الباحث القرآني

وأسْنَدَ مَكِّيٌّ خِلافَ هَذا أنَّ مُوسى كانَ مَعَ السَبْعِينَ في المُناجاةِ وحِينَئِذٍ وقَعَ أمْرُ العِجْلِ، وأنَّ (p-٢٧٧)اللَّهَ أعْلَمَ مُوسى بِذَلِكَ فَكَتَمَهُ عَنْهم وجاءَ بِهِمْ حَتّى سَمِعُوا لَغَطَ بَنِي إسْرائِيلَ حَوْلَ العِجْلِ، فَحِينَئِذٍ عَلِمَهم مُوسى. انْتَهى. ولَمّا فَرَغَ مِن إبْطالِ ما عَمِلَهُ السّامِرِيُّ عادَ إلى بَيانِ الدِّينِ الحَقِّ فَقالَ ﴿إنَّما إلَهُكُمُ اللَّهُ﴾ [طه: ٩٨] وقَرَأ الجُمْهُورُ (وسِعَ) فانْتَصَبَ عِلْمًا عَلى التَّمْيِيزِ المَنقُولِ مِنَ الفاعِلِ، وتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في الأنْعامِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ وسَّعَ بِفَتْحِ السِّينِ مُشَدَّدَةً. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وجْهُهُ أنَّ (وسِعَ) مُتَعَدٍّ إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ وهو كُلُّ شَيْءٍ. وأمّا (عِلْمًا) فانْتِصابُهُ عَلى التَّمْيِيزِ وهو في المَعْنى فاعِلٌ، فَلَمّا ثُقِّلَ نُقِلَ إلى التَّعْدِيَةِ إلى مَفْعُولَيْنِ فَنَصَبَهُما مَعًا عَلى المَفْعُولِيَّةِ، لِأنَّ المُمَيَّزَ فاعِلٌ في المَعْنى كَما تَقُولُ: خافَ زَيْدٌ عَمْرًا خَوَّفْتُ زَيْدًا عَمْرًا، فَتَرِدُ بِالنَّقْلِ ما كانَ فاعِلًا مَفْعُولًا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ (وسِعَ) بِمَعْنى خَلْقِ الأشْياءِ وكَثْرِها بِالِاخْتِراعِ فَوَسِعَها مَوْجُوداتٍ. انْتَهى. ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن أنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وقَدْ آتَيْناكَ مِن لَدُنّا ذِكْرًا﴾ ﴿مَن أعْرَضَ عَنْهُ فَإنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيامَةِ وِزْرًا﴾ ﴿خالِدِينَ فِيهِ وساءَ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ حِمْلًا﴾ ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ ونَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ ﴿يَتَخافَتُونَ بَيْنَهم إنْ لَبِثْتُمْ إلّا عَشْرًا﴾ ﴿نَحْنُ أعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إذْ يَقُولُ أمْثَلُهم طَرِيقَةً إنْ لَبِثْتُمْ إلّا يَوْمًا﴾ ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفًا﴾ ﴿فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا﴾ ﴿لا تَرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وخَشَعَتِ الأصْواتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إلّا هَمْسًا﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ورَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ ﴿وعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ وقَدْ خابَ مَن حَمَلَ ظُلْمًا﴾ [طه: ١١١] ﴿ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وهو مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْمًا ولا هَضْمًا﴾ [طه: ١١٢] ﴿وكَذَلِكَ أنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهم يَتَّقُونَ أوْ يُحْدِثُ لَهم ذِكْرًا﴾ [طه: ١١٣] ﴿فَتَعالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ ولا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ مِن قَبْلِ أنْ يُقْضى إلَيْكَ وحْيُهُ وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤] . (p-٢٧٨)ذَلِكَ إشارَةٌ إلى نَبَأِ مُوسى وبَنِي إسْرائِيلَ وفِرْعَوْنَ أيْ كَقَصِّنا هَذا النَّبَأ الغَرِيبَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن أنْباءِ الأُمَمِ السّابِقَةِ، وهَذا فِيهِ ذِكْرُ نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وهي الإعْلامُ بِأخْبارِ الأُمَمِ السّالِفَةِ لِيَتَسَلّى بِذَلِكَ ويَعْلَمَ أنَّ ما صَدَرَ مِنَ الأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ وما قاسَتِ الرُّسُلُ مِنهم، والظّاهِرُ أنَّ الذِّكْرَ هُنا القُرْآنُ امْتَنَّ تَعالى عَلَيْهِ بِإيتائِهِ الذِّكْرَ المُشْتَمِلَ عَلى القِصَصِ والأخْبارِ الدّالِّ ذَلِكَ عَلى مُعْجِزاتٍ أُوتِيَها. وقالَ مُقاتِلٌ: ﴿ذِكْرًا﴾ بَيانًا. وقالَ أبُو سَهْلٍ: شَرَفًا وذِكْرًا في النّاسِ. ﴿مَن أعْرَضَ عَنْهُ﴾ أيْ عَنِ القُرْآنِ بِكَوْنِهِ لَمْ يُؤْمِن بِهِ ولَمْ يَتَّبِعْ ما فِيهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (يَحْمِلُ) مُضارِعُ حَمَلَ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ مِنهم داوُدُ بْنُ رُفَيْعٍ: يُحَمَّلُ مُشَدَّدُ المِيمِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لِأنَّهُ يُكَلَّفُ ذَلِكَ لا أنَّهُ يَحْمِلُهُ طَوْعًا و(وِزْرًا) مَفْعُولٌ ثانٍ و(وِزْرًا) ثِقَلًا باهِظًا يُؤَدِّهِ حَمْلُهُ وهو ثِقَلُ العَذابِ. وقالَ مُجاهِد: إثْمًا. وقالَ الثَّوْرِيُّ: شِرْكًا والظّاهِرُ أنَّهُ عَبَّرَ عَنِ العُقُوبَةِ بِالوِزْرِ لِأنَّهُ سَبَبُها ولِذَلِكَ قالَ ﴿خالِدِينَ فِيهِ﴾ أيْ في العَذابِ والعُقُوبَةِ وجَمَعَ خالِدِينَ، والضَّمِيرَ في (لَهم) حَمْلًا عَلى مَعْنى مِن بَعْدِ الحَمْلِ عَلى لَفْظِها في أعْرَضَ وفي فَإنَّهُ يَحْمِلُ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ أيْ وِزْرَهم و(لَهم) لِلْبَيانِ كَهي في ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: ٢٣] لا مُتَعَلِّقَةٌ بِساءٍ (وساءَ) هُنا هي الَّتِي جَرَتْ مَجْرى بِئْسَ لا ساءَ الَّتِي بِمَعْنى أحْزَنَ وأهَمَّ لِفَسادِ المَعْنى. ويَوْمُ نَنْفُخُ بَدَلٌ مِن يَوْمِ القِيامَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (يُنْفَخُ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ (ونَحْشُرُ) بِالنُّونِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ بِنُونِ العَظَمَةِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو وابْنُ مُحَيْصِنٍ وحُمَيدٌ: نَنْفُخُ بِنُونِ العَظَمَةِ كَنَحْشُرُ أسْنَدَ النَّفْخَ إلى الآمِرِ بِهِ، والنّافِخُ هو إسْرافِيلُ ولِكَرامَتِهِ أسْنَدَ ما يَتَوَلّاهُ إلى ذاتِهِ المُقَدَّسَةِ و(الصُّورِ) تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيهِ في الأنْعامِ. وقُرِئَ يَنْفُخُ ويَحْشُرُ بِالياءِ فِيهِما مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. وقَرَأ الحَسَنُ وابْنُ عِياضٍ في جَماعَةٍ ﴿فِي الصُّورِ﴾ عَلى وزْنِ دُرَرٍ، والحَسَنُ: يُحْشَرُ، بِالياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ويَحْشُرُ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، وبِالياءِ أيْ ويَحْشُرُ اللَّهُ. والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالزُّرْقِ زُرْقَةُ العُيُونِ، والزُّرْقَةُ أبْغَضُ ألْوانِ العُيُونِ إلى العَرَبِ لِأنَّ الرُّومَ أعْداؤُهم وهم زُرْقُ العُيُونِ، ولِذَلِكَ قالُوا في صِفَةِ العَدُوِّ: أسْوَدُ الكَبِدِ، أصْهَبُ السِّبالِ، أزْرَقُ العَيْنِ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎وما كُنْتُ أخْشى أنْ تَكُونَ وفاتُهُ بِكَفِّي سَبَنَتى أزْرَقِ العَيْنِ مُطْرِقِ وقَدْ ذَكَرَ في آيَةٍ أُخْرى أنَّهم يُحْشَرُونَ سُودَ الوُجُوهِ، فالمَعْنى تَشْوِيهُ الصُّورَةِ مِن سَوادِ الوَجْهِ وزُرْقَةِ العَيْنِ وأيْضًا فالعَرَبُ تَتَشاءَمُ بِالزُّرْقَةِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎لَقَدْ زَرَفَتْ عَيْناكَ يا ابْنَ مُكَعْبَرٍ ∗∗∗ ألا كَلُّ ضَبِّيٍّ مِنَ اللُّؤْمِ أزْرَقُ (p-٢٧٩)وقِيلَ: المَعْنى عُمْيًا لِأنَّ العَيْنَ إذا ذَهَبَ نُورُها ازْرَقَّ ناظِرُها، وبِهَذا التَّأْوِيلِ يَقَعُ الجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ (زُرْقًا) في هَذِهِ الآيَةِ و(عُمْيًا) في الآيَةِ الأُخْرى. وقِيلَ: زَرُقَ ألْوانُ أبْدانِهِمْ، وذَلِكَ غايَةٌ في التَّشْوِيهِ إذْ يَجِيئَنَّ كَلَوْنِ الرَّمادِ وفي كَلامِ العَرَبِ يُسَمّى هَذا اللَّوْنُ أزْرَقَ، ولا تَزْرَقُّ الجُلُودُ إلّا مِن مُكابَدَةِ الشَّدائِدِ وجُفُوفِ رُطُوبَتِها. وقِيلَ: (زُرْقًا) عِطاشًا والعَطَشُ الشَّدِيدُ يَرُدُّ سَوادَ العَيْنِ إلى البَياضِ، ومِنهُ قَوْلُهم سِنانٌ أزْرَقُ وقَوْلُهُ: ؎فَلَمّا ورَدْنَ المَـاءَ زُرْقًـا جِمامُـهُ أيِ ابْيَضَّ، وذُكِرَتِ الآيَتانِ لِابْنِ عَبّاسٍ فَقالَ: لِيَوْمِ القِيامَةِ حالاتٌ فَحالَةٌ يَكُونُونَ فِيها زُرْقًا وحالَةٌ يَكُونُونَ عُمْيًا. ﴿يَتَخافَتُونَ﴾ يَتَسارُّونَ لِهَوْلِ المَطْلَعِ وشِدَّةِ ذَهابِ أذْهانِهِمْ قَدْ عَزَبَ عَنْهم قَدْرَ المُدَّةَ الَّتِي لَبِثُوا فِيها ﴿إنْ لَبِثْتُمْ﴾ أيْ في دارِ الدُّنْيا أوْ في البَرْزَخِ أوْ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ في الصُّورِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: ووَصْفُ ما لَبِثُوا فِيهِ بِالقَصْرِ لِأنَّها لِما يُعايِنُونَ مِنَ الشَّدائِدِ كانَتْ لَهم في الدُّنْيا أيّامُ سُرُورٍ، وأيّامُ السُّرُورِ قِصارٌ أوْ لِذِهابِها عَنْهم وتَقَضِّيها، والذّاهِبُ وإنْ طالَتْ مُدَّتُهُ قَصِيرٌ بِالِانْتِهاءِ، أوْ لاسْتِطالَتِهِمُ الآخِرَةَ وأنَّها أبَدٌ سَرْمَدٌ يُسْتَقْصَرُ إلَيْها عُمْرُ الدُّنْيا، ويُقالُ لَبِثَ أهْلُها فِيها بِالقِياسِ إلى لُبْثِهِمْ في الآخِرَةِ و(إذْ) مَعْمُولَةٌ لِأعْلَمَ. و﴿أمْثَلُهُمْ﴾ أعْدَلُهم. و﴿طَرِيقَةً﴾ مَنصُوبَةً عَلى التَّمْيِيزِ. ﴿إلّا يَوْمًا﴾ إشارَةٌ لِقِصَرِ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ. و﴿إلّا عَشْرًا﴾ يُحْتَمَلُ عَشْرُ لَيالٍ أوْ عَشَرَةُ أيّامٍ، لِأنَّ المُذَكَّرَ إذا حُذِفَ وأُبْقِيَ عَدَدُهُ قَدْ لا يَأْتِي بِالتّاءِ. حَكى الكِسائِيُّ عَنْ أبِي الجَرّاحِ: صُمْنا مِنَ الشَّهْرِ خَمْسًا، ومِنهُ ما جاءَ في الحَدِيثِ: «ثُمَّ أتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِن شَوّالٍ»، يُرِيدُ سِتَّةَ أيّامٍ وحَسَّنَ الحَذْفَ هُنا كَوْنُ ذَلِكَ فاصِلَةَ رَأْسِ آيَةٍ ذُكِرَ أوَّلًا مُنْتَهى أقَلِّ العَدَدِ وهو العَشْرُ، وذَكَرَ أعْدَلُهم طَرِيقَةً أقَلَّ العَدَدِ، وهو اليَوْمُ الواحِدُ ودَلَّ ظاهِرُ قَوْلِهِ ﴿إلّا يَوْمًا﴾ عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِمْ ﴿عَشْرًا﴾ عَشَرَةُ أيّامٍ. * * * وضَمِيرُ الغائِبِ في ﴿ويَسْألُونَكَ﴾ عائِدٌ عَلى قُرَيْشٍ مُنْكِرِي البَعْثِ أوْ عَلى المُؤْمِنِينَ سَألُوا عَنْ ذَلِكَ، أوْ عَلى رَجُلٍ مِن ثَقِيفٍ وجَماعَةٍ مِن قَوْمِهِ أقْوالٌ ثَلاثَةٌ. والكافُ خِطابٌ لِلرَّسُولِ ﷺ، والظّاهِرُ وُجُودُ السُّؤالِ ويَبْعُدُ قَوْلُ مَن قالَ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ سُؤالٌ بَلِ المَعْنى أنْ يَسْألُوكَ ﴿عَنِ الجِبالِ فَقُلْ﴾ فَضُمِّنَ مَعْنى الشَّرْطِ، فَلِذَلِكَ أُجِيبَ بِالفاءِ ورُوِيَ أنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ عَلى الجِبالِ رِيحًا فَيَدْكُكُها حَتّى تَكُونَ كالعِهْنِ المَنفُوشِ، ثُمَّ يَتَوالى عَلَيْها حَتّى يُعِيدَها كالهَباءِ المُنْبَثِّ فَذَلِكَ هو النَّسْفُ، والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ في ﴿فَيَذَرُها﴾ عَلى الجِبالِ أيْ بَعْدَ النَّسْفِ تَبْقى ﴿قاعًا﴾ أيْ مُسْتَوِيًا مِنَ الأرْضِ مُعْتَدِلًا. وقِيلَ فَيَذْرُ مَقارَّها ومَراكِزَها. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الأرْضِ وإنْ لَمْ يَجْرِ لَها ذِكْرٌ لِدَلالَةِ الجِبالِ عَلَيْها. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ (عِوَجًا) مَيْلًا ﴿ولا أمْتًا﴾ أثَرًا مِثْلَ الشِّراكِ. وعَنْهُ أيْضًا ﴿عِوَجًا﴾ وادِيًا ﴿ولا أمْتًا﴾ رابِيَةً. وعَنْهُ أيْضًا: الأمْتُ الِارْتِفاعُ. وقالَ قَتادَةُ ﴿عِوَجًا﴾ صَدْعًا ﴿ولا أمْتًا﴾ أكَمَةً. وقِيلَ: الأمْتُ الشُّقُوقُ في الأرْضِ. وقِيلَ: غِلَظُ مَكانٍ في الفَضاءِ والجَبَلِ وبَرْقٌ في مَكانٍ حَكاهُ الصُّولِيُّ. وقِيلَ: كانَ الأمْتُ في الآيَةِ العِوَجَ في السَّماءِ تُجاهَ الهَواءِ، والعِوَجُ في الأرْضِ مُخْتَصٌّ بِالأرْضِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتُ: قَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ العِوَجِ والعَوَجِ فَقالُوا: العِوَجُ بِالكَسْرِ في المَعانِي، والعَوَجُ بِالفَتْحِ في الأعْيانِ والأرْضِ، فَكَيْفَ صَحَّ فِيها المَكْسُورُ العَيْنِ ؟ قُلْتُ: اخْتِيارُ هَذا اللَّفْظِ لَهُ مَوْقِعٌ حَسَنٌ بَدِيعٌ في وصْفِ الأرْضِ بِالِاسْتِواءِ والمَلاسَةِ ونَفْيُ الِاعْوِجاجِ عَنْها عَلى أبْلَغِ ما يَكُونُ، وذَلِكَ أنَّكَ لَوْ عَمَدْتَ إلى قِطْعَةِ أرْضٍ فَسَوَّيْتَها وبالَغْتَ في التَّسْوِيَةِ عَلى عَيْنِكَ وعُيُونِ البُصَراءِ مِنَ الفِلاحَةِ، واتَّفَقْتُمْ عَلى أنْ لَمْ يَبْقَ فِيها اعْوِجاجٌ قَطُّ ثُمَّ اسْتَطْلَعْتَ رَأْيَ المُهَنْدِسِ فِيها وأمَرْتَهُ أنْ يَعْرِضَ اسْتِواءَها عَلى المَقايِيسِ الهَنْدَسِيَّةِ لَعَثَرَ فِيها عَلى عِوَجٍ في غَيْرِ مَوْضِعٍ لا يُدْرَكُ بِذَلِكَ بِحاسَّةِ البَصَرِ، ولَكِنْ بِالقِياسِ الهَنْدَسِيِّ فَنَفى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ العِوَجَ الَّذِي دَقَّ (p-٢٨٠)ولَطَفَ عَنِ الإدْراكِ اللَّهُمَّ إلّا بِالقِياسِ الَّذِي يَعْرِفُهُ صاحِبُ التَّقْدِيرِ والهَنْدَسَةِ، وذَلِكَ الِاعْوِجاجُ لَمّا لَمْ يُدْرَكُ إلّا بِالقِياسِ دُونَ الإحْساسِ لَحِقَ بِالمَعانِي فَقِيلَ فِيهِ عِوَجٌ بِالكَسْرَةِ. الأمْتُ النُّتُوُّ اليَسِيرُ، يُقالُ: مَدَّ حَبْلَهُ حَتّى ما فِيهِ أمْتٌ. انْتَهى. * * * (يَوْمَئِذٍ) أيْ يَوْمَ إذْ يَنْسِفُ اللَّهُ الجِبالَ (يَتَّبِعُونَ) أيِ الخَلائِقُ (الدّاعِيَ) داعِيَ اللَّهِ إلى المَحْشَرِ نَحْوَ قَوْلِهِ ﴿مُهْطِعِينَ إلى الدّاعِي﴾ [القمر: ٨] وهو إسْرافِيلُ يَقُومُ عَلى صَخْرَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ يَدْعُو النّاسَ فَيُقْبِلُونَ مِن كُلِّ جِهَةٍ يَضَعُ الصُّوَرَ في فِيهِ، ويَقُولُ: أيَّتُها العِظامُ البالِيَةُ والجُلُودُ المُتَمَزِّقَةُ واللُّحُومُ المُتَفَرِّقَةُ هَلُمَّ إلى العَرْضِ عَلى الرَّحْمَنِ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: يُجْمَعُونَ في ظُلْمَةٍ قَدْ طُوِيَتِ السَّماءُ وانْتَثَرَتِ النُّجُومُ فَيُنادِي مُنادٍ فَيَمُوتُونَ مَوْتَةً. وقالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى ﴿الدّاعِيَ﴾ هُنا الرَّسُولُ ﷺ الَّذِي كانَ يَدْعُوهم إلى اللَّهِ فَيَعُوجُونَ عَلى الصِّراطِ يَمِينًا وشِمالًا ويَمِيلُونَ عَنْهُ مَيْلًا عَظِيمًا، فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُهُمُ اتِّباعُهُ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (لَهُ) عائِدٌ عَلى ﴿الدّاعِيَ﴾ نَفى عَنْهُ العِوَجَ أيْ ﴿لا عِوَجَ﴾ لَهم عَنْهُ بَلْ يَأْتُونَ مُقْبِلِينَ إلَيْهِ مُتَّبِعِينَ لِصَوْتِهِ مِن غَيْرِ انْحِرافٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ لا يُعْوَجُّ لَهُ مَدْعُوٌّ بَلْ يَسْتَوُونَ إلَيْهِ. انْتَهى. * * * وقِيلَ ﴿لا عِوَجَ لَهُ﴾ في مَوْضِعِ وصْفٍ لِمَنعُوتٍ مَحْذُوفٍ أيِ اتِّباعًا ﴿لا عِوَجَ لَهُ﴾ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ في (لَهُ) عائِدًا عَلى ذَلِكَ المَصْدَرِ المَحْذُوفِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ الإخْبارَ أيْ لا شَكَّ فِيهِ، ولا يُخالِفُ وُجُودَهُ خَبَرُهُ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ لا مَحِيدَ لِأحَدٍ عَنِ اتِّباعِهِ، والمَشْيِ نَحْوَ صَوْتِهِ والخُشُوعُ التَّطامُنُ والتَّواضُعُ وهو في الأصْواتِ اسْتِعارَةٌ بِمَعْنى الخَفاءِ. والِاسْتِسْرارُ لِلرَّحْمَنِ أيْ لِهَيْبَةِ الرَّحْمَنِ وهو مُطَّلِعٌ قُدْرَتُهُ. وقِيلَ هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ وخَشَعَ أهْلُ الأصْواتِ والهَمْسُ الصَّوْتُ الخَفِيُّ الخافِتُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالهَمْسِ المَسْمُوعِ تَخافُتُهم بَيْنَهم وكَلامُهُمُ السِّرُّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ صَوْتَ الأقْدامِ وأنَّ أصْواتَ النُّطْقِ ساكِنَةٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿إلّا هَمْسًا﴾ وهو الرَّكْزُ الخَفِيُّ ومِنهُ الحُرُوفُ المَهْمُوسَةُ. وقِيلَ: هو مِن هَمْسِ الإبِلِ وهو صَوْتُ أخْفافِها إذا مَشَتْ، أيْ لا يُسْمَعُ إلّا خَفْقُ الأقْدامِ ونَقْلُها إلى المَحْشَرِ. انْتَهى. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةَ وابْنِ جُبَيْرٍ: الهَمْسُ وطْءُ الأقْدامِ، واخْتارَهُ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا تَحْرِيكُ الشِّفاهِ بِغَيْرِ نُطْقٍ، وعَنْ مُجاهِدٍ: الكَلامُ الخَفِيُّ ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ أُبَيٍّ (فَلا يَنْطِقُونَ إلّا هَمْسًا) وعَنْ أبِي عُبَيْدَةَ الصَّوْتُ الخَفِيُّ يَوْمَئِذٍ بَدَلٌ مِن ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ﴾ أوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ يَوْمَ إذْ (يَتَّبِعُونَ) ويَكُونُ مَنصُوبًا بِلا تَنْفَعُ و(مَن) مَفْعُولٌ بِقَوْلِهِ ﴿لا تَنْفَعُ﴾ و(لَهُ) مَعْناهُ لِأجْلِهِ وكَذا في ورَضِيَ لَهُ أيْ لِأجْلِهِ، ويَكُونُ مَن لِلْمَشْفُوعِ لَهُ أوْ بَدَلٌ مِنَ الشَّفاعَةِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ إلّا شَفاعَةَ مَن أذِنَ لَهُ أوْ مَنصُوبٌ عَلى الِاسْتِثْناءِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ، أوِ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ فَنُصِبَ عَلى لُغَةِ الحِجازِ، ورُفِعَ عَلى لُغَةِ تَمِيمٍ، ويَكُونُ (مَن) في هَذِهِ الأوْجُهِ لِلشّافِعِ والقَوْلُ المَرْضِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ﴾ عائِدٌ عَلى الخَلْقِ المَحْشُورِينَ وهم مُتَّبِعُو الدّاعِي. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى المَلائِكَةِ. وقِيلَ: عَلى النّاسِ لا بِقَيْدِ الحَشْرِ والِاتِّباعِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ في آيَةِ الكُرْسِيِّ في البَقَرَةِ، والضَّمِيرُ في (بِهِ) عائِدٌ عَلى (ما) أيْ ﴿ولا يُحِيطُونَ﴾ بِمَعْلُوماتِهِ (عِلْمًا) والظّاهِرُ عُمُومُ (الوُجُوهِ) أيْ وُجُوهِ الخَلائِقِ، وخَصَّ (الوُجُوهَ) لِأنَّ آثارَ الذُّلِّ إنَّما تَظْهَرُ في أوَّلِ (الوُجُوهِ) . وقالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: المُرادُ سُجُودُ النّاسِ عَلى الوُجُوهِ والآرابِ السَّبْعَةِ، فَإنْ كانَ رَوى أنَّ هَذا يَكُونُ يَوْمَ القِيامَةِ فَتَكُونُ الآيَةُ إخْبارًا عَنْهُ، واسْتَقامَ المَعْنى وإنْ كانَ أرادَ في الدُّنْيا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُلائِمٍ لِلْآياتِ الَّتِي قَبْلَها وبَعْدَها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المُرادُ بِالوُجُودِ وُجُوهُ العُصاةِ وأنَّهم إذا عايَنُوا يَوْمَ القِيامَةِ الخَيْبَةَ والشِّقْوَةَ وسُوءَ الحِسابِ صارَتْ وُجُوهُهم عانِيَةً أيْ ذَلِيلَةً خاضِعَةً مِثْلَ وُجُوهِ العُناةِ وهُمُ الأسارى ونَحْوُهُ (p-٢٨١)﴿فَلَمّا رَأوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الملك: ٢٧] ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٤] و(القَيُّومُ) تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ في البَقَرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب