الباحث القرآني

﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ﴾ الآيَةَ. قِيلَ: نَزَلَتْ في الَّذِينَ غَيَّرُوا صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبَدَّلُوا نَعْتَهُ، فَجَعَلُوهُ آدَمَ سَبْطًا طَوِيلًا، وكانَ في كِتابِهِمْ عَلى الصِّفَةِ الَّتِي هو بِها، فَقالُوا لِأصْحابِهِمْ وأتْباعِهِمُ: انْظُرُوا إلى صِفَةِ هَذا النَّبِيِّ الَّذِي يُبْعَثُ في آخِرِ الزَّمانِ، لَيْسَ يُشْبِهُ نَعْتَ هَذا، وكانَتِ الأحْبارُ مِنَ اليَهُودِ يَخافُونَ أنْ يَذْهَبَ مَأْكَلَتُهم بِإبْقاءِ صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ عَلى حالِها، فَلِذَلِكَ غَيَّرُوها. وقِيلَ: خافَ مُلُوكُهم عَلى مُلْكِهِمْ، إذا آمَنَ النّاسُ كُلُّهم، فَجاءُوا إلى أحْبارِ اليَهُودِ فَجَعَلُوا لَهم عَلَيْهِمْ وضائِعَ ومَآكِلَ، وكَشَطُوها مِنَ التَّوْراةِ، وكَتَبُوا بِأيْدِيهِمْ كِتابًا، وحَلَّلُوا فِيهِ ما اخْتارُوا، وحَرَّمُوا ما اخْتارُوا. وقِيلَ: نَزَلَتْ في الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِنَبِيٍّ، ولَمْ يَتَّبِعُوا كِتابًا، بَلْ كَتَبُوا بِأيْدِيهِمْ كِتابًا، وحَلَّلُوا فِيهِ ما اخْتارُوا، وحَرَّمُوا ما اخْتارُوا، وقالُوا: هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ. وقالَ أبُو مالِكٍ: نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَرْحٍ، كاتِبِ النَّبِيِّ ﷺ كانَ يُغَيِّرُهُ فارْتَدَّ. وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ويْلٍ عِنْدَ الكَلامِ عَلى المُفْرَداتِ، وذُكِرَ عَنْ عُثْمانَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أنَّهُ جَبَلٌ مِن نارِ جَهَنَّمَ، وذُكِرَ أنَّ أبا سَعِيدٍ رَوى: أنَّهُ وادٍ في جَهَنَّمَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، يَهْوِي فِيهِ الهاوِي، وذُكِرَ أنَّ سُفْيانَ وعَطاءَ بْنَ يَسارٍ رَوَيا أنَّهُ وادٍ يَجْرِي بِفِناءِ جَهَنَّمَ مِن صَدِيدِ أهْلِ النّارِ. وحَكى الزَّهْراوِيُّ وجَماعَةٌ: أنَّهُ بابٌ مِن أبْوابِ جَهَنَّمَ. (p-٢٧٧)وقِيلَ: هو صِهْرِيجٌ في جَهَنَّمَ. وقِيلَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، إنَّهُ وادٍ في جَهَنَّمَ، لَوْ سُجِّرَتْ فِيهِ جِبالُ الدُّنْيا لانْماعَتْ مِن حَرِّهِ، ولَوْ صَحَّ في تَفْسِيرِ الوَيْلِ شَيْءٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ. وقَدْ تَكَلَّمَتِ العَرَبُ في نَظْمِها ونَثْرِها بِلَفْظَةِ الوَيْلِ قَبْلَ أنْ يَجِيءَ القُرْآنُ، ولَمْ تُطْلِقْهُ عَلى شَيْءٍ مِن هَذِهِ التَّفاسِيرِ، وإنَّما مَدْلُولُهُ ما فَسَّرَهُ أهْلُ اللُّغَةِ، وهو نَكِرَةٌ فِيها مَعْنى الدُّعاءِ، فَلِذَلِكَ جازَ الِابْتِداءُ بِها، إذِ الدُّعاءُ أحَدُ المُسَوِّغاتِ لِجَوازِ الِابْتِداءِ بِالنَّكِرَةِ، وهي تُقارِبُ ثَلاثِينَ مُسَوِّغًا، وذَكَرْناها في كِتابِ مَنهَجِ السّالِكِ مِن تَأْلِيفِنا. والكِتابَةُ مَعْرُوفَةٌ، ويُقالُ: أوَّلُ مَن كَتَبَ بِالقَلَمِ إدْرِيسُ، وقِيلَ: آدَمُ. والكِتابُ هُنا قِيلَ: كَتَبُوا أشْياءَ اخْتَلَقُوها، وأحْكامًا بَدَّلُوها مِنَ التَّوْراةِ حَتّى اسْتَقَرَّ حُكْمُها بَيْنَهم. وقِيلَ: كَتَبُوا في التَّوْراةِ ما يَدُلُّ عَلى خِلافِ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبَثُّوها في سُفَهائِهِمْ، وفي العَرَبِ، وأخْفَوْا تِلْكَ النُّسَخَ الَّتِي كانَتْ عِنْدَهم بِغَيْرِ تَبْدِيلٍ، وصارَ سُفَهاؤُهم، ومَن يَأْتِيهِمْ مِن مُشْرِكِي العَرَبِ، إذا سَألُوهم عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَقُولُونَ: ما هو هَذا المَوْصُوفَ عِنْدَنا في التَّوْراةِ المُبْدَلَةِ المُغَيَّرَةِ، ويَقْرَءُونَها عَلَيْهِمْ ويَقُولُونَ لَهم: هَذِهِ التَّوْراةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ مِن عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. بِأيْدِيهِمْ: تَأْكِيدٌ يَرْفَعُ تَوَهُّمَ المَجازِ؛ لِأنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ يَكْتُبُ، ظاهِرُهُ أنَّهُ يُباشِرُ الكِتابَةَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ عَلى طَرِيقَةِ المَجازِ، ويَكُونَ آمِرًا بِذَلِكَ، كَما جاءَ في الحَدِيثِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَتَبَ، وإنَّما المَعْنى: أمَرَ بِالكِتابَةِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أخْبَرَ أنَّهُ النَّبِيُّ الأُمِّيُّ، وهو الَّذِي لا يَكْتُبُ ولا يَقْرَأُ في كِتابٍ. وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وما كُنْتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لارْتابَ المُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٨] . ونَظِيرُ هَذا التَّأْكِيدِ ﴿يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] (ويَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ)، وقَوْلُهُ: ؎نَظَرْتَ فَلَمْ تَنْظُرْ بِعَيْنَيْكَ مَنظَرًا فَهَذِهِ كُلُّها أُتِيَ بِها لِتَأْكِيدِ ما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ، ولِرَفْعِ المَجازِ الَّذِي كانَ يَحْتَمِلُهُ. وفي هَذا التَّأْكِيدِ أيْضًا تَقْبِيحٌ لِفِعْلِهِمْ، إذْ لَمْ يَكْتَفُوا بِأنْ يَأْمُرُوا بِالِاخْتِلاقِ والتَّغْيِيرِ، حَتّى كانُوا هُمُ الَّذِينَ تَعاطَوْا ذَلِكَ بِأنْفُسِهِمْ، واجْتَرَحُوهُ بِأيْدِيهِمْ. وقالَ ابْنُ السَّرّاحِ: ذِكْرُ الأيْدِي كِنايَةٌ عَنْ أنَّهُمُ اخْتَلَقُوا ذَلِكَ مِن تِلْقائِهِمْ، ومِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ، مِن غَيْرِ أنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ. انْتَهى كَلامُهُ. ولا يَدُلُّ عَلى ما ذُكِرَ؛ لِأنَّ مُباشَرَةَ الشَّيْءِ بِاليَدِ لا تَقْتَضِي الِاخْتِلاقَ، ولا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ حالٍ مَحْذُوفَةٍ يَدُلُّ عَلَيْها ما بَعْدَها، التَّقْدِيرُ: يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ مُحَرَّفًا، أوْ نَحْوَهُ مِمّا يَدُلُّ عَلى هَذا المَعْنى لِقَوْلِهِ بَعْدُ: ﴿ثُمَّ يَقُولُونَ هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾، إذْ لا إنْكارَ عَلى مَن يُباشِرُ الكِتابَ بِيَدِهِ إلّا إذا وضَعَهُ غَيْرَ مَوْضِعِهِ، فَلِذَلِكَ قَدَّرْنا هَذِهِ الحالَ. ﴿ثُمَّ يَقُولُونَ﴾: أيْ لِأتْباعِهِمُ الأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إلّا ما قُرِئَ لَهم، ومَعْمُولُ القَوْلِ هَذِهِ الجُمْلَةُ الَّتِي هي: ﴿هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا﴾، عِلَّةٌ في القَوْلِ، وهي لامُ كَيْ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها قَبْلُ. وهي مَكْسُورَةٌ لِأنَّها حَرْفُ جَرٍّ، فَيَتَعَلَّقُ بِـ (يَقُولُونَ) . وقَدْ أبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِالِاسْتِقْرارِ، وبَنُو العَنْبَرِ يَفْتَحُونَ لامَ كَيْ، قالَهُ مَكِّيٌّ في إعْرابِ القُرْآنِ لَهُ. ﴿بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾، بِهِ: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِيَشْتَرُوا، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الَّذِي أشارُوا إلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿هَذا مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾، وهو المَكْتُوبُ المُحَرَّفُ. وتَقَدَّمَ القَوْلُ في الِاشْتِراءِ في قَوْلِهِ: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾ [البقرة: ١٦] . والثَّمَنُ هُنا: هو عَرَضُ الدُّنْيا، أوِ الرِّشا والمَآكِلُ الَّتِي كانَتْ لَهم، ووُصِفَ بِالقِلَّةِ لِكَوْنِهِ فانِيًا، أوْ حَرامًا، أوْ حَقِيرًا، أوْ لا يُوازِنُهُ شَيْءٌ لا ثَمَنٌ، ولا مُثَمَّنٌ. وقَدْ جَمَعُوا في هَذا الفِعْلِ أنَّهم ضَلُّوا وأضَلُّوا وكَذَبُوا عَلى اللَّهِ، وضَمُّوا إلى ذَلِكَ حُبَّ الدُّنْيا. وهَذا الوَعِيدُ مُرَتَّبٌ عَلى كِتابَةِ الكِتابِ المُحَرَّفِ، وعَلى إسْنادِهِ إلى اللَّهِ تَعالى. وكِلاهُما مُنْكَرٌ، والجَمْعُ بَيْنَهُما أنْكَرُ. وهَذا يَدُلُّ عَلى تَحْرِيمِ أخْذِ المالِ عَلى الباطِلِ، وإنْ كانَ بِرِضا المُعْطِي. ﴿فَوَيْلٌ لَهم مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ ووَيْلٌ لَهم مِمّا يَكْسِبُونَ﴾: كِتابَتُهم مُقَدِّمَةٌ، نَتِيجَتُها كَسْبُ المالِ الحَرامِ، فَلِذَلِكَ كُرِّرَ الوَيْلُ في كُلِّ واحِدٍ مِنهُما، لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ الوَعِيدَ هو عَلى المَجْمُوعِ فَقَطْ. فَكُلُّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ (p-٢٧٨)مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِالهَلاكِ. وظاهِرُ الكَسْبِ هو ما أخَذُوهُ عَلى تَحْرِيفِهِمُ الكِتابَ مِنَ الحَرامِ، وهو الألْيَقُ بِمَساقِ الآيَةِ. وقِيلَ: المُرادُ بِما يَكْسِبُونَ الأعْمالُ السَّيِّئَةُ، فَيُحْتاجُ في كِلا القَوْلَيْنِ إلى اخْتِصاصٍ؛ لِأنَّ ما يَكْسِبُونَ عامٌّ، والأوْلى أنْ يُقَيَّدَ بِما ذَكَرْناهُ. ﴿وقالُوا لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ: أنَّهم زَعَمُوا أنَّهم وجَدُوا في التَّوْراةِ مَكْتُوبًا أنَّ ما بَيْنَ طَرَفَيْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةُ أرْبَعِينَ سَنَةً، إلى أنْ يَنْتَهُوا إلى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ، قالُوا: إنَّما نُعَذَّبُ حَتّى نَنْتَهِيَ إلى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ، فَتَذْهَبَ جَهَنَّمَ وتَهْلِكَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «اليَهُودُ مِن أهْلِ النّارِ ”قالُوا: نَحْنُ ثُمَّ تَخْلُفُونَنا أنْتُمْ، فَقالَ:“ كَذَبْتُمْ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أنّا لا نَخْلُفُكم» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. ورُوِيَ عَنْهم أنَّهم يُعَذَّبُونَ سَبْعَةَ أيّامٍ، عَدَدَ أيّامِ الدُّنْيا، سَبْعَةَ آلافٍ لِكُلِّ ألْفٍ يَوْمٌ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ العَذابُ. ورُوِيَ عَنْهم أنَّهم يُعَذَّبُونَ أرْبَعِينَ يَوْمًا، عَدَدَ عِبادَتِهِمُ العِجْلَ، وقِيلَ: أرْبَعِينَ يَوْمًا تَحِلَّةَ القَسَمِ. وقِيلَ: أرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يُنادى: أخْرِجُوا كُلَّ مَخْتُونٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، والضَّمِيرُ في: وقالُوا، عائِدٌ عَلى الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ. جَمَعُوا إلى تَبْدِيلِ كِتابِ اللَّهِ وتَحْرِيفِهِ، وأخْذِهِمْ بِهِ المالَ الحَرامَ، وكَذِبِهِمْ عَلى أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ، الإخْبارَ بِالكَذِبِ البَحْتِ عَنْ مُدَّةِ إقامَتِهِمْ في النّارِ. وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ المَسَّ هو الإصابَةُ، أيْ لَنْ تُصِيبَنا النّارُ إلّا أيّامًا، اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ، أيْ لَنْ تَمَسَّنا النّارُ أبَدًا إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ العَدَدِ في الأيّامِ بِأنَّها سَبْعَةٌ أوْ أرْبَعُونَ. وقِيلَ: أرادَ بِقَوْلِهِ: مَعْدُودَةً، أيْ قَلائِلَ يَحْصُرُها العَدُّ، لِأنَّها مُعَيَّنَةُ العَدِّ في نَفْسِها. ثُمَّ أخَذَ في رَدِّ هَذِهِ الدَّعْوى والأخْبارِ الكاذِبَةِ فَقالَ: ﴿قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾ أيْ مِثْلَ هَذا الإخْبارِ، الجَزْمُ لا يَكُونُ إلّا مِمَّنِ اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا بِذَلِكَ، وأنْتُمْ لَمْ تَتَّخِذُوا بِهِ عَهْدًا، فَهو كَذِبٌ وافْتِراءٌ. وأمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ بِأنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذا الِاسْتِفْهامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلى إنْكارِ ما قالُوهُ. وهَمْزَةُ الوَصْلِ مَنِ اتَّخَذَ انْحَذَفَتْ لِأجْلِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، ومَن سَهَّلَ بِنَقْلِ حَرَكَتِها عَلى اللّامِ وحَذْفِها قالَ: قُلَ اتَّخَذْتُمْ، بِفَتْحِ اللّامِ؛ لِأنَّ الهَمْزَةَ كانَتْ مَفْتُوحَةً. وعِنْدَ اللَّهِ: ظَرْفٌ مَنصُوبٌ بِاتَّخَذْتُمْ، وهي هُنا تَتَعَدّى لِواحِدٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، فَيَكُونُ الثّانِي الظَّرْفَ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، والعَهْدُ هُنا: المِيثاقُ والمَوْعِدُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ مَعْناهُ: هَلْ قُلْتُمْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وآمَنتُمْ وأطَعْتُمْ فَتُدَلُّونَ بِذَلِكَ وتَعْلَمُونَ خُرُوجَكم مِنَ النّارِ ؟ فَعَلى التَّأْوِيلِ الأوَّلِ المَعْنى: هَلْ عاهَدَكُمُ اللَّهُ عَلى هَذا الَّذِي تَدَّعُونَ ؟ وعَلى الثّانِي: هَلْ أسْلَفْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ أعْمالًا تُوجِبُ ما تَدَّعُونَ ؟ . ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أمْ تَقُولُونَ عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾: هَذِهِ الجُمْلَةُ جَوابُ الِاسْتِفْهامِ الَّذِي ضُمِّنَ مَعْنى الشَّرْطِ، كَقَوْلِكَ: أيَقْصِدُنا زَيْدٌ ؟ فَلَنْ نُجِيبَ مِن بِرِّنا. وقَدْ تَقَدَّمَ الخِلافُ في جَوابِ هَذِهِ الأشْياءِ، هَلْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّضْمِينِ أيْ يُضَمَّنُ الِاسْتِفْهامُ والتَّمَنِّي والأمْرُ والنَّهْيُ إلى سائِرِ بِاقِيها مَعْنى الشَّرْطِ ؟ أمْ يَكُونُ الشَّرْطُ مَحْذُوفًا بَعْدَها ؟ ولِذَلِكَ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَنْ يُخْلِفَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إنِ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَهُ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، كَأنَّهُ اخْتارَ القَوْلَ الثّانِيَ مِن أنَّ الشَّرْطَ مُقَدَّرٌ بَعْدَ هَذِهِ الأشْياءِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾، اعْتِراضٌ في أثْناءِ الكَلامِ، كَأنَّهُ يُرِيدُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أمْ تَقُولُونَ﴾ مُعادِلٌ لِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا﴾، فَصارَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ بَيْنَ هاتَيْنِ اللَّتَيْنِ وقَعَ بَيْنَهُما التَّعادُلُ جُمْلَةً اعْتِراضِيَّةً، فَلا يَكُونُ لَها مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ، وكَأنَّهُ يَقُولُ: أيُّ هَذَيْنِ واقِعٌ ؟ أتِّخاذُكُمُ العَهْدَ عِنْدَ اللَّهِ ؟ أمْ قَوْلُكم عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ؟ وأخْرَجَ ذَلِكَ مُخْرَجَ المُتَرَدَّدِ في تَعْيِينِهِ عَلى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، وإنْ كانَ قَدْ عَلِمَ وُقُوعَ أحَدِهِما، وهو قَوْلُهم عَلى اللَّهِ ما لا يَعْلَمُونَ، ونَظِيرُهُ: ﴿وإنّا أوْ إيّاكم لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [سبإ: ٢٤] . وقَدْ عُلِمَ أيُّهُما عَلى هُدًى، وأيُّهُما هو في ضَلالٍ. وقِيلَ: أمْ هُنا مُنْقَطِعَةٌ فَيَتَقَدَّرُ بِبَلْ والهَمْزَةِ، كَأنَّهُ قالَ: بَلْ أتَقُولُونَ عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ؟ وهو اسْتِفْهامُ إنْكارٍ؛ لِأنَّهُ قَدْ وقَعَ مِنهم قَوْلُهم: عَلى اللَّهِ ما لا يَعْلَمُونَ، (p-٢٧٩)فَأنْكَرُوا عَلَيْهِمْ صُدُورَ هَذا مِنهم. وفي قَوْلِهِ: ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ وعْدَهُ. واخْتُلِفَ في الوَعِيدِ، فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّهُ لا يُخْلِفُهُ، كَما لا يُخْلِفُ وعْدَهُ. وذَهَبَ قَوْمٌ إلى جَوازِ إخْلافِ إيعادِهِ، وقالُوا: خِلافُ الوَعْدِ قَبِيحٌ وإخْلافُ الوَعِيدِ حَسَنٌ، وهي مَسْألَةٌ يُبْحَثُ فِيها في أُصُولِ الدِّينِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب