الباحث القرآني

﴿فَقُلْنا اضْرِبْ بِعَصاكَ﴾ قالُوا: وهَذِهِ العَصا هي المَسْئُولُ عَنْها في قَوْلِهِ: ﴿وما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسى﴾ [طه: ١٧] وكانَتْ فِيها خَصائِصُ تُذْكَرُ في مَوْضِعِها. قِيلَ: كانَتْ نَبْعَةً، وقِيلَ: عُلَّيْقِيُّ، وهو شَجَرٌ لَهُ شَوْكٌ، وقِيلَ: مِن آسِ الجَنَّةِ طُولُها عَشَرَةُ أذْرُعٍ، طُولُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، لَها شُعْبَتانِ يَتَّقِدانِ في الظُّلْمَةِ، وكانَ آدَمُ حَمَلَها مَعَهُ مِنَ الجَنَّةِ إلى الأرْضِ، فَتَوارَثَها أصاغِرُ عَنْ أكابِرَ حَتّى وصَلَتْ إلى شُعَيْبٍ، فَأعْطاها مُوسى، عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا اسْتَرْعاهُ قالَ لَهُ: اذْهَبْ فَخُذْ عَصًا، فَذَهَبَ إلى (p-٢٢٧)البَيْتِ فَطارَتْ هَذِهِ إلى يَدِهِ، فَأمَرَهُ بِرَدِّها، فَأخَذَ غَيْرَها، فَطارَتْ إلى يَدِهِ، فَتَرَكَها لَهُ. وقِيلَ: دَفَعَها إلَيْهِ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ في طَرِيقٍ مَدْيَنَ. (الحَجَرَ): قالَ الحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ حَجَرًا مُعَيَّنًا بَلْ أيُّ حَجَرٍ ضَرَبَ انْفَجَرَ مِنهُ الماءُ، وهَذا أبْلَغُ في الإعْجازِ، حَيْثُ يَنْفَجِرُ الماءُ مِن أيِّ حَجَرٍ ضَرَبَ. ورُوِيَ أنَّهم قالُوا: لَوْ فَقَدَ مُوسى عَصاهُ مُتْنا عَطَشًا، فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ: لا تَقْرَعِ الحِجارَةَ، وكَلِّمْها تُطِعْكَ لَعَلَّهم يَعْتَبِرُونَ، فَكانَتْ تُطِيعُهُ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا. وقالِ وهْبٌ: كانَ يَقْرَعُ لَهم أقْرَبَ حَجَرٍ فَيَنْفَجِرُ، فَعَلى هَذا تَكُونُ الألِفُ واللّامُ في (الحَجَرِ) لِلْجِنْسِ. وقِيلَ: إنَّ الألِفَ واللّامَ لِلْعَهْدِ، وهو حَجَرٌ مُعَيَّنٌ حَمَلَهُ مَعَهُ مِنَ الطُّورِ مُرَبَّعٌ لَهُ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ، يَنْبُعُ مِن كُلِّ وجْهٍ ثَلاثَةُ أعْيُنٍ، لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ تَسِيلُ في جَدْوَلٍ إلى السِّبْطِ الَّذِي أُمِرْتَ أنْ تَسْقِيَهم، وكانُوا سِتَّمِائَةِ ألْفٍ خارِجًا عَنْ دَوابِّهِمْ، وسِعَةُ العَسْكَرِ اثْنا عَشَرَ مِيلًا. وقِيلَ: حَجَرٌ أهْبَطَهُ مَعَهُ آدَمُ مِنَ الجَنَّةِ، فَتَوارَثُوهُ حَتّى وقَعَ لِشُعَيْبٍ، فَدَفَعَهُ إلى مُوسى مَعَ العَصا. وقِيلَ: هو الحَجَرُ الَّذِي وضَعَ مُوسى عَلَيْهِ ثَوْبَهُ حِينَ اغْتَسَلَ، إذْ رَمَوْهُ بِالأُدْرَةِ، فَفَرَّ، قالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: بِأمْرِ اللَّهِ ارْفَعْ هَذا الحَجَرَ، فَإنَّ لِي فِيهِ قُدْرَةً ولَكَ فِيهِ مُعْجِزَةً، فَحَمَلَهُ في مِخْلاةٍ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقِيلَ: حَجَرٌ أخَذَهُ مِن قَعْرِ البَحْرِ خَفِيفٌ مُرَبَّعٌ مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ، لَهُ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ، يَنْبُعُ مِن كُلِّ وجْهٍ ثَلاثُ أعْيُنٍ، لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ تَسِيلُ في جَدْوَلٍ إلَيْهِ، وكانَ يَضَعُهُ في مِخْلاتِهِ، فَإذا احْتاجُوا إلى الماءِ وضَعَهُ وضَرَبَهُ بِعَصاهُ. وقِيلَ: كانَ رُخامًا فِيهِ اثْنَتا عَشْرَةَ حُفْرَةٍ، تَنْبُعُ مِن كُلِّ حُفْرَةٍ عَيْنُ ماءٍ عَذْبٍ يَأْخُذُونَهُ، فَإذا فَرَغُوا ضَرَبَهُ مُوسى بِعَصاهُ فَذَهَبَ الماءُ. وقِيلَ: حَجَرٌ أخَذَهُ مِن جَبَلِ زَبِيدٍ، طُولُهُ أرْبَعَةُ أذْرُعٍ، قالَهُ الضَّحّاكُ. وقِيلَ: حَجَرٌ مِثْلُ رَأْسِ الشّاةِ، يُلْقُونَهُ في جانِبِ الجَوالِقِ إذا ارْتَحَلُوا، فِيهِ مِن كُلِّ ناحِيَةٍ ثَلاثُ عُيُونٍ بَعْدَ أنْ يَسْتَمْسِكَ ماؤُها بَعْدَ رِحْلَتِهِمْ، فَإذا نَزَلُوا فَقَرَعَهُ مُوسى بِعَصاهُ فَعادَتِ العُيُونُ بِحَسَبِها، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وقِيلَ حَجَرٌ يَحْمِلُهُ في مِخْلاتِهِ، أخَذَهُ إذْ قالُوا: كَيْفَ بِنا إذا أفَضْنا إلى أرْضٍ لَيْسَتْ فِيها حِجارَةٌ ؟ فَحَيْثُما نَزَلُوا ألْقاهُ فَيَنْفَجِرُ ماءً. وقِيلَ: حَجَرٌ مِنَ الكَذّانِ فِيهِ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا، يَسْقِي كُلَّ يَوْمٍ سِتَّمِائَةِ ألْفٍ، قالَهُ أبُو رَوْقٍ، وقِيلَ: حَجَرٌ ذِراعٌ في ذِراعٍ، قالَهُ السُّدِّيُّ. وقِيلَ: حَجَرٌ مِثْلُ رَأْسِ الثَّوْرِ. وقِيلَ: حَجَرٌ كانَ يَنْفَجِرُ لَهم مِنهُ الماءُ، لَمْ يَكُونُوا يَحْمِلُونَهُ، بَلْ كانُوا أيَّ مَكانٍ نَزَلُوا وجَدُوهُ فِيهِ، وذَلِكَ أعْظَمُ في الإعْجازِ وأبْلَغُ في الخارِقِ، وقالَ مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ: كانُوا إذا قَضَوْا حاجَتَهم مِنَ الماءِ انْدَرَسَتْ تِلْكَ العُيُونُ، فَإذا احْتاجُوا إلى الماءِ انْفَجَرَتْ. فَهَذِهِ أقْوالُ المُفَسِّرِينَ في الحَجَرِ، وظاهِرُها أوْ ظاهِرُ أكْثَرِها التَّعارُضُ. قالَ بَعْضُ مَن جَمَعَ في تَفْسِيرِ القُرْآنِ: الألْيَقُ أنَّهُ الحَجَرُ الَّذِي فَرَّ بِثَوْبِ مُوسى، عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإنَّ اللَّهَ أوْدَعَ فِيهِ حَرَكَةَ التَّنَقُّلِ والسَّعْيِ، أوْ وكَّلَ بِهِ مَلَكًا يَحْمِلُهُ ولا يُسْتَنْكَرُ ذَلِكَ. فَقَدْ صَحَّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، قالَ: «إنِّي لَأعْرِفُ حَجَرًا كانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ» . وقَدْ رامَ هَذا الرَّجُلُ الجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الأقْوالِ بِأنْ يَكُونَ الحَجَرُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، بَلْ أيُّ حَجَرٍ وجَدَهُ ضَرَبَهُ، فَوَجَدَ مَرَّةً مُرَبَّعًا، ومَرَّةً كَذّانًا، ومَرَّةً رُخامًا، وكَذا فِيها. قالَ: فَرَوى الرّاوِي صِفَةَ ذَلِكَ الحَجَرِ الَّذِي ضَرَبَهُ في تِلْكَ المَنزِلَةِ قالَ: فَيَزُولُ التَّغايُرُ في الكَيْفِيّاتِ، ويَحْصُلُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّواياتِ. وهَذا الكَلامُ كَما تَرى. وظاهِرُ القُرْآنِ: أنَّ الحَجَرَ لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ، إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ حَجَرٍ فَيَكُونُ هَذا مَعْهُودًا، وأنَّ الِاسْتِسْقاءَ لَمْ يَتَكَرَّرْ، لا هو ولا الضَّرْبُ ولا الِانْفِجارُ، وأنَّ هَذِهِ الكَيْفِيّاتِ الَّتِي ذَكَرُوها لَمْ يَتَعَرَّضْ لَها لَفْظُ القُرْآنِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَكَرِّرًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَرَّةً واحِدَةً، والواحِدَةُ هي المُتَحَقِّقَةُ. ﴿فانْفَجَرَتْ﴾: الفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، التَّقْدِيرُ: فَضَرَبَ فانْفَجَرَتْ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ فانْفَلَقَ﴾ [الشعراء: ٦٣] أيْ فَضَرَبَ فانْفَلَقَ. ويَدُلُّ عَلى هَذا المَحْذُوفِ وُجُودُ الِانْفِجارِ مُرَتَّبًا عَلى ضَرْبِهِ، إذْ لَوْ كانَ (p-٢٢٨)يَتَفَجَّرُ دُونَ ضَرْبٍ، لَما كانَ لِلْأمْرِ فائِدَةٌ، ولَكانَ تَرْكُهُ عِصْيانًا، وهو لا يَجُوزُ عَلى الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - وما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ النّاسِ مِن أنَّ الفاءَ في مِثْلِ: فانْفَلَقَ، هي الفاءُ الَّتِي في ضَرَبَ، وأنَّ المَحْذُوفَ هو المَعْطُوفُ عَلَيْهِ، وحَرْفُ العَطْفِ مِنَ المَعْطُوفِ حَتّى يَكُونَ المَحْذُوفُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، إذْ قَدْ أُبْقِيَتْ فاؤُهُ وحُذِفَتْ فاءُ فانْفَلَقَ، واتَّصَلَتْ بانْفَلَقَ فاءُ فَضَرَبَ - تَكَلُّفٌ وتَخَرُّصٌ عَلى العَرَبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. وقَدْ ثَبَتَ في لِسانِ العَرَبِ حَذْفُ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ وفِيهِ الفاءُ حَيْثُ لا مَعْطُوفَ بِالفاءِ مَوْجُودٌ، قالَ تَعالى: ﴿فَأرْسِلُونِي﴾ [يوسف: ٤٥] ﴿يُوسُفُ أيُّها الصِّدِّيقُ﴾ [يوسف: ٤٦]، التَّقْدِيرُ: فَأرْسَلُوهُ فَقالَ. فَحُذِفَ المَعْطُوفُ عَلَيْهِ والمَعْطُوفُ، وإذا جازَ حَذْفُهُما مَعًا، فَلَأنْ يَجُوزَ حَذْفُ كُلٍّ مِنهُما وحْدَهُ أوْلى. وزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ الفاءَ لَيْسَتْ لِلْعَطْفِ، بَلْ هي جَوابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، قالَ: فَإنْ ضَرَبْتَ فَقَدِ انْفَجَرَتْ، كَما ذَكَرْنا في قَوْلِهِ: ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤]، وهي عَلى هَذا فاءٌ فَصِيحَةٌ لا تَقَعُ إلّا في كَلامٍ بَلِيغٍ، اهـ كَلامُهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا الرَّدُّ عَلى الزَّمَخْشَرِيِّ في هَذا التَّقْدِيرِ في قَوْلِهِ: ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤]، بِأنَّ إضْمارَ مِثْلِ هَذا الشَّرْطِ لا يَجُوزُ، وبَيَّنّا ذَلِكَ هُناكَ، وفي قَوْلِهِ أيْضًا إضْمارُ (قَدْ) إذْ يُقَدَّرُ: فَقَدْ تابَ عَلَيْكم، وقَدِ انْفَجَرَتْ، ولا يَكادُ يُحْفَظُ مِن لِسانِهِمْ ذَلِكَ، إنَّما تَكُونُ بِغَيْرِ فاءٍ، أوْ إنْ دَخَلَتِ الفاءُ فَلا بُدَّ مِن إظْهارِ قَدْ، وما دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَدْ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ ماضِيًا لَفْظًا ومَعْنًى، نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿وإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ﴾ [فاطر: ٤]، وإذا كانَ ماضِيًا لَفْظًا ومَعْنًى، اسْتَحالَ أنْ يَكُونَ بِنَفْسِهِ جَوابَ الشَّرْطِ، فاحْتِيجَ إلى تَأْوِيلٍ وإضْمارِ جَوابِ شَرْطٍ. ومَعْلُومٌ أنَّ الِانْفِجارَ عَلى ما قُدِّرَ يَكُونُ مُتَرَتِّبًا عَلى أنْ يُضْرَبَ، وإذا كانَ مُتَرَتِّبًا عَلى مُسْتَقْبَلٍ، وجَبَ أنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا، وإذا كانَ مُسْتَقْبَلًا امْتَنَعَ أنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ (قَدِ) الَّتِي مِن شَأْنِها أنْ لا تَدْخُلَ في شِبْهِ جَوابِ الشَّرْطِ عَلى الماضِي إلّا ويَكُونُ مَعْناهُ ماضِيًا نَحْوَ الآيَةِ، ونَحْوَ قَوْلِهِمْ: إنْ تُحْسِنْ إلَيَّ فَقَدْ أحْسَنْتُ إلَيْكَ، ويَحْتاجُ إلى تَأْوِيلٍ كَما ذَكَرْنا. ولَيْسَ هَذا الفِعْلُ بِدُعاءٍ فَتَدْخُلُهُ الفاءُ فَقَطْ ويَكُونُ مَعْناهُ الِاسْتِقْبالُ، وإنْ كانَ بِلَفْظِ الماضِي نَحْوَ: إنْ زُرْتَنِي فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ. وأيْضًا فالَّذِي يُفْهَمُ مِنَ الآيَةِ أنَّ الِانْفِجارَ قَدْ وقَعَ وتَحَقَّقَ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهم كُلُوا واشْرَبُوا﴾، وجَعْلُهُ جَوابَ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ هَذا الرَّجُلُ يَجْعَلْهُ غَيْرَ واقِعٍ، إذْ يَصِيرُ مُسْتَقْبَلًا لِأنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلى تَقْدِيرِ وُجُودِ مُسْتَقْبَلٍ، والمُعَلَّقُ عَلى تَقْدِيرِ وُجُودِ مُسْتَقْبَلٍ لا يَقْتَضِي إمْكانَهُ فَضْلًا عَنْ وُجُودِهِ، فَما ذَهَبَ إلَيْهِ فاسِدٌ في التَّرْكِيبِ العَرَبِيِّ، وفاسِدٌ مِن حَيْثُ المَعْنى، فَوَجَبَ طَرْحُهُ، وأيْنَ هَذا مِن قَوْلِهِ: وهي عَلى هَذا فاءٌ فَصِيحَةٌ لا تَقَعُ إلّا في كَلامٍ بَلِيغٍ. وجاءَ هُنا: (انْفَجَرَتْ) وفي الأعْرافِ (انْبَجَسَتْ)، فَقِيلَ: هُما سَواءٌ، انْفَجَرَ وانْبَجَسَ وانْشَقَّ مُتَرادِفاتٌ. وقِيلَ: بَيْنَهُما فَرْقٌ، وهو أنَّ الِانْبِجاسَ هو أوَّلُ خُرُوجِ الماءِ، والِانْفِجارَ اتِّساعُهُ وكَثْرَتُهُ. وقِيلَ: الِانْبِجاسُ خُرُوجُهُ مِنَ الصُّلْبِ، والِانْفِجارُ خُرُوجُهُ مِنَ اللَّيِّنِ. وقِيلَ: الِانْبِجاسُ هو الرَّشْحُ، والِانْفِجارُ هو السَّيَلانُ، وظاهِرُ القُرْآنِ اسْتِعْمالُهُما بِمَعْنًى واحِدٍ؛ لِأنَّ الآيَتَيْنِ قِصَّةٌ واحِدَةٌ. (مِنهُ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فانْفَجَرَتْ، ومِن هُنا لِابْتِداءِ الغايَةِ، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الحَجَرِ المَضْرُوبِ، فانْفِجارُ الماءِ كانَ مِنَ الحَجَرِ لا مِنَ المَكانِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وإنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأنْهارُ﴾ [البقرة: ٧٤] ولَوْ كانَ هَذا التَّرْكِيبُ في غَيْرِ كَلامِ اللَّهِ تَعالى لَأمْكَنَ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلى الضَّرْبِ، وهو المَصْدَرُ المَفْهُومُ مِنَ الكَلامِ قَبْلَهُ، وأنْ تَكُونَ (مِن) لِلسَّبَبِ، أيْ فانْفَجَرَتْ بِسَبَبِ الضَّرْبِ، ولَكِنْ لا يَجُوزُ أنْ يُرْتَكَبَ مِثْلُ هَذا في كَلامِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ إلّا عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ في التَّرْكِيبِ وفي المَعْنى، إذْ هو أفْصَحُ الكَلامِ. وفي هَذا الِانْفِجارِ مِنَ الإعْجازِ ظُهُورُ نَفْسِ الماءِ مَن حَجَرٍ لا اتِّصالَ لَهُ بِالأرْضِ، فَتَكُونُ مادَّتُهُ مِنها، وخُرُوجُهُ كَثِيرًا مِن حَجَرٍ صَغِيرٍ، وخُرُوجُهُ بِقَدْرِ (p-٢٢٩)حاجَتِهِمْ، وخُرُوجُهُ عِنْدَ الضَّرْبِ بِالعَصا، وانْقِطاعُهُ عِنْدَ الِاسْتِغْناءِ عَنْهُ. ﴿اثْنَتا عَشْرَةَ﴾: التّاءُ في اثْنَتا لِلتَّأْنِيثِ، وفي ثِنْتا لِلْإلْحاقِ، وهَذِهِ نَظِيرُ ابْنَةٍ وبِنْتٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (عَشْرَةَ) بِسُكُونِ الشِّينِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ، وطَلْحَةُ، وعِيسى، ويَحْيى بْنُ وثّابٍ، وابْنُ أبِي لَيْلى، ويَزِيدُ: بِكَسْرِ الشِّينِ. ورَوى ذَلِكَ نُعَيْمٌ السَّعِيدِيُّ عَنْ أبِي عَمْرٍو، والمَشْهُورُ عَنْهُ الإسْكانُ، وتَقَدَّمَ أنَّها لُغَةُ تَمِيمٍ، وكَسْرُهم لَها نادِرٌ في قِياسِهِمْ لِأنَّهم يُخَفِّفُونَ (فَعِلًا) يَقُولُونَ في نَمِرٍ: نِمْرٌ، وقَرَأ ابْنُ الفَضْلِ الأنْصارِيُّ، والأعْمَشُ بِفَتْحِ الشِّينِ. ورُوِيَ عَنِ الأعْمَشِ الإسْكانُ والكَسْرُ أيْضًا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الفَتْحُ لُغَةٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هي لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ. وقالَ الَمَهْدَوِيُّ: فَتْحُ الشِّينِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لُغَةً، وقَدْ نَصَّ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ عَلى أنَّ فَتْحَ الشِّينِ شاذٌّ، و(عَشْرَةَ) في مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالإضافَةِ، وهو مَبْنِيٌّ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ النُّونِ، فَهو مِمّا أُعْرِبَ فِيهِ الصَّدْرُ وبُنِيَ العَجُزُ، ألا تَرى أنَّ اثْنَتَيْ مُعْرَبٌ إعْرابَ المُثَنّى لِثُبُوتِ ألِفِهِ رَفْعًا وانْقِلابِها نَصْبًا وجَرًّا، وأنَّ عَشْرَةَ مَبْنِيٌّ ؟ ولَمّا تَنَزَّلَتْ مَنزِلَةَ نُونِ اثْنَتَيْنِ لَمْ يَصِحَّ إضافَتُها، فَلا يُقالُ: اثْنَتا عَشْرَتَكَ. وفي مَحْفُوظِي أنَّ ابْنَ دَرَسْتَوَيْهِ ذَهَبَ إلى أنَّ اثْنا واثْنَتا وثِنْتا مَعَ عَشْرٍ مَبْنِيٌّ، ولَمْ يَجْعَلْ الِانْقِلابَ دَلِيلَ الإعْرابِ. (عَيْنًا): مَنصُوبٌ عَلى التَّمْيِيزِ، وإفْرادُ التَّمْيِيزِ المَنصُوبِ في بابِ العَدَدِ لازِمٌ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وأجازَ الفَرّاءُ أنَّ يَكُونَ جَمْعًا، وكانَ هَذا العَدَدُ دُونَ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِمْ كانُوا اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا، وكانَ بَيْنَهم تَضاغُنٌ وتَنافُسٌ، فَأجْرى اللَّهُ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنهم عَيْنًا يَرِدُهُ، لا يُشْرِكُهُ فِيهِ أحَدٌ مِنَ السِّبْطِ الآخَرِ، وذِكْرُ هَذا العَدَدِ دُونَ غَيْرِهِ يُسَمّى التَّخْصِيصَ عِنْدَ أهْلِ عِلْمِ البَيانِ، وهو أنْ يُذْكَرَ نَوْعٌ مِن أنْواعٍ كَثِيرَةٍ لِمَعْنًى فِيهِ لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنَّهُ هو رَبُّ الشِّعْرى﴾ [النجم: ٤٩]، وسَيَأْتِي بَيانُ ذَلِكَ التَّخْصِيصِ فِيها، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، في مَوْضِعِها، وقَوْلُ الخَنْساءِ: ؎يُذَكِّرُنِي طُلُوعُ الشَّمْسِ صَخْرًا وأنْدُبُهُ بِكُلِّ مَغِيبِ شَمْسِ اخْتَصَّتْهُما مِن دُونِ سائِرِ الأوْقاتِ لِلْغارَةِ والقِرى. قالَ بَعْضُ أهْلِ اللَّطائِفِ: خَلَقَ اللَّهُ الحِجارَةَ وأوْدَعَها صَلابَةً يُفَرَّقُ بِها أجْزاءٌ كَثِيرَةٌ مِمّا صَلُبَ مِنَ الجَوامِدِ، وخَلَقَ الأشْجارَ رَطْبَةَ الغُصُونِ، لَيْسَتْ لَها قُوَّةُ الأحْجارِ، فَتُؤَثِّرُ فِيها تَفْرِيقًا بِأجْزائِها ولا تَفْجِيرَ العُيُونِ ماءَها، بَلِ الأحْجارُ تُؤَثِّرُ فِيها. فَلَمّا أُيِّدَتْ بِقُوَّةِ النُّبُوَّةِ، انْفَلَقَتْ بِها البِحارُ، وتَفَرَّقَتْ بِها أجْزاءُ الأحْجارِ، وسالَتْ بِها الأنْهارُ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأبْصارِ﴾ [آل عمران: ١٣] . ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾: جُمْلَةُ اسْتِئْنافٍ تَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ سِبْطٍ مِنهم قَدْ صارَ لَهُ مَشْرَبٌ يَعْرِفُهُ فَلا يَتَعَدّاهُ لِمَشْرَبِ غَيْرِهِ، وكَأنَّهُ تَفْسِيرٌ لِحِكْمَةِ الِانْقِسامِ إلى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا، وتَنْبِيهٌ عَلَيْها. و(عَلِمَ) هُنا مُتَعَدِّيَةٌ لِواحِدٍ أُجْرِيَتْ مَجْرى عَرَفَ، واسْتِعْمالُها كَذَلِكَ كَثِيرٌ في القُرْآنِ ولِسانِ العَرَبِ، و﴿كُلُّ أُناسٍ﴾ مَخْصُوصٌ بِصِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ، أيْ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ اسْتَسْقى لَهم. والمَشْرَبُ هُنا مَكانُ الشُّرْبِ وجِهَتُهُ الَّتِي يَجْرِي مِنها الماءُ. وحَمَلَهُ بَعْضُهم عَلى المَشْرُوبِ وهو الماءُ، والأوَّلُ أوْلى؛ لِأنَّ دَلالَتَهُ عَلى المَكانِ بِالوَضْعِ، ودَلالَتَهُ عَلى الماءِ بِالمَجازِ، وهو تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَكانِهِ وإضافَةُ المَشْرَبِ إلَيْهِمْ لِأنَّهُ لَمّا تَخَصَّصَ كُلُّ مَشْرَبٍ بِمَن تَخَصَّصَ بِهِ صارَ كَأنَّهُ مِلْكٌ لَهم، وأعادَ الضَّمِيرَ في (مَشْرَبِهِمْ) عَلى مَعْنى (كُلُّ) لا عَلى لَفْظِها، ولا يَجُوزُ أنْ يَعُودَ عَلى لَفْظِها، فَيُقالُ: مَشْرَبَهُ؛ لِأنَّ مُراعاةَ المَعْنى هُنا لازِمَةٌ؛ لِأنَّ (كُلُّ) قَدْ أُضِيفَتْ إلى نَكِرَةٍ، ومَتى أُضِيفَتْ إلى نَكِرَةٍ وجَبَ مُراعاةُ المَعْنى، فَتُطابِقُ ما أُضِيفَتْ إلَيْهِ في عَوْدِ ضَمِيرٍ وغَيْرِهِ، قالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ﴾ [الإسراء: ٧١]، وقالَ الشّاعِرُ: ؎وكُلُّ أُناسٍ قارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ∗∗∗ ونَحْنُ حَلَلْنا قَيْدَهُ فَهو سارِبُ وقالَ: ؎وكُلُّ أُناسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهم ∗∗∗ دُوَيْهِيَّةُ تَصْفَرُّ مِنها الأنامِلُ (p-٢٣٠)وقالَ تَعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ﴾ [آل عمران: ١٨٥]، وتَقُولُ: كُلُّ رَجُلَيْنِ يَقُولانِ ذَلِكَ، ولا يَجُوزُ في شَيْءٍ مِن هَذا مُراعاةُ لَفْظِ (كُلُّ) وثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مَشْرَبُهم مِنها: أيْ مِنَ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا. ونُصَّ عَلى المَشْرَبِ تَنْبِيهًا عَلى المَنفَعَةِ العَظِيمَةِ الَّتِي هي سَبَبُ الحَياةِ، وإنْ كانَ سَرْدُ الكَلامِ: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ عَيْنَهم، لَكِنْ في ذِكْرِ المَشْرَبِ ما ذَكَرْناهُ مِن تَسْوِيغِ الشُّرْبِ لَهم مِنها أُنْشِئَ لَهُمُ الأمْرُ بِالأكْلِ مِنَ المَنِّ والسَّلْوى والشُّرْبِ مِن هَذِهِ العُيُونِ، أوْ أُمِرُوا بِالدَّوامِ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ الإباحَةَ كانَتْ مَعْلُومَةً مِن غَيْرِ هَذا الأمْرِ، والأمْرُ بِالواقِعِ أمْرٌ بِدَوامِهِ، كَقَوْلِكَ لِلْقائِمِ: قُمْ. ﴿كُلُوا واشْرَبُوا﴾: هو عَلى إضْمارِ قَوْلٍ، أيْ وقُلْنا لَهم، وهَذا الأمْرُ أمْرُ إباحَةٍ. قالَ السُّلَمِيُّ: مَشْرَبُ كُلِّ أحَدٍ حَيْثُ أنْزَلَهُ رائِدُهُ، فَمَن رائِدُهُ نَفْسُهُ مَشْرَبُهُ الدُّنْيا، أوْ قَلْبُهُ فَمَشْرَبُهُ الآخِرَةُ، أوْ سِرُّهُ فَمَشْرَبُهُ الجَنَّةُ، أوْ رُوحُهُ فَمَشْرَبُهُ السَّلْسَبِيلُ، أوْ رَبُّهُ فَمَشْرَبُهُ الحَضْرَةُ عَلى المُشاهَدَةِ حَيْثُ يَقُولُ: ﴿وسَقاهم رَبُّهم شَرابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان: ٢١]، طَهَّرَهم بِهِ عَنْ كُلِّ ما سِواهُ، وبُدِئَ بِالأكْلِ لِأنَّهُ المَقْصُودُ أوَّلًا، وثَنّى بِالشُّرْبِ لِأنَّ الِاحْتِياجَ إلَيْهِ حاصِلٌ عَنِ الأكْلِ، ولِأنَّ ذِكْرَ المَنِّ والسَّلْوى مُتَقَدِّمٌ عَلى انْفِجارِ الماءِ. ﴿مِن رِزْقِ اللَّهِ﴾ مِن: لِابْتِداءِ الغايَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ. ولَمّا كانَ مَأْكُولُهم ومَشْرُوبُهم حاصِلَيْنِ لَهم مِن غَيْرِ تَعَبٍ مِنهم ولا تَكَلُّفٍ، أُضِيفا إلى اللَّهِ تَعالى، وهَذا التِفاتٌ، إذْ تَقَدَّمَ ﴿فَقُلْنا اضْرِبْ﴾ ولَوْ جَرى عَلى نَظْمٍ واحِدٍ لَقالَ: مِن رِزْقِنا، إلّا إنْ جَعَلْتَ الإضْمارَ قَبْلَ كُلُوا مُسْنَدًا إلى مُوسى، أيْ وقالَ مُوسى: ﴿كُلُوا واشْرَبُوا﴾ فَلا يَكُونُ فِيهِ التِفاتٌ، و﴿مِن رِزْقِ اللَّهِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: واشْرَبُوا، وهو مِن إعْمالِ الثّانِي عَلى طَرِيقَةِ اخْتِيارِ أهْلِ البَصْرَةِ، إذْ لَوْ كانَ مِن إعْمالِ الأوَّلِ لَأُضْمِرَ في الثّانِي ما يَحْتاجُهُ، فَكانَ يَكُونُ: كُلُوا واشْرَبُوا مِنهُ مِن رِزْقِ اللَّهِ، ولا يَجُوزُ حَذْفُ (مِنهُ) إلّا في ضَرُورَةٍ عَلى ما نَصَّ بَعْضُهم، والضَّرُورَةُ والقَلِيلُ لا يُحْمَلُ كَلامُ اللَّهِ عَلَيْهِما، والرِّزْقُ هُنا هو المَرْزُوقُ، وهو الطَّعامُ مِنَ المَنِّ والسَّلْوى، والمَشْرُوبُ مِن ماءِ العُيُونِ. وقِيلَ: هو الماءُ يَنْبُتُ مِنهُ الزُّرُوعُ والثِّمارُ، فَهو رِزْقٌ يُؤْكَلُ مِنهُ ويُشْرَبُ، وهَذا القَوْلُ يَكُونُ فِيهِ مِن رِزْقِ اللَّهِ، يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ؛ لِأنَّ الشُّرْبَ مِنَ الماءِ حَقِيقَةٌ، والأكْلُ لا يَكُونُ إلّا مِمّا نَشَأ مِنَ الماءِ، لا أنَّ الأكْلَ مِنَ الماءِ حَقِيقَةٌ، فَحَمْلُ الرِّزْقِ عَلى القَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ الطَّعامِ والماءِ أوْلى مِن هَذا القَوْلِ. ولَمّا كانَ مَطْعُومُهم ومَشْرُوبُهم لا كُلْفَةَ عَلَيْهِمْ ولا تَعَبَ في تَحْصِيلِهِ حَسُنَتْ إضافَتُهُ إلى اللَّهِ تَعالى، وإنْ كانَتْ جَمِيعُ الأرْزاقِ مَنسُوبَةً إلى اللَّهِ تَعالى، سَواءٌ كانَتْ مِمّا تَسَبَّبَ العَبْدُ في كَسْبِها أمْ لا، واخْتُصَّ بِالإضافَةِ لِلَفْظِ اللَّهِ، إذْ هو الِاسْمُ العَلَمُ الَّذِي لا يُشْرِكُهُ فِيهِ أحَدٌ، الجامِعُ لِسائِرِ الأسْماءِ ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكم ثُمَّ رَزَقَكُمْ﴾ [الروم: ٤٠] ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكم مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ قُلِ اللَّهُ﴾ [سبإ: ٢٤] ) ﴿أمَّنْ يَبْدَؤُ الخُلُقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [النمل: ٦٤]، و﴿مَن يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾ [يونس: ٣١]، ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ [النمل: ٦٠] ؟ واحْتَجَّتِ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الرِّزْقَ هو الحَلالُ؛ لِأنَّ أقَلَّ دَرَجاتِ هَذا الأمْرِ أنْ يَكُونَ لِلْإباحَةِ، واقْتَضى أنْ يَكُونَ الرِّزْقُ مُباحًا، فَلَوْ وُجِدَ رِزْقٌ حَرامٌ لَكانَ الرِّزْقُ مُباحًا وحَرامًا، وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ، والجَوابُ: إنَّ الرِّزْقَ هُنا لَيْسَ بِعامٍّ إذا أُرِيدَ بِهِ المَنُّ والسَّلْوى والماءُ المُنْفَجِرُ مِنَ الحَجَرِ، ولا يَلْزَمُ مِن حِلِّيَّةِ مُعَيَّنٍ ما مِن أنْواعِ الرِّزْقِ حِلِّيَّةُ جَمِيعِ الرِّزْقِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ أكْلِ الطَّيِّباتِ مِنَ الطَّعامِ، وشُرْبِ المُسْتَلَذِّ مِنَ الشَّرابِ، والجَمْعُ بَيْنَ اللَّوْنَيْنِ والمَطْعُومَيْنِ، وكُلُّ ذَلِكَ بِشَرْطِ الحِلِّ، وقَدْ صَحَّ «أنَّ النَّبِيَّ، ﷺ، كانَ يُحِبُّ الحَلْواءَ والعَسَلَ»، وأنَّهُ كانَ يَشْرَبُ الماءَ البارِدَ العَذْبَ، وكانَتْ تُنْبَذُ لَهُ فِيهِ التَّمَراتِ، وجَمَعَ بَيْنَ القِثّاءِ والرُّطَبِ، وسَقى بَعْضَ نِسائِهِ الماءَ. وقَدْ نُقِلَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ أنَّهم كانُوا يَتْرُكُونَ اللَّذِيذَ مِنَ الطَّعامِ والشَّهِيَّ مِنَ الشَّرابِ رَغْبَةً فِيما عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. ﴿ولا تَعْثَوْا في الأرْضِ مُفْسِدِينَ﴾: لَمّا أُمِرُوا بِالأكْلِ والشُّرْبِ مِن رِزْقِ اللَّهِ، ولَمْ يُقَيَّدْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِزَمانٍ ولا مَكانٍ ولا مِقْدارٍ مِن (p-٢٣١)مَأْكُولٍ أوْ مَشْرُوبٍ، كانَ ذَلِكَ إنْعامًا وإحْسانًا جَزِيلًا إلَيْهِمْ، واسْتَدْعى ذَلِكَ التَّبَسُّطَ في المَآكِلِ والمَشارِبِ، وأنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ القُوَّةُ الغَضَبِيَّةُ، والقُوَّةُ الِاسْتِعْلائِيَّةُ. نَهاهم عَمّا يُمْكِنُ أنْ يَنْشَأ عَنْ ذَلِكَ، وهو الفَسادُ، حَتّى لا يُقابِلُوا تِلْكَ النِّعَمَ بِما يُكْفِرُها، وهو الفَسادُ في الأرْضِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو العالِيَةِ: مَعْناهُ ولا تَسْعَوْا. وقالَ قَتادَةُ: ولا تَسِيرُوا. وقِيلَ: لا تَتَظالَمُوا الشُّرْبَ فِيما بَيْنَكم؛ لِأنَّ كُلَّ سِبْطٍ مِنكم قَدْ جُعِلَ لَهُ شِرْبٌ مَعْلُومٌ. وقِيلَ: مَعْناهُ: لا تُؤَخِّرُوا الغَداءَ، فَكانُوا إذا أخَّرُوهُ فَسَدَ. وقِيلَ: مَعْناهُ لا تُخالِطُوا المُفْسِدِينَ. وقِيلَ: مَعْناهُ لا تَتَمادَوْا في فَسادِكم. وقِيلَ: لا تَطْغَوْا، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وهَذِهِ الأقْوالُ كُلُّها قَرِيبٌ بَعْضُها مِن بَعْضٍ. ﴿فِي الأرْضِ﴾ [البقرة: ١١] الجُمْهُورُ عَلى أنَّها أرْضُ التِّيهِ، ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَها وغَيْرَها مِمّا قُدِّرَ أنْ يَصِلُوا إلَيْها فَيَنالَها فَسادُهم، ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ الأرَضِينَ كُلَّها. و(ال) لِاسْتِغْراقِ الجِنْسِ، ويَكُونُ فَسادُهم فِيها مِن جِهَةِ أنَّ كَثْرَةَ العِصْيانِ والإصْرارِ عَلى المُخالَفاتِ والبَطَرَ يُؤْذِنُ بِانْقِطاعِ الغَيْثِ وقَحْطِ البِلادِ ونَزْعِ البَرَكاتِ، وذَلِكَ انْتِقامٌ يَعُمُّ الأرْضَ بِالفَسادِ. (مُفْسِدِينَ) حالٌ مُؤَكَّدَةٌ. قالَ القُشَيْرِيُّ، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذِ اسْتَسْقى﴾ الآيَةَ أنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلى إخْراجِ الماءِ مِنَ الصَّخْرَةِ الصَّمّاءِ كانَ قادِرًا عَلى إَرْوائِهِمْ بِغَيْرِ ماءٍ، ولَكِنْ لِإظْهارِ أثَرِ المُعْجِزَةِ فِيهِ، واتِّصالِ مَحَلِّ الِاسْتِعانَةِ إلَيْهِ، ولِيَكُونَ لِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - في فَضْلِ الحَجَرِ مَعَ نَفْسِهِ شُغْلٌ، ولِتَكْلِيفِهِ أنْ يَضْرِبَ بِالعَصا، نَوْعٌ مِنَ المُعالَجَةِ، ثُمَّ أرادَ أنْ يَكُونَ كُلُّ سِبْطٍ جارِيًا عَلى سُنَنِهِ، غَيْرَ مُزاحِمٍ لِصاحِبِهِ، وحِينَ كَفاهم ما طَلَبُوهُ أمَرَهم بِالشُّكْرِ وحِفْظِ الأمْرِ وتَرْكِ احْتِقابِ الوِزْرِ، فَقالَ: ﴿ولا تَعْثَوْا﴾ . والمَناهِلُ مُخْتَلِفَةٌ، وكُلٌّ يَرِدُ مَشْرَبَهُ: فَمَشْرَبٌ فُراتٌ، ومَشْرَبٌ أُجاجٌ، ومَشْرَبٌ صافٍ، ومَشْرَبٌ رَنْقٌ، وسِياقُ كُلِّ قَوْمٍ يَقُودُهم، فالنُّفُوسُ تَرِدُ مَناهِلَ المُنى، والقُلُوبُ تَرِدُ مَشارِبَ التُّقى، والأرْواحُ تَرِدُ مَناهِلَ الكَشْفِ، والمُشاهَداتُ والأسْرارُ تَرِدُ مَناهِلَ الحَقائِقِ بِالِاخْتِطافِ مِن حَقِيقَةِ الوَحْدَةِ والذّاتِ. انْتَهى كَلامُهُ مُلَخَّصًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب