﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا تَدَایَنتُم بِدَیۡنٍ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡیَكۡتُب بَّیۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا یَأۡبَ كَاتِبٌ أَن یَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡیَكۡتُبۡ وَلۡیُمۡلِلِ ٱلَّذِی عَلَیۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡیَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا یَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَیۡـࣰٔاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِی عَلَیۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِیهًا أَوۡ ضَعِیفًا أَوۡ لَا یَسۡتَطِیعُ أَن یُمِلَّ هُوَ فَلۡیُمۡلِلۡ وَلِیُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُوا۟ شَهِیدَیۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ یَكُونَا رَجُلَیۡنِ فَرَجُلࣱ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاۤءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا یَأۡبَ ٱلشُّهَدَاۤءُ إِذَا مَا دُعُوا۟ۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوۤا۟ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِیرًا أَوۡ كَبِیرًا إِلَىٰۤ أَجَلِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَـٰدَةِ وَأَدۡنَىٰۤ أَلَّا تَرۡتَابُوۤا۟ إِلَّاۤ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةࣰ تُدِیرُونَهَا بَیۡنَكُمۡ فَلَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوۤا۟ إِذَا تَبَایَعۡتُمۡۚ وَلَا یُضَاۤرَّ كَاتِبࣱ وَلَا شَهِیدࣱۚ وَإِن تَفۡعَلُوا۟ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ﴾ [البقرة ٢٨٢]
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا فَإنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أوْ ضَعِيفًا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هو فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ بِالعَدْلِ واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكم فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أنْ تَضِلَّ إحْداهُما فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا ولا تَسْأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا إلى أجَلِهِ ذَلِكم أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وأقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وأدْنى ألّا تَرْتابُوا إلّا أنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكم فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ ألّا تَكْتُبُوها وأشْهِدُوا إذا تَبايَعْتُمْ ولا يُضارَّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ وإنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكم واتَّقُوا اللَّهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ﴿وإنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ ولَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٨٣] ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٨٤] ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ والمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ وقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ﴾ [البقرة: ٢٨٥] ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ واعْفُ عَنّا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٨٦]تَدايَنَ: تَفاعَلَ مِنَ الدَّيْنِ، يُقالُ: دايَنْتُ الرَّجُلَ عامَلْتُهُ بِدَيْنٍ مُعْطِيًا أوْ آخِذًا، كَما تَقُولُ: بايَعْتُهُ إذا بِعْتَهُ أوْ باعَكَ قالَ رُؤْبَةُ:
دايَنْتُ أرَوى والدُّيُونُ تُقْضى فَمَطَلَتْ بَعْضًا وأدَّتْ بَعْضًا
ويُقالُ: دِنْتُ الرَّجُلَ إذا بِعْتَهُ بَدَيْنٍ، وادَّنْتُ أنا أيْ: أخَذْتُ بِدَيْنٍ.
أمْلَ وأمْلى لُغَتانِ: الأُولى لِأهْلِ الحِجازِ وبَنِي أسَدٍ، والثّانِيَةُ لِتَمِيمٍ، يُقالُ: أمْلَيْتُ وأمْلَلْتُ عَلى الرَّجُلِ أيْ: ألْقَيْتُ عَلَيْهِ ما يَكْتُبُهُ، وأصْلُهُ في اللُّغَةِ الإعادَةُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى، قالَ الشّاعِرُ:
ألا يا دِيارَ الحَيِّ بِالسَّبُعانِ ∗∗∗ أمَلَّ عَلَيْها بِالبِلى المَلَوانِ
وقِيلَ: الأصْلُ أمْلَلْتُ، أبْدَلَ مِنَ اللّامِ ياءً لِأنَّها أخَفُّ.
البَخْسُ: النَّقْصُ، يُقالُ مِنهُ: بَخَسَ يَبْخَسُ، ويُقالُ: بِالصّادِّ، والبَخْسُ: إصابَةُ العَيْنِ، ومِنهُ: اسْتُعِيرَ بَخْسُ حَقِّهِ، كَقَوْلِهِمْ: عَوَّرَ حَقَّهُ، وتَباخَسُوا في البَيْعِ تَغابَنُوا، كانَ كُلُّ واحِدٍ يَبْخَسُ صاحِبَهُ عَنْ ما يُرِيدُهُ مِنهُ بِاحْتِيالِهِ. السَّأمُ والسَّآمَةُ: المَلَلُ مِنَ الشَّيْءِ والضَّجَرُ مِنهُ، يُقالُ مِنهُ: سَئِمَ يَسْأمُ.
الصَّغِيرُ: اسْمُ فاعِلٍ مِن صَغُرَ يَصْغُرُ، ومَعْناهُ قِلَّةُ الجُرْمِ، ويُسْتَعْمَلُ في المَعانِي أيْضًا. القِسْطُ: بِكَسْرِ القافِ: العَدْلُ، يُقالُ مِنهُ: أقْسَطَ الرَّجُلُ أيْ: عَدَلَ، وبِفَتْحِ القافِ: الجَوْرُ، ويُقالُ مِنهُ: قَسَطَ الرَّجُلُ أيْ: جارَ، والقِسْطُ بِالكَسْرِ أيْضًا: النَّصِيبُ. الرَّهْنُ: ما دُفِعَ إلى الدّائِنِ عَلى اسْتِيثاقِ دَيْنِهِ، ويُقالُ: رَهَنَ يَرْهَنُ رَهْنًا، ثُمَّ أُطْلِقَ المَصْدَرُ عَلى المَرْهُونِ، ويُقالُ: رَهَنَ الشَّيْءَ دامَ، قالَ الشّاعِرُ:
اللَّحْمُ والخُبْزُ لَهم راهِنٌ ∗∗∗ وقَهْوَةٌ راوُوقُها ساكِبُ
وأرْهَنُ لَهُمُ الشَّرابَ: دامَ، قالَ ابْنُ سِيدَهْ: ورَهَنَهُ، أيْ: أدامَهُ، ويُقالُ: أرْهَنَ في السِّلْعَةِ إذا غالى بِها حَتّى أخَذَها بِكَثِيرِ الثَّمَنِ، قالَ الشّاعِرُ:
يَطْوِي ابْنُ سَلْمى بِها مِن راكِبٍ بَعْرًا ∗∗∗ عِيدِيَّةٌ أُرْهِنَتْ فِيها الدَّنانِيرُ
العِيدُ: بَطْنٌ مِن مَهْرٍ، وإبِلٌ مَهَرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِالنَّجابَةِ، ويُقالُ، مِنَ الرَّهْنِ الَّذِي هو مِنَ التَّوْثِقَةِ: أرْهَنَ إرْهانًا، قالَ هَمّامُ بْنُ مُرَّةَ:
فَلَمّا خَشِيتُ أظافِيرَهم ∗∗∗ نَجَوْتُ وأرْهَنْتُهم مالِكا
وقالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ، والزَّجّاجُ: يُقالُ في الرَّهْنِ رَهَنْتُ وأرْهَنْتُ، وقالَ الأعْشى:
حَتّى يُفِيدَكَ مِن بَنِيهِ رَهِينَةً ∗∗∗ نَعْشٌ ويَرْهَنُكَ السِّماكُ الفَرْقَدا
وتَقُولُ: رَهَنْتُ لِسانِي بِكَذا، ولا يُقالُ فِيهِ: أرْهَنْتُ، ولَمّا أُطْلِقَ الرَّهْنُ عَلى المَرْهُونِ صارَ اسْمًا، فَكُسِرَ تَكْسِيرَ الأسْماءِ وانْتَصَبَ بِفِعْلِهِ نَصْبَ المَفاعِيلِ، فَرَهَنْتُ رَهْنًا كَرَهَنْتُ ثَوْبًا. الإصْرُ: الأمْرُ الغَلِيظُ الصَّعْبُ، والآصِرَةُ في اللُّغَةِ: الأمْرُ الرّابِطُ مِن ذِمامٍ أوْ قَرابَةٍ، أوْ عَهْدٍ، ونَحْوُهُ، والإصارُ: الحَبْلُ الَّذِي تُرْبَطُ بِهِ الأحْمالُ ونَحْوُها، يُقالُ: أصَرَ يَأْصِرُ أصْرًا، والإصْرُ، بِكَسْرٍ الهَمْزَةِ، الِاسْمُ مِن ذَلِكَ، ورَوِيَ الأُصْرُ بِضَمِّها وقَدْ قُرِئَ بِهِ، قالَ الشّاعِرُ:
يا مانِعَ الضَّيْمِ أنْ يَغْشى سَراتَهم ∗∗∗ والحامِلَ الإصْرَ عَنْهم بَعْدَما عَرِقُوا
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ في السَّلَمِ خاصَّةً، يَعْنى: أنَّ سَلَمَ أهْلِ المَدِينَةِ كانَ السَّبَبَ، ثُمَّ هي تَتَناوَلُ جَمِيعَ الدُّيُونِ بِالإجْماعِ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا أمَرَ بِالنَّفَقَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وبِتَرْكِ الرِّبا، وكِلاهُما يَحْصُلُ بِهِ تَنْقِيصُ المالِ، نَبَّهَ عَلى طَرِيقٍ حَلالٍ في تَنْمِيَةِ المالِ وزِيادَتِهِ، وأكَّدَ في كَيْفِيَّةِ حِفْظِهِ، وبَسَطَ في هَذِهِ الآيَةِ وأمَرَ فِيها بِعِدَّةِ أوامِرَ عَلى ما سَيَأْتِي بَيانُهُ.
وذَكَرَ قَوْلَهُ:
﴿بِدَيْنٍ﴾ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ:
﴿فاكْتُبُوهُ﴾ وإنْ كانَ مَفْهُومًا مِن: تَدايَنْتُمْ، أوْ لِإزالَةِ اشْتِراكِ تَدايَنَ، فَإنَّهُ يُقالُ: تُدايِنُوا، أيْ: جازى بَعْضُهم بَعْضًا، فَلَمّا قالَ:
﴿بِدَيْنٍ﴾ دَلَّ عَلى غَيْرِ هَذا المَعْنى، أوْ لِلتَّأْكِيدِ، أوْ لِيَدُلَّ عَلى أيِّ دَيْنٍ كانَ صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا، وعَلى أيِّ وجْهٍ كانَ مِن سَلَمٍ أوْ بَيْعٍ
﴿إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ لَيْسَ هَذا الوَصْفُ احْتِرازًا مِن أنَّ الدَّيْنَ لا يَكُونُ إلى أجَلٍ مُسَمًّى، بَلْ لا يَقَعُ الدَّيْنُ إلّا إلى أجَلٍ مُسَمًّى، فَأمّا الآجالُ المَجْهُولَةُ فَلا يَجُوزُ، والمُرادُ بِالمُسَمّى المُوَقَّتُ المَعْلُومُ، نَحْوُ: التَّوْقِيتُ بِالسَّنَةِ والأشْهُرِ والأيّامِ، ولَوْ قالَ: إلى الحَصادِ، أوْ إلى الدِّياسِ، أوْ رُجُوعِ الحاجِّ، لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ، وإلى أجَلٍ، مُتَعَلِّقٌ: بِتَدايَنْتُمْ، أوْ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ:
﴿بِدَيْنٍ﴾ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ.
﴿فاكْتُبُوهُ﴾ أمَرَ تَعالى بِكِتابَتِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ أوْثَقُ وآمَنُ مِنَ النِّسْيانِ، وأبْعَدُ مِنَ الجُحُودِ، وظاهِرُ الأمْرِ الوُجُوبُ، وقَدْ قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، مِنهُمُ الطَّبَرِيُّ، وأهَّلُ الظّاهِرِ، وقالَ الجُمْهُورُ: هو أمْرُ نَدْبٍ يُحْفَظُ بِهِ المالُ، وتُزالُ بِهِ الرِّيبَةَ، وفي ذَلِكَ حَثٌّ عَلى الِاعْتِرافِ بِهِ وحِفْظِهِ، فَإنَّ الكِتابَ خَلِيفَةُ اللِّسانِ، واللِّسانَ خَلِيفَةُ القَلْبِ.
ورُوِيَ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وابْنِ زَيْدٍ، والشَّعْبِيِّ، وابْنِ جُرَيْجٍ أنَّهم كانُوا يَرَوْنَ أنَّ قَوْلَهُ:
﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ [البقرة: ٢٨٣] ناسِخٌ لِقَوْلِهِ:
﴿فاكْتُبُوهُ﴾ وقالَ الرَّبِيعُ وجَبَ بِقَوْلِهِ:
﴿فاكْتُبُوهُ﴾ ثُمَّ خُفِّفَ بِقَوْلِهِ:
﴿فَإنْ أمِنَ﴾ [البقرة: ٢٨٣] .
﴿ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ﴾ وهَذا الأمْرُ قِيلَ: عَلى الوُجُوبِ عَلى الكِفايَةِ كالجِهادِ، قالَ عَطاءٌ وغَيْرُهُ: يَجِبُ عَلى الكاتِبِ أنْ يَكْتُبَ عَلى كُلِّ حالٍ، وقالَ الشَّعْبِيُّ، أيْضًا: إذا لَمْ يُوجَدْ كاتِبٌ سِواهُ فَواجِبٌ عَلَيْهِ أنْ يَكْتُبَ، وقالَ السُّدِّيُّ: هو واجِبٌ مَعَ الفَراغِ، واخْتارَ الرّاغِبُ أنَّ الصَّحِيحَ كَوْنُ الكِتابَةِ فَرْضًا عَلى الكِفايَةِ، وقالَ: الكِتابَةُ فِيما بَيْنَ المُتَبايِعَيْنِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ واجِبَةً، فَقَدْ تَجِبُ عَلى الكاتَبِ إذا أتَوْهُ، كَما أنَّ الصَّلاةَ النّافِلَةَ، وإنْ لَمْ تَكُنْ واجِبَةً عَلى فاعِلِها، فَقَدْ يَجِبُ عَلى العالِمِ تَبْيِينُها إذا أتاهُ مُسْتَفْتٍ.
ومَعْنى: بَيْنَكم، أيْ: بَيْنَ صاحِبِ الدَّيْنِ والمُسْتَدِينِ، والبائِعِ والمُشْتَرِي، والمُقْرِضِ والمُسْتَقْرِضِ، والتَّثْنِيَةُ تَقْتَضِي أنْ لا يَنْفَرِدَ أحَدُ المُتَعامِلِينَ؛ لِأنَّهُ يُتَّهَمُ في الكِتابَةِ، فَإذا كانَتْ واقِعَةً بَيْنَهُما كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُطَّلِعًا عَلى ما سَطَرَهُ الكاتِبُ.
* * *ومَعْنى: بِالعَدْلِ، أيْ: بِالحَقِّ والإنْصافِ بِحَيْثُ لا يَكُونُ في قَلْبِهِ ولا في قَلَمِهِ مَيْلٌ لِأحَدِهِما عَلى الآخَرِ.
واخْتُلِفَ فِيما يَتَعَلَّقُ بِهِ
﴿بِالعَدْلِ﴾ فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِالعَدْلِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ
﴿كاتِبٌ﴾ صِفَةٌ لَهُ، أيْ: بِكاتِبٍ مَأْمُونٍ عَلى ما يَكْتُبُ، يَكْتُبُ بِالسَّوِيَّةِ والِاحْتِياطِ، لا يَزِيدُ عَلى ما يَجِبُ أنْ يَكْتُبَ، ولا يَنْقُصُ، وفِيهِ أنْ يَكُونَ الكاتِبُ فَقِيهًا عالِمًا بِالشُّرُوطِ، حَتّى يَجِيءَ مَكْتُوبُهُ مُعَدَّلًا بِالشَّرْعِ، وهو أمْرٌ لِلْمُتَدايِنَيْنِ بِتَخَيُّرِ الكاتِبِ، وأنْ لا يَسْتَكْتِبُوا إلّا فَقِيهًا دَيِّنًا.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والباءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿ولْيَكْتُبْ﴾ ولَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِكاتِبٍ؛ لِأنَّهُ كانَ يَلْزَمُ أنْ لا يَكْتُبَ وثِيقَةً إلّا العَدْلُ في نَفْسِهِ، وقَدْ يَكْتُبُها الصَّبِيُّ والعَبْدُ والمُتَحَوِّطُ إذا أقامُوا فِقْهَها، أمّا أنَّ المُنْتَخَبِينَ لِكَتْبِها لا يَجُوزُ لِلْوُلاةِ أنْ يَتْرُكُوهم إلّا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ، وقِيلَ: الباءُ زائِدَةٌ، أيْ: فَلْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبُ العَدْلِ.
وقالَ القَفّالُ في مَعْنى (بِالعَدْلِ): أنْ يَكُونَ ما يَكْتُبُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ، لا يُرْفَعُ إلى قاضٍ فَيَجِدُ سَبِيلًا إلى إبْطالِهِ بِألْفاظٍ لا يَتَّسِعُ فِيها التَّأْوِيلُ، فَيَحْتاجُ الحاكِمُ إلى التَّوَقُّفِ، وقَرَأ الحَسَنُ
﴿ولْيَكْتُبْ﴾ بِكَسْرِ لامِ الأمْرِ، والكَسْرُ الأصْلُ.
﴿ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ نَهى الكاتِبُ عَنِ الِامْتِناعِ مِنَ الكِتابَةِ، و
﴿كاتِبٌ﴾ نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّهْيِ، فَتَعُمُّ، و(أنْ يَكْتُبَ) مَفْعُولُ (ولا يَأْبَ) ومَعْنى
﴿كَما عَلَّمَهُ﴾ اللَّهُ، أيْ: مِثْلَ ما عَلَّمَهُ اللَّهُ مِن كِتابَةِ الوَثائِقِ، لا يُبَدِّلُ ولا يُغَيِّرُ، وفي ذَلِكَ حَثٌّ عَلى بَذْلِ جُهْدِهِ في مُراعاةِ شُرُوطِهِ مِمّا قَدْ لا يَعْرِفُهُ المُسْتَكْتِبُ، وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى المِنَّةِ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ إيّاهُ. وقِيلَ: المَعْنى كَما أمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الحَقِّ، فَيَكُونُ: عَلَّمَ، بِمَعْنى: أعْلَمَ، وقِيلَ: المَعْنى كَما فَضَّلَهُ اللَّهُ بِالكِتابِ، فَتَكُونُ الكافُ لِلتَّعْلِيلِ، أيْ: لِأجْلِ ما فَضَّلَهُ اللَّهُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ
﴿وأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ﴾ [القصص: ٧٧] أيْ: لِأجْلِ إحْسانِ اللَّهِ إلَيْكَ. والظّاهِرُ تَعَلُّقُ الكافِ بِقَوْلِهِ:
﴿أنْ يَكْتُبَ﴾ وقِيلَ: تَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ:
﴿أنْ يَكْتُبَ﴾ وتَتَعَلَّقَ الكافُ بِقَوْلِهِ:
﴿فَلْيَكْتُبْ﴾، وهو قَلَقٌ لِأجْلِ الفاءِ، ولِأجْلِ أنَّهُ لَوْ كانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ:
﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ لَكانَ النَّظْمُ: فَلْيَكْتُبْ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ، ولا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيمِ ما هو مُتَأخِّرٌ في المَعْنى.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (كَما) مُتَعَلِّقًا بِما في قَوْلِهِ:
﴿ولا يَأْبَ﴾ أيْ: كَما أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعِلْمِ الكِتابَةِ فَلا يَأْبَ هو، ولِيُفَضِلْ كَما أُفَضِلَ عَلَيْهِ، انْتَهى، وهو خِلافُ الظّاهِرِ، وتَكُونُ الكافُ في هَذا القَوْلِ لِلتَّعْلِيلِ، وإذا كانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ:
﴿أنْ يَكْتُبَ﴾ كانَ قَوْلُهُ:
﴿ولا يَأْبَ﴾ نَهْيًا عَنِ الِامْتِناعِ مِنَ الكِتابَةِ المُقَيَّدَةِ، ثُمَّ أمَرَ بِتِلْكَ الكِتابَةِ، لا يُعْدَلُ عَنْها، أمْرَ تَوْكِيدٍ، وإذا كانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ:
﴿فَلْيَكْتُبْ﴾ كانَ ذَلِكَ نَهْيًا عَنِ الِامْتِناعِ مِنَ الكِتابَةِ عَلى الإطْلاقِ، ثُمَّ أمَرَ بِالكِتابَةِ المُقَيَّدَةِ.
وقالَ الرَّبِيعُ، والضَّحّاكُ:
﴿ولا يَأْبَ﴾ مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ:
﴿لا يُضارَّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ﴾ .
﴿فَلْيَكْتُبْ ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾ أيْ: فَلْيَكْتُبِ الكاتِبُ، ولْيُمْلِلْ مَن وجَبَ عَلَيْهِ الحَقُّ؛ لِأنَّهُ هو المَشْهُودُ عَلَيْهِ بِأنَّ الدَّيْنَ في ذِمَّتِهِ، والمُسْتَوْثِقُ مِنهُ بِالكِتابَةِ.
﴿ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾، فِيما يُمْلِيهِ ويُقَرِّبُهُ، وجُمِعَ بَيْنَ اسْمِ الذّاتِ وهو: اللَّهُ، وبَيْنَ هَذا الوَصْفِ الَّذِي هو: الرَّبُّ، وإنْ كانَ اسْمُ الذّاتِ مَنطُوقًا عَلى جَمِيعِ الأوْصافِ، لِيَذْكُرَهُ تَعالى كَوْنَهُ مُرَبِّيًا لَهُ، مُصْلِحًا لِأمْرِهِ، باسِطًا عَلَيْهِ نِعَمَهُ، وقُدِّمَ لَفْظُ (اللَّهَ) لِأنَّ مُراقَبَتَهُ مِن جِهَةِ العُبُودِيَّةِ والأُلُوهِيَّةِ أسْبَقُ مِن جِهَةِ النِّعَمِ.
﴿ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾ أيْ: لا يَنْقُصْ بِالمُخادَعَةِ أوِ المُدافَعَةِ، والمَأْمُورُ بِالإمْلالِ هو المالِكُ لِنَفْسِهِ، وفَكُّ المُضاعَّفَيْنِ في قَوْلِهِ:
﴿ولْيُمْلِلِ﴾ لُغَةُ الحِجازِ، وذَلِكَ في ما سَكَنَ آخِرُهُ بِجَزْمٍ، نَحْوُ هَذا، أوْ وقْفٍ نَحْوُ: أمْلِلْ، ولا يُفَكُّ في رَفْعٍ ولا نَصْبٍ وقُرِئَ: شَيًّا، بِالتَّشْدِيدِ.
﴿فَإنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا﴾ قالَ مُجاهِدٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ: هو الجاهِلُ بِالأُمُورِ والإمْلاءِ، وقالَ الحَسَنُ: الصَّبِيُّ والمَرْأةُ، وقالَ الضَّحّاكُ، والسُّدِّيُّ: الصَّغِيرُ. وضُعِّفَ هَذا لِأنَّهُ قَدْ يَصْدُقُ السَّفِيهُ عَلى الكَبِيرِ، وذَكَرَ القاضِي أبُو يَعْلى: أنَّهُ المُبَذِّرُ. وقالَ الشّافِعِيُّ: المُبَذِّرُ لِمالِهِ المُفْسِدِ لِدِينِهِ، ورَوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ: أنَّهُ الأحْمَقُ، وقِيلَ: الَّذِي يَجْهَلُ قَدْرَ المالِ فَلا يَمْتَنِعُ مِن تَبْذِيرِهِ ولا يَرْغَبُ في تَثْمِيرِهِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الجاهِلُ بِالإسْلامِ.
﴿أوْ ضَعِيفًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ: إنَّهُ العاجِزُ، والأخْرَسُ، ومَن بِهِ حُمْقٌ، وقالَ مُجاهِدٌ، والسُّدِّيُّ: الأحْمَقُ. وذَكَرَ القاضِي أبُو يَعْلى، وغَيْرُهُ: أنَّهُ الصَّغِيرُ. وقِيلَ: المَدْخُولُ العَقْلِ، النّاقِصُ الفِطْرَةِ. وقالَ الشَّيْخُ: الكَبِيرُ، وقالَ الطَّبَرِيُّ: العاجِزُ عَنِ الإمْلاءِ لِعَيٍّ أوْ لِخَرَسٍ.
﴿أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هُوَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لِعَيٍّ أوْ خَرَسٍ أوْ غَيْبَةٍ، وقِيلَ: بِجُنُونٍ، وقِيلَ: بِجَهْلٍ بِما لَهُ أوْ عَلَيْهِ، وقِيلَ: لِصِغَرٍ، والَّذِي يَظْهَرُ تَبايُنُ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ، فَمَن زَعَمَ زِيادَةَ (أوْ) في قَوْلِهِ:
﴿أوْ ضَعِيفًا﴾ أوْ زِيادَتَها في هَذا، وفي قَوْلِهِ:
﴿أوْ لا يَسْتَطِيعُ﴾ فَقَوْلُهُ ساقِطٌ؛ إذْ (أوْ) لا تُزادُ، وأنَّ السَّفَهَ هو تَبْذِيرُ المالِ والجَهْلُ بِالتَّصَرُّفِ، وأنَّ الضَّعْفَ هو في البَدَنِ لِصِغَرٍ أوْ إفْراطِ شَيْخٍ يَنْقُصُ مَعَهُ التَّصَرُّفُ، وأنَّ عَدَمَ اسْتِطاعَتِهِ الإمْلاءَ لِعَيٍّ أوْ خَرَسٍ؛ لِأنَّ الِاسْتِطاعَةَ هي القُدْرَةُ عَلى الإمْلالِ، وهَذا الشَّرْحُ أكْثَرُهُ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ذَكَرَ تَعالى ثَلاثَةَ أنْواعٍ تَقَعُ نَوازِلُهم في كُلِّ زَمانٍ، ويَتَرَتَّبُ الحَقُّ لَهم في كُلِّ جِهاتٍ سِوى المُعامَلاتِ: كالمَوارِيثِ إذا قُسِّمَتْ، وغَيْرِ ذَلِكَ، والسَّفِيهُ المُهَلْهَلِ الرَّأْيِ في المالِ الَّذِي لا يُحْسِنُ الأخْذَ والإعْطاءَ، وهَذِهِ الصِّفَةُ لا تَخْلُو مِن حَجْرِ ولِيٍّ أوْ وصِيٍّ، وذَلِكَ ولَيُّهُ. والضَّعِيفُ المَدْخُولُ العَقْلِ النّاقِصُ الفِطْرَةِ، ووَلِيُّهُ وصِيٌّ أوْ أبٌ، والَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هو الغائِبَ عَنْ مَوْضِعِ الإشْهادِ إمّا لِمَرَضٍ أوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، ووَلِيُّهُ وكِيلُهُ، والأخْرَسُ مِنَ الضُّعَفاءِ، والأوْلى أنَّهُ مِمَّنْ لا يَسْتَطِيعُ، ورُبَّما اجْتَمَعَ اثْنانِ أوِ الثَّلاثَةُ في شَخْصٍ، انْتَهى، وفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ، وهو تَوْكِيدُ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنُ في: أنْ يُمِلَّ، وفِيهِ مِنَ الفَصاحَةِ ما لا يَخْفى؛ لِأنَّ في التَّأْكِيدِ بِهِ رَفْعُ المَجازِ الَّذِي كانَ يَحْتَمِلُهُ إسْنادُ الفِعْلِ إلى الضَّمِيرِ، والتَّنْصِيصُ عَلى أنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِنَفْسِهِ.
وقُرِئَ شاذًّا بِإسْكانِ هاءِ (هو) وإنْ كانَ قَدْ سَبَقَها ما يَنْفَصِلُ؛ إجْراءً لِلْمُنْفَصِلِ مَجْرى المُتَّصِلِ بِالواوِ والفاءِ واللّامِ، نَحْوُ: وهو، فَهو، لَهو، وهَذا أشَذُّ مِن قِراءَةِ مَن قَرَأ: (ثُمَّ هو يَوْمَ القِيامَةِ) لِأنَّ ثُمَّ شارَكَتْ في كَوْنِهِ لِلْعَطْفِ، وأنَّها لا يُوقَفُ عَلَيْها فَيَتِمُّ المَعْنى.
﴿فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ بِالعَدْلِ﴾ الضَّمِيرُ في
﴿ولِيُّهُ﴾ عائِدٌ عَلى أحَدِ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ، وهو الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ابْنَ عَطِيَّةَ لِلْوَلِيِّ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِي يَلِي أمْرَهُ مِن وصِيٍّ إنْ كانَ سَفِيهًا أوْ صَبِيًّا، أوْ وكِيلٍ إنْ كانَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ، أوْ تُرْجُمانَ يُمِلُّ عَنْهُ، وهو يُصَدِّقُهُ، وذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إلى أنَّ الضَّمِيرَ في ولِيِّهِ يَعُودُ عَلى الحَقِّ، فَيَكُونُ الوَلِيُّ هو الَّذِي لَهُ الحَقُّ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والرَّبِيعِ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وكَيْفَ تَشْهَدُ البَيِّنَةُ عَلى شَيْءٍ ويُدْخِلُ مالًا في ذِمَّةِ السَّفِيهِ، بِإمْلاءِ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ، هَذا شَيْءٌ لَيْسَ في الشَّرِيعَةِ.
قالَ الرّاغِبُ: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ولِيَّ الحَقِّ كَما قالَ بَعْضُهم؛ لِأنَّ قَوْلَهُ لا يُؤَثِّرُ إذْ هو مُدَّعٍ.
و(بِالعَدْلِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ:
﴿فَلْيُمْلِلْ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الباءُ لِلْحالِ، وفي قَوْلِهِ: (بِالعَدْلِ) حَثٌّ عَلى تَحَرِّيهِ لِصاحِبِ الحَقِّ، والمَوْلى عَلَيْهِ، وقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى جَوازِ الحَجْرِ عَلى الصَّغِيرِ، واسْتُدِلَّ بِها عَلى جَوازِ تَصَرُّفِ السَّفِيهِ، وعَلى قِيامِ وِلايَةِ التَّصَرُّفاتِ لَهُ في نَفْسِهِ وأمْوالِهِ.
* * *﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ أيْ: اطْلُبُوا لِلْإشْهادِ شَهِيدَيْنِ، فَيَكُونُ اسْتَفْعَلَ لِلطَّلَبِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُوافِقَةُ أفْعَلَ أيْ: وأشْهِدُوا، نَحْوُ: اسْتَيْقَنَ مُوافِقُ أيْقَنَ، واسْتَعْجَلَهُ بِمَعْنى أعْجَلَهُ، ولَفَظُ شَهِيدٍ، لِلْمُبالَغَةِ، وكَأنَّهم أُمِرُوا بِأنْ يَسْتَشْهِدُوا مَن كَثُرَتْ مِنهُ الشَّهادَةُ، فَهو عالِمٌ بِمَواقِعِ الشَّهادَةِ وما يَشْهَدُ فِيهِ لِتَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنهُ، فَأُمِرُوا بِطَلَبِ الأكْمَلِ، وكانَ في ذَلِكَ إشارَةٌ إلى العَدالَةِ؛ لِأنَّهُ لا يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنَ الشَّخْصِ عِنْدَ الحُكّامِ إلّا وهو مَقْبُولٌ عِنْدَهم.
﴿مِن رِجالِكُمْ﴾ الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وهُمُ المُصَدَّرُ بِهِمُ الآيَةُ، فَفي قَوْلِهِ:
﴿مِن رِجالِكُمْ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ لا يُسْتَشْهَدُ الكافِرُ، ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ لِشَهادَةِ الكُفّارِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ، وأجازَ ذَلِكَ أبُو حَنِيفَةَ، وإنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهم، وفي ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى اشْتِراطِ البُلُوغِ، واشْتِراطِ الذُّكُورَةِ في الشّاهِدَيْنِ، وظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُ: يَجُوزُ شَهادَةُ العَبْدِ، وهو مَذْهَبُ شُرَيْحٍ، وابْنِ سِيرِينَ، وابْنِ شُبْرُمَةَ، وعُثْمانَ البَتِّيِّ، وقِيلَ عَنْهُ: يَجُوزُ شَهادَتُهُ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ، ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: شَهادَةُ العَبْدِ عَلى العَبْدِ جارِيَةٌ جائِزَةٌ، ورَوى المُغِيرَةُ عَنْ إبْراهِيمَ أنَّهُ كانَ يُجِيزُ شَهادَةَ المَمْلُوكِ في الشَّيْءِ التّافِهِ، ورُوِيَ عَنْ أنَسٍ أنَّهُ قالَ: ما أعْلَمُ أنَّ أحَدًا رَدَّ شَهادَةَ العَبْدِ، وقالَ الجُمْهُورُ: أبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ، وزُفَرُ، وابْنُ شُبْرُمَةَ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ، ومالِكٌ، وابْنُ صالِحٍ، وابْنُ أبِي لَيْلى، والشّافِعِيُّ: لا تُقْبَلُ شَهادَةُ العَبْدِ في شَيْءٍ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وابْنِ عَبّاسٍ، والحَسَنِ.
وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ شَهادَةَ الصِّبْيانِ لا تُعْتَبَرُ، وبِهِ قالَ الثَّوْرِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ الثَّلاثَةُ، وابْنُ شُبْرُمَةَ، والشّافِعِيُّ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمانَ، وابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ الزُّبَيْرِ. وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى: تَجُوزُ شَهادَةُ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، قالَ مالِكٌ: تَجُوزُ شَهادَتُهم في الجِراحِ وحْدَها بِشُرُوطٍ ذُكِرَتْ عَنْهُ في كُتُبِ الفِقْهِ.
وظاهِرُ الآيَةِ اشْتِراطُ الرُّجُولِيَّةِ فَقَطْ في الشّاهِدَيْنِ، فَلَوْ كانَ الشّاهِدُ أعْمى، فَفي جَوازِ شَهادَتِهِ خِلافٌ، ذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ، ومُحَمَّدٌ إلى أنَّهُ لا يَجُوزُ بِحالٍ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، والحَسَنِ، وابْنِ جُبَيْرِ، وإياسِ ابْنِ مُعاوِيَةَ، وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى، وأبُو يُوسُفَ، والشّافِعِيُّ: إذا عَلِمَ قَبْلَ العَمى جازَتْ، أوْ بَعْدَهُ فَلا. وقالَ زُفَرُ: لا يَجُوزُ إلّا في النَّسَبِ يَشْهَدُ أنَّ فُلانَ بْنَ فُلانٍ، وقالَ شُرَيْحٌ والشَّعْبِيُّ: شَهادَتُهُ جائِزَةٌ، وقالَ مالِكٌ: يَجُوزُ وإنْ عَلِمَهُ حالَ العَمى إذا عَرَفَ الصَّوْتَ في الطَّلاقِ والإقْرارِ ونَحْوِهِ، وإنْ شَهِدَ بِزِنا أوْ حَدِّ قَذْفٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهُ، ولَوْ كانَ الشّاهِدُ أخْرَسَ، فَقِيلَ: تُقْبَلُ شَهادَتُهُ بِإشارَةٍ، وسَواءٌ كانَ طارِئًا أمْ أصْلِيًّا، وقِيلَ: لا تُقْبَلُ. وإنْ كانَ أصَمَّ، فَلا تُقْبَلُ في الأقْوالِ، وتُقْبَلُ فِيما عَدا ذَلِكَ مِنَ الحَواسِّ.
ولَوْ شَهِدَ بَدَوِيٌّ عَلى قَرَوِيٍّ، فَرَوى ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ أنَّها لا تَجُوزُ إلّا في الجِراحِ، ورَوى ابْنُ القاسِمِ عَنْهُ: لا تَجُوزُ في الحَضَرِ إلّا في وصِيَّةِ القَرَوِيِّ في السَّفَرِ وفي البَيْعِ.
﴿فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ﴾ الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الشَّهِيدَيْنِ أيْ: فَإنْ لَمْ يَكُنِ الشَّهِيدانِ رَجُلَيْنِ، والمَعْنى أنَّهُ: إنْ أغْفَلَ ذَلِكَ صاحِبُ الحَقِّ، أوْ قَصَدَ أنْ لا يَشْهَدَ رَجُلَيْنِ لِغَرَضٍ لَهُ، وكانَ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ ناقِصَةٌ، وقالَ قَوْمٌ: بَلِ المَعْنى: فَإنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلانِ، ولا يَجُوزُ اسْتِشْهادُ المَرْأتَيْنِ إلّا مَعَ عَدَمِ الرِّجالِ، وهَذا لا يَتِمُّ إلّا عَلى اعْتِقادِ أنَّ الضَّمِيرَ في
﴿يَكُونا﴾ عائِدٌ عَلى شَهِيدَيْنِ، بِوَصْفِ الرُّجُولِيَّةِ، وتَكُونُ كانَ تامَّةً، ويَكُونُ (رَجُلَيْنِ) مَنصُوبًا عَلى الحالِ المُؤَكَّدِ، كَقَوْلِهِ:
﴿فَإنْ كانَتا اثْنَتَيْنِ﴾ [النساء: ١٧٦] عَلى أحْسَنِ الوَجْهَيْنِ.
﴿فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ﴾ ارْتِفاعُ رَجُلٍ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: فالشّاهِدُ، أوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الخَبَرِ، أيْ: فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ يَشْهَدُونَ، أوْ فاعِلٌ، أيْ: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ، أوْ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، أيْ: فَلْيُسْتَشْهَدْ، وقِيلَ: المَحْذُوفُ فَلْيَكُنْ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ تامَّةً، فَيَكُونُ رَجُلٌ فاعِلًا، وأنْ تَكُونَ ناقِصَةً، ويَكُونُ خَبَرُها مَحْذُوفًا، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ أصْحابَنا لا يُجِيزُونَ حَذْفَ خَبَرِ كانَ لا اقْتِصارًا ولا اخْتِصارًا. وقُرِئَ شاذًّا
﴿وامْرَأتانِ﴾ بِهَمْزَةٍ ساكِنَةٍ، وهو عَلى غَيْرِ قِياسٍ، ويُمْكِنُ أنْ سَكَّنَها تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ تَوالِي الحَرَكاتِ وجاءَ نَظِيرُ تَخْفِيفِ هَذِهِ الهَمْزَةِ في قَوْلِ الشّاعِرِ:
يَقُولُونَ جَهْلًا لَيْسَ لِلشَّيْخِ عَيِّلٌ لَعَمْرِي لَقَدْ أعْيَلْتُ وأنَّ رَقُوبُ
يُرِيدُ: وأنا رَقُوبٌ، قِيلَ: خَفَّفَ الهَمْزَةَ بِإبْدالِها ألِفًا ثُمَّ هَمْزَةً بَعْدَ ذَلِكَ، قالُوا: الخَأتَمُ، والعَأْمُ. وظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي جَوازُ شَهادَةِ المَرْأتَيْنِ مَعَ الرَّجُلِ في سائِرِ عُقُودِ المُدايَناتِ، وهي كُلُّ عَقْدٍ وقَعَ عَلى دَيْنٍ سَواءٌ كانَ بَدَلًا أمْ بُضْعًا، أمْ مَنافِعَ أمْ دَمَ عَمْدٍ، فَمَنِ ادَّعى خُرُوجَ شَيْءٍ مِنَ العُقُودِ مِنَ الظّاهِرِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ إلّا بِدَلِيلٍ.
وقالَ الشّافِعِيُّ: لا تَجُوزُ شَهادَةُ النِّساءِ مَعَ الرِّجالِ في غَيْرِ الأمْوالِ، ولا يَجُوزُ في الوَصِيَّةِ إلّا الرَّجُلُ، ويَجُوزُ في الوَصِيَّةِ بِالمالِ. وقالَ اللَّيْثُ: تَجُوزُ شَهادَةُ النِّساءِ في الوَصِيَّةِ والعِتْقُ، ولا تَجُوزُ في النِّكاحِ ولا الطَّلاقِ ولا قَتْلِ العَمْدِ الَّذِي يُقادُ مِنهُ. وقالالأوْزاعِيُّ: لا تَجُوزُ شَهادَةُ رَجُلٍ وامْرَأتَيْنِ في نِكاحٍ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ حُيَيٍّ: لا تَجُوزُ شَهادَتُهُنَّ في الحُدُودِ. وقالَ الثَّوْرِيُّ: تَجُوزُ في كُلِّ شَيْءٍ إلّا الحُدُودَ. وقالَ مالِكٌ: لا تَجُوزُ في الحُدُودِ ولا القِصاصِ، ولا الطَّلاقِ ولا النِّكاحِ، ولا الأنْسابِ ولا الوَلاءِ ولا الإحْصانِ، وتَجُوزُ في الوِكالَةِ والوَصِيَّةِ إذا لَمْ يَكُنْ فِيها عِتْقٌ. وقالَ الحَسَنُ، والضَّحّاكُ: لا تَجُوزُ شَهادَتُهُنَّ إلّا في الدَّيْنِ. وقالَ عُمَرُ، وعَطاءٌ، والشَّعْبِيُّ: تَجُوزُ في الطَّلاقِ. وقالَ شُرَيْحٌ: تَجُوزُ في العِتْقِ، وقالَ عُمَرُ، وابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: تَجُوزُ شَهادَةُ الرَّجُلِ والمَرْأتَيْنِ في النِّكاحِ. وقالَ عَلِيٌّ تَجُوزُ في العَقْدِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ، وزُفَرُ، وعُثْمانُ البَتِّيُّ: لا تُقْبَلُ شَهادَةُ النِّساءِ مَعَ الرِّجالِ في الحُدُودِ والقِصاصِ، وتُقْبَلُ فِيما سِوى ذَلِكَ مِن سائِرِ الحُقُوقِ. وأدِلَّةُ هَذِهِ الأقْوالِ مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ.
وأمّا قَبُولُ شَهادَتِهِنَّ مُفْرَداتٍ فَلا خِلافَ في قَبُولِها في: الوِلادَةِ، والبَكارَةِ، والِاسْتِهْلالِ، وفي عُيُوبِ النِّساءِ الإماءِ وما يَجْرِي مَجْرى ذَلِكَ مِمّا هو مَخْصُوصٌ بِالنِّساءِ، وأجازَ أبُو حَنِيفَةَ شَهادَةَ الواحِدَةِ العَدْلَةِ في رُؤْيَةِ الهِلالِ، إذْ هو عِنْدَهُ مِن بابِ الإخْبارِ، وكَذَلِكَ شَهادَةُ القابِلَةِ مُفْرَدَةٌ.
﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾ قِيلَ: هَذا في مَوْضِعِ الصَّفِّ لِقَوْلِهِ:
﴿فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ﴾ وقِيلَ: هو بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: (رِجالِكم) عَلى تَكْرِيرِ العامِلِ، وهُما ضَعِيفانِ؛ لِأنَّ الوَصْفَ يُشْعِرُ بِاخْتِصاصِهِ بِالمَوْصُوفِ، فَيَكُونُ قَدِ انْتَفى هَذا الوَصْفُ عَنْ شَهِيدَيْنِ، ولِأنَّ البَدَلَ يُؤْذِنُ بِالِاخْتِصاصِ بِالشَّهِيدَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَعَرِيَ عَنْهُ (رَجُلٌ وامْرَأتانِ) والَّذِي يَظْهُرُ أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (واسْتَشْهِدُوا) أيْ: واسْتَشْهِدُوا مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ، لِيَكُونَ قَيْدًا في الجَمِيعِ، ولِذَلِكَ جاءَ مُتَأخِّرًا بَعْدَ ذِكْرِ الجَمِيعِ، والخِطابُ في
﴿تَرْضَوْنَ﴾ ظاهِرُهُ أنَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وفي ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى أنَّ في الشُّهُودِ مَن لا يَرْضى، فَيَدُلُّ هَذا عَلى أنَّهم لَيْسُوا مَحْمُولِينَ عَلى العَدالَةِ حَيْثُ تَثْبُتُ لَهم. وقالَ ابْنُ بِكِيرٍ وغَيْرُهُ: الخِطابُ لِلْحُكّامِ، والأوَّلُ أوْلى لِأنَّهُ الظّاهِرُ، وإنْ كانَ المُتَلَبِّسُ بِهَذِهِ القَضايا هُمُ الحُكّامُ، ولَكِنْ يَجِيءُ الخِطابُ عامًّا ويَتَلَبَّسُ بِهِ بَعْضُ النّاسِ، وقِيلَ: الخِطابُ لِأصْحابِ الدَّيْنِ.
واخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:
﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ﴾ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مِن أهْلِ الفَضْلِ والدِّينِ والكَفاءَةِ، وقالَ الشَّعْبِيُّ: مِمَّنْ لَمْ يَطْعَنْ في فَرْجٍ ولا بَطْنٍ، وفَسَّرَ قَوْلُهُ بِأنَّهُ لَمْ يَقْذِفِ امْرَأةً ولا رَجُلًا، ولَمْ يَطْعَنْ في نَسَبٍ. ورُوِيَ: مَن لَمْ يُطْعَنْ عَلَيْهِ في فَرْجٍ ولا بَطْنٍ، ومَعْناهُ: لا يُنْسَبُ إلى رِيبَةٍ، ولا يُقالُ: إنَّهُ ابْنُ زِنا. وقالَ الحَسَنُ: مَن لَمْ تُعْرَفْ لَهُ خَرِبَةٌ. وقالَ النَّخَعِيُّ: مَن لا رِيبَةَ فِيهِ. وقالَ الخَصّافُ: مَن غَلَبَتْ حَسَناتُهُ سَيِّآتِهِ مَعَ اجْتِنابِ الكَبائِرِ.
وقِيلَ: المَرَضِيُّ مِنَ الشُّهُودِ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ عَشْرُ خِصالٍ: أنْ يَكُونَ حُرًّا، بالِغًا، مُسْلِمًا، عَدْلًا، عالِمًا بِما يَشْهَدُ بِهِ، لا يَجُرُّ بِشَهادَتِهِ مَنفَعَةً لِنَفْسِهِ، ولا يَدْفَعُ بِها عَنْ نَفْسِهِ مَضَرَّةً، ولا يَكُونُ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ الغَلَطِ، ولا بِتَرْكِ المُرُوءَةِ، ولا يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَن يَشْهَدُ عَلَيْهِ عَداوَةٌ.
وذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ أبِي يُوسُفَ: أنَّ مَن سَلِمَ مِنَ الفَواحِشِ الَّتِي يَجِبُ فِيها الحُدُودُ، وما يَجِبُ فِيها مِنَ العَظائِمِ، وأدّى الفَرائِضَ وأخْلاقُ البِرِّ فِيهِ أكْثَرُ مِنَ المَعاصِي الصِّغارِ، قُبِلَتْ شَهادَتُهُ؛ لِأنَّهُ لا يَسْلَمُ عَبْدٌ مِن ذَنْبٍ، ولا تُقْبَلْ شَهادَةُ مَن ذُنُوبُهُ أكْثَرُ مِن أخْلاقِ البِرِّ، ولا مَن يَلْعَبُ بِالشَّطْرَنْجِ يُقامِرُ عَلَيْها، ولا مَن يَلْعَبُ بِالحَمامِ ويُطَيِّرُها، ولا تارِكِ الصَّلَواتِ الخَمْسِ في جَماعَةٍ اسْتِخْفافًا أوْ مَجانَةً أوْ فِسْقًا، لا أنْ تَرَكَها عَلى تَأْوِيلٍ، وكانَ عَدْلًا، ومَن يُكْثِرُ الحَلِفَ بِالكَذِبِ، ولا مُداوِمٍ عَلى تَرْكِ رَكْعَتِيِ الفَجْرِ، ولا مَعْرُوفٍ بِالكَذِبِ الفاحِشِ، ولا مُظْهِرِ شَتِيمَةَ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولا شَتّامِ النّاسِ والجِيرانِ، ولا مَنِ اتَّهَمَهُ النّاسُ بِالفِسْقِ والفُجُورِ، ولا مُتَّهَمٍ بِسَبِّ الصَّحابَةِ حَتّى يَقُولُوا: سَمِعْناهُ يَشْتُمُ.
وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى، وأبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ: تُقْبَلُ شَهادَةُ أهْلِ الأهْواءِ العُدُولِ، إلّا صِنْفًا مِنَ الرّافِضَةِ وهُمُ الخَطّابِيَّةُ. وقالَ مُحَمَّدٌ: لا أقْبَلُ شَهادَةَ الخَوارِجِ، وأقْبَلُ شَهادَةَ الحَرُورِيَّةِ؛ لِأنَّهم لا يَسْتَحِلُّونَ أمْوالَنا، فَإذا خَرَجُوا اسْتَحَلُّوا. ورُوِيَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ: لا يَجُوزُ شَهادَةُ البَخِيلِ. وعَنْ إياسِ بْنِ مُعاوِيَةَ لا يُجِيزُ شَهادَةَ الأشْرافِ بِالعِراقِ ولا البُخَلاءِ، ولا التُّجّارِ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ البَحْرَ، وعَنْ بِلالِ بْنِ أبِي بُرْدَةَ، وكانَ عَلى البَصْرَةِ، أنَّهُ لا يُجِيزُ شَهادَةَ مَن يَأْكُلُ الطِّينَ ويَنْتِفُ لِحْيَتَهُ، ورَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ شَهادَةَ مَن يَنْتِفُ عُنْفَقَتَهُ ويُخْفِي لِحْيَتَهُ، ورَدَّ شُرَيْحٌ شَهادَةَ رَجُلٍ اسْمُهُ رَبِيعَةُ ويُلَقَّبُ بِالكُوَيْفِرِ، فَدُعِيَ: يا رَبِيعَةُ، فَلَمْ يُجِبْ، فَدُعِيَ: يا رَبِيعَةُ الكُوَيْفِرُ، فَأجابَ، فَقالَ لَهُ شُرَيْحٌ: دُعِيتَ بِاسْمِكَ فَلَمْ تُجِبْ، فَلَمّا دُعِيتَ بِالكُفْرِ أجَبْتَ فَقالَ: أصْلَحَكَ اللَّهُ، إنَّما هو لَقَبٌ، فَقالَ لَهُ: قُمْ، وقالَ لِصاحِبِهِ: هاتِ غَيْرَهُ. وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: لا يَجُوزُ شَهادَةُ أصْحابِ الحُمْرِ، يَعْنِي: النَّخّاسِينَ. وعَنْ شُرَيْحٍ: لا يُجِيزُ شَهادَةَ صاحِبِ حَمّامٍ، ولا حَمّالٍ، ولا ضَيِّقِ كُمِ القَباءِ، ولا مَن قالَ: أشْهَدُ بِشَهادَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وعَنْ مُحَمَّدٍ: لا تُقْبَلُ شَهادَةُ مَن ظَهَرَتْ مِنهُ مَجانَةٌ، ولا شَهادَةُ مُخَنَّثٍ، ولا لاعِبٍ بِالحَمامِ يُطَيِّرُهُنَّ، ورَدَّ ابْنُ أبِي لَيْلى شَهادَةَ الفَقِيرِ، وقالَ: لا يُؤْمَنُ أنْ يَحْمِلَهُ فَقْرُهُ عَلى الرَّغْبَةِ في المالِ.
وقالَ مالِكٌ: لا تَجُوزُ شَهادَةُ السُّؤالِ في الشَّيْءِ الكَثِيرِ، وتَجُوزُ في الشَّيْءِ التّافِهِ. وعَنِ الشّافِعِيِّ: إذا كانَ الأغْلَبُ مِن حالِهِ المَعْصِيَةَ وعَدَمَ المُرُوءَةِ رُدَّتْ شَهادَتُهُ، وعَنْهُ: إذا كانَ أكْثَرُ أمْرِهِ الطّاعَةَ، ولَمْ يُقْدِمْ عَلى كَبِيرَةٍ، فَهو عَدْلٌ، ويَنْبَغِي أنْ تُفَسَّرَ المُرُوءَةُ بِالتَّصاوُنِ، والسَّمْتِ الحَسَنِ، وحِفْظِ الحُرْمَةِ، وتَجَنُّبِ السَّخْفِ، والمُجُونِ، لا تُفَسَّرُ بِنَظافَةِ الثَّوْبِ، وفَراهَةِ المَرْكُوبِ، وجَوْدَةِ الآلَةِ، والشّارَةِ الحَسَنَةِ؛ لِأنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِن شَرائِطَ الشَّهادَةِ عِنْدَ أحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ.
واخْتَلَفُوا في حُكْمِ مَن لَمْ تَظْهَرْ مِنهُ رِيبَةٌ، هَلْ يَسْألُ عَنْهُ الحاكِمُ إذا شَهِدَ ؟ فَفي كِتابِ عُمَرَ لِأبِي مُوسى: والمُسْلِمُونَ عُدُولٌ، بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ إلّا مَجْلُودًا في حَدٍّ، أوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهادَةُ زُورٍ، أوْ ظِنِّينًا أوْ قَرابَةً، وكانَ الحَسَنُ، لَمّا ولِيَ القَضاءَ، يُجِيزُ شَهادَةَ المُسْلِمِينَ إلّا أنْ يَكُونَ الخَصْمُ يَجْرَحُ الشّاهِدَ. وقالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: إنْ طَعَنَ المَشْهُودُ عَلَيْهِ فِيهِمْ سَألْتُ عَنْهم في السِّرِّ والعَلانِيَةِ. وقالَ مُحَمَّدٌ، وأبُو يُوسُفَ: يُسْألُ عَنْهم، وإنْ لَمْ يُطْعَنْ فِيهِمْ في السِّرِّ والعَلانِيَةِ، وقالَ مالِكٌ: لا يُقْضى بِشَهادَةِ الشُّهُودِ حَتّى يَسْألَ عَنْهم في السِّرِّ. وقالَ اللَّيْثُ: إنَّما كانَ الوالِيُّ يَقُولُ لِلْخَصْمِ: إنْ كانَ عِنْدَكَ مَن يُخْرِجُ شَهادَتَهم فَأْتِ بِهِ، وإلّا أجَزْنا شَهادَتَهم عَلَيْكَ. وقالالشّافِعِيُّ: يُسْألُ عَنْهُ في السِّرِّ، فَإذا عَدَلَ سَألَ عَنْ تَعْدِيلِهِ في العَلانِيَةِ.
وأمّا ما ذُكِرَ مِنِ اعْتِبارِ نَفِيِ التُّهْمَةِ عَنِ الشّاهِدِ إذا كانَ عَدْلًا، فاتَّفَقَ فُقَهاءُ الأمْصارِ عَلى بُطْلانِ شَهادَةِ الشّاهِدِ لِوَلَدِهِ ووالِدِهِ إلّا ما حُكِيَ عَنِ البَتِّيِّ، قالَ: تَجُوزُ شَهادَةُ الوَلَدِ لِوالِدَيْهِ، والأبُ لِابْنِهِ وامْرَأتِهِ، وعَنْ إياسِ بْنِ مُعاوِيَةَ أنَّهُ أجازَ شَهادَةَ رَجُلٍ لِابْنِهِ. وذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ، وزُفَرُ، ومالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، واللَّيْثُ إلى أنَّهُ: لا يَجُوزُ شَهادَةُ أحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ. وعَنْ أبِي حَنِيفَةَ: لا تَجُوزُ شَهادَةُ الأجِيرِ الخاصِّ لِمُسْتَأْجِرِهِ، وتَجُوزُ شَهادَةُ الأجِيرِ المُشْتَرِكِ لَهُ. وقالَ مالِكٌ: لا تَجُوزُ شَهادَةُ أجِيرٍ لِمَنِ اسْتَأْجَرَهُ إلّا أنْ يَكُونَ مُبْرِزًا في العَدالَةِ. وقالَ الأوْزاعِيُّ: لا تَجُوزُ مُطْلَقًا. وقالَ الثَّوْرِيُّ: تَجُوزُ إذا كانَ لا يَجُرُّ إلى نَفْسِهِ مَنفَعَةً.
ومَن ورَدَتْ شَهادَتُهُ لِمَعْنًى، ثُمَّ زالَ ذَلِكَ المَعْنى، فَهَلْ تُقْبَلُ تِلْكَ الشَّهادَةُ فِيهِ ؟ قالَ أبُو حَنِيفَةَ، وأصْحابُهُ: لا تُقْبَلُ إذا رُدَّتْ لِفِسْقٍ أوْ زَوْجِيَّةٍ، وتُقْبَلُ إذا رُدَّتْ لِرِقٍّ أوْ كُفْرٍ أوْ صَبِيٍّ. وقالَ مالِكٌ: لا تُقْبَلُ إنْ رُدَّتْ لِرِقٍّ أوْ صَبِيٍّ. ورُوِيَ عَنْ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ مِثْلَ هَذا.
وظاهِرُ الآيَةِ: أنَّ الشُّهُودَ في الدُّيُونِ رَجُلانِ، أوْ رَجُلٌ وامْرَأتانِ، مِمَّنْ تَرْضَوْنَ، فَلا يُقْضى بِشاهِدٍ واحِدٍ ويَمِينٍ، وهو مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ، وابْنِ شُبْرُمَةَ، والثَّوْرِيِّ والحَكَمِ، والأوْزاعِيِّ، وبِهِ قالَ عَطاءٌ، وقالَ: أوَّلُ مَن قَضى بِهِ عَبْدُ المَلِكِ ابْنُ مَرْوانَ، وقالَ الحَكَمُ: أوَّلُ مَن حَكَمَ بِهِ مُعاوِيَةُ.
واخْتُلِفَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقِيلَ: قالَ: هَذا شَيْءٌ أحْدَثَهُ النّاسُ لا بُدَّ مِن شَهِيدَيْنِ، وقالَ أيْضًا: ما أعْرِفُهُ، وإنَّها البِدْعَةُ، وأوَّلُ مَن قَضاهُ مُعاوِيَةَ، ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ أوَّلُ ما ولِيَ القَضاءَ حَكَمَ بِشاهِدٍ ويَمِينٍ وقالَ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ وأتْباعُهُما، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وأبُو عُبَيْدٍ: يُحْكَمُ بِهِ في الأمْوالِ خاصَّةً، وعَلَيْهِ الخُلَفاءُ الأرْبَعَةُ وهو عَمَلُ أهْلِ المَدِينَةِ، وهو قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ومُعاوِيَةَ، وأبِي سَلَمَةَ، وأبِي الزِّيادِ، ورَبِيعَةَ.
* * *﴿أنْ تَضِلَّ إحْداهُما فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى﴾ قَرَأ الأعْمَشُ، وحَمْزَةُ (إنْ تَضِلْ) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، جَعَلَها حَرْفَ شَرْطٍ (فَتُذَكِّرُ) بِالتَّشْدِيدِ ورَفْعِ الرّاءِ وجَعْلِهِ جَوابَ الشَّرْطِ، وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أنْ) وهي النّاصِبَةُ، وفَتْحِ راءِ (فَتُذَكِّرَ) عَطْفًا عَلى: أنْ تَضِلَّ، وسَكَّنَ الذّالَ وخَفَّفَ الكافَ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وفَتَحَ الذّالَ وشَدَّدَ الكافَ الباقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ.
وقَرَأ الجُحْدَرِيُّ وعِيسى بْنُ عِمْرانَ (تُضَلُّ) بِضَمِّ التّاءِ وفَتْحِ الضّادِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، بِمَعْنى: تَنْسى، كَذا حَكى عَنْهُما الدّانِيُّ، وحَكى النِّقاشُ عَنِ الجُحْدَرِيِّ
﴿أنْ تَضِلَّ﴾ بِضَمِّ التّاءِ وكَسْرِ الضّادِ، بِمَعْنى أنْ تَضِلَّ الشَّهادَةُ، تَقُولُ: أضْلَلَتِ الفَرَسُ والبَعِيرُ إذا ذَهَبا فَلَمْ تَجِدْهُما.
وقَرَأ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ومُجاهِدٌ
﴿فَتُذَكِّرَ﴾ بِتَخْفِيفِ الكافِ المَكْسُورَةِ، ورَفَعِ الرّاءِ، أيْ: فَهي تُذْكِرُ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ أسْلَمٍ (فَتُذاكِرَ) مِنَ الذّاكِرَةِ.
والجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مِن قَوْلِهِ:
﴿أنْ تَضِلَّ إحْداهُما فَتُذَكِّرَ﴾ عَلى قِراءَةِ الأعْمَشِ وحَمْزَةَ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِكَوْنِهِ صِفَةً لِلْمُذَكِّرِ، وهُما المَرْأتانِ، انْتَهى، كانَ قَدْ قُدِّمَ أنَّ قَوْلَهُ:
﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ:
﴿فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ﴾ فَصارَ نَظِيرَ: جاءَنِي رَجُلٌ وامْرَأتانِ عُقَلاءَ حُبْلَيانِ، وفي جَوازِ مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ نَظَرٌ، بَلِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الأقْيِسَةُ تَقْدِيَمَ حُبْلَيانِ عَلى عُقَلاءَ، وأمّا عَلى قَوْلِ مَن أعْرَبَ
﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ﴾ بَدَلًا مِن (رِجالِكم) وعَلى ما اخْتَرْناهُ مِن تَعَلُّقِهِ بِقَوْلِهِ:
﴿واسْتَشْهِدُوا﴾ فَلا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ الشَّرْطِ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ:
﴿وامْرَأتانِ﴾ لِلْفَصْلِ بَيْنَ المَوْصُوفِ والصِّفَةِ بِأجْنَبِيٍّ، وأمّا
﴿أنْ تَضِلَّ﴾ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، فَهو في مَوْضِعِ المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ، أيْ: لِأنْ تَضِلَّ عَلى تَنْزِيلِ السَّبَبِ - وهو الإضْلالُ - مَنزِلَةَ المُسَبَّبِ عَنْهُ، وهو الإذْكارُ، كَما يَنْزِلُ المُسَبِّبُ مَنزِلَةَ السَّبَبِ لِالتِباسِهِما واتِّصالِهِما، فَهو كَلامٌ مَحْمُولٌ عَلى المَعْنى، أيْ: لِأنْ تُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى إنْ ضَلَّتْ، ونَظِيرُهُ: أعْدَدْتُ الخَشَبَةَ أنْ يَمِيلَ الحائِطُ فَأُدَعِّمَهُ، وأعْدَدْتُ السِّلاحَ أنْ يَطْرُقَ العَدُوُّ فَأدْفَعَهُ، لَيْسَ إعْدادُ الخَشَبَةِ لِأجْلِ المَيْلِ إنَّما إعْدادُها لِإدْعامِ الحائِطِ إذا مالَ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مُخالَفَةَ أنْ تَضِلَّ، لِأجْلِ عَطْفٍ
﴿فَتُذَكِّرَ﴾ عَلَيْهِ.
وقالَ النَّحاسُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمانَ يَحْكِي عَنْ أبِي العَبّاسِ أنَّ التَّقْدِيرَ: كَراهَةَ أنْ تَضِلَّ، قالَ أبُو جَعْفَرٍ: وهَذا غَلَطٌ، إذْ يَصِيرُ المَعْنى كَراهَةَ أنْ تُذْكَرَ، ومَعْنى الضَّلالِ هُنا هو عَدَمُ الِاهْتِداءِ لِلشَّهادَةِ لِنِسْيانٍ أوْ غَفْلَةٍ، ولِذَلِكَ قُوبِلَ بِقَوْلِهِ:
﴿فَتُذَكِّرَ﴾ وهو مِنَ الذِّكْرِ، وأمّا ما رُوِيَ عَنْ أبِي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ، وسُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِن أنَّ قِراءَةَ التَّخْفِيفِ (فَتُذَكِرُ) مَعْناهُ: تُصَيِّرُها ذَكَرًا في الشَّهادَةِ؛ لِأنَّ شَهادَةَ امْرَأةٍ نِصْفُ شَهادَةٍ، فَإذا شَهِدَتا صارَ مَجْمُوعُ شَهادَتِهِما كَشَهادَةِ ذَكَرٍ، فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِن بِدَعِ التَّفاسِيرِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، ولا يُحْسَنُ في مُقابَلَةِ الضَّلالِ إلّا الذِّكْرُ، انْتَهى.
وما قالاهُ صَحِيحٌ، ويَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ مِن جِهَةِ اللُّغَةِ ومِن جِهَةِ المَعْنى، أمّا مِن جِهَةِ اللُّغَةِ فَإنَّ المَحْفُوظَ أنَّ هَذا الفِعْلَ لا يَتَعَدّى، تَقُولُ: أذْكَرَتِ المَرْأةُ فَهي مُذَكِّرٌ إذا وُلَدَتِ الذُّكُورَ، وأمّا: أذَكَرَتِ المَرْأةُ، أيْ: صَيَّرَتْها كالذَّكَرِ، فَغَيْرُ مَحْفُوظٍ، وأمّا مِن جِهَةِ المَعْنى، فَإنَّ لَوْ سُلِّمَ أنَّ: أُذَكِّرُ، بِمَعْنى صَيَّرَها ذَكَرًا فَلا يَصِحُّ؛ لِأنَّ التَّصْيِيرَ ذَكَرًا شامِلٌ لِلْمَرْأتَيْنِ، إذْ تَرْكُ شَهادَتِهِما بِمَنزِلَةِ شَهادَةِ ذَكَرٍ فَلَيْسَتْ إحْداهُما أذْكَرَتِ الأُخْرى عَلى هَذا التَّأْوِيلِ، إذْ لَمْ تَصِيرُ شَهادَتُهُما وحْدَها بِمَنزِلَةِ شَهادَةِ ذَكَرٍ.
ولَمّا أُبْهِمَ الفاعِلُ في
﴿أنْ تَضِلَّ﴾ بِقَوْلِهِ: (إحْداهُما) أُبْهِمَ الفاعِلُ في:
﴿فَتُذَكِّرَ﴾ بِقَوْلِهِ: (إحْداهُما) إذْ كُلٌّ مِنَ المَرْأتَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْها الضَّلالُ، والإذْكارُ، فَلَمْ يُرِدْ بِـ (إحْداهُما) مُعَيَّنَةً، والمَعْنى: إنْ ضَلَّتْ هَذِهِ أذْكَرَتْها هَذِهِ، وإنْ ضَلَّتْ هَذِهِ أذْكَرَتْها هَذِهِ، فَدَخَلَ الكَلامُ مَعْنى العُمُومِ، وكَأنَّهُ قِيلَ: مَن ضَلَّ مِنهُما أذَكَرَتْها الأُخْرى، ولَوْ لَمْ يَذْكُرْ بَعْدَ
﴿فَتُذَكِّرَ﴾ الفاعِلَ مُظْهَرًا لَلَزِمَ أنْ يَكُونَ أضْمَرَ المَفْعُولَ لِيُكُونَ عائِدًا عَلى (إحْداهُما) الفاعِلِ بِـ (تَضِلَّ) ويَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ (الأُخْرى) هو الفاعِلُ، فَكانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ: فَتُذَكِّرَها الأُخْرى، وأمّا عَلى التَّرْكِيبِ القُرْآنِيِّ فالمُتَبادِرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ (إحْداهُما) فاعِلُ (تُذَكِّرَ) و(الأُخْرى) هو المَفْعُولُ، ويُرادُ بِهِ الضّالَّةُ؛ لِأنَّ كُلًّا مِنَ الِاسْمَيْنِ مَقْصُورٌ، فالسّابِقُ هو الفاعِلُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (إحْداهُما) مَفْعُولًا، والفاعِلُ هو الأُخْرى لِزَوالِ اللَّبْسِ، إذْ مَعْلُومٌ أنَّ المُذَكِّرَةَ لَيْسَتِ النّاسِيَةَ، فَجازَ أنْ يَتَقَدَّمَ المَفْعُولُ ويَتَأخَّرَ الفاعِلُ، فَيَكُونُ نَحْوُ: كَسَرَ العَصا مُوسى، وعَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ قَدْ وُضِعَ الظّاهِرُ مَوْضِعَ المُضْمَرِ المَفْعُولِ، فَيَتَعَيَّنُ إذْ ذاكَ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ هو (الأُخْرى) ومَن قَرَأ (أنْ) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، و(فَتُذَكِرُ) بِالرَّفْعِ عَلى الِاسْتِئْنافِ، قِيلَ: وقالَ:
﴿أنْ تَضِلَّ إحْداهُما﴾ المَعْنى: أنَّ النِّسْيانَ غالِبٌ عَلى طِباعِ النِّساءِ لِكَثْرَةِ البَرْدِ والرُّطُوبَةِ، واجْتِماعُ المَرْأتَيْنِ عَلى النِّسْيانِ أبْعَدُ في العَقْلِ مِن صُدُورِ النِّسْيانِ عَنِ المَرْأةِ الواحِدَةِ، فَأُقِيمَتِ المَرْأتانِ مَقامَ الرَّجُلِ، حَتّى إنَّ إحْداهُما لَوْ نَسِيَتْ ذَكَّرَتْها الأُخْرى، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى تَفْضِيلِ الرَّجُلِ عَلى المَرْأةِ.
و(تُذَكِّرَ) يَتَعَدّى لِمَفْعُولَيْنِ، والثّانِي مَحْذُوفٌ، أيْ: فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى الشَّهادَةَ، وفي قَوْلِهِ
﴿فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّ مِن شَرْطِ جَوازِ إقامَةِ الشَّهادَةِ ذِكْرُ الشّاهِدِ لَها، وأنَّهُ لا يَجُوزُ الِاقْتِصارُ فِيها عَلى الخَطِّ، إذِ الخَطُّ والكِتابَةُ مَأْمُورٌ بِهِ لِتَذَكُّرِ الشَّهادَةِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
﴿إلّا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وهم يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: ٨٦] وإذا لَمْ يَذْكُرْها فَهو غَيْرُ عالِمٍ بِها.
وقالَ أبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ، والشّافِعِيُّ: إذا كَتَبَ خَطَّهُ بِالشَّهادَةِ فَلا يَشْهَدُ حَتّى يَذْكُرَها، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ أبِي لَيْلى: إذا عَرَفَ خَطَّهُ وسِعَهُ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْها، وقالَ الثَّوْرِيُّ: إذا ذَكَرَ أنَّهُ شَهِدَ، ولا يَذْكُرُ عَدَدَ الدَّراهِمِ، فَإنَّهُ لا يَشْهَدُ.
﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا﴾ قالَ قَتادَةُ: سَبَبُ نُزُولِها أنَّ الرَّجُلَ كانَ يَطُوفُ في الحِراءِ العَظِيمِ، فِيهِ القَوْمُ، فَلا يَتْبَعُهُ مِنهم أحَدٌ، فَأنْزَلَها اللَّهُ. وظاهِرُ الآيَةِ أنَّ المَعْنى: ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ مِن تَحَمُّلِ الشَّهادَةِ إذا ما دُعُوا لَها، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ، والرَّبِيعُ وغَيْرُهم، وهَذا النَّهْيُ لَيْسَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، فَلَهُ أنْ يَشْهَدَ، ولَهُ أنْ لا يَشْهَدَ، قالَهُ عَطاءٌ، والحَسَنُ. وقالَ الشَّعْبِيُّ: إنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أنْ يَشْهَدَ، وإنْ وُجِدَ فَهو مُخَيَّرٌ، وقِيلَ: المَعْنى: ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا لِأداءِ الشَّهادَةِ إذا كانُوا قَدْ شَهِدُوا قَبْلَ ذَلِكَ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وعَطاءٌ، وعِكْرِمَةُ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والضَّحّاكُ، والسُّدِّيُّ، وإبْراهِيمُ، ولاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ زَيْدٍ. ورَوى النِّقاشُ: هَكَذا فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولَوْ صَحَّ هَذا عَنْهُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ فَيَكُونُ نَهْيُ تَحْرِيمٍ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، والحَسَنُ، والسُّدِّيُّ: هي في التَّحَمُّلِ والإقامَةِ إذا كانَ فارِغًا، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والآيَةُ كَما قالَ الحَسَنُ، جَمَعَتِ الأمْرَيْنِ، والمُسْلِمُونَ مَندُوبُونَ إلى مُعاوَنَةِ إخْوانِهِمْ، فَإذا كانَتِ الفُسْحَةُ في كَثْرَةِ الشُّهُودِ، والأمْنِ مِن تَعْطِيلِ الحَقِّ، فالمَدْعُوُّ مَندُوبٌ، ولَهُ أنْ يَتَخَلَّفَ لِأدْنى عُذْرٍ وأنْ يَتَخَلَّفَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، ولا إثْمَ عَلَيْهِ، وإذا كانَتِ الضَّرُورَةُ، وخِيفَ تَعْطِيلُ الحَقِّ أدْنى خَوْفٍ، قَوِيَ النَّدْبُ وقَرُبَ مِنَ الوُجُوبِ، وإذا عُلِمَ أنَّ الحَقَّ يَذْهَبُ ويَتْلَفُ بِتَأخُّرِ الشّاهِدِ عَنِ الشَّهادَةِ، فَواجِبٌ عَلَيْهِ القِيامُ بِها، لا سِيَّما إنْ كانَتْ مُحَصَّلَةً، وكانَ الدُّعاءُ إلى أدائِها، فَإنَّ هَذا الطَّرَفَ آكَدُ؛ لِأنَّها قِلادَةٌ في العُنُقِ وأمانَةٌ تَقْتَضِي الأداءَ، انْتَهى.
* * *﴿ولا تَسْأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا إلى أجَلِهِ﴾ لَمّا نَهى عَنِ امْتِناعِ الشُّهُودِ إذا ما دُعُوا لِلشَّهادَةِ، نَهى أيْضًا عَنِ السَّآمَةِ في كِتابَةِ الدَّيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ ضَبْطٌ لِأمْوالِ النّاسِ، وتَحْرِيضٌ عَلى أنْ لا يَقَعَ النِّزاعُ؛ لِأنَّهُ مَتى ضُبِطَ بِالكِتابَةِ والشَّهادَةِ قَلَّ أنْ يَحْصُلَ وهْمٌ فِيهِ أوْ إنْكارٌ، أوْ مُنازَعَةٌ في مِقْدارٍ أوْ أجَلٍ أوْ وصْفٍ، وقُدِّمَ الصَّغِيرُ اهْتِمامًا بِهِ، وانْتِقالًا مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى، ونَصَّ عَلى الأجَلِ لِلدَّلالَةِ عَلى وُجُوبِ ذِكْرِهِ، فَكُتِبَ كَما يُكْتَبُ أصْلُ الدَّيْنِ ومَحَلُّهُ إنْ كانَ مِمّا يُحْتاجُ فِيهِ إلى ذِكْرِ المَحَلِّ، ونَبَّهَ بِذِكْرِ الأجَلِ عَلى صِفَةِ الدَّيْنِ ومِقْدارِهِ؛ لِأنَّ الأجَلَ بَعْضُ أوْصافِهِ، والأجْلُ هُنا هو الوَقْتُ الَّذِي اتَّفَقَ المُتَدايِنانِ عَلى تَسْمِيَتِهِ.
وقالَ الماتِرِيدِيُّ: فِيهِ دَلالَةٌ عَلى جَوازِ السَلَمِ في الثِّيابِ؛ لِأنَّ ما يُؤْكَلُ أوْ يُوزَنُ لا يُقالُ فِيهِ الصَّغِيرُ والكَبِيرُ، وإنَّما يُقالُ ذَلِكَ في العَدَدِيِّ والذَّرْعِيِّ، انْتَهى.
ولا يَظْهَرُ ما قالَ: إذِ الصِّغَرُ، والكَبِيرُ هُنا لا يُرادُ بِهِ الجُرْمُ، وإنَّما هو عِبارَةٌ عَنِ القَلِيلِ والكَثِيرِ، فَمَن أسْلَمَ في مِقْدارٍ ويْبَةٍ، أوْ في مِقْدارِ عِشْرِينَ أرَدْبًا، صَدَقَ عَلى الأوَّلِ أنَّهُ حُقٌّ صَغِيرٌ ودَيْنٌ صَغِيرٌ، وعَلى الثّانِي أنَّهُ دَيْنٌ كَبِيرٌ وحُقٌّ كَبِيرٌ.
قِيلَ: ومَعْنى: ولا تَسْأمُوا، أيْ: لا تَكْسَلُوا، وعَبَّرَ بِالسَّأمِ عَنِ الكَسَلِ؛ لِأنَّ الكَسَلَ صِفَةُ المُنافِقِ، ومِنهُ الحَدِيثُ:
«لا يَقُلِ المُؤْمِنُ: كَسَلْتُ» وكَأنَّهُ مِنَ الوَصْفِ الَّذِي نَسَبَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ في قَوْلِهِ:
﴿وإذا قامُوا إلى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى﴾ [النساء: ١٤٢] وقِيلَ: مَعْناهُ لا تَضْجَرُوا، و(أنْ تَكْتُبُوا) في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى المَفْعُولِ بِهِ؛ لِأنَّ سَئِمَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ، كَما قالَ الشّاعِرُ:
سَئِمْتُ تَكالِيفَ الحَياةِ ومَن يَعِشْ ثَمانِينَ عامًا لا أبا لَكَ يَسْأمِ
وقِيلَ: يَتَعَدّى سَئِمَ بِحَرْفِ جَرٍّ، فَيَكُونُ: أنْ تَكْتُبُوهُ، في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى إسْقاطِ الحَرْفِ، أوْ في مَوْضِعِ جَرٍّ عَلى الخِلافِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيْنَ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ سَئِمَ يَتَعَدّى بِحَرْفِ جَرِّ قَوْلُهُ:
ولَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَياةِ وطُولِها ∗∗∗ وسُؤالِ هَذا النّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ
وضَمِيرُ النَّصْبِ في
﴿تَكْتُبُوهُ﴾ عائِدٌ عَلى الدَّيْنِ، لِسَبْقِهِ، أوْ عَلى الحَقِّ لِقُرْبِهِ، والدَّيْنُ هو الحَقُّ مِن حَيْثُ المَعْنى، وكانَ مَن كَثُرَتْ دُيُونُهُ يَمَلُّ مِنَ الكِتابَةِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْكِتابِ، و
﴿أنْ تَكْتُبُوهُ﴾ مُخْتَصَرًا أوْ مُشَبَّعًا، ولا يُخَلُّ بِكِتابَتِهِ، انْتَهى، وهَذا الَّذِي قالَهُ فِيهِ بُعْدٌ.
وقَرَأ السَّلْمِيُّ (ولا يَسْأمُوا) بِالياءِ، وكَذَلِكَ (أنْ يَكْتُبُوهُ) والظّاهِرُ في هَذِهِ القِراءَةِ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الفاعِلِ عائِدًا عَلى الشُّهَداءِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ الِالتِفاتِ، فَيَعُودُ عَلى المُتَعامِلِينَ أوْ عَلى الكِتابِ، وانْتِصابُ:
﴿صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا﴾ عَلى الحالِ مِنَ الهاءِ في
﴿أنْ تَكْتُبُوهُ﴾ وأجازَ السَّجاوَنْدِيُّ نَصْبُ (صَغِيرًا) عَلى أنْ يَكُونَ خَبَرًا لِكانَ مُضْمَرَةً، أيْ: كانَ صَغِيرًا، ولَيْسَ مَوْضِعَ إضْمارِ كانَ، ويَتَعَلَّقُ
﴿إلى أجَلِهِ﴾ بِمَحْذُوفٍ لا تَكْتُبُوهُ لِعَدَمِ اسْتِمْرارِ الكِتابَةِ إلى أجَلِ الدَّيْنِ؛ إذْ يَنْقَضِي في زَمَنٍ يَسِيرٍ، فَلَيْسَ نَظِيرَ: سِرْتُ إلى الكُوفَةِ، والتَّقْدِيرُ: أنْ تَكْتُبُوهُ مُسْتَقِرًّا في الذِّمَّةِ إلى أجَلِ حُلُولِهِ.
﴿ذَلِكم أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ الإشارَةُ إلى أقْرَبِ مَذْكُورٍ وهو الكِتابَةُ، وقِيلَ: الكِتابَةُ والِاسْتِشْهادُ وجَمِيعُ ما تَقَدَّمَ مِمّا يَحْصُلُ بِهِ الضَّبْطُ، و(أقْسَطُ) أعْدَلُ، قِيلَ: وفِيهِ شُذُوذٌ؛ لِأنَّهُ مِنَ الرُّباعِيِّ الَّذِي عَلى وزْنِ: أفْعَلَ، يُقالُ: أقْسَطَ الرَّجُلُ أيْ: عَدْلَ، ومِنهُ: (وأقْسِطُوا) وقَدْ رامُوا خُرُوجَهُ عَنِ الشُّذُوذِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، بِأنْ يَكُونَ (أقْسَطُ) مِن قاسِطٍ عَلى طَرِيقَةِ النَّسَبِ بِمَعْنى: ذِي قِسْطٍ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: انْظُرْ هَلْ هو مِن قَسُطَ بِضَمِّ السِّينِ، كَما تَقُولُ: أكْرَمُ مِن كَرُمَ، انْتَهى. وقِيلَ: مِنَ القِسْطِ بِالكَسْرِ، وهو العَدْلُ، وهو مَصْدَرٌ لَمْ يَشْتَقْ مِنهُ فِعْلٌ، ولَيْسَ مِنَ الإقْساطِ؛ لِأنَّ أفْعَلَ لا يُبْنى مِنَ الإفْعالِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: مِمَّ بُنِيَ أفْعَلا التَّفْضِيلِ ؟ أعْنِي: أقْسَطَ وأقْوَمُ، قُلْتُ: يَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أنْ يَكُونا مَبْنِيَّيْنِ مِن أقْسَطَ وأقامَ، انْتَهى.
لَمْ يَنُصْ سِيبَوَيْهِ عَلى أنْ أفْعَلَ التَّفْضِيلِ يُبْنى مَن أفْعَلَ، إنَّما يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِالِاسْتِدْلالِ؛ لِأنَّهُ نَصَّ في أوَّلِ كِتابِهِ عَلى أنَّ بِناءَ أفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ يَكُونُ مِن: فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأفْعَلَ، فَظاهِرُ هَذا أنَّ أفْعَلَ الَّذِي لِلتَّعَجُّبِ يُبْنى مِن أفْعَلَ، ونَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلى أنَّ ما يُبْنى مِنهُ أفْعَلُ لِلتَّعَجُّبِ يُبْنى مِنهُ أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، فَما انْقاسَ في التَّعَجُّبِ انْقاسَ في التَّفْضِيلِ، وما شُذَّ فِيهِ شُذَّ فِيهِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ في بِناءِ أفْعَلَ لِلتَّعَجُّبِ عَلى ثَلاثَةِ مَذاهِبَ: الجَوازِ، والمَنعِ، والتَّفْصِيلِ. بَيْنَ أنْ يَكُونَ الهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ فَلا يُبْنى مِنهُ أفْعَلُ لِلتَّعَجُّبِ، أوْ لا تَكُونُ لِلنَّقْلِ، فَيُبْنى مِنهُ، وزُعِمَ أنَّ هَذا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وتُئُوِلَ قَوْلُهُ: وأفْعَلَ عَلى أنَّهُ أفْعَلَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِغَيْرِ النَّقْلِ، ومَنَ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا ضَبَطَ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ: وأفْعَلَ عَلى أنَّهُ عَلى صِيغَةِ الأمْرِ، ويَعْنِي أنَّهُ يَكُونُ فِعْلُ التَّعَجُّبِ عَلى أفْعَلَ، وبِناؤُهُ مِن: فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وعَلى أفْعَلَ، وحُجَجُ هَذِهِ المَذاهِبِ مُسْتَوْفاةٌ في كُتُبِ النَّحْوِ، والَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ أقْسَطَ هو أنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا مِن قَسَطَ الثُّلاثِيِّ بِمَعْنى عَدَلَ، قالَ ابْنُ السَّيِّدِ في (الِاقْتِضابِ) ما نَصُّهُ: حَكى ابْنُ السَّكِّيتِ في كِتابِ الأضْدادِ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ: قَسَطَ جارَ، وقَسَطَ عَدَلَ، وأقْسَطَ، بِالألِفِ، عَدَلَ لا غَيْرَ. وقالَ ابْنُ القَطّاعِ: قَسَطَ قُسُوطًا وقِسْطًا، جارَ وعَدَلَ ضِدَّ، فَعَلى هَذا لا يَكُونُ شاذًّا، ومَعْنى
﴿أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أعْدَلُ في حُكْمِ اللَّهِ أنْ لا يَقَعَ التَّظالُمُ.
﴿وأقْوَمُ لِلشَّهادَةِ﴾ إنْ كانَ مَن أقامَ فَفِيهِ شُذُوذٌ عَلى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، ومَن جَعَلَهُ مَبْنِيًّا مِن قامَ بِمَعْنى اعْتَدَلَ فَلا شُذُوذَ فِيهِ، وتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّهُ جائِزٌ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أنْ يَكُونَ مِن أقامَ، وقالَ أيْضًا: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى مَعْنى النَّسَبِ مِن قَوِيِّمٍ، انْتَهى.
وعَدَّ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ في التَّعَجُّبِ ما أقْوَمَهُ في الشُّذُوذِ، وجَعَلَهُ مَبْنِيًّا مَنِ اسْتَقامَ، ويَتَعَلَّقُ (لِلشَّهادَةِ) بِـ (أقْوَمُ) وهو مِن حَيْثُ المَعْنى مَفْعُولٌ، كَما تَقُولُ: زِيدٌ أضْرَبُ لِعَمْرٍو مِن خالِدٍ، ولا يَجُوزُ حَذْفُ هَذِهِ اللّامِ والنَّصْبُ إلّا في الشِّعْرِ كَما قالَ الشّاعِرُ:
وأضْرَبَ مِنّا بِالسُّيُوفِ القَوانِسا
وقَدْ تُؤَوَّلُ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ، أيْ: تَضْرِبُ القَوانِسَ، ومَعْنى
﴿وأقْوَمُ لِلشَّهادَةِ﴾ أثْبَتُ وأصَحُّ.
﴿وأدْنى ألّا تَرْتابُوا﴾ أيْ: أقْرَبُ لِانْتِفاءِ الرِّيبَةِ، وقَرَأ السَّلْمِيُّ (أنْ لا يَرْتابُوا) بِالياءِ، والمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وحَسَّنَ حَذْفُهُ كَوْن أفْعَلَ الَّذِي لِلتَّفْضِيلِ وقَعَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وتَقْدِيُرُهُ: الكَتْبُ أقْسَطُ وأقْوَمُ وأدْنى لِكَذا مِن عَدَمِ الكَتْبِ، وقُدِّرَ: أدْنى لِأنْ لا تَرْتابُوا، وإلى أنْ لا تَرْتابُوا، ومِن أنْ لا تَرْتابُوا، ثُمَّ حُذِفَ حَرْفُ الجَرِّ فَبَقِيَ مَنصُوبًا أوْ مَجْرُورًا عَلى الخِلافِ الَّذِي سَبَقَ.
ونَسَقُ هَذِهِ الأخْبارِ في غايَةِ الحُسْنِ، إذْ بُدِئَ أوَّلًا بِالأشْرَفِ، وهو قَوْلُهُ
﴿أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أيْ: في حُكْمِ اللَّهِ، فَيَنْبَغِي أنْ يَتْبِعَ ما أُمِرَ بِهِ، إذِ اتِّباعُهُ هو مُتَعَلِّقُ الدِّينِ الإسْلامِيِّ، وبُنِيَ لِقَوْلِهِ:
﴿وأقْوَمُ لِلشَّهادَةِ﴾ لِأنَّ ما بَعْدَ امْتِثالِ أمْرِ اللَّهِ هو الشَّهادَةُ بَعْدَ الكِتابَةِ، وجاءَ بِالياءِ (وأدْنى ألّا يَرْتابُوا) لِأنَّ انْتِفاءَ الرِّيبَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلى طاعَةِ اللَّهِ في الكِتابَةِ والإشْهادِ، فَعَنْهُما تَنْشَأُ أقْرَبِيَّةُ انْتِفاءِ الرِّيبَةِ، إذْ ذَلِكَ هو الغايَةُ في أنْ لا يَقَعَ رِيبَةٌ، وذَلِكَ لا يَتَحَصَّلُ إلّا بِالكَتْبِ والإشْهادِ غالِبًا، فَيُثْلِجُ الصَّدْرَ بِما كَتَبَ وأشْهَدَ عَلَيْهِ.
و(تَرْتابُوا) بُنِيَ افْتَعَلَ مِنَ الرِّيبَةِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُها في قَوْلِهِ:
﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] قِيلَ: والمَعْنى: أنْ لا تَرْتابُوا بِمَن عَلَيْهِ الحَقَّ أنْ يُنْكِرَ، وقِيلَ: أنْ لا تَرْتابُوا بِالشّاهِدِ أنْ يَضِلَّ، وقِيلَ: في الشَّهادَةِ ومَبْلَغِ الحَقِّ والأجْلِ، وقِيلَ: المَعْنى أقْرَبُ لِنَفْيِ الشَّكِّ لِلشّاهِدِ والحاكِمِ والمُتَعامِلِينَ، وما ضُبِطَ بِالكِتابَةِ والإشْهادِ لا يَكادُ يَقَعُ فِيهِ شَكٌّ ولا لَبْسٌ ولا نِزاعٌ.
* * *﴿إلّا أنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكم فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ ألّا تَكْتُبُوها﴾ في التِّجارَةِ الحاضِرَةِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: ما يُعَجَّلُ ولا يَدْخُلُهُ أجْلٌ مَن بَيْعٍ وثَمَنٍ. والثّانِي: ما يُجَوِّزُهُ المُشْتَرِي مِنَ العُرُوضِ المَنقُولَةِ، وذَلِكَ في الأغْلَبِ إنَّما هو في قَلِيلٍ: كالمَطْعُومِ، بِخِلافِ الأمْلاكِ، ولِهَذا قالَ السُّدِّيُّ، والضَّحّاكُ: هَذا فِيما إذا كانَ يَدًا بِيَدٍ تَأْخُذُهُ وتُعْطِي. وفي مَعْنى الإدارَةِ، قَوْلانِ: أحَدُهُما: يَتَناوَلُونَها مِن يَدٍ إلى يَدٍ، والثّانِي: يَتَبايَعُونَها في كُلِّ وقْتٍ، والإدارَةُ تَقْتَضِي التَّقابُضَ والذَّهابَ بِالمَقْبُوضِ، ولَمّا كانَتِ الرِّباعُ والأرْضُ، وكَثِيرُ مِنَ الحَيَوانِ لا تُقَوِّي البَيْنُونَةَ، ولا يُعابُ عَلَيْها حُسْنُ الكَتْبِ والإشْهادِ فِيها، ولَحِقَتْ بِمُبايَعَةِ الدِّيُونِ، ولَمّا كانَتِ الكِتابَةُ في التِّجارَةِ الحاضِرَةِ الدّائِرَةِ بَيْنَهم شاقَّةً، رُفِعَ الجُناحُ عَنْهم في تَرْكِها؛ ولِأنَّ ما بِيعَ نَقْدًا يَدًا بِيَدٍ لا يَكادُ يَحْتاجُ إلى كِتابَةٍ، إذْ مَشْرُوعِيَّةُ الكِتابَةِ إنَّما هي لِضَبْطِ الدِّيُونِ، إذْ بِتَأْجِيلِها يَقَعُ الوَهْمُ في مِقْدارِها وصِفَتِها وأجْلِها، وهَذا مَفْقُودٌ في مُبايَعَةِ التّاجِرِ يَدًا بِيَدٍ. وهَذا الِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ:
﴿إلّا أنْ تَكُونَ﴾ مُنْقَطِعٌ؛ لِأنَّ ما بِيعَ لِغَيْرِ أجْلِ مُناجَزَةٍ لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ الدِّيُونِ المُؤَجَّلَةِ، وقِيلَ: هو اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ، وهو راجِعٌ إلى قَوْلِهِ:
﴿إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ﴾ إلّا أنْ يَكُونَ الأجَلُ قَرِيبًا، وهو المُرادُ مِنَ التِّجارَةِ الحاضِرَةِ، وقِيلَ: هو مُتَّصِلٌ راجِعٌ إلى قَوْلِهِ:
﴿ولا تَسْأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا إلى أجَلِهِ﴾ وقَرَأ عاصِمٌ
﴿تِجارَةً حاضِرَةً﴾ بِنَصْبِهِما عَلى أنَّ كانَ ناقِصَةً، التَّقْدِيرُ: إلّا أنْ تَكُونَ هي أيْ: التِّجارَةُ. وقَرَأ الباقُونَ بِرَفْعِهِما عَلى أنْ يَكُونَ (تَكُونَ) تامَّةً، و(تِجارَةٌ) فاعِلٌ بِـ (تَكُونَ) وأجازَ بَعْضُهم أنَّ (تَكُونَ) ناقِصَةٌ وخَبُرُها الجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: (تُدِيرُونَها بَيْنَكم) ونَفْيُ الجُناحِ هُنا مَعْناهُ لا مَضَرَّةَ عَلَيْكم في تَرْكِ الكِتابَةِ، هَذا عَلى مَذْهَبِ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ؛ إذِ الكِتابَةُ عِنْدَهم لَيْسَتْ واجِبَةٌ، ومَن ذَهَبَ إلى الوُجُوبِ فَمَعْنى (لا جُناحَ) لا إثْمَ.
﴿وأشْهِدُوا إذا تَبايَعْتُمْ﴾ هَذا أمْرٌ بِالإشْهادِ عَلى التَّبايُعِ مُطْلَقًا، ناجِزًا أوْ كالِئًا؛ لِأنَّهُ أحْوَطُ وأبْعَدُ مِمّا عَسى أنْ يَقَعَ في ذَلِكَ مِنِ الِاخْتِلافِ، وقِيلَ: يَعُودُ إلى التِّجارَةِ الحاضِرَةِ، لَمّا رُخِّصَ في تَرْكِ الكِتابَةِ أُمِرُوا بِالإشْهادِ.
قِيلَ: وهَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ:
﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ [البقرة: ٢٨٣] رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الجُحْدَرِيِّ، والحَسَنِ، وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، والحَكَمِ، وقِيلَ: هي مُحْكَمَةٌ، والأمْرُ في ذَلِكَ عَلى الوُجُوبِ قالَ ذَلِكَ أبُو مُوسى الأشْعَرِيِّ، وابْنُ عُمَرَ، والضَّحّاكُ، وابْنُ المُسَيِّبِ، وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ، ومُجاهِدٌ، وعَطاءٌ، وإبْراهِيمُ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخْعِيُّ، وداوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابْنُهُ أبُو بَكْرٍ، والطَّبَرِيُّ.
قالَ الضَّحّاكُ: هي عَزِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ ولَوْ عَلى باقَةِ بَقْلٍ. وقالَ عَطاءٌ: أشْهِدْ إذا بِعْتَ أوِ اشْتَرَيْتَ بِدِرْهَمٍ، أوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ، أوْ ثَلاثِ دَراهِمَ، أوْ أقَلَّ مِن ذَلِكَ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: لا يَحْلُ لِمُسْلِمٍ إذا باعَ وإذا اشْتَرى إلّا أنْ يَشْهَدَ، وإلّا كانَ مُخالِفًا لِكِتابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وذَهَبَ الحَسَنُ وجَماعَةٌ إلى أنَّ هَذا الأمْرَ عَلى النَّدْبِ والإرْشادِ لا عَلى الحَتْمِ، قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: وهَذا قَوْلُ الكافَّةِ.
﴿ولا يُضارَّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ﴾ هَذا نَهْيٌ، ولِذَلِكَ فُتِحَتِ الرّاءُ؛ لِأنَّهُ مَجْزُومٌ، والمُشَدَّدُ إذا كانَ مَجْزُومًا كَهَذا كانَتْ حَرَكَتُهُ الفُتْحَةَ لِخِفَّتِها؛ لِأنَّهُ مِن حَيْثُ أُدْغِمَ لَزِمَ تَحْرِيكُهُ، فَلَوْ فُكَّ ظَهَرَ فِيهِ الجَزْمُ، واحْتَمَلَ هَذا الفِعْلُ أنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ فَيَكُونُ الكاتِبُ والشَّهِيدُ قَدْ نُهِيا أنْ يَضارّا أحَدًا؛ بِأنْ يَزِيدَ الكاتِبُ في الكِتابَةِ أوْ يُحَرِّفَ، وبِأنْ يَكْتُمَ الشّاهِدُ الشَّهادَةَ، أوْ يُغَيِّرَها أوْ يَمْتَنِعَ مِن أدائِها، قالَ مَعْناهُ الحَسَنُ، وطاوُسُ، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ واخْتارَهُ: الزَّجّاجُ لِقَوْلِهِ بَعْدُ:
﴿وإنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ لِأنَّ اسْمَ الفِسْقِ بِمَن يُحَرِّفُ الكِتابَةَ، ويَمْتَنِعُ مِنَ الشَّهادَةِ، حَتّى يُبْطِلَ الحَقَّ بِالكُلِّيَّةِ أوْلى مِنهُ بِمَن أبْرَمَ الكاتِبُ والشَّهِيدُ، ولِأنَّهُ تَعالى قالَ، فِيمَن يَمْتَنِعُ مِن أداءِ الشَّهادَةِ:
﴿ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣] والآثِمُ والفاسِقُ مُتَقارِبانِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وعَطاءٌ: بِأنْ يَقُولا: عَلَيْنا شُغْلٌ ولَنا حاجَةٌ.
واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَنُهِيَ أنْ يُضارَّهُما أحَدٌ بِأنْ يُعَنَّتا، ويَشُقَّ عَلَيْهِما في تَرْكِ أشْغالِهِما، ويُطْلَبُ مِنهُما ما لا يَلِيقُ في الكِتابَةِ والشَّهادَةِ، قالَ مَعْناهُ أيْضًا ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وطاوُسُ، والضَّحّاكُ، والسُّدِّيُّ، ويُقَوِّي هَذا الِاحْتِمالَ قِراءَةُ عُمَرَ: (ولا يُضارَرْ) بِالفَكِّ وفَتْحِ الرّاءِ الأُولى، رَواها الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ، واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ؛ لِأنَّ الخِطابَ مِن أوَّلِ الآياتِ إنَّما هو لِلْمَكْتُوبِ لَهُ، ولِلْمَشْهُودِ لَهُ، ولَيْسَ لِلشّاهِدِ والكاتِبِ خَطّابٌ تَقَدَّمَ، إنَّما رَدَّهُ عَلى أهْلِ الكِتابَةِ والشَّهادَةِ، فالنَّهْيُ لَهم أبْيَنُ أنْ لا يُضارَّ الكاتِبُ والشَّهِيدُ فَيَشْغَلُونَهُما عَنْ شُغْلِهِما، وهم يَجِدُونَ غَيْرَهُما، ورُجِّحَ هَذا القَوْلُ بِأنَّهُ لَوْ كانَ خِطابًا لِلْكاتِبِ والشَّهِيدِ لَقِيلَ: وإنْ تَفْعَلا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكُما، وإذا كانَ خِطابًا لِلْمُدايِنِينَ فالمَنهِيُّونَ عَنِ الضِّرارِ هم، وحَكى أبُو عَمْرٍو الذّانِّي عَنْ عُمَرَ، وابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وابْنِ أبِي إسْحاقَ: أنَّ الرّاءَ الأُولى مَكْسُورَةٌ، وحَكى عَنْهم أيْضًا فَتْحَها، وفَكَّ الفِعْلِ، والفَكُّ لُغَةُ الحِجازِ، والإدْغامُ لُغَةِ تَمِيمٍ.
وقَرَأ ابْنُ القَعْقاعِ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: ولا (يُضارْ) بِجَزْمِ الرّاءِ، وهو ضَعِيفٌ؛ لِأنَّهُ في التَّقْدِيرِ جَمَعَ بَيْنَ ثَلاثِ سَواكِنَ، لَكِنَّ الألِفَ لِمَدِّها يَجْرِي مَجْرى المُتَحَرِّكِ، فَكَأنَّهُ بَقِيَ ساكِنانِ، والوَقْفُ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ، ثُمَّ أجْرَيا الوَصْلَ مَجْرى الوَقْفِ.
وقَرَأ عِكْرِمَةُ (ولا يُضارِرْ) بِكَسْرِ الرّاءِ الأوْلى والفَكِّ (كاتِبًا ولا شَهِيدًا) بِالنُّصْبِ أيْ: لا يَبْدَأْهُما صاحِبُ الحَقِّ بِضَرَرٍ.
ووُجُوهُ المُضارَّةِ لا تَنْحَصِرُ، ورَوى مُقْسَمٌ عَنْ عِكْرِمَةَ أنَّهُ قَرَأ (ولا يُضارِّ) بِالإدْغامِ وكَسْرِ الرّاءِ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ (ولا يُضارُّ) بِرَفْعِ الرّاءِ المُشَدَّدَةِ، وهي نَفْيٌ مَعْناهُ النَّهْيُ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْسِينُ مَجِيءُ النَّهْيِ بِصُورَةِ النَّفْيِ، وذَلِكَ أنَّ النَّهْيَ إنَّما يَكُونُ عَنْ ما يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، فَإذا بَرَزَ في صُورَةِ النَّفْيِ كانَ أبْلَغُ؛ لِأنَّهُ صارَ مِمّا لا يَقَعُ، ولا يَنْبَغِي أنْ يَقَعَ.
﴿وإنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ ظاهِرُهُ أنَّ مَفْعُولَ (تَفْعَلُوا) المَحْذُوفَ راجِعٌ إلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ
﴿ولا يُضارَّ﴾ وإنْ تَفْعَلُوا لِمُضارَّةٍ أوِ الضِّرارِ فَإنَّهُ - أيْ: الضِّرارِ - فُسُوقٌ بِكم، أيْ: مُلْتَبِسٌ بِكم، أوْ تَكُونُ الباءُ ظَرْفِيَّةً، أيْ: فِيكم، وهَذا أبْلَغُ؛ إذْ جُعِلُوا مَحَلًّا لِلْفِسْقِ.
والخِطابُ في (تَفْعَلُوا) عائِدٌ عَلى الكاتِبِ والشّاهِدِ، إذْ كانَ قَوْلُهُ:
﴿ولا يُضارَّ﴾ قَدْ قُدِّرَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، وأمّا إذا قُدِّرَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فالخِطابُ لِلْمَشْهُودِ لَهم، وقِيلَ: هو راجِعٌ إلى ما وقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ، والمَعْنى: وإنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا مِمّا نَهَيْتُكم عَنْهُ، أوْ تَتْرُكُوا شَيْئًا مِمّا أمَرْتُكم بِهِ، فَهو عامٌّ في جَمِيعِ التَّكالِيفِ، فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكم، أيْ: خُرُوجٌ عَنْ أمْرِ اللَّهِ وطاعَتِهِ.
﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيْ: في تَرْكِ الضِّرارِ، أوْ في جَمِيعِ أوامِرِهِ ونَواهِيِهِ. ولَمّا كانَ قَوْلُهُ:
﴿وإنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ خِطابًا عَلى سَبِيلِ الوَعِيدِ، أمَرَ بِتَقْوى اللَّهِ حَتّى لا يَقَعَ في الفِسْقِ.
﴿ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ هَذِهِ جُمْلَةُ تَذْكِرٍ بِنِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أشْرَفَها: التَّعْلِيمُ لِلْعُلُومِ، وهي جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، وقِيلَ: هي في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ الفاعِلِ في (واتَّقُوا) تَقْدِيرُهُ: واتَّقُوا اللَّهَ مَضْمُونًا لَكُمُ التَّعْلِيمُ والهِدايَةُ، وقالَ أبُو البَقاءِ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مُقَدَّرَةً، انْتَهى. وهَذا القَوْلُ - أعْنِي: الحالَ _ ضَعِيفٌ جَدًّا؛ لِأنَّ المُضارِعَ الواقِعُ حالًا، لا يَدْخُلُ عَلَيْهِ واوُ الحالِ إلّا فِيما شَذَّ مِن نَحْوِ: قُمْتُ وأصُكُّ عَيْنَهُ، ولا يَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ القُرْآنُ عَلى الشُّذُوذِ.
﴿واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ إشارَةٌ إلى إحاطَتِهِ تَعالى بِالمَعْلُوماتِ، فَلا يَشِذُّ عَنْهُ مِنها شَيْءٌ، وفِيها إشْعارٌ بِالمُجازاةِ لِلْفاسِقِ والمُتَّقِي، وأُعِيدَ لَفْظُ اللَّهِ في هَذِهِ الجُمَلِ الثَّلاثِ عَلى طَرِيقِ تَعْظِيمِ الأمْرِ، جُعِلَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنها مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِها لا تَحْتاجُ إلى رَبْطٍ بِالضَّمِيرِ، بَلِ اكْتُفِيَ فِيها بِرَبْطِ حَرْفِ العَطْفِ، ولَيْسَتْ في مَعْنى واحِدٍ، فالأُولى: حَثٌّ عَلى التَّقْوى. والثّانِيَةُ: تَذَكُّرٌ بِالنِّعَمِ. والثّالِثَةُ: تَتَضَمَّنُ الوَعْدَ والوَعِيدَ، وقِيلَ: مَعْنى الآيَةِ الوَعْدُ، فَإنَّ مَنِ اتَّقى عَلَّمَهُ اللَّهُ، وكَثِيرًا ما يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ بَعْضُ المُتَطَوِّعَةِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يَتَجافَوُنَّ عَنِ الِاشْتِغالِ بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ، مِنَ الفِقْهِ وغَيْرِهِ، إذا ذُكِرَ لَهُ العِلْمُ، والِاشْتِغالُ بِهِ، قالُوا: قالَ اللَّهُ:
﴿واتَّقُوا اللَّهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ ومِن أيْنَ تُعْرَفُ التَّقْوى ؟ وهَلْ تُعْرَفُ إلًّا بِالعِلْمِ ؟ .