الباحث القرآني

ثُمَّ أمَرَهُ تَعالى بِالصَّبْرِ عَلى ما يَقُولُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، وهُمُ الَّذِينَ عادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ في ﴿أفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ [طه: ١٢٨] وكانُوا يَقُولُونَ أشْياءَ قَبِيحَةً مِمّا نَصَّ اللَّهُ عَنْهم في كِتابِهِ، فَأمَرَهُ تَعالى بِالصَّبْرِ عَلى أذاهم والِاحْتِمالِ لِما يَصْدُرُ مِن سُوءِ أخْلاقِهِمْ، وأمَرَهُ بِالتَّسْبِيحِ والحَمْدِ لِلَّهِ و﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ وأنْتَ حامِدٌ لِرَبِّكَ. والظّاهِرُ أنَّهُ أمَرَ بِالتَّسْبِيحِ مَقْرُونًا بِالحَمْدِ، وإمّا أنْ يُرادَ اللَّفْظُ أيْ قُلْ سُبْحانَ اللَّهِ والحَمْدُ لِلَّهِ، أوْ أُرِيدُ المَعْنى وهو التَّنْزِيهُ والتَّبْرِئَةُ مِنَ السُّوءِ والثَّناءُ الجَمِيلِ عَلَيْهِ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: لا يَبْعُدُ حَمْلُهُ عَلى التَّنْزِيهِ والإجْلالِ، والمَعْنى اشْتَغَلَ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ في هَذِهِ الأوْقاتِ. قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: وهَذا القَوْلُ أقْرَبُ إلى الظّاهِرِ وإلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِأنَّهُ صَبَّرَهُ أوَّلًا ﴿عَلى ما يَقُولُونَ﴾ مِنَ التَّكْذِيبِ ومِن إظْهارِ الكُفْرِ والشِّرْكِ الَّذِي يَلِيقُ بِذَلِكَ أنْ يُؤْمَرَ بِتَنْزِيهِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ حَتّى يَكُونَ مُظْهِرًا لِذَلِكَ وداعِيًا، ولِذَلِكَ ما جَمَعَ كُلَّ الأوْقاتِ أوْ يُرادُ المَجازُ فَيَكُونُ المُرادُ الصَّلاةَ فَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صَلاةُ الصُّبْحِ وقَبْلَ غُرُوبِها صَلاةُ العَصْرِ ﴿ومِن آناءِ اللَّيْلِ﴾ المَغْرِبُ والعَتَمَةُ ﴿وأطْرافَ النَّهارِ﴾ الظُّهْرُ وحْدَهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَحْتَمِلُ اللَّفْظُ أنْ يُرادَ قَوْلُ سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ مِن بَعْدِ صَلاةِ الصُّبْحِ إلى رَكْعَتَيِ الضُّحى وقَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَدْ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: (مَن سَبَّحَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ سَبْعِينَ تَسْبِيحَةً غَرَبَتْ بِذُنُوبِهِ) . انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿وقَبْلَ غُرُوبِها﴾ يَعْنِي الظُّهْرَ والعَصْرَ لِأنَّهُما واقِعَتانِ في النِّصْفِ الأخِيرِ مِنَ النَّهارِ بَيْنَ زَوالِ الشَّمْسِ وغُرُوبِها، وتَعَمُّدُ ﴿آناءِ اللَّيْلِ﴾ ﴿وأطْرافَ النَّهارِ﴾ مُخْتَصًّا لَها بِصَلاتِكَ، وذَلِكَ أنَّ أفْضَلَ الذِّكْرِ ما كانَ بِاللَّيْلِ لِاجْتِماعِ القَلْبِ وهُدُوِّ الرِّجْلِ والخُلُوِّ بِالرَّبِّ. وقالَ تَعالى: ﴿إنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ [المزمل: ٦] وقالَ: ﴿أمْ مَن هو قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ﴾ [الزمر: ٩] الآيَتَيْنِ. ولِأنَّ اللَّيْلَ وقْتُ السُّكُونِ والرّاحَةِ فَإذا صُرِفَ إلى العِبادَةِ كانَتْ عَلى النَّفْسِ أشَدَّ وأشَقَّ ولِلْبَدَنِ أتْعَبَ وأنْصَبَ، فَكانَتْ أدْخَلَ في مَعْنى التَّكْلِيفِ وأفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ وقَدْ تَناوَلَ التَّسْبِيحُ في ﴿آناءِ اللَّيْلِ﴾ صَلاةَ العَتَمَةِ ﴿وأطْرافَ النَّهارِ﴾ صَلاةَ المَغْرِبِ وصَلاةَ الفَجْرِ عَلى التَّكْرارِ إرادَةَ الِاخْتِصاصِ كَما اخْتَصَّتْ في قَوْلِهِ ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾ [البقرة: ٢٣٨] عِنْدَ بَعْضِ المُفَسِّرِينَ. انْتَهى. وجاءَ هُنا ﴿وأطْرافَ النَّهارِ﴾ وفي هُودٍ ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ﴾ [هود: ١١٤] فَقِيلَ: جاءَ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ. ؎ومَهْمَهَيْنِ فَدْفَدَيْنِ مَرَّتَيْنِ ظَهْراهُما مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ جاءَتِ التَّثْنِيَةُ عَلى الأصْلِ والجَمْعُ لا مِنَ اللَّبْسِ إذِ النَّهارُ لَيْسَ لَهُ إلّا طَرَفانِ. وقِيلَ: هو عَلى حَقِيقَةِ الجَمْعِ الفَجْرُ الطَّرَفُ الأوَّلُ، والظُّهْرُ والعَصْرُ مِنَ الطَّرَفِ الثّانِي، والطَّرَفُ الثّالِثُ المَغْرِبُ والعَشاءُ. وقِيلَ: النَّهارُ لَهُ أرْبَعَةُ أطْرافٍ عِنْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وعِنْدَ غُرُوبِها، وعِنْدَ زَوالِ الشَّمْسِ، وعِنْدَ وُقُوفِها لِلزَّوالِ. وقِيلَ: الظُّهْرُ في آخِرِ طَرَفِ النَّهارِ الأوَّلِ، وأوَّلُ طَرَفِ النَّهارِ الآخِرِ، فَهي في طَرَفَيْنِ مِنهُ، والطَّرَفُ الثّالِثُ غُرُوبُ الشَّمْسِ وهو وقْتُ المَغْرِبِ. وقِيلَ: يَجْعَلُ النَّهارَ لِلْجِنْسِ فَلِكُلِّ يَوْمٍ طَرَفٌ فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالأطْرافِ السّاعاتُ لِأنَّ الطَّرَفَ آخِرُ الشَّيْءِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (وأطْرافَ) بِنَصْبِ الفاءِ وهو مَعْطُوفٌ عَلى ﴿ومِن آناءِ اللَّيْلِ﴾ . وقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلى ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ﴾ وقَرَأ الحَسَنُ وعِيسى بْنُ عُمَرَ (وأطْرافِ) بِخَفْضِ الفاءِ عَطْفًا عَلى (آناءِ) . ﴿لَعَلَّكَ تَرْضى﴾ أيْ تُثابُ عَلى هَذِهِ الأعْمالِ بِالثَّوابِ الَّذِي تَراهُ وأبْرَزَ ذَلِكَ في صُورَةِ الرَّجاءِ والطَّمَعِ لا عَلى القَطْعِ. وقِيلَ: لَعَلَّ مِنَ اللَّهِ واجِبَةٌ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ وطَلْحَةُ والكِسائِيُّ وأبُو بَكْرٍ وأبانُ وعِصْمَةُ وأبُو عِمارَةَ عَنْ حَفْصٍ وأبُو زَيْدٍ عَنِ المُفَضَّلِ وأبُو عُبَيْدٍ ومُحَمَّدُ بْنُ عِيسى الأصْبَهانِيُّ تَرْضى بِضَمِّ التّاءِ أيْ يُرْضِيكَ رَبُّكَ. * * * ولَمّا أمَرَهُ تَعالى بِالصَّبْرِ وبِالتَّسْبِيحِ جاءَ النَّهْيُ عَنْ مَدِّ البَصَرِ إلى ما مُتِّعَ بِهِ الكَفَرَةُ يُقالُ: مَدَّ البَصَرَ إلى ما مُتِّعَ بِهِ (p-٢٩١)الكُفّارُ، يُقالُ: مَدَّ نَظَرَهُ إلَيْهِ إذا أدامَ النَّظَرَ إلَيْهِ، والفِكْرَةُ في جُمْلَتِهِ وتَفْصِيلِهِ. قِيلَ: والمَعْنى عَلى هَذا ولا تَعْجَبْ يا مُحَمَّدُ مِمّا مَتَّعْناهم بِهِ مِن مالٍ وبَنِينَ ومَنازِلَ ومَراكِبَ ومَلابِسَ ومَطاعِمَ، فَإنَّما ذَلِكَ كُلُّهُ كالزَّهْرَةِ الَّتِي لا بَقاءَ لَها ولا دَوامَ، وإنَّها عَمّا قَلِيلٍ تَفْنى وتَزُولُ. والخِطابُ وإنْ كانَ في الظّاهِرِ لِلرَّسُولِ ﷺ فالمُرادُ أُمَّتُهُ هو كانَ ﷺ أبْعَدَ شَيْءٍ عَنِ النَّظَرِ في زِينَةِ الدُّنْيا وأعْلَقَ بِما عِنْدَ اللَّهِ مِن كُلِّ أحَدٍ، وهو القائِلُ في الدُّنْيا (مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ ما فِيها إلّا ما أُرِيدَ بِهِ وجْهُ اللَّهِ) وكانَ شَدِيدَ النَّهْيِ عَنِ الِاغْتِرارِ بِالدُّنْيا والنَّظَرِ إلى زُخْرُفِها ﴿ولا تَمُدَّنَّ﴾ [طه: ١٣١] أبْلَغُ مِن لا تَنْظُرْ لِأنَّ مَدَّ البَصَرِ يَقْتَضِي الإدامَةَ والِاسْتِحْسانَ بِخِلافِ النَّظَرِ، فَإنَّهُ قَدْ لا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَهُ والعَيْنُ لا تُمَدُّ فَهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ ﴿لا تَمُدَّنَّ﴾ [الحجر: ٨٨] نَظَرَ ﴿عَيْنَيْكَ﴾ [طه: ١٣١] والنَّظَرُ غَيْرُ المُمَدَّدِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. وذَلِكَ مِثْلُ مَن فاجَأ الشَّيْءَ ثُمَّ غَضَّ بَصَرَهُ. والنَّظَرُ إلى الزَّخارِفِ مَرْكُوزٌ في الطَّبائِعِ فَمَن رَأى مِنها شَيْئًا أحَبَّ إدْمانَ النَّظَرِ إلَيْهِ، وقَدْ شَدَّدَ المُتَّقُونَ في غَضِّ البَصَرِ عَنْ أبْنِيَةِ الظَّلَمَةِ وعِدَدِ الفَسَقَةِ مَرْكُوبًا ومَلْبُوسًا وغَيْرِهِما لِأنَّهم إنَّما اتَّخَذُوها لِعُيُونَ النَّظّارَةِ حَتّى يَفْتَخِرُوا بِها، فالنّاظِرُ إلَيْها مُحَصِّلٌ لِغَرَضِهِمْ وكالمُغْرِي لَهم عَلى اتِّخاذِها. وانْتَصَبَ (أزْواجًا) عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، والمَعْنى أصْنافًا مِنَ الكَفَرَةِ و(مِنهم) في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَأزْواجًا أيْ أصْنافًا وأقْوامًا مِنَ الكَفَرَةِ. كَما قالَ: ﴿وآخَرُ مِن شَكْلِهِ أزْواجٌ﴾ [ص: ٥٨] . وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَنْتَصِبَ (أزْواجًا) عَنِ الحالِ مِن ضَمِيرِ (بِهِ) و(مَتَّعْنا) مَفْعُولُهُ مِنهم كَأنَّهُ قِيلَ إلى الَّذِي مَتَّعْنا بِهِ وهو أصْنافُ بَعْضِهِمْ، وناسًا مِنهم. و(زَهْرَةَ) مَنصُوبٌ عَلى الذَّمِّ أوْ مَفْعُولٌ ثانٍ لِمَتَّعْنا عَلى تَضْمِينِهِ مَعْنى أعْطَيْنا أوْ بَدَلٌ مِن مَحَلِّ الجارِّ والمَجْرُورِ، أوْ بَدَلٌ مِن (أزْواجًا) عَلى تَقْدِيرِ ذَوِي زَهْرَةَ، أوْ جَعْلِهِمْ (زَهْرَةَ) عَلى المُبالَغَةِ أوْ مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ (مَتَّعْنا) أيْ جَعَلْنا لَهم (زَهْرَةَ) أوْ حالٌ مِنَ الهاءِ، أوْ ما عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ التَّنْوِينِ مِن (زَهْرَةَ) لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ وخَبَرُ (الحَياةِ) عَلى البَدَلِ مِن (ما) وكُلُّ هَذِهِ الأعارِيبِ مَنقُولٌ والأخِيرُ اخْتارَهُ مَكِّيٌّ، ورَدَّ كَوْنَهُ بَدَلًا مِن مَحَلِّ (ما) لِأنَّ فِيهِ الفَصْلَ بِالبَدَلِ بَيْنَ الصَّلاةِ وهي (مَتَّعْنا) ومَعْمُولِها وهو (لِنَفْتِنَهم) فالبَدَلُ وهو (زَهْرَةَ) . * * * وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿زَهْرَةَ﴾ [طه: ١٣١] بِسُكُونِ الهاءِ. وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو البِرِّ هُشَيْمٌ وأبُو حَيْوَةَ وطَلْحَةُ وحُمَيدٌ وسَلامٌ ويَعْقُوبُ وسَهْلٌ وعِيسى والزُّهْرِيُّ بِفَتْحِها. وقَرَأ الأصْمَعِيُّ عَنْ نافِعٍ لِنُفْتِنَهم بِضَمِّ النُّونِ مَن أفْتِنُهُ إذا جَعَلَ الفِتْنَةَ واقِعَةً فِيهِ، والزُّهْرَةُ والزَّهْرَةُ بِمَعْنًى واحِدٍ كالجَهْرَةِ والجُهْرَةِ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ في (زَهْرَةَ) المَفْتُوحِ الهاءِ أنْ يَكُونَ جَمْعَ زاهِرٍ نَحْوَ كافِرٍ وكَفَرَةٍ، وصَفَهم بِأنَّهم زاهِرٌ وهَذِهِ الدُّنْيا الصَّفاءُ ألْوانُهم مِمّا يَلْهُونَ ويَتَنَعَّمُونَ وتَهَلُّلُ وُجُوهِهِمْ وبَهاءُ زِيِّهِمْ وشارَّتِهِمْ بِخِلافِ ما عَلَيْهِ المُؤْمِنُونَ والصُّلَحاءُ مِن شُحُوبِ الألْوانِ والتَّقَشُّفِ في الثِّيابِ، ومَعْنى ﴿لِنَفْتِنَهم فِيهِ﴾ [طه: ١٣١] أيْ لِنَبْلُوَهم حَتّى يَسْتَوْجِبُوا العَذابَ لِوُجُودِ الكُفْرانِ مِنهم أوْ لِنُعَذِّبَهم في الآخِرَةِ بِسَبَبِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب