الباحث القرآني

﴿وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤] قالَ مُقاتِلٌ أيْ قُرْآنًا. وقِيلَ: فَهْمًا. وقِيلَ: حِفْظًا وهَذا القَوْلُ مُتَضَمِّنٌ لِلتَّواضُعِ لِلَّهِ والشُّكْرِ لَهُ عِنْدَ ما عُلِمَ مِن تَرْتِيبِ التَّعَلُّمِ أيْ عَلَّمْتَنِي مَآرِبَ لَطِيفَةً في بابِ التَّعَلُّمِ وأدَبًا جَمِيلًا ما كانَ عِنْدِي، فَزِدْنِي عِلْمًا. وقِيلَ: ما أمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِطَلَبِ الزِّيادَةِ في شَيْءٍ إلّا في طَلَبِ العِلْمِ. (p-٢٨٣)﴿ولَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ ﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ أبى﴾ ﴿فَقُلْنا ياآدَمُ إنَّ هَذا عَدُوٌّ لَكَ ولِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقى﴾ ﴿إنَّ لَكَ ألّا تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى﴾ ﴿وأنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيها ولا تَضْحى﴾ ﴿فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ ياآدَمُ هَلْ أدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْكٍ لا يَبْلى﴾ ﴿فَأكَلا مِنها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِن ورَقِ الجَنَّةِ وعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وهَدى﴾ [طه: ١٢٢] ﴿قالَ اهْبِطا مِنها جَمِيعًا بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى﴾ [طه: ١٢٣] ﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ [طه: ١٢٤] ﴿قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ [طه: ١٢٥] ﴿قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾ [طه: ١٢٦] ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي مَن أسْرَفَ ولَمْ يُؤْمِن بِآياتِ رَبِّهِ ولَعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقى﴾ [طه: ١٢٧] . تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ آدَمَ في البَقَرَةِ والأعْرافِ والحِجْرِ والكَهْفِ، ثُمَّ ذَكَرَ هَهُنا لِما تَقَدَّمَ ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن أنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ﴾ [طه: ٩٩] كانَ مِن هَذا الإنْباءِ قِصَّةُ آدَمَ لِيَتَحَفَّظَ بَنُوهُ مِن وسْوَسَةِ الشَّيْطانِ ويَتَنَبَّهُوا عَلى غَوائِلِهِ، ومَن أطاعَ الشَّيْطانَ مِنهم ذُكِّرَ بِما جَرى لِأبِيهِ آدَمَ مَعَهُ وأنَّهُ أُوضِحَتْ لَهُ عَداوَتُهُ، ومَعَ ذَلِكَ نَسِيَ ما عَهِدَ إلَيْهِ رَبُّهُ وأيْضًا لَمّا أُمِرَ بِأنْ يَقُولَ ﴿رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤] كانَ مِن ذَلِكَ ذِكْرُ قِصَّةِ آدَمَ وذِكْرُ شَيْءٍ مِن أحْوالِهِ فِيها لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُها، فَكانَ في ذَلِكَ مَزِيدُ عِلْمٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، والعَهْدُ عِنْدَ الجُمْهُورِ الوَصِيَّةُ. والظّاهِرُ أنَّ المُضافَ إلَيْهِ المَحْذُوفَ بَعْدَ قَوْلِهِ (مِن قَبْلُ) تَقْدِيرُهُ (مِن قَبْلُ) هَؤُلاءِ الَّذِينَ صُرِفَ لَهم مِنَ الوَعِيدِ في القُرْآنِ لَعَلَّهم يَتَّقُونَ، وهُمُ النّاقِضُو عَهْدِ اللَّهِ والتّارِكُو الإيمانِ. وقالَ الحَسَنُ: (مِن قَبْلُ) الرَّسُولُ والقُرْآنُ. وقِيلَ: (مِن قَبْلُ) أنْ يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: المَعْنى أنْ يُعْرِضَ يا مُحَمَّدُ هَؤُلاءِ الكَفَرَةُ عَنْ آياتِي ويُخالِفُوا رُسُلِي ويُطِيعُوا إبْلِيسَ، فَقِدَمًا فَعَلَ ذَلِكَ أبُوهم آدَمُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا ضَعِيفٌ وذَلِكَ أنَّ كَوْنَ آدَمَ مِثالًا لِلْكُفّارِ الجاحِدِينَ بِاللَّهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وآدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما عَصى بِتَأْوِيلٍ فَفي هَذا غَضاضَتُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وإنَّما الظّاهِرُ في هَذِهِ الآيَةِ إمّا أنْ يَكُونَ ابْتِداءَ قِصَصٍ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِما قَبْلَهُ، وإمّا أنْ يَجْعَلَ تَعَلُّقَهُ إنَّما هو لِما عُهِدَ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ أنْ لا يَعْجَلَ بِالقُرْآنِ مَثَّلَ لَهُ بِنَبِيٍّ قَبْلَهُ عُهِدَ إلَيْهِ (فَنَسِيَ) فَعَرَفَ لِيَكُونَ أشَدَّ في التَّحْذِيرِ وأبْلَغَ في العَهْدِ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقالُ في أوامِرِ المُلُوكِ ووَصاياهم: تَقَدَّمَ المَلِكُ إلى فُلانٍ وأوْغَرَ عَلَيْهِ وعَزَمَ عَلَيْهِ وعَهِدَ إلَيْهِ، عَطَفَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى قِصَّةَ آدَمَ عَلى قَوْلِهِ ﴿وصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾ [طه: ١١٣] والمَعْنى وأُقْسِمُ قَسَمًا لَقَدْ أمَرْنا أباهم آدَمَ ووَصَّيْناهُ أنْ لا يَقْرَبَ الشَّجَرَةَ، وتَوَعَّدْناهُ بِالدُّخُولِ في جُمْلَةِ الظّالِمِينَ إنْ قَرَبَها وذَلِكَ (مِن قَبْلُ) وُجُودِهِمْ (مِن قَبْلُ) أنْ نَتَوَعَّدَهم فَخالَفَ إلى ما نُهِيَ عَنْهُ وتَوَعَّدَ في ارْتِكابِهِ مُخالَفَتَهم، ولَمْ يَلْتَفِتْ إلى الوَعِيدِ كَما لا يَلْتَفِتُونَ كَأنَّهُ يَقُولُ: إنَّ أساسَ أمْرِ بَنِي آدَمَ عَلى ذَلِكَ وعِرْقُهم راسِخٌ فِيهِ. انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ النِّسْيانَ هُنا التَّرْكُ إنْ تَرَكَ ما وُصِّيَ بِهِ مِنَ الِاحْتِراسِ عَنِ الشَّجَرَةِ وأكْلِ ثَمَرَتِها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالنِّسْيانِ الَّذِي هو نَقِيضُ الذِّكْرِ وأنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِالوَصِيَّةِ العِنايَةَ الصّادِقَةَ ولَمْ يَسْتَوْثِقْ مِنها بِعَقْدِ القَلْبِ عَلَيْها وضَبْطِ النَّفْسِ حَتّى تَوَلَّدَ مِن ذَلِكَ (p-٢٨٤)النِّسْيانُ. انْتَهى. وقالَهُ غَيْرُهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ونِسْيانُ الذُّهُولِ لا يُمْكِنُ هُنا لِأنَّهُ لا يَتَعَلَّقُ بِالنّاسِي عِقابٌ. انْتَهى. وقَرَأ اليَمانِيُّ والأعْمَشُ فَنُسِّيَ بِضَمِّ النُّونِ وتَشْدِيدِ السِّينِ أيْ نَسّاهُ الشَّيْطانُ، والعَزْمُ التَّصْمِيمُ والمُضِيُّ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ عَلى تَرْكِ الأكْلِ وأنْ يَتَصَلَّبَ في ذَلِكَ تَصَلُّبًا يُؤَيِّسُ الشَّيْطانَ مِنَ التَّسْوِيلِ لَهُ، والوُجُودُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى العِلْمِ ومَفْعُولاهُ (لَهُ عَزْمًا) وأنْ يَكُونَ نَقِيضَ العَدَمِ كَأنَّهُ قالَ وعْدٌ مِنّا (لَهُ عَزْمًا) . انْتَهى. وقِيلَ ﴿ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ عَلى المَعْصِيَةِ وهَذا يَتَخَرَّجُ عَلى قَوْلِ مَن قالَ إنَّهُ فَعَلَ نِسْيانًا. وقِيلَ: حِفْظًا لِما أُمِرَ بِهِ. وقِيلَ: صَبْرًا عَنْ أكْلِ الشَّجَرَةِ. وقِيلَ ﴿عَزْمًا﴾ في الِاحْتِياطِ في كَيْفِيَّةِ الِاجْتِهادِ. * * * وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِ قَوْلِهِ ﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ أبى﴾ و(أبى) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ أنَّ امْتِناعَهُ مِنَ السُّجُودِ إنَّما كانَ عَنْ إباءٍ مِنهُ وامْتِناعٍ، والظّاهِرُ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ (أبى) وأنَّهُ يُقَدَّرُ هُنا ما صُرِّحَ بِهِ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿أبى أنْ يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٣١] وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (أبى) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأنَّهُ جَوابُ قائِلٍ قالَ: لِمَ لَمْ يَسْجُدْ ؟ والوَجْهُ أنْ لا يُقَدَّرَ لَهُ مَفْعُولٌ وهو السُّجُودُ المَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (اسْجُدُوا) وأنْ يَكُونَ مَعْناهُ أظْهَرَ الإباءَ وتَوَقَّفَ وتَثَبَّطَ. انْتَهى. و(هَذا) إشارَةٌ إلى إبْلِيسَ و(عَدُوٌّ) يُطْلَقُ عَلى الواحِدِ والمُثَنّى والمَجْمُوعِ، عَرَّفَ تَعالى آدَمَ عَداوَةَ إبْلِيسَ لَهُ ولِزَوْجَتِهِ لِيَحْذَراهِ فَلَنْ يُغْنِيَ الحَذَرُ عَنِ القَدَرِ، وسَبَبُ العَداوَةِ فِيما قِيلَ أنَّ إبْلِيسَ كانَ حَسُودًا فَلَمّا رَأى آثارَ نِعَمِ اللَّهِ عَلى آدَمَ حَسَدَهُ وعاداهُ. وقِيلَ: العَداوَةُ حَصَلَتْ مِن تَنافِي أصْلَيْهِما إذْ إبْلِيسُ مِنَ النّارِ وآدَمُ مِنَ الماءِ والتُّرابِ ﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُما﴾ النَّهْيُ لَهُ والمُرادُ غَيْرُهُ أيْ لا يَقَعُ مِنكُما طاعَةٌ لَهُ في إغْوائِهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبَ خُرُوجِكُما مِنَ الجَنَّةِ، وأسْنَدَ الإخْراجَ إلَيْهِ وإنْ كانَ المُخْرِجُ هو اللَّهَ تَعالى لَمّا كانَ بِوَسْوَسَتِهِ هو الَّذِي فَعَلَ ما تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الخُرُوجُ (فَتَشْقى) يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِإضْمارِ أنْ في جَوابِ النَّهْيِ وأنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلى تَقْدِيرِ فَأنْتَ تَشْقى. وأسْنَدَ الشَّقاءَ إلَيْهِ وحْدَهُ بَعْدَ اشْتِراكِهِ مَعَ زَوْجِهِ في الإخْراجِ مِن حَيْثُ كانَ هو المُخاطَبَ أوَّلًا والمَقْصُودُ بِالكَلامِ ولِأنَّ في ضِمْنِ شَقاءِ الرَّجُلِ شَقاءَ أهْلِهِ، وفي سَعادَتِهِ سَعادَتَها فاخْتَصَرَ الكَلامَ بِإسْنادِهِ إلَيْهِ دُونَها مَعَ المُحافَظَةِ عَلى الفاصِلَةِ. وقِيلَ: أرادَ بِالشَّقاءِ التَّعَبَ في طَلَبِ القُوتِ وذَلِكَ راجِعٌ إلى الرَّجُلِ. وعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: أُهْبِطَ لَهُ ثَوْرٌ أحْمَرُ يَحْرُثُ عَلَيْهِ فَيَأْكُلُ بِكَدِّ يَمِينِهِ وعَرَقِ جَبِينِهِ. وقَرَأ شَيْبَةُ ونافِعٌ وحَفْصٌ وابْنُ سَعْدانَ (وإنَّكَ لا تَظْمَأُ) بِكَسْرِ هَمْزَةٍ وإنَّكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِفَتْحِها فالكَسْرُ عَطْفٌ عَلى أنَّ لَكَ، والفَتْحُ عَطْفٌ عَلى المَصْدَرِ المُنْسَبِكِ مِن أنْ لا تَجُوعَ، أيْ أنَّ لَكَ انْتِفاءَ جَوْعِكَ وانْتِفاءَ ظَمَئِكَ، وجازَ عَطْفُ (أنَّكَ) عَلى أنَّ لِاشْتِراكِهِما في المَصْدَرِ، ولَوْ باشَرَتْها إنَّ المَكْسُورَةُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وإنْ كانَ عَلى تَقْدِيرِها ألا تَرى أنَّها مَعْطُوفَةٌ عَلى اسْمِ إنَّ، وهو أنْ لا تَجُوعَ لَكِنَّهُ يَجُوزُ في العَطْفِ ما لا يَجُوزُ في المُباشَرَةِ، ولَمّا كانَ الشِّبَعُ والرِّيُّ والكُسْوَةُ والسَّكَنُ هي الأُمُورَ الَّتِي هي ضَرُورِيَّةٌ لِلْإنْسانِ اقْتَصَرَ عَلَيْها لِكَوْنِها كافِيَةً لَهُ. وفي الجَنَّةِ ضُرُوبٌ مِن أنْواعِ النَّعِيمِ والرّاحَةِ ما هَذِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها كالعَدَمِ فَمِنها الأمْنُ مِنَ المَوْتِ الَّذِي هو مُكَدِّرٌ لِكُلِّ لَذَّةٍ، والنَّظَرُ إلى وجْهِ اللَّهِ سُبْحانَهُ ورِضاهُ تَعالى عَنْ أهْلِها، وأنْ لا سَقَمَ ولا حُزْنَ ولا ألَمَ ولا كِبَرَ ولا هَرَمَ ولا غِلَّ ولا غَضَبَ ولا حَدَثَ ولا مَقاذِيرَ ولا تَكْلِيفَ ولا حُزْنَ ولا خَوْفَ ولا مَلَلَ، وذُكِرَتْ هَذِهِ الأرْبَعَةُ بِلَفْظِ النَّفْيِ لِإثْباتِ أضْدادِها وهو الشِّبَعُ والرِّيُّ والكُسْوَةُ والسَّكَنُ، وكانَتْ نَقائِضُها بِلَفْظِ النَّفْيِ وهو الجُوعُ والعُرْيُ والظَّمَأُ والضَّحْوُ لِيُطْرَقَ سَمْعُهُ بِأسامِي أصْنافِ الشِّقْوَةِ الَّتِي حَذَّرَهُ مِنها حَتّى يَتَحامى السَّبَبَ المُوقِعَ فِيها كَراهَةً لَها. * * * قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكانَ عُرْفَ الكَلامِ أنْ يَكُونَ الجُوعُ مَعَ الظَّمَأِ والعُرْيُ مَعَ الضِّحاءِ لِأنَّها تَتَضادُّ إذِ العُرْيُ نَفْسُهُ البَرْدُ فَيُؤْذِي والحَرُّ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالضّاحِي، وهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مَهْيَعٌ في كَلامِ (p-٢٨٥)العَرَبِ أنْ يَقْرِنَ النَّسَبَ. ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎كَأنِّي لَمْ أرْكَبْ جَوادًا لِلَذَّةٍ ولَمْ أتَبَطَّنْ كاعِبًا ذاتَ خَلْخالِ ؎ولَمْ أسْبَأِ الرِّقَّ الرَّوِيَّ ولَمْ أقُلْ ∗∗∗ لِخَيْلِي كَرِّي كَرَّةً بَعْدَ إجْفالِ وقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الأُدَباءِ إلى أنَّ بَيْتَيِ امْرِئِ القَيْسِ كافْطانِي لِلنَّسَبِ، وأنَّ رُكُوبَ الخَيْلِ لِلصَّيْدِ وغَيْرِهِ مِنَ المَلاذِّ يُناسِبُ تَبَطُّنَ الكاعِبِ. انْتَهى. وقِيلَ: هَذا الجَوابُ عَلى قَدْرِ السُّؤالِ لَمّا أمَرَ اللَّهُ آدَمَ بِسُكْنى الجَنَّةِ قالَ: إلَهِي ألِيَ فِيها ما آكُلُ ؟ ألِيَ فِيها ما ألْبَسُ ؟ ألِيَ فِيها ما أشْرَبُ ؟ ألِيَ فِيها ما أسْتَظِلُّ بِهِ ؟ وقِيلَ: هي مُقابَلَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، فالجُوعُ خُلُوُّ الباطِنِ، والتَّعَرِّي خُلُوُّ الظّاهِرِ، والظَّمَأُ إحْراقُ الباطِنِ، والضَّحْوُ إحْراقُ الظّاهِرِ فَقابَلَ الخُلُوَّ بِالخَوْلِ والإحْراقَ بِالإحْراقِ. وقِيلَ: جَمَعَ امْرُؤُ القَيْسِ في بَيْتَيْهِ بَيْنَ رُكُوبِ الخَيْلِ لِلَّذَّةِ والنُّزْهَةِ، وبَيْنَ تَبَطُّنِ الكاعِبِ لِلَّذَّةِ الحاصِلَةِ فِيهِما، وجَمَعَ بَيْنَ سِباءِ الرِّقِّ وبَيْنَ قَوْلِهِ لِخَيْلِهِ كَرِّي لِما فِيهِما مِنَ الشَّجاعَةِ ولِما عِيبَ عَلى أبِي الطَّيِّبِ قَوْلُهُ: ؎وقَفَتْ وما في المَوْتِ شَكٌّ لِواقِفٍ ∗∗∗ كَأنَّكَ في جَفْنِ الرَّدى وهو نائِمُ ؎تَمُرُّ بِكَ الأبْطالُ هَزْمى كَلِيمَةً ∗∗∗ ووَجْهُكُ وضّاحٌ وثَغْرُكُ باسِمُ فَقالَ: إنْ كُنْتُ أخْطَأْتُ فَقَدْ أخْطَأ امْرُؤُ القَيْسِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في ﴿فَوَسْوَسَ﴾ والخِلافُ في كَيْفِيَّتِها في الأعْرافِ، وتَعَدّى وسْوَسَ هُنا بِإلى وفي الأعْرافِ بِاللّامِ، فالتَّعَدِّي بِإلى مَعْناهُ أنْهى الوَسْوَسَةَ إلَيْهِ والتَّعَدِّيَ بِلامِ الجَرِّ، قِيلَ مَعْناهُ: لِأجْلِهِ ولَمّا وسْوَسَ إلَيْهِ ناداهُ بِاسْمِهِ لِيَكُونَ أقْبَلَ عَلَيْهِ وأمْكَنَ لِلِاسْتِماعِ، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ ما يَلْقى بِقَوْلِهِ ﴿هَلْ أدُلُّكَ﴾ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِفْهامِ الَّذِي يُشْعِرُ بِالنَّضْحِ. ويُؤْثِرُ قَبُولَ مَن يُخاطِبُهُ كَقَوْلِ مُوسى ﴿هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى﴾ [النازعات: ١٨] وهو عَرْضٌ فِيهِ مُناصَحَةٌ، وكانَ آدَمُ قَدْ رَغَّبَهُ اللَّهُ تَعالى في دَوامِ الرّاحَةِ وانْتِظامِ المَعِيشَةِ بِقَوْلِهِ ﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُما﴾ الآيَةَ ورَغَّبَهُ إبْلِيسُ في دَوامِ الرّاحَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿هَلْ أدُلُّكَ﴾ فَجاءَهُ إبْلِيسُ مِنَ الجِهَةِ الَّتِي رَغَّبَهُ اللَّهُ فِيها. وفي الأعْرافِ ﴿ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ﴾ [الأعراف: ٢٠] . وهُنا ﴿هَلْ أدُلُّكَ﴾ والجَمْعُ بَيْنَهُما أنَّ قَوْلَهُ ﴿هَلْ أدُلُّكَ﴾ يَكُونُ سابِقًا عَلى قَوْلِهِ ﴿ما نَهاكُما﴾ [الأعراف: ٢٠] لَمّا رَأى إصْغاءَهُ ومَيْلَهُ إلى ما عَرَضَ عَلَيْهِ انْتَقَلَ إلى الإخْبارِ والحَصْرِ. ومَعْنى ﴿عَلى شَجَرَةِ الخُلْدِ﴾ أيِ الشَّجَرَةِ الَّتِي مَنَ أكَلَ مِنها خُلِّدَ وحَصَلَ لَهُ مُلْكٌ لا يَخْلَقُ، وهَذا يَدُلُّ لِقِراءَةِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ إلّا أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ بِكَسْرِ اللّامِ ﴿فَأكَلا مِنها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِن ورَقِ الجَنَّةِ﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَحْوِ هَذِهِ الآيَةِ في الأعْرافِ ﴿وعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وهَدى﴾ [طه: ١٢٢] قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: لا شُبْهَةَ في أنَّ آدَمَ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْتَثِلْ ما رَسَمَ اللَّهُ لَهُ وتَخَطّى فِيهِ ساحَةَ الطّاعَةِ، وذَلِكَ هو العِصْيانُ. ولَمّا عَصى خَرَجَ فِعْلُهُ مِن أنْ يَكُونَ رُشْدًا وخَيْرًا فَكانَ غَيًّا لا مَحالَةَ لِأنَّ الغَيَّ خِلافُ الرُّشْدِ. ولَكِنَّ قَوْلَهُ ﴿وعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ بِهَذا الإطْلاقِ وهَذا التَّصْرِيحِ، وحَيْثُ لَمْ يَقُلْ وزَلَّ آدَمُ وأخْطَأ وما أشْبَهَ ذَلِكَ مِمّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الزَّلّاتِ والفُرُطاتِ فِيهِ لُطْفٌ بِالمُكَلَّفِينَ ومَزْجَرَةٌ بَلِيغَةٌ ومَوْعِظَةٌ كافَّةٌ، وكَأنَّهُ قِيلَ لَهُمُ: انْظُرُوا واعْتَبِرُوا كَيْفَ نَعْتِبُ عَلى النَّبِيِّ المَعْصُومِ حَبِيبِ اللَّهِ الَّذِي لا يَجُوزُ عَلَيْهِ اقْتِرافُ الصَّغِيرَةِ غَيْرِ المُنَفِّرَةِ زَلَّتُهُ بِهَذِهِ الغِلْظَةِ وبِهَذا اللَّفْظِ الشَّنِيعِ، فَلا تَتَهاوَنُوا بِما يُفَرِّطُ مِنكم مِنَ السَّيِّئاتِ والصَّغائِرِ فَضْلًا عَنْ أنْ تَجْسُرُوا عَنِ التَّوَرُّطِ في الكَبائِرِ، وعَنْ بَعْضِهِمْ (فَغَوى) فَسَئِمَ مِن كَثْرَةِ الأكْلِ، وهَذا وإنْ صَحَّ عَلى لُغَةِ مَن يَقْلِبُ الياءَ المَكْسُورَةَ ما قَبْلَها ألِفًا فَيَقُولُ في فَنى وبَقى فَنا وبَقا، وهم بَنُو طَيِّئٍ تَفْسِيرٌ خَبِيثٌ. انْتَهى. * * * وقالَ القاضِي أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ: لا يَجُوزُ لِأحَدِنا اليَوْمَ أنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْهُ عَلَيْهِ (p-٢٨٦)السَّلامُ إلّا إذا ذَكَرْناهُ في أثْناءِ قَوْلِهِ تَعالى أوْ قَوْلِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإمّا أنْ يَبْتَدِئَ ذَلِكَ مِن قِبَلِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِجائِزٍ لَنا في آبائِنا الأدْنَيْنَ إلَيْنا المُماثِلِينَ لَنا، فَكَيْفَ فَفي أبِينا الأقْدَمِ الأعْظَمِ الأكْرَمِ النَّبِيِّ المُقَدَّمِ الَّذِي اجْتَباهُ اللَّهُ وتابَ عَلَيْهِ وغَفَرَ لَهُ. قالَ القُرْطُبِيُّ: وإذا كانَ هَذا في المَخْلُوقِ لا يَجُوزُ والإخْبارُ عَنْ صِفاتِ اللَّهِ كاليَدِ والرِّجْلِ والأُصْبُعِ والجَنْبِ والنُّزُولِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ أوْلى بِالمَنعِ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ الِابْتِداءُ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ إلّا في أثْناءِ قِراءَةِ كِتابِهِ أوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولِهَذا قالَ الإمامُ مالِكُ بْنُ أنَسٍ: مَن وصَفَ شَيْئًا مِن ذاتِ اللَّهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] فَأشارَ بِيَدِهِ إلى عُنُقِهِ قَطَعْتُ يَدَهُ وكَذَلِكَ في السَّمْعِ والبَصَرِ يُقْطَعُ ذَلِكَ مِنهُ لِأنَّهُ شَبَّهَ اللَّهَ سُبْحانَهُ بِنَفْسِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب