الباحث القرآني

﴿فَرَجَعَ مُوسى إلى قَوْمِهِ﴾ [طه: ٨٦] وذَلِكَ بَعْدَما اسْتَوْفى الأرْبَعِينَ وانْتَصَبَ ﴿غَضْبانَ أسِفًا﴾ [طه: ٨٦] عَلى الحالِ، والأسَفُ أشَدُّ الغَضَبِ. وقِيلَ: الحُزْنُ وغَضَبُهُ مِن حَيْثُ لَهُ قُدْرَةٌ عَلى تَغْيِيرِ مُنَكَرِهِمْ، وأسَفُهُ وهو حُزْنُهُ مِن حَيْثُ عَلِمَ أنَّهُ مَوْضِعُ عُقُوبَةٍ لا يَدَ لَهُ بِمَدْفَعِها ولا بُدَّ مِنها. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والأسَفُ في كَلامِ العَرَبِ مَتى كانَ مِن ذِي قُدْرَةٍ عَلى مَن دُونَهُ فَهو غَضَبٌ، ومَتى كانَ مِنَ الأقَلِّ عَلى الأقْوى فَهو حُزْنٌ، وتَأمَّلْ ذَلِكَ فَهو مُطَّرِدٌ، ثُمَّ أخَذَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ يُوَبِّخُهم عَلى إضْلالِهِمْ والوَعْدِ الحَسَنِ ما وعَدَهم مِنَ الوُصُولِ إلى جانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وما بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الفُتُوحِ في الأرْضِ والمَغْفِرَةِ لِمَن تابَ وآمَنَ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا وعَدَ اللَّهُ أهْلَ طاعَتِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وعَدَهَمُ اللَّهُ بَعْدَما اسْتَوْفى الأرْبَعِينَ أنْ يُعْطِيَهُمُ التَّوْراةَ الَّتِي فِيها هُدًى ونُورٌ، ولا وعْدٌ أحْسَنُ مِن ذاكَ وأجْمَلُ. وقالَ الحَسَنُ: الوَعْدُ الحَسَنُ الجَنَّةُ. وقِيلَ: أنْ يُسْمِعَهم كَلامَهُ والعَهْدُ الزَّمانُ، يُرِيدُ مُفارَقَتَهُ لَهم يُقالُ طالَ عَهْدِي بِكَذا أيْ طالَ زَمانِي بِسَبَبِ مُفارَقَتِكَ، وعَدُوهُ أنْ يُقِيمُوا عَلى أمْرِهِ وما تَرَكَهم عَلَيْهِ مِنَ الإيمانِ فَأخْلَفُوا مَوْعِدَهُ بِعِبادَتِهِمُ العِجْلَ. انْتَهى. وانْتَصَبَ (وعْدًا) عَلى المَصْدَرِ، والمَفْعُولُ الثّانِي لِيَعِدُكم مَحْذُوفٌ أوْ أطْلَقَ الوَعْدَ ويُرادُ بِهِ المَوْعُودُ فَيَكُونُ هو المَفْعُولَ الثّانِيَ، وفي قَوْلِهِ (أفَطالَ) إلى آخِرِهِ تَوْقِيفٌ عَلى أعْذارٍ لَمْ تَكُنْ، ولا تَصِحُّ لَهم وهو طُولُ العَهْدِ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهم خُلْفٌ في المَوْعِدِ وإرادَةُ حُلُولِ غَضَبِ اللَّهِ، وذَلِكَ كُلُّهُ لَمْ يَكُنْ ولَكِنَّهم عَمِلُوا عَمَلَ مَن لَمْ يَتَدَبَّرْ. وسُمِّيَ العَذابُ غَضَبًا مِن حَيْثُ هو ناشِئٌ عَنِ الغَضَبِ، فَإنْ جُعِلَ بِمَعْنى الإرادَةِ فَصِفَةُ ذاتٍ أوْ عَنْ ظُهُورِ النِّقْمَةِ والعَذابِ فَصِفَةُ فِعْلٍ و(مَوْعِدِي) مَصْدَرٌ يُحْتَمَلُ أنْ يُضافَ إلى الفاعِلِ، أيْ: أوَجَدْتُمُونِي أخْلَفْتُ ما وعَدْتُكم، مِن قَوْلِ العَرَبِ ”فُلانٌ أخْلَفَ وعْدَ فُلانٍ“ إذا وجَدَهُ وقْعُ فِيهِ الخُلْفُ، قالَهُ المُفَضَّلُ، وأنْ يُضافَ إلى المَفْعُولِ، وكانُوا وعَدُوهُ أنْ يَتَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ وسُنَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ولا يُخالِفُوا أمْرَ اللَّهِ أبَدًا فَأخْلَفُوا مَوْعِدَهُ بِعِبادَتِهِمُ العِجْلَ. وقَرَأ الأخَوانِ، والحَسَنُ، والأعْمَشُ، وطَلْحَةُ، وابْنُ أبِي لَيْلى، وقَعْنَبٌ (بِمُلْكِنا) بِضَمِّ المِيمِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، وابْنُ سَعْدانَ بِفَتْحِها، وباقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِها. وقَرَأ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (بِمَلَكِنِا) بِفَتْحِ المِيمِ واللّامِ، وحَقِيقَتُهُ بِسُلْطانِنا، فالمَلْكُ والمُلْكُ بِمَنزِلَةِ النَّقْضِ والنُّقْضِ. والظّاهِرُ أنَّها لُغاتٌ والمَعْنى واحِدٌ، وفَرَّقَ أبُو عَلِيٍّ وغَيْرُهُ بَيْنَ مَعانِيها، فَمَعْنى الضَّمِّ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَنا مُلْكٌ فَنُخْلِفَ مَوْعِدَكَ بِسُلْطانِهِ، وإنَّما أخْلَفْناهُ بِنَظَرٍ أدّى إلَيْهِ ما فَعَلَ السّامِرِيُّ، فَلَيْسَ المَعْنى أنَّ لَهم مُلْكًا، وإنَّما هَذا كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ: ؎لا يَشْتَكِي سَقْطٌ مِنها وقَدْ رَقَصَتْ بِها المَفاوِزُ حَتّى ظَهْرُها حَدِبُ أيْ: لا يَكُونُ مِنها سَقْطَةٌ فَتَشْتَكِيَ، وفَتْحُ المِيمِ مَصْدَرٌ مِن مَلَكَ، والمَعْنى: ما فَعَلْنا ذَلِكَ بِأنّا مَلَكْنا الصَّوابَ ولا وقَفْنا لَهُ، بَلْ غَلَبَتْنا أنْفُسُنا، وكَسْرُ المِيمِ كَثُرَ اسْتِعْمالُهُ فِيما تَحُوزُهُ اليَدُ ولَكِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ في الأُمُورِ الَّتِي يُبْرِمُها الإنْسانُ، ومَعْناها كَمَعْنى الَّتِي قَبْلَها. والمَصْدَرُ في هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ مُضافٌ إلى الفاعِلِ، والمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ، أيْ (يَمْلِكُنا) الصَّوابُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ (ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ) بِأنْ مَلَكْنا أمْرَنا (p-٢٦٩)أيْ لَوْ مَلَكْنا أمَرْنا وخَلَّيْنا ورَأيْنا لَما أخْلَفْناهُ، ولَكِنْ غُلِبْنا مِن جِهَةِ السّامِرِيِّ وكَيْدِهِ. وقَرَأ الأخَوانِ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ مُحَيْصِنٍ بِفَتْحِ الحاءِ والمِيمِ، وأبُو رَجاءٍ بِضَمِّ الحاءِ وكَسْرِ المِيمِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، وحُمَيدٌ، ويَعْقُوبُ غَيْرَ رَوْحٍ كَذَلِكَ إلّا أنَّهم شَدَّدُوا المِيمَ، والأوْزارُ الأثْقالُ أطْلَقَ عَلى ما كانُوا اسْتَعارُوا مِن لَقِيطٍ بِرَسْمِ التَّزَيُّنِ أوْزارًا لِثِقَلِها، أوْ لِسَبَبِ أنَّهم أثِمُوا في ذَلِكَ فَسُمِّيَتْ أوْزارًا لَمّا حَصَلَتِ الأوْزارُ الَّتِي هي الآثامُ بِسَبَبِها. والقَوْمُ هُنا القِبْطُ. وقِيلَ: أمَرَهم بِالِاسْتِعارَةِ مُوسى. وقِيلَ: أمَرَ اللَّهُ مُوسى بِذَلِكَ. وقِيلَ: هو ما ألْقاهُ البَحْرُ مِمّا كانَ عَلى الَّذِينَ غَرِقُوا. وقِيلَ: الأوْزارُ الَّتِي هي الآثامُ مِن جِهَةِ أنَّهم لَمْ يَرُدُّوها إلى أصْحابِها، ومَعْنى أنَّهم حَمَلُوا الآثامَ وقَذَفُوها عَلى ظُهُورِهِمْ كَما جاؤُهم يَحْمِلُونَ أوْزارَهم عَلى ظُهُورِهِمْ. وقِيلَ مَعْنى (فَقَذَفْناهم) أيِ الحُلِيَّ عَلى أنْفُسِنا وأوْلادِنا. وقِيلَ (فَقَذَفْناها) في النّارِ أيْ ذَلِكَ الحُلِيَّ، وكانَ أشارَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ السّامِرِيُّ فَحُفِرَتْ حُفْرَةً وسُجِّرَتْ فِيها النّارُ وقَذَفَ كُلُّ مَن مَعَهُ شَيْءٌ ما عِنْدَهُ مِن ذَلِكَ في النّارِ. وقَذَفَ السّامِرِيُّ ما مَعَهُ. ومَعْنى (فَكَذَلِكَ) أيْ مِثْلُ قَذْفِنا إيّاها ﴿ألْقى السّامِرِيُّ﴾ [طه: ٨٧] ما كانَ مَعَهُ. وظاهِرُ هَذِهِ الألْفاظِ أنَّ العِجْلَ لَمْ يَصْنَعْهُ السّامِرِيُّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿فَكَذَلِكَ ألْقى السّامِرِيُّ﴾ [طه: ٨٧] أراهم أنَّهُ يُلْقِي حُلِيًّا في يَدِهِ مِثْلَ ما ألْقَوْا وإنَّما ألْقى التُّرْبَةَ الَّتِي أخَذَها مِن مَوْطِئِ حَيْزُومِ فَرَسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، أوْحى إلَيْهِ ولَيُّهُ الشَّيْطانُ أنَّها إذا خالَطَتْ مَواتًا صارَ حَيَوانًا فَأخْرَجَ لَهُمُ السّامِرِيُّ مِنَ الحُفْرَةِ عِجْلًا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الحُلِيِّ الَّتِي سَبَكَتْها النّارُ تَخُورُ كَخَوْرِ العَجاجِيلِ. والمُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿فَإنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ﴾ [طه: ٨٥] هو خَلْقُ العِجْلِ لِلِامْتِحانِ أيِ امْتَحَنّاهم بِخَلْقِ العِجْلِ وحَمَلَهُمُ السّامِرِيُّ عَلى الضَّلالِ وأوْقَعَهم فِيهِ حِينَ قالَ لَهم ﴿هَذا إلَهُكم وإلَهُ مُوسى﴾ [طه: ٨٨] . انْتَهى. وقِيلَ: مَعْنى (جَسَدًا) شَخْصًا. وقِيلَ: لا يَتَغَذّى، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى قَوْلِهِ ﴿لَهُ خُوارٌ﴾ [الأعراف: ١٤٨] في الأعْرافِ. والضَّمِيرُ في (فَقالُوا) لِبَنِي إسْرائِيلَ أيْ ضَلُّوا حِينَ قالَ كِبارُهم لِصِغارِهِمْ و(هَذا) إشارَةٌ إلى العِجْلِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (فَقالُوا) عائِدٌ عَلى السّامِرِيِّ أخْبَرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الجَمْعِ تَعْظِيمًا لِجُرْمِهِ. وقِيلَ: عَلَيْهِ وعَلى تابِعِيهِ. وقَرَأ الأعْمَشُ فَنَسِي بِسُكُونِ الياءِ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] عائِدٌ عَلى السّامِرِيِّ أيْ ﴿فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] إسْلامَهُ وإيمانَهُ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوْ فَتَرَكَ ما كانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ قالَهُ مَكْحُولٌ، وهو كَقَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ أوْ ﴿فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] أنَّ العِجْلَ ﴿ألّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا ولا يَمْلِكُ لَهم ضَرًّا ولا نَفْعًا﴾ و﴿فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] الِاسْتِدْلالَ عَلى حُدُوثِ الأجْسامِ وأنَّ الإلَهَ لا يَحُلُّ في شَيْءٍ ولا يَحُلُّ فِيهِ شَيْءٌ وعَلى هَذِهِ الأقْوالِ يَكُونُ ﴿فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] إخْبارًا مِنَ اللَّهِ عَنِ السّامِرِيِّ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أيْ ﴿فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] مُوسى أنْ يَذْكُرَ لَكم أنَّ هَذا إلَهُكم أوْ ﴿فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] الطَّرِيقَ إلى رَبِّهِ، وكِلا هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. أوْ ﴿فَنَسِيَ﴾ [طه: ٨٨] مُوسى إلَهَهُ عِنْدَكم وخالَفَهُ في طَرِيقٍ آخَرَ قالَهُ قَتادَةُ، وعَلى هَذِهِ الأقْوالِ يَكُونُ مِن كَلامِ السّامِرِيِّ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى فَسادَ اعْتِقادِهِمْ بِأنَّ الأُلُوهِيَّةَ لا تَصْلُحُ لِمَن سُلِبَتْ عَنْهُ هَذِهِ الصِّفاتُ فَقالَ: ﴿أفَلا يَرَوْنَ ألّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا ولا يَمْلِكُ لَهم ضَرًّا ولا نَفْعًا﴾ وهَذا كَقَوْلِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ﴾ [مريم: ٤٢] والرُّؤْيَةُ هُنا بِمَعْنى العِلْمِ، ولِذَلِكَ جاءَ بَعْدَها أنِ المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ كَما جاءَ ﴿ألَمْ يَرَوْا أنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٤٨] بِأنَّ الثَّقِيلَةَ وبِرَفْعِ يَرْجِعُ قَرَأ الجُمْهُورُ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ (ألّا يَرْجِعَ) بِنَصْبِ العَيْنِ قالَهُ ابْنُ خالَوَيْهِ وفي الكامِلِ ووافَقَهُ عَلى ذَلِكَ وعَلى نَصْبِ (ولا يَمْلِكُ) الزَّعْفَرانِيُّ وابْنُ صُبَيْحٍ وأبانُ والشّافِعِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الإمامُ المُطَّلِبِيُّ جَعَلُوها أنِ النّاصِبَةَ لِلْمُضارِعِ وتَكُونُ الرُّؤْيَةُ مِنَ الإبْصارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب