تُسْرِعُ إلَيْهِ الشَّهْوَةُ ويَدْعُو إلَيْهِ الهَوى، وقَدْ يُكَنّى بِهِ عَنِ الجِماعِ، وأمّا هُنا فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والسُّدِّيِّ: هو الوَلَدُ. وقالَ الزَّجّاجُ: هو الوَلَدُ بِلُغَةِ حَضْرَمَوْتَ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ هَذا رَدٌّ عَلى مَن قالَ ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا﴾ [البقرة: ١١٦] . وعَنْهُ أنَّ اللَّهْوَ هُنا اللَّعِبُ. وقِيلَ: اللَّهْوُ هُنا المَرْأةُ. وقالَ قَتادَةُ: هَذا في لُغَةِ أهْلِ اليَمَنِ، وتَكُونُ رَدًّا عَلى مَنِ ادَّعى أنَّ لِلَّهِ زَوْجَةً، ومَعْنى ﴿مِن لَدُنّا﴾ مِن عِنْدِنا بِحَيْثُ لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أحَدٌ لِأنَّهُ نَقْصٌ فَسَتْرُهُ أوْلى. وقالَ السُّدِّيُّ: مِنَ السَّماءِ لا مِنَ الأرْضِ. وقِيلَ: مِنَ الحُورِ العِينِ. وقِيلَ: مِن جِهَةِ قُدْرَتِنا. وقِيلَ: مِنَ المَلائِكَةِ لا مِنَ الإنْسِ رَدًّا لِوِلادَةِ المَسِيحِ وعُزَيْرٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَيَّنَ أنَّ السَّبَبَ في تَرْكِ اتِّخاذِ اللَّهْوِ واللَّعِبِ وانْتِفائِهِ عَنْ أفْعالِي أنَّ الحِكْمَةَ صارِفَةٌ عَنْهُ، وإلّا فَأنا قادِرٌ عَلى اتِّخاذِهِ إنْ كُنْتُ فاعِلًا لِأنِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. انْتَهى. ولا يَجِيءُ هَذا إلّا عَلى قَوْلِ مَن قالَ: اللَّهْوُ هو اللَّعِبُ، وأمّا مَن فَسَّرَهُ بِالوَلَدِ والمَرْأةِ فَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ لا تَتَعَلَّقُ بِهِ القُدْرَةُ. والظّاهِرُ أنَّ (أنْ) هُنا شَرْطِيَّةٌ وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوابُ (لَوْ) أيْ إنْ كُنّا فاعِلِينَ اتَّخَذْناهُ إنْ كُنّا مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ولَسْنا مِمَّنْ يَفْعَلُهُ. وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ وجُرَيْجٌ (أنْ) نافِيَةٌ أيْ ما كُنّا فاعِلِينَ. ﴿بَلْ نَقْذِفُ﴾ أيْ نَرْمِي بِسُرْعَةٍ (بِالحَقِّ) وهو القُرْآنُ ﴿عَلى الباطِلِ﴾ وهو الشَّيْطانُ قالَهُ مُجاهِدٌ، وقالَ: كُلُّ ما في القُرْآنِ مِنَ الباطِلِ فَهو الشَّيْطانُ. وقِيلَ: بِالحَقِّ بِالحُجَّةِ عَلى الباطِلِ وهو شُبَهُهم ووَصْفَهُمُ اللَّهَ بِغَيْرِ صِفاتِهِ مِنَ الوَلَدِ وغَيْرِهِ. وقِيلَ: الحَقُّ عامٌّ في القُرْآنِ والرِّسالَةِ والشَّرْعِ، والباطِلُ أيْضًا عامٌّ كَذَلِكَ و(بَلْ) إضْرابٌ عَنِ اتِّخاذِ اللَّعِبِ واللَّهْوِ، والمَعْنى أنَّهُ يَدْحَضُ الباطِلَ بِالحَقِّ واسْتَعارَ لِذَلِكَ القَذْفَ والدَّمْغَ تَصْوِيرًا لِإبْطالِهِ وإهْدارِهِ ومَحْقِهِ، فَجَعَلَهُ كَأنَّهُ جُرْمٌ صُلْبٌ كالصَّخْرَةِ مَثَلًا قَذَفَ بِهِ عَلى جُرْمٍ رَخْوٍ أجْوَفَ فَدَمَغَهُ أيْ أصابَ دِماغَهُ، وذَلِكَ مُهْلِكٌ في البَشَرِ فَكَذَلِكَ الحَقُّ يُهْلِكُ الباطِلَ. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ (فَيَدْمَغَهُ) بِنَصْبِ الغَيْنِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهو في ضَعْفِ قَوْلِهِ: ؎سَأتْرُكُ مَنزِلِي لِبَنِي تَمِيمٍ وألْحَقُ بِالحِجازِ فَأسْتَرِيحا وقُرِئَ ﴿فَيَدْمُغُهُ﴾ بِضَمِّ المِيمِ. انْتَهى. ﴿ولَكُمُ الوَيْلُ﴾ خِطابٌ لِلْكُفّارِ أيِ الخِزْيُ والهَمُّ، ﴿مِمّا تَصِفُونَ﴾ أيْ تَصِفُونَهُ مِمّا لا يَلِيقُ بِهِ تَعالى مِنِ اتِّخاذِ الصّاحِبَةِ والوَلَدِ ونِسْبَةِ المُسْتَحِيلاتِ إلَيْهِ. وقِيلَ: (لَكم) خِطابٌ لِمَن تَمَسَّكَ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ ونَسَبَ القُرْآنَ إلى أنَّهُ سِحْرٌ وأضْغاثُ أحْلامٍ، وهو المَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: ﴿مِمّا تَصِفُونَ﴾ وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّهُ التِفاتٌ مِن ضَمِيرِ الغَيْبَةِ في ﴿فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ﴾ إلى ضَمِيرِ الخِطابِ، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ مِلْكٌ لَهُ فانْدَرَجَ فِيهِ مَن سَمَّوْهُ بِالصّاحِبَةِ والوَلَدِ (ومَن عِنْدَهُ) هُمُ المَلائِكَةُ، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى (مَن) فَيَكُونُونَ قَدِ انْدَرَجُوا في المَلائِكَةِ بِطَرِيقِ العُمُومِ لِدُخُولِهِمْ في (مَن) وبِطَرِيقِ الخُصُوصِ بِالنَّصِّ عَلى أنَّهم مَن عِنْدَهُ، ويَكُونُ (لا يَسْتَكْبِرُونَ) جُمْلَةً حالِيَّةً مِنهم أوِ اسْتِئْنافَ إخْبارٍ، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ (ومَن عِنْدَهُ) مُبْتَدَأً وخَبَرُهُ (لا يَسْتَكْبِرُونَ) و(عِنْدَ) هُنا لا يُرادُ بِها ظَرْفُ المَكانِ لِأنَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ المَكانِ، بَلِ المَعْنى شَرَفُ المَكانَةِ وعُلُوُّ المَنزِلَةِ، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ اسْتِئْنافُ إخْبارٍ بِأنَّ جَمِيعَ العالَمِ مِلْكُهُ. وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُعادِلًا لِقَوْلِهِ: ﴿ولَكُمُ الوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ﴾ كَأنَّهُ يُقْسِمُ الأمْرَ في نَفْسِهِ أيْ لِلْمُخْتَلِفِينَ هَذِهِ المَقالَةَ الوَيْلُ، ولِلَّهِ تَعالى مَن في السَّماواتِ والأرْضِ. انْتَهى. والمُرادُ أنَّ المَلائِكَةَ مُكَرَّمُونَ مُنَزَّلُونَ لِكَرامَتِهِمْ عَلى اللَّهِ مَنزِلَةَ المُقَرَّبِينَ عِنْدَ المُلُوكِ عَلى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ والبَيانِ (p-٣٠٣)لِشَرَفِهِمْ وفَضْلِهِمْ، ويُقالُ: حَسَرَ البَعِيرُ واسْتَحْسَرَ كَلَّ وتَعِبَ، وحَسَرْتُهُ أنا، فَهو مُتَعَدٍّ ولازِمٌ، وأحْسَرْتُهُ أيْضًا، وقالَ الشّاعِرُ: ؎بِها جِيَفُ الحَسْرى فَأمّا عِظامُها ∗∗∗ فَبِيضٌ وأمّا جِلْدُها فَصَلِيبُ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: الِاسْتِحْسارُ مُبالَغَةٌ في الحُسُورِ، وكانَ الأبْلَغُ في وصْفِهِمْ أنْ يَنْفِيَ عَنْهم أدْنى الحُسُورِ، قُلْتُ: في الِاسْتِحْسارِ بَيانُ أنَّ ما هم فِيهِ يُوجِبُ غايَةَ الحُسُورِ وأقْصاهُ، وأنَّهم أحِقّاءُ لِتِلْكَ العِباداتِ الباهِظَةِ بِأنْ يَسْتَحْسِرُوا فِيما يَفْعَلُونَ. انْتَهى. (يُسَبِّحُونَ) هُمُ المَلائِكَةُ بِإجْماعِ الأُمَّةِ وصَفَهم بِتَسْبِيحٍ دائِمٍ. وعَنْ كَعْبٍ: جَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ التَّسْبِيحَ كالنَّفَسِ وطَرْفِ العَيْنِ لِلْبَشَرِ يَقَعُ مِنهم دائِمًا دُونَ أنْ يَلْحَقَهم فِيهِ سَآمَةٌ، وفي الحَدِيثِ: («إنِّي لَأسْمَعُ أطِيطَ السَّماءِ وحُقَّ لَها أنْ تَئِطَّ لَيْسَ فِيها مَوْضِعُ راحَةٍ إلّا وفِيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ أوْ قائِمٌ» .)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب