الباحث القرآني

﴿يابَنِي إسْرائِيلَ قَدْ أنْجَيْناكم مِن عَدُوِّكُمْ﴾ ذَكَّرَهم تَعالى بِأنْواعِ نِعَمِهِ وبَدَأ بِإزالَةِ ما كانُوا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ مِنَ الإذْلالِ والخَراجِ والذَّبْحِ وهي آكَدُ أنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلى المَنفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِأنَّ إزالَةَ الضَّرَرِ أعْظَمُ في النِّعْمَةِ مِن إيصالِ تِلْكَ المَنفَعَةِ، ثُمَّ أعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ المَنفَعَةِ الدِّينِيَّةِ وهو قَوْلُهُ ﴿وواعَدْناكم جانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ﴾ إذْ أنْزَلَ عَلى نَبِيِّهِمْ مُوسى كِتابًا فِيهِ بَيانُ دِينِهِمْ وشَرْحُ شَرِيعَتِهِمْ، ثُمَّ يَذْكُرُ المَنفَعَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ وهو قَوْلُهُ ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَّلْوى﴾ والظّاهِرُ أنَّ الخِطابَ لِمَن نَجا مَعَ مُوسى بَعْدَ إغْراقِ فِرْعَوْنَ. وقِيلَ: لِمُعاصِرِي الرَّسُولِ ﷺ اعْتِراضًا في أثْناءِ قِصَّةِ مُوسى تَوْبِيخًا لَهم إذْ لَمْ يَصْبِرْ سَلَفُهم عَلى أداءِ شُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ فَهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ أنْجَيْنا آباءَكم مِن تَعْذِيبِ آلِ فِرْعَوْنَ. وخاطَبَ الجَمِيعَ بِواعَدْناكم وإنْ كانَ المَوْعُودُونَ هُمُ السَبْعِينَ الَّذِينَ اخْتارَهم مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِسَماعِ كَلامِ اللَّهِ، لِأنَّ سَماعَ أُولَئِكَ السَبْعِينَ تَعُودُ مَنفَعَتُهُ عَلى جَمِيعِهِمْ إذْ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهم وتَسْكُنُ وتَقَدَّمَ الكَلامُ في ﴿جانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ﴾ في سُورَةِ مَرْيَمَ، وعَلى ﴿وأنْزَلْنا عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَّلْوى﴾ [البقرة: ٥٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وطَلْحَةُ: قَدْ أنْجَيْتُكم وواعَدْتُكم ما رَزَقَتْكم بِتاءِ الضَّمِيرِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِنُونِ العَظَمَةِ وحُمَيدٌ نَجَّيْناكم بِتَشْدِيدِ الجِيمِ مِن غَيْرِ ألِفٍ قَبْلَها وبِنُونَ العَظَمَةِ وتَقَدَّمَ خِلافُ أبِي عَمْرٍو وفي واعَدَ في البَقَرَةِ. والطَّيِّباتُ هُنا: الحَلالُ اللَّذِيذُ لِأنَّهُ جَمَعَ الوَصْفَيْنِ. وقُرِئَ ﴿الأيْمَنَ﴾ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالجَرِّ عَلى الجِوارِ نَحْوَ جُحْرِ ضَبٍّ خَرِبٍ. انْتَهى. وهَذا مِنَ الشُّذُوذِ والقِلَّةِ بِحَيْثُ يَنْبَغِي أنْ لا تُخَرَّجَ القِراءَةُ عَلَيْهِ، والصَّحِيحُ أنَّهُ نَعْتٌ لِلطُّورِ لِما فِيهِ مِنَ اليُمْنِ وأمّا لِكَوْنِهِ عَلى يَمِينِ مَن يَسْتَقْبِلُ الجَبَلَ، ونَهاهم عَنِ الطُّغْيانِ فِيما رَزَقَهم وهو أنْ يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فِيها بِأنْ يَكْفُرُوها ويَشْغَلَهُمُ اللَّهْوُ والنِّعَمُ عَنِ القِيامِ بِشُكْرِها، وأنْ يُنْفِقُوها في المَعاصِي ويَمْنَعُوا الحُقُوقَ الواجِبَةَ عَلَيْهِمْ فِيها. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ولا تَطْغُوا فِيهِ بِضَمِّ الغَيْنِ. . وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿ولا تَطْغَوْا فِيهِ﴾ لا يَظْلِمْ بَعْضُكم بَعْضًا فَيَأْخُذَهُ مِن صاحِبِهِ يَعْنِي بِغَيْرِ حَقٍّ. وعَنِ الضَّحّاكِ ومُقاتِلٍ: لا تُجاوِزُوا حَدَّ الإباحَةِ. وعَنِ الكَلْبِيِّ: لا تَكْفُرُوا النِّعْمَةَ أيْ لا تَسْتَعِينُوا بِنِعْمَتِي عَلى مُخالَفَتِي. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿فَيَحِلَّ﴾ بِكَسْرِ الحاءِ ﴿ومَن يَحْلِلْ﴾ بِكَسْرِ اللّامِ أيْ فَيَجِبُ ويَلْحَقُ. وقَرَأ الكِسائِيُّ بِضَمِّ الحاءِ ولامِ يَحْلُلْ أيْ يَنْزِلُ وهي قِراءَةُ قَتادَةَ، وأبِي حَيْوَةَ، والأعْمَشِ، وطَلْحَةَ، ووافَقَ ابْنُ عُتَيْبَةَ في يَحْلُلُ فَضَمَّ، وفي الإقْناعِ لِأبِي عَلِيٍّ الأهْوازِيِّ ما نَصَّهُ: ابْنُ غَزْوانَ، عَنْ طَلْحَةَ: لا يَحِلَّنَّ عَلَيْكم ﴿غَضَبِي﴾ بِلامٍ ونُونٍ مُشَدَّدَةٍ وفَتْحِ اللّامِ وكَسْرِ الحاءِ، أيْ: لا تَتَعَرَّضُوا لِلطُّغْيانِ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكم غَضَبِي مِن بابِ لا أرَيَنَّكَ هُنا، وفي كِتابِ اللَّوامِحِ قَتادَةُ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ، وابْنُ وثّابِ، والأعْمَشُ، فَيُحِلُّ بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الحاءِ مِنَ الإحْلالِ فَهو مُتَعَدٍّ مِن حَلَّ بِنَفْسِهِ، والفاعِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ تُرِكَ لِشُهْرَتِهِ وتَقْدِيرِهِ فَيَحِلُّ بِهِ طُغْيانُكم ﴿غَضَبِي﴾ عَلَيْكم ودَلَّ عَلى ذَلِكَ ﴿ولا تَطْغَوْا﴾ فَيَصِيرُ ﴿غَضَبِي﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ مَفْعُولٍ بِهِ. وقَدْ يَجُوزُ أنْ يُسْنَدَ الفِعْلُ إلى ﴿غَضَبِي﴾ فَيَصِيرُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِفِعْلِهِ، وقَدْ حُذِفَ مِنهُ المَفْعُولُ لِلدَّلِيلِ عَلَيْهِ وهو العَذابُ أوْ نَحْوُهُ. انْتَهى. ﴿فَقَدْ هَوى﴾ كَنّى بِهِ عَنِ الهَلاكِ، وأصْلُهُ أنْ يَسْقُطَ مِن جَبَلٍ فَيَهْلِكَ يُقالُ هَوى الرَّجُلُ أيْ سَقَطَ، ويُشْبِهُ الَّذِي (p-٢٦٦)يَقَعُ في ورْطَةٍ بَعْدَ أنْ كانَ بِنَجْوَةٍ مِنها بِالسّاقِطِ، أوْ ﴿هَوى﴾ في جَهَنَّمَ، وفي سُخْطِ اللَّهِ وغَضَبُ اللَّهِ عُقُوباتُهُ، ولِذَلِكَ وُصِفَ بِالنُّزُولِ. ولَمّا حَذَّرَ تَعالى مِنَ الطُّغْيانِ فِيما رَزَقَ، وحَذَّرَ مِن حُلُولِ غَضَبِهِ، فَتَحَ بابَ الرَّجاءِ لِلتّائِبِينَ وأتى بِصِيغَةِ المُبالَغَةِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿وإنِّي لَغَفّارٌ لِمَن تابَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مِنَ الشِّرْكِ ﴿وآمَنَ﴾ أيْ وحَّدَ اللَّهَ ﴿وعَمِلَ صالِحًا﴾ أدّى الفَرائِضَ ﴿ثُمَّ اهْتَدى﴾ لَزِمَ الهِدايَةَ وأدامَها إلى المُوافاةِ عَلى الإسْلامِ. وقِيلَ: مَعْناهُ لَمْ يَشُكَّ في إيمانِهِ. وقِيلَ: ثُمَّ اسْتَقامَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والَّذِي تَقْوى في مَعْنى ﴿ثُمَّ اهْتَدى﴾ أنْ يَكُونَ ثُمَّ حَفِظَ مُعْتَقَداتِهِ مِن أنْ يُخالِفَ الحَقَّ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ، فَإنَّ الِاهْتِداءَ عَلى هَذا الوَجْهِ غَيْرُ الإيمانِ وغَيْرُ العَمَلِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الِاهْتِداءُ هو الِاسْتِقامَةُ والثَّباتُ عَلى الهُدى المَذْكُورِ وهو التَّوْبَةُ والإيمانُ والعَمَلُ الصّالِحُ، ونَحْوُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا﴾ [فصلت: ٣٠] وكَلِمَةُ التَّراخِي دَلَّتْ عَلى تَبايُنِ المَنزِلَتَيْنِ دَلالَتَها عَلى تَبايُنِ الوَقْتَيْنِ في جاءَنِي زَيْدٌ ثُمَّ عُمَرُ، وأعْنِي أنَّ مَنزِلَةَ الِاسْتِقامَةِ عَلى الخَبَرِ مُبايِنَةٌ لِمَنزِلَةِ الخَبَرِ نَفْسِهِ لِأنَّها أعْلى مِنهُ وأفْضَلُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب