﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلصَّـٰبِـِٔینَ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾ [البقرة ٦٢]
﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والنَّصارى والصّابِئِينَ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحًا فَلَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكم ورَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكم بِقُوَّةٍ واذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٦٣] ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [البقرة: ٦٤] ﴿ولَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكم في السَّبْتِ فَقُلْنا لَهم كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] ﴿فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وما خَلْفَها ومَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٦٦] .
هادَ: ألِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ واوٍ، والمُضارِعُ يَهُودُ، ومَعْناهُ: تابَ، أوْ عَنْ ياءٍ والمُضارِعُ يَهِيدُ: إذا تَحَرَّكَ. والأوْلى الأوَّلُ لِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿إنّا هُدْنا إلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] . وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلى لَفْظِةِ اليَهُودِ حَيْثُ انْتَهَيْنا إلَيْها في القُرْآنِ، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. والنَّصارى: جَمْعُ نَصْرانٍ ونَصْرانَةٍ، مِثْلُ نَدْمانٍ ونَدْمانَةٍ. قالَ سِيبَوَيْهِ وأنْشَدَ:
وكِلْتاهُما خَرَّتْ وأُسْجِدَ رَأْسُها كَما سَجَدَتْ نَصْرانَةٌ لَمْ تَحْنَفِ
وأنْشَدَ الطَّبَرِيُّ:
يَظَلُّ إذا دارَ العَشِيُّ مُحَنَّفًا ويَضْحى لَدَيْهِ وهو نَصْرانُ شامِسُ
مَنَعَ (نَصْرانًا) الصَّرْفَ ضَرُورَةً، وهو مَصْرُوفٌ؛ لِأنَّ مُؤَنَّثَهُ عَلى نَصْرانَةٍ. قالَ سِيبَوَيْهِ: إلّا أنَّهُ لا يُسْتَعْمَلُ فِي الكَلامِ إلّا بِياءِ النَّسَبِ، فَيَكُونُ: كَلِحْيانٍ ولِحْيانِيٍّ وكَأحْمَرِيٍّ. وقالَ الخَلِيلُ: واحِدُ النَّصارى نَصْرِيٌّ، كَمَهْرِيٍّ ومَهارى. قِيلَ: وهو مَنسُوبٌ إلى نَصْرَةَ، قَرْيَةٍ نَزَلَ بِها عِيسى. وقالَ قَتادَةُ: نُسِبُوا إلى ناصِرَةَ، وهي قَرْيَةٌ نَزَلُوها. فَعَلى هَذا يَكُونُ مِن تَغْيِيراتِ النَّسَبِ.
والصّابِئِينَ: الصّائِبُونَ، قِيلَ: الخارِجُونَ مِن دِينٍ مَشْهُورٍ إلى غَيْرِهِ، مِن صُبُوءِ السِّنِّ والنَّجْمِ، يُقالُ: صَبَأتِ النُّجُومُ: طَلَعَتْ، وصَبَأتْ ثَنِيَّةُ الغُلامِ: خَرَجَتْ، وصَبَأتْ عَلى القَوْمِ بِمَعْنى: طَرَأتْ، قالَ:
إذا صَبَأتْ هَوادِي الخَيْلِ عَنّا حَسِبْتُ بِنَحْرِها شَرْقَ البَعِيرِ
ومَن قَرَأ بِغَيْرِ هَمْزٍ فَسَنَتَكَلَّمُ عَلى قِراءَتِهِ. قالَ الحَسَنُ والسُّدِّيُّ: هم بَيْنَ اليَهُودِ والمَجُوسِ. وقالَ قَتادَةُ والكَلْبِيُّ: هم بَيْنَ اليَهُودِ والنَّصارىِ، يَحْلِقُونَ أوْساطَ رُءُوسِهِمْ ويَجُبُّونَ مَذاكِيرَهم. وقالَ الخَلِيلُ: هم أشْباهُ النَّصارى، قِبْلَتُهم مَهَبُّ الجَنُوبِ، يُقِرُّونَ بِنُوحٍ، ويَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، ويَعْبُدُونَ المَلائِكَةَ. وقالَ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ يَحْيى: لا عَيْنَ مِنهم ولا أثَرَ. وقالَ المَغْرِبِيُّ، عَنِ الصّابِي صاحِبِ الرَّسائِلِ: هم قَرِيبٌ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، يَقُولُونَ بِتَدْبِيرِ الكَواكِبِ. وقالَ مُجاهِدٌ: هم قَوْمٌ لا دِينَ لَهم، لَيْسُوا بِيَهُودَ ولا نَصارى. قالَ ابْنُ أبِي نَجِيحٍ: قَوْمٌ تَرَكَّبَ دِينُهم بَيْنَ اليَهُودِيَّةِ والمَجُوسِيَّةِ، لا تُؤْكَلُ ذَبائِحُهم. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَوْمٌ يَقُولُونَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، ولَيْسَ لَهم عَمَلٌ ولا كِتابٌ، كانُوا بِالجَزِيرَةِ والمُوصِلِ. ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ وقَتادَةَ أيْضًا أنَّهم قَوْمٌ يَعْبُدُونَ المَلائِكَةَ، ويُصَلُّونَ الخَمْسَ لِلْقِبْلَةِ، ويَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، رَآهم زِيادُ بْنُ أبِي سُفْيانَ، فَأرادَ وضْعَ الجِزْيَةِ عَنْهم حَتّى عَرَفَ أنَّهم يَعْبُدُونَ المَلائِكَةَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هم قَوْمٌ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى، لا تَحِلُّ مُناكَحَتُهم ولا تُؤْكَلُ ذَبائِحُهم. وقالَ أبُو العالِيَةِ: قَوْمٌ مِن أهْلِ الكِتابِ، ذَبائِحُهم كَذَبائِحِ أهْلِ الكِتابِ، يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، ويُخالِفُونَهم في بَقِيَّةِ أفْعالِهِمْ. وقالَ الحَسَنُ والحَكَمُ: قَوْمٌ كالمَجُوسِ. وقِيلَ: قَوْمٌ مُوَحِّدُونَ يَعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ، وأنَّها فَعّالَةٌ.
وأفْتى أبُو سَعِيدٍ الإصْطَخَرِيُّ القادِرَ بِاللَّهِ حِينَ سَألَهُ عَنْهم بِكُفْرِهِمْ. وقِيلَ: قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الكَواكِبَ، ثُمَّ لَهم قَوْلانِ، أحَدُهُما: أنَّ خالِقَ العالَمِ هو اللَّهُ، إلّا أنَّهُ أمَرَ بِتَعْظِيمِ الكَواكِبِ واتِّخاذِها قِبْلَةً لِلصَّلاةِ والتَّعْظِيمِ والدُّعاءِ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى خَلَقَ الأفْلاكَ والكَواكِبَ، ثُمَّ إنَّ الكَواكِبَ هي المُدَبِّرَةُ لِما في هَذا العالَمِ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ والصِّحَّةِ والمَرَضِ، فَيَجِبُ عَلى البَشَرِ تَعْظِيمُها لِأنَّها هي الآلِهَةُ المُدَبِّرَةُ لِهَذا العالَمِ، ثُمَّ إنَّها تَعْبُدُ اللَّهَ، وهَذا المَذْهَبُ هو المَنسُوبُ لِلَّذِينِ جاءَهم إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ رادًّا عَلَيْهِمْ.
الأجْرُ: مَصْدَرُ أجَرَ يَأْجُرُ، ويُطْلَقُ عَلى المَأْجُورِ بِهِ، وهو الثَّوابُ. والأُجُورُ: جَبْرُ كَسْرٍ مُعْوَجٍّ، والإجّارُ: السَّطْحُ، قالَ الشّاعِرُ:
تَبْدُو هَوادِيها مِنَ الغُبارِ كالجَيْشِ ∗∗∗ الصَّفِّ عَلى الإجّارِ
الرَّفْعُ: مَعْرُوفٌ، وهو أعْلى الشَّيْءِ، والفِعْلُ مِنهُ رَفَعَ يَرْفَعُ. الطُّورُ: اسْمٌ لِكُلِّ جَبَلٍ، قالَ مُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ وقَتادَةُ. أوِ الجَبَلُ المُنْبِتُ دُونَ غَيْرِ المُنْبِتِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ، أوِ الجَبَلُ الَّذِي ناجى اللَّهَ عَلَيْهِ مُوسى - عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقالَ العَجّاجُ:
دانِي جَناحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرْ تَقَضّى البازِيُّ إذا البازِيُّ كَسَرْ
وقالَ آخَرُ:
وإنْ تَرَ سَلْمى الجِنُّ يَسْتَأْنِسُوا بِها ∗∗∗ وإنْ يَرَ سَلْمى صاحِبُ الطُّورِ يَنْزِلِ
وأصْلُهُ النّاحِيَةُ، ومِنهُ طَوارُ الدّارِ. وقالَ مُجاهِدٌ: هو جِنْسُ الجَبَلِ بِالسُّرْيانِيَّةِ.
القُوَّةُ: الشِّدَّةُ، وهي مَصْدَرُ قَوِيَ يَقْوى، وطَيِّئٌ تَقُولُ: قَوى، يَفْتَحُونَ العَيْنَ والياءُ مَفْتُوحَةٌ فَتَنْقَلِبُ ألِفًا، يَقُولُونَ في بَقِيَ: بَقى، وفي زَهِيَ: زَها، وقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ في لُغَةِ غَيْرِهِمْ. قالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ التَّمِيمِيُّ:
زَها الشَّوْقُ حَتّى ظَلَّ إنْسانُ عَيْنِهِ ∗∗∗ يَفِيضُ بِمَغْمُورٍ مِنَ الدَّمْعِ مُتْأفِ
وهَذِهِ المادَّةُ قَلِيلَةٌ، وهي أنْ تَكُونَ العَيْنُ واللّامُ واوَيْنِ. التَّوَلِّي: الإعْراضُ بَعْدَ الإقْبالِ. لَوْلا: لِلتَّحْضِيضِ بِمَنزِلَةِ هَلّا، فَيَلِيها الفِعْلُ ظاهِرًا أوْ مُضْمَرًا، وحَرْفُ امْتِناعٍ لِوُجُودٍ فَيَكُونُ لَها جَوابٌ، ويَجِيءُ بَعْدَها اسْمٌ مَرْفُوعٌ بِها عِنْدَ الفَرّاءِ، وبِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ عِنْدَ الكِسائِيِّ، وبِالِابْتِداءِ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ، وعِنْدَ بَعْضِهِمْ فِيهِ تَفْصِيلٌ ذَكَرْناهُ في (مَنهَجِ السّالِكِ) مِن تَأْلِيفِنا، ولَيْسَتْ جُمْلَةُ الجَوابِ الخَبَرَ، خِلافًا لِأبِي الحُسَيْنِ بْنِ الطَّراوَةِ، وإنْ وقَعَ بَعْدَها مُضْمَرٌ فَيَكُونُ ضَمِيرَ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، ويَجُوزُ أنْ يَقَعَ بَعْدَها ضَمِيرُ الجَرِّ فَتَقُولُ: لَوْلانِي ولَوْلاكَ ولَوْلاهُ، إلى آخِرِها، وهو في مَوْضِعِ جَرٍّ بِلَوْلا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وفي مَوْضِعِ رَفْعٍ عِنْدَ الأخْفَشِ، اسْتُعِيرَ ضَمِيرُ الجَرِّ لِلرَّفْعِ، كَما اسْتَعارُوا ضَمِيرَ الرَّفْعِ لِلْجَرِّ في قَوْلِهِمْ: ما أنا كانَتْ، ولا أنْتَ كانا. والتَّرْجِيحُ بَيْنَ المَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ في النَّحْوِ.
* * *ومَن ذَهَبَ إلى أنَّ (لَوْلا) نافِيَةٌ، وجَعَلَ مِن ذَلِكَ
﴿فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ﴾ [يونس: ٩٨]، فَبَعِيدٌ قَوْلُهُ عَنِ الصَّوابِ.
السَّبْتَ: اسْمٌ لِيَوْمٍ مَعْلُومٍ، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ السَّبْتِ الَّذِي هو القَطْعُ، أوْ مِنَ السُّباتِ، وهو الدَّعَةُ والرّاحَةُ، وقالَ أبُو الفَرَجِ بْنُ الجَوْزِيِّ: هَذا خَطَأٌ، لا يُعْرَفُ في كَلامِ العَرَبِ سَبَتَ بِمَعْنى اسْتَراحَ. والسَّبْتُ: الحَلْقُ والسَّيْرُ، قالَ الشّاعِرُ:
بِمُقْوَرَّةِ الألْياطِ أمّا نَهارُها فَسَبْتٌ وأمّا لَيْلُها فَذَمِيلُ
والسَّبْتُ: النَّعْلُ؛ لِأنَّهُ يُقْطَعُ كالطَّحْنِ والرَّعْيِ. قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سُمِّيَ يَوْمُ السَّبْتَ لِأنَّهُ قِطْعَةُ زَمانٍ، قالَ لَبِيدُ:
وغَنَيْتُ سَبْتًا قَبْلَ مَجْرى داحِسٍ ∗∗∗ لَوْ كانَ لِلنَّفْسِ اللَّجُوجِ خُلُودُ
القِرْدُ: مَعْرُوفٌ، ويُجْمَعُ فِعْلُ الِاسْمِ قِياسًا عَلى فُعُولٍ نَحْوَ قِرْدٍ وقُرُودٍ، وجِسْمٍ وجُسُومٍ، وقَلِيلًا عَلى فِعَلَةٍ نَحْوَ قِرْدٍ وقِرَدَةٍ، وحِسْلٍ وحِسَلَةٍ. الخَسْءُ: الصَّغارُ والطَّرْدُ، والفِعْلُ خَسَأ، ويَكُونُ لازِمًا ومُتَعَدِّيًا، يُقالُ: خَسَأ الكَلْبُ خُسُوًّا: ذَلَّ وبُعِدَ، وخَسَأْتُهُ: طَرَدْتُهُ وأبْعَدْتُهُ، خَسَأ: كَرَجَعَ رُجُوعًا، ورَجَعْتُهُ رَجْعًا.
النَّكالُ: العِبْرَةُ، وأصْلُهُ المَنعُ، والنَّكْلُ: القَيْدُ. وقالَ مُقاتِلٌ: النَّكالُ: العُقُوبَةُ، اليَدُ: عُضْوٌ مَعْرُوفٌ أصْلُهُ يَدَيَّ، وقَدْ صُرِّحَ بِهَذا الأصْلِ، وقَدْ أبْدَلُوا ياءَهُ هَمْزَةً قالُوا: قَطَعَ اللَّهُ أدَيْهِ: يُرِيدُونَ يَدَيْهِ، وجُمِعَتْ عَلى أفْعِلٍ، قالُوا: أيْدٍ، أصْلُهُ: أيْدِي، وقَدِ اسْتُعْمِلَتْ لِلنِّعْمَةِ والإحْسانِ. وأمّا الأيادِي فَهو في الحَقِيقَةِ جَمْعُ جَمْعٍ، واسْتِعْمالُهُ في النِّعْمَةِ أكْثَرُ مِنَ اسْتِعْمالِهِ لِلْجارِحَةِ، كَما أنَّ اسْتِعْمالَ الأيْدِي في الجارِحَةِ أكْثَرُ مِنهُ في النِّعْمَةِ.
خَلْفَ: ظَرْفُ مَكانٍ مُبْهَمٍ، وهو مُتَوَسِّطُ التَّصَرُّفِ، ويَكُونُ أيْضًا وصْفًا، يُقالُ: رَجُلٌ خَلْفٌ: بِمَعْنى رَدِيءٍ، وسَكَتَ ألْفًا ونَطَقَ خَلْفًا: أيْ نُطْقًا رَدِيئًا. مَوْعِظَةٌ: مَفْعِلَةٌ مِنَ الوَعْظِ، والوَعْظُ: الإذْكارُ بِالخَيْرِ بِما يَرِقُّ لَهُ القَلْبُ، وكَسْرُ عَيْنِ الكَلِمَةِ فِيما كانَ عَلى هَذا الوَزْنِ وعَلى مُفْعِلٍ هو القِياسُ، وقَدْ شَذَّ: مُوءَلَةٌ وكَلِمٌ ذَكَرَها النَّحْوِيُّونَ جاءَتْ مَفْتُوحَةَ العَيْنِ.
* * *قَوْلُهُ تَعالى:
﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادَوْا﴾ الآيَةَ. نَزَلَتْ في أصْحابِ سَلْمانَ، وذَلِكَ أنَّهُ صَحِبَ عُبّادًا مِنَ النَّصارى، فَقالَ لَهُ أحَدُهم: إنْ زَمانَ نَبِيٍّ قَدْ أظَلَّ، فَإنْ لَحِقْتَهُ فَآمِن بِهِ. ورَأى مِنهم عِبادَةً عَظِيمَةً، فَلَمّا جاءَ النَّبِيُّ، ﷺ، ذَكَرَ لَهُ خَبَرَهم وسَألَهُ عَنْهم، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، حَكى هَذِهِ القِصَّةَ مُطَوَّلَةً ابْنُ إسْحاقَ والطَّبَرِيُّ والبَيْهَقِيُّ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ في أوَّلِ الإسْلامِ، وقَدَّرَ اللَّهُ بِها أنَّ مَن آمَنَ بِمُحَمَّدٍ، ﷺ، ومَن بَقِيَ عَلى يَهُودِيَّتِهِ ونَصْرانِيَّتِهِ وصابِئِيَّتِهِ، وهو مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فَلَهُ أجْرُهُ، ثُمَّ نَسَخَ ما قَدَّرَ مِن ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ﴾ [آل عمران: ٨٥] .
ورُدَّتِ الشَّرائِعُ كُلُّها إلى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ، ﷺ، وقالَ غَيْرُ ابْنِ عَبّاسٍ: لَيْسَتْ بِمَنسُوخَةٍ، وهي فِيمَن ثَبَتَ عَلى إيمانِهِ بِالنَّبِيِّ، ﷺ، ورَوى الواحِدِيُّ، بِإسْنادٍ مُتَّصِلٍ إلى مُجاهِدٍ، قالَ: لَمّا قَصَّ سَلْمانُ عَلى النَّبِيِّ، ﷺ، قِصَّةَ أصْحابِهِ، وقالَ لَهُ: هم في النّارِ. قالَ سَلْمانُ: فَأظْلَمَتْ عَلَيَّ الأرْضُ، فَنَزَلَتْ إلى (يَحْزَنُونَ)، قالَ: فَكَأنَّما كُشِفَ عَنِّي جَبَلٌ.
ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها: أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ الكَفَرَةَ مِن أهْلِ الكِتابِ وما حَلَّ بِهِمْ مِنَ العُقُوبَةِ، أخْبَرَ بِما لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الأجْرِ العَظِيمِ، دالًّا عَلى أنَّهُ يَجْزِي كُلًّا بِفِعْلِهِ، والَّذِينَ آمَنُوا مُنافِقُو هَذِهِ الأُمَّةِ، أيْ آمَنُوا ظاهِرًا، ولِهَذا قَرَنَهم بِمَن ذُكِرَ بَعْدَهم، ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ مَن آمَنَ ظاهِرًا وباطِنًا، قالَهُ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ. أوِ المُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ.
ومَن آمَنَ: مَعْناهُ مَن داوَمَ عَلى إيمانِهِ، وفي سائِرِ الفِرَقِ: مَن دَخَلَ فِيهِ، أوِ الحَنِيفِيُّونَ مِمَّنْ لَمْ يَلْحَقِ الرَّسُولَ: كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وقَيْسِ بْنِ ساعِدَةَ، ووَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، ومَن لَحِقَهُ: كَأبِي ذَرٍّ، وسَلْمانَ، وبَحِيرى. ووَفْدِ النَّجاشِيِّ الَّذِينَ كانُوا يَنْتَظِرُونَ المَبْعَثَ، فَمِنهم مَن أدْرَكَ وتابَعَ، ومِنهم مَن لَمْ يُدْرِكْهُ، والَّذِينَ هادُوا كَذَلِكَ، مِمَّنْ لَمْ يَلْحَقْ إلّا مَن كَفَرَ بِعِيسى، عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والنَّصارى كَذَلِكَ، والصّابِئِينَ كَذَلِكَ، قالَهُ السُّدِّيُّ. أوْ أصْحابُ سَلْمانَ، وقَدْ سَبَقَ حَدِيثُهم، أوِ المُؤْمِنُونَ بِعِيسى قَبْلَ أنْ يُبْعَثَ الرَّسُولُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوِ المُؤْمِنُونَ بِمُوسى وعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ إلى أنْ جاءَ عِيسى فَآمَنُوا بِهِ وعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ، إلى أنْ جاءَ مُحَمَّدٌ، قالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أشْياخِهِ، أوْ مُؤْمِنُو الأُمَمِ الخالِيَةِ، أوِ المُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ مِن سائِرِ الأُمَمِ. فَهَذِهِ ثَمانِيَةُ أقْوالٍ في المَعْنِيِّ بِالَّذِينِ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا وهُمُ اليَهُودُ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: هادُوا بِضَمِّ الدّالِّ. وقَرَأ أبُو السَّمّاكِ العَدَوِيُّ بِفَتْحِها مِنَ المُهاداةِ، قِيلَ: أيْ مالَ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ، فالقِراءَةُ الأُولى مادَّتُها هاءٌ وواوٌ ودالٌ، أوْ هاءٌ وياءٌ ودالٌ، والقِراءَةُ الثّانِيَةُ مادَّتُها هاءٌ ودالٌ وياءٌ، ويَكُونُ فاعَلَ مِنَ الهِدايَةِ، وجاءَ فِيهِ فاعَلَ مُوافِقَةً فَعَلَ، كَأنَّهُ قِيلَ: والَّذِينَ هَدُوا، أيْ هَدُوا أنْفُسَهم نَحْوَ: جاوَزْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنى جُزْتُهُ.
(والنَّصارى): الألِفُ لِلتَّأْنِيثِ، ولِذَلِكَ مُنِعَ الصَّرْفُ في قَوْلِهِ:
﴿الَّذِينَ قالُوا إنّا نَصارى﴾ [المائدة: ١٤]، وهَذا البِناءُ، أعْنِي فَعالى، جاءَ مَقْصُورًا جَمْعًا، وجاءَ مَمْدُودًا مُفْرَدًا، وألِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ أيْضًا نَحْوَ بُراكاءَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: والصّابِئِينَ مَهْمُوزًا، وكَذا والصّابِئُونَ، وتَقَدَّمَ مَعْنى صَبَأ المَهْمُوزِ. وقَرَأ نافِعٌ بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَيَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ أظْهَرُهُما أنْ يَكُونَ مِن صَبَأ: بِمَعْنى مالَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
إلى هِنْدٍ صَبا قَلْبِي وهِنْدٌ مِثْلُها يُصْبِي
والوَجْهُ الآخَرُ يَكُونُ أصْلُهُ الهَمْزُ، فَسُهِّلَ بِقَلْبِ الهَمْزِ ألِفًا في الفِعْلِ وياءً في الِاسْمِ، كَما قالَ الشّاعِرُ:
إنَّ السِّباعَ لَتَهْدِيَ في مَرابِضِها ∗∗∗ والنّاسُ لَيْسَ بِهادٍ شَرُّهم أبَدا
وقالَ الآخَرُ:
وكُنْتُ أذَلَّ مِن وتَدٍ بِقاعٍ ∗∗∗ يُشَجَّجُ رَأْسُهُ بِالفَهْرِواجِ
وقالَ آخَرُ:
فارْعِي فَزارَةَ لا هَناكِ المَرْتَعُ
إلّا أنَّ قَلْبَ الهَمْزَةِ ألِفًا يُحْفَظُ ولا يُقاسُ عَلَيْهِ. وأمّا قَلْبُ الهَمْزَةِ ياءً فَبابُهُ الشِّعْرُ، فَلِذَلِكَ كانَ الوَجْهُ الأوَّلُ أظْهَرَ. وذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ مَسائِلَ مِن أحْكامِ اليَهُودِ والنَّصارى.
(والصّابِئِينَ): لا يَدُلُّ عَلَيْها لَفْظُ القُرْآنِ هُنا، فَلَمْ يَذْكُرْها، ومَوْضِعُها كُتُبُ الفِقْهِ.
﴿مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾، مَن: مُبْتَدِأةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، فالخَبَرُ الفِعْلُ بَعْدَها، وإذا كانَتْ مَوْصُولَةً، فالخَبَرُ قَوْلُهُ:
﴿فَلَهم أجْرُهُمْ﴾، ودَخَلَتِ الفاءُ في الخَبَرِ؛ لِأنَّ المُبْتَدَأ المَوْصُولَ قَدِ اسْتَوْفى شُرُوطَ جَوازِ دُخُولِ الفاءِ في الخَبَرِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُها. واتَّفَقَ المُعْرِبُونَ والمُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ الجُمْلَةَ مِن قَوْلِهِ:
﴿مَن آمَنَ﴾ في مَوْضِعِ خَبَرِ إنَّ إذا كانَ (مَن) مُبْتَدَأً، وأنَّ الرّابِطَ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: مَن آمَنَ مِنهم، ولا يَتِمُّ ما قالُوهُ إلّا عَلى تَغايُرِ الإيمانَيْنِ، أعْنِي: الَّذِي هو صِلَةُ الَّذِينَ، والَّذِي هو صِلَةُ مَن، إمّا في التَّعْلِيقِ، أوْ في الزَّمانِ، أوْ في الإنْشاءِ والِاسْتِدامَةِ. وأمّا إذا لَمْ يَتَغايَرا، فَلا يَتِمُّ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ يَصِيرُ المَعْنى: إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا مَن آمَنُ مِنهم، ومَن كانُوا مُؤْمِنِينَ، يُقالُ: مَن آمَنَ مِنهم إلّا عَلى التَّغايُرِ بَيْنَ الإيمانَيْنِ. وذَهَبَ بَعْضُ النّاسِ إلى أنَّ ذَلِكَ عَلى الحَذْفِ، وأنَّ التَّقْدِيرَ: إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ، والَّذِينَ هادُوا والصّابِئِينَ والنَّصارى مَن آمَنَ مِنهم، أيْ مِنَ الأصْنافِ الثَّلاثَةِ، فَلَهم أجْرُهم، وذَلِكَ لَمّا لَمْ يَصْلُحْ أنْ يَكُونَ عِنْدَهُ (مَن آمَنَ) خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ومَن بَعْدَهم. ومَن أعْرَبَ (مَن) مُبْتَدَأً، فَإنَّما جَعَلَها شَرْطِيَّةً.
وقَدْ ذَكَرْنا جَوازَ كَوْنِها مَوْصُولَةً، وأعْرَبُوا أيْضًا (مَن) بَدَلًا، فَتَكُونُ مَنصُوبَةً مَوْصُولَةً. قالُوا: وهي بَدَلٌ مِنِ اسْمِ (إنَّ) وما بَعْدَهُ، ولا يَتِمُّ ذَلِكَ أيْضًا إلّا عَلى تَقْدِيرِ تَغايُرِ الإيمانَيْنِ، كَما ذَكَرْنا، إذا كانَتْ مُبْتَدَأةً. والَّذِي نَخْتارُهُ أنَّها بَدَلٌ مِنَ المَعاطِيفِ الَّتِي بَعْدَ اسْمِ إنَّ، فَيَصِحُّ إذْ ذاكَ المَعْنى، وكَأنَّهُ قِيلَ: إنِ الَّذِينَ آمَنُوا مِن غَيْرِ الأصْنافِ الثَّلاثَةِ، ومَن آمَنَ مِنَ الأصْنافِ الثَّلاثَةِ، فَلَهم أجْرُهم. ودَخَلَتِ الفاءُ في الخَبَرِ؛ لِأنَّ المَوْصُولَ ضُمِّنَ مَعْنى الشَّرْطِ، ولَمْ يُعْتَدَّ بِدُخُولِ (إنَّ) عَلى المَوْصُولِ، وذَلِكَ جائِزٌ في كَلامِ العَرَبِ، ولا مُبالاةَ بِمَن خالَفَ في ذَلِكَ. ومَن زَعَمَ أنَّ (مَن آمَنَ) مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، وحُذِفَ مِنهُ حَرْفُ العَطْفِ، التَّقْدِيرُ: ومَن آمَنَ بِاللَّهِ - فَقَوْلُهُ بَعِيدٌ عَنِ الصَّوابِ، ولا حاجَةَ تَدْعُو إلى ذَلِكَ، وقَدِ انْدَرَجَ في الإيمانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ الإيمانُ بِالرُّسُلِ، إذِ البَعْثُ لا يُعْرَفُ إلّا مِن جِهَةِ الرُّسُلِ.
﴿وعَمِلَ صالِحًا﴾: هو عامٌّ في جَمِيعِ أفْعالِ الصَّلاحِ وأقْوالِها وأداءِ الفَرائِضِ، أوِ التَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ، ﷺ، أقْوالٌ. الثّانِي يُرْوى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَدْ حُمِلَ الصِّلَةُ أوْ فِعْلُ الشَّرْطِ والمَعْطُوفُ عَلى لَفْظِ (مَن) فَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ في (آمَنَ وعَمِلَ) . ثُمَّ قالَ:
﴿فَلَهم أجْرُهُمْ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، فَجَمَعَ حَمْلًا عَلى المَعْنى. وهَذانِ الحَمْلانِ لا يَتِمّانِ إلّا بِإعْرابِ (مَن) مُبْتَدَأً، وأمّا عَلى إعْرابِ (مَن) بَدَلًا، فَلَيْسَ فِيهِ إلّا حَمْلٌ عَلى اللَّفْظِ فَقَطْ. ولِلْحَمْلِ عَلى اللَّفْظِ والمَعْنى قُيُودٌ ذُكِرَتْ في النَّحْوِ. قالَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وإذا جَرى ما بَعْدَ (مَن) عَلى اللَّفْظِ فَجائِزٌ أنْ يُخالَفَ بِهِ بَعْدُ عَلى المَعْنى، وإذا جَرى ما بَعْدَها عَلى المَعْنى، لَمْ يَجُزْ أنْ يُخالَفَ بِهِ بَعْدُ عَلى اللَّفْظِ؛ لِأنَّ الإلْباسَ يَدْخُلُ في الكَلامِ. انْتَهى كَلامُهُ. ولَيْسَ كَما ذَكَرَ، بَلْ يَجُوزُ إذا راعَيْتَ المَعْنى أنْ تُراعِيَ اللَّفْظَ بَعْدَ ذَلِكَ، لَكِنَّ الكُوفِيِّينَ يَشْتَرِطُونَ الفَصْلَ في الجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الحَمْلَيْنِ فَيَقُولُونَ: مَن يَقُومُونَ في غَيْرِ شَيْءٍ، ويَنْظُرُ في أُمُورِنا قَوْمُكَ. والبَصْرِيُّونَ لا يَشْتَرِطُونَ ذَلِكَ، وهَذا عَلى ما قُرِّرَ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ:
تُرْوى الأحادِيثُ عَنْ كُلِّ مُسامَحَةٍ ∗∗∗ وإنَّما لِمُعانِيها مَعانِيها
و(أجْرُهم): مَرْفُوعٌ بِالِابْتِداءِ، و(لَهم) في مَوْضِعِ الخَبَرِ. وعِنْدَ الأخْفَشِ والكُوفِيِّينَ أنَّ (أجْرَهم) مَرْفُوعٌ بِالجارِّ والمَجْرُورِ.
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: ظَرْفٌ يَعْمَلُ فِيهِ الِاسْتِقْرارُ الَّذِي هو عامِلٌ في (لَهم)، ويُحْتَمَلُ أنْ يَنْتَصِبَ عَلى الحالِ، والعامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كائِنًا عِنْدَ رَبِّهِمْ. وقَرَأ الجُمْهُورُ:
﴿ولا خَوْفٌ﴾، بِالرَّفْعِ والتَّنْوِينِ. وقَرَأ الحَسَنُ: ولا خَوْفُ، مِن غَيْرِ تَنْوِينٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى قَوْلِهِ:
﴿ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ في آخِرِ قِصَّةِ آدَمَ، عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ هُنا.
ومُناسَبَةُ خَتْمِ هَذِهِ الآيَةِ بِها ظاهِرَةٌ؛ لِأنَّ مَنِ اسْتَقَرَّ أجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ لا يَلْحَقُهُ حُزْنٌ عَلى ما مَضى، ولا خَوْفٌ عَلى ما يَسْتَقْبِلُ. قالَ القُشَيْرِيُّ: اخْتِلافُ الطُّرُقِ مَعَ اتِّحادِ الأصْلِ لا يَمْنَعُ مِن حُسْنِ القَبُولِ، فَمَن صَدَقَ اللَّهَ تَعالى في إيمانِهِ، وآمَنَ بِما أخْبَرَ بِهِ مِن حَقِّهِ وصِفاتِهِ، فاخْتِلافُ وُقُوعِ الِاسْمِ غَيْرُ قادِحٍ في اسْتِحْقاقِ الرِّضْوانِ.
﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ﴾ [البقرة: ٦٣]: هَذا هو الإنْعامُ العاشِرُ؛ لِأنَّهُ إنَّما أخَذَ مِيثاقَهم لِمَصْلَحَتِهِمْ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في لَفْظَةِ المِيثاقِ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ﴾ [البقرة: ٢٧] . والمِيثاقُ: ما أوْدَعَهُ اللَّهُ تَعالى العُقُولَ مِنَ الدَّلائِلِ عَلى وُجُودِهِ وقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ وصِدْقِ أنْبِيائِهِ ورُسُلِهِ، أوِ المَأْخُوذُ عَلى ذُرِّيَّةِ آدَمَ في قَوْلِهِ:
﴿ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾ [الأعراف: ١٧٢]، أوْ إلْزامُ النّاسِ مُتابَعَةَ الأنْبِياءِ، أوِ الإيمانُ بِمُحَمَّدٍ، ﷺ، أوِ العَهْدُ مِنهم لَيَعْمَلُنَّ بِما في التَّوْراةِ، فَلَمّا جاءَ مُوسى قَرَءُوا ما فِيها مِنَ التَّثْقِيلِ فامْتَنَعُوا مِن أخْذِها، أوْ قَوْلُهُ:
﴿لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣]، أقْوالٌ سِتَّةٌ. قالَ القَفّالُ: قالَ (مِيثاقَكم) ولَمْ يَقُلْ مَواثِيقَكم؛ لِأنَّهُ أرادَ مِيثاقَ كُلِّ واحِدٍ مِنكم، كَقَوْلِهِ:
﴿ثُمَّ يُخْرِجُكم طِفْلًا﴾ [غافر: ٦٧]، أوْ لِأنَّ ما أخَذَهُ عَلى واحِدٍ مِنهم، أخَذَهُ عَلى غَيْرِهِ، فَكانَ مِيثاقًا واحِدًا، ولَوْ جَمَعَ لاحْتَمَلَ التَّغايُرَ. انْتَهى كَلامُهُ مُلَخَّصًا.