الباحث القرآني

وقَبْلَ (p-٢٧٣)قَوْلِهِ ﴿قالَ ياهارُونُ﴾ كَلامٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَرَجَعَ مُوسى ووَجَدَهم عاكِفِينَ عَلى عِبادَةِ العِجْلِ ﴿قالَ ياهارُونُ﴾ وكانَ ظُهُورُ العِجْلِ في سادِسِ وثَلاثِينَ يَوْمًا وعَبَدُوهُ وجاءَهم مُوسى بَعْدَ اسْتِكْمالِ الأرْبَعِينَ، فَعَتَبَ مُوسى عَلى عَدَمِ اتِّباعِهِ لَمّا رَآهم قَدْ ضَلُّوا و(لا) زائِدَةٌ كَهي في قَوْلِهِ ﴿ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] . وقالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى دَخَلَتْ (لا) هُنا لِأنَّ المَعْنى ما دَعاكَ إلى أنْ لا تَتَّبِعَنِي، وما حَمَلَكَ عَلى أنْ لا تَتَّبِعَنِي بِمَن مَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ﴿أفَعَصَيْتَ أمْرِي﴾ يُرِيدُ قَوْلَهُ ﴿اخْلُفْنِي﴾ [الأعراف: ١٤٢] الآيَةَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ما مَنَعَكَ أنْ تَتَّبِعَنِي في الغَضَبِ لِلَّهِ وشِدَّةِ الزَّجْرِ عَلى الكُفْرِ والمَعاصِي، وهَلّا قاتَلَتْ مَن كَفَرَ بِمَن آمَنَ ومالَكَ لَمْ تُباشِرِ الأمْرَ كَما كُنْتُ أُباشِرُهُ أنا لَوْ كُنْتُ شاهِدًا، أوْ مالَكَ لَمْ تَلْحَقْنِي. وفي ذَلِكَ تَحْمِيلٌ لِلَّفْظِ ما لا يَحْتَمِلُهُ وتَكْثِيرٌ ولَمّا كانَ قَوْلُهُ تَتَّبِعَنِي لَمْ يُذْكَرْ مُتَعَلِّقُهُ كانَ الظّاهِرُ أنْ لا تَتَّبِعَنِي إلى جَبَلِ الطُّورِ بِبَنِي إسْرائِيلَ فَيَجِيءُ اعْتِذارُ هارُونَ بِقَوْلِهِ ﴿إنِّي خَشِيتُ أنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ إذْ كانَ لا يَتَّبِعُهُ إلّا المُؤْمِنُونَ ويَبْقى عُبّادُ العِجْلِ عاكِفِينَ عَلَيْهِ كَما قالُوا ﴿لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ﴾ [طه: ٩١] ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى تَتَّبِعَنِي تَسِيرُ بِسَيْرِي في الإصْلاحِ والتَّسْدِيدِ، فَيَجِيءُ اعْتِذارُهُ أنَّ الأمْرَ تَفاقَمَ فَلَوْ تَقَوَّيْتُ عَلَيْهِ تَقاتَلُوا واخْتَلَفُوا فَكانَ تَفْرِيقًا بَيْنَهم وإنَّما لايَنْتُ جُهْدِي. وقَرَأ عِيسى بْنُ سُلَيْمانَ الحِجازِيُّ بِلَحْيَتِي بِفَتْحِ اللّامِ وهي لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ. وكانَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ شَدِيدَ الغَضَبِ لِلَّهِ ولِدِينِهِ، ولَمّا رَأى قَوْمَهُ عَبَدُوا عِجْلًا مِن دُونِ اللَّهِ بَعْدَ ما شاهَدُوا مِنَ الآياتِ العِظامِ لَمْ يَتَمالَكْ أنْ أقْبَلَ عَلى أخِيهِ قابِضًا عَلى شَعْرِ رَأْسِهِ، وكانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ وعَلى شَعْرِ وجْهِهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ فَأبْدى عُذْرَهُ فَإنَّهُ لَوْ قاتَلَ بَعْضَهم بِبَعْضٍ لَتّفَرَّقُوا وتَفانَوْا، فانْتَظَرَتُكَ لِتَكُونَ المُتَدَرِاكَ لَهم، وخَشِيتُ عِتابَكَ عَلى اطِّراحِ ما وصَّيْتَنِي بِهِ والعَمَلِ بِمُوجِبِها. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ﴿ابْنَ أُمَّ﴾ [الأعراف: ١٥٠] قِراءَةً وإعْرابًا وغَيْرَ ذَلِكَ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ ولَمْ يُرْقِبْ بِضَمِّ التّاءِ وكَسْرِ القافِ مُضارِعُ أرْقُبُ. ولَمّا اعْتَذَرَ لَهُ أخُوهُ رَجَعَ إلى مُخاطَبَةِ الَّذِي أوْقَعَهم في الضَّلالِ وهو السّامِرِيُّ وتَقَدَّمَ الكَلامُ في الخَطْبِ في سُورَةِ يُوسُفَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ﴿فَما خَطْبُكَ﴾ كَما تَقُولُ ما شَأْنُكَ وما أمْرُكَ، لَكِنَّ لَفْظَةَ الخَطْبِ تَقْتَضِي انْتِهارًا لِأنَّ الخَطْبَ مُسْتَعْمَلٌ في المَكارِهِ فَكَأنَّهُ قالَ: ما نَحْسُكَ وما شُؤْمُكَ، وما هَذا الخَطْبُ الَّذِي جاءَ مِن قِبَلَكَ. انْتَهى. وهَذا لَيْسَ كَما ذَكَرَ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ قالَ ﴿فَما خَطْبُكم أيُّها المُرْسَلُونَ﴾ [الحجر: ٥٧] وهو قَوْلُ إبْراهِيمَ لِمَلائِكَةِ اللَّهِ فَلَيْسَ هَذا يَقْتَضِي انْتِهارًا ولا شَيْئًا مِمّا ذَكَرَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَطْبٌ مَصْدَرُ خَطَبَ الأمْرَ إذا طَلَبَهُ، فَإذا قِيلَ لِمَن يَفْعَلُ شَيْئًا ما خَطْبُكَ، فَمَعْناهُ ما طَلَبُكَ لَهُ. انْتَهى. ومِنهُ خِطْبَةُ النِّكاحِ وهو طَلَبُهُ. وقِيلَ: هو مُشْتَقٌّ مِنَ الخِطابِ كَأنَّهُ قالَ لَهُ: ما حَمَلَكَ عَلى أنْ خاطَبْتَ بَنِي إسْرائِيلَ بِما خاطَبْتَ وفَعَلْتَ مَعَهم ما فَعَلْتَ ﴿قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾ [طه: ٩٦] . قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: عَلِمْتُ ما لَمْ يَعْلَمُوا. وقالَ الزَّجّاجُ: بَصُرَ بِالشَّيْءِ إذا عَلِمَهُ وأبْصَرَ إذا نَظَرَ. وقِيلَ: بَصَرَ بِهِ وأبْصَرَهُ بِمَعْنًى واحِدٍ. وقَرَأ الأعْمَشُ وأبُو السَّمّاكِ: بَصِرْتُ بِكَسْرِ الصّادِ بِما لَمْ تَبْصَرُوا بِفَتْحِ الصّادِ. وقَرَأ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ بُصُرْتُ بِضَمِّ الباءِ وضَمِّ الصّادِ بِما لَمْ تُبْصِرُوا بِضَمِّ التّاءِ وفَتْحِ الصّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فِيهِما. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿بَصُرْتُ﴾ [طه: ٩٦] بِضَمِّ الصّادِ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وأبُو بَحْرِيَّةَ والأعْمَشُ وطَلْحَةُ وابْنُ أبِي لَيْلى وابْنُ مُناذِرٍ وابْنُ سَعْدانَ وقَعْنَبٌ تَبْصُرُوا بِتاءِ الخِطابِ لِمُوسى وبَنِي إسْرائِيلَ وباقِي السَّبْعَةِ (يَبْصُرُوا) بِياءِ الغَيْبَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً﴾ [طه: ٩٦] بِالضّادِ المُعْجَمَةِ فِيهِما أيْ أخَذْتُ بِكَفِّي مَعَ الأصابِعِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وأُبَيٌّ وابْنُ الزُّبَيْرِ وحُمَيدٌ والحَسَنُ بِالصّادِ فِيهِما، وهو الأخْذُ بِأطْرافِ الأصابِعِ. وقَرَأ الحَسَنُ بِخِلافٍ عَنْهُ وقَتادَةُ ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ بِضَمِّ القافِ والصّادِ المُهْمَلَةِ، وأدْغَمَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ الضّادَ المَنقُوطَةَ في تاءِ المُتَكَلِّمِ وأبْقى الإطْباقَ مَعَ تَشْدِيدِ التّاءِ. وقالَ المُفَسِّرُونَ (الرَّسُولِ) هُنا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ (p-٢٧٤)السَّلامُ، وتَقْدِيرُهُ مِن (أثَرِ) فَرَسِ (الرَّسُولِ) وكَذا قَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، والأثَرُ التُّرابُ الَّذِي تَحْتَ حافِرِهِ (فَنَبَذْتُها) أيْ ألْقَيْتُها عَلى الحُلِيِّ الَّذِي تَصَوَّرَ مِنهُ العِجْلُ فَكانَ مِنها ما رَأيْتُ. وقالَ الأكْثَرُونَ رَأى السّامِرِيُّ جِبْرِيلَ يَوْمَ فُلِقَ البَحْرُ، وعَنْ عَلِيٍّ رَآهُ حِينَ ذَهَبَ مُوسى إلى الطُّورِ وجاءَهُ جِبْرِيلُ فَأبْصَرَهُ دُونَ النّاسِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتُ: لِمَ سَمّاهُ (الرَّسُولَ) دُونَ جِبْرِيلَ ورُوحِ القُدُسِ ؟ قُلْتُ: حِينَ حَلَّ مِيعادُ الذِّهابِ إلى الطُّورِ أرْسَلَ اللَّهُ إلى مُوسى جِبْرِيلَ راكِبَ حَيْزُومَ فَرَسِ الحَياةِ لِيَذْهَبَ بِهِ، فَأبْصَرَهُ السّامِرِيُّ فَقالَ: إنَّ لِهَذا لَشَأْنًا فَقَبَضَ القَبْضَةَ مِن تُرْبَةِ مَوْطِئِهِ، فَلَمّا سَألَهُ مُوسى عَنْ قِصَّتِهِ قالَ قَبَضْتُ مِن أثَرِ فَرَسِ المُرْسَلِ إلَيْكَ يَوْمَ حُلُولِ المِيعادِ، ولَعَلَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أنَّهُ جِبْرِيلُ. انْتَهى. وهو قَوْلُ عَلِيٍّ مَعَ زِيادَةٍ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْبَهانِيُّ: لَيْسَ في القُرْآنِ تَصْرِيحٌ بِهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ المُفَسِّرُونَ، وهُنا وجْهٌ آخَرُ وهو أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالرَّسُولِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وأثَرُهُ سُنَّتُهُ ورَسْمُهُ الَّذِي أمَرَ بِهِ، فَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: فُلانٌ يَقْفُو أثَرَ فُلانٍ ويَقْتَصُّ أثَرَهُ إذا كانَ يَمْتَثِلُ رَسْمَهُ، والتَّقْدِيرُ أنَّ مُوسى لَمّا أقْبَلَ عَلى السّامِرِيِّ بِاللَّوْمِ والمَسْألَةِ عَنِ الأمْرِ الَّذِي دَعاهُ إلى إضْلالِ القَوْلِ في العِجْلِ ﴿قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾ [طه: ٩٦] أيْ عَرَفْتُ أنَّ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ بِحَقٍّ، وقَدْ كُنْتُ قَبَضْتُ قَبْضَةً مِن أثَرِكَ أيُّها الرَّسُولُ أيْ شَيْئًا مِن دِينِكَ (فَنَبَذْتُها) أيْ طَرَحْتُها. فَعِنْدَ ذَلِكَ أُعْلِمَ مُوسى بِما لَهُ مِنَ العَذابِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ وإنَّما أرادَ لَفْظَ الإخْبارِ عَنْ غائِبٍ كَما يَقُولُ الرَّجُلُ لِرَئِيسِهِ وهو مُواجِهٌ لَهُ: ما يَقُولُ الأمِيرُ في كَذا أوْ بِماذا يَأْمُرُ الأمِيرُ، وتَسْمِيَتُهُ رَسُولًا مَعَ جَحْدِهِ وكُفْرِهِ، فَعَلى مَذْهَبِ مَن حَكى اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَهُ ﴿ياأيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] فَإنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالإنْزالِ قِيلَ: وما ذَكَرَهُ أبُو مُسْلِمٍ أقْرَبُ إلى التَّحْقِيقِ إلّا أنَّ فِيهِ مُخالَفَةَ المُفَسِّرِينَ. قِيلَ: ويَبْعُدُ ما قالُوهُ أنَّ جِبْرِيلَ لَيْسَ مَعْهُودًا بِاسْمِ رَسُولٍ، ولَمْ يَجْرِ لَهُ فِيما تَقَدَّمَ ذِكْرٌ حَتّى تَكُونَ اللّامُ في الرَّسُولِ لِسابِقٍ في الذِّكْرِ، ولِأنَّ ما قالُوهُ لا بُدَّ مِن إضْمارِ أيْ مِن أثَرِ حافِرِ فَرَسِ الرَّسُولِ والإضْمارُ خِلافُ الأصْلِ، ولِأنَّ اخْتِصاصَ السّامِرِيِّ بِرُؤْيَةِ جِبْرِيلَ ومَعْرِفَتِهِ مِن بَيْنِ النّاسِ يَبْعُدُ جَدًّا، وكَيْفَ عَرَفَ أنَّ حافِرَ فَرَسِهِ يُؤَثِّرُ هَذا الأثَرَ الغَرِيبَ العَجِيبَ مِن إحْياءِ الجَمادِ بِهِ وصَيْرُورَتِهِ لَحْمًا ودَمًا ؟ وكَيْفَ عَرَفَ جِبْرِيلُ يَتَرَدَّدُ إلى نَبِيٍّ وقَدْ عَرَفَ نُبُوَّتَهُ وصَحَّتْ عِنْدَهُ فَحاوَلَ الإضْلالَ ؟ وكَيْفَ اطَّلَعَ كافِرٌ عَلى تُرابٍ هَذا شَأْنُهُ ؟ فَلِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لَعَلَّ مُوسى اطَّلَعَ عَلى شَيْءٍ آخَرَ يُشْبِهُ هَذا فَلِأجْلِهِ أتى بِالمُعْجِزاتِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ قادِحًا فِيما أتَوْا بِهِ مِنَ الخَوارِقِ. انْتَهى. ما رَجَّحَ بِهِ هَذا القائِلُ قَوْلَ أبِي مُسْلِمٍ الأصْبَهانِيِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب