الباحث القرآني

﴿أيَوَدُّ أحَدُكم أنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ﴾ لَمّا تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ إبْطالِ الصَّدَقَةِ بِالمَنِّ والأذى، وشَبَّهَ فاعِلَ ذَلِكَ بِالمُنْفِقِ رِئاءً، ومَثَّلَ حالَهُ بِالصَّفْوانِ المَذْكُورِ، ثُمَّ مَثَّلَ حالَ مَن أنْفَقَ ابْتِغاءَ وجْهِ اللَّهِ، أعْقَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ السُّدِّيُّ: هَذا مَثَلٌ آخَرُ لِلْمُرائِي، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هو مَثَلٌ لَلْمانِّ في الصَّدَقَةِ، وقالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والرَّبِيعُ، وغَيْرُهم: لِلْمُفْرِطِ في الطّاعَةِ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لِمَن أُعْطِيَ الشَّبابَ والمالَ، فَلَمْ يَعْمَلْ حَتّى سُلِبا. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لِمَن عَمِلَ أنْواعَ الطّاعاتِ كَجَنَّةٍ فِيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ، فَخَتَمَها بِإساءَةٍ كَإعْصارٍ، فَشَبَّهَ تَحَسُّرَهُ حِينَ لا عَوْدَ بِتَحَسُّرِ كَبِيرٍ هَلَكَتْ جَنَّتُهُ أحْوَجَ ما كانَ إلَيْها، وأعْجَزَ عَنْ عِمارَتِها، ورُوِيَ نَحْوٌ مِن هَذا عَنْ عُمَرَ، وقالَ الحَسَنُ: هَذا مَثَلٌ قَلَّ واللَّهِ مَن يَعْقِلُهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعُفَ جِسْمُهُ وكَثُرَ صِبْيانُهُ، أفْقَرُ ما كانَ إلى جَنَّتِهِ، وإنَّ أحَدَكم واللَّهِ أفْقَرُ ما يَكُونُ إلى عَمَلِهِ إذا انْقَطَعَتْ عَنْهُ الدُّنْيا. والهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهامِ، والمَعْنى عَلى التَّبْعِيدِ والنَّفْيِ، أيْ: ما يَوَدُّ أحَدٌ ذَلِكَ ؟ وأحَدٌ هُنا لَيْسَ المُخْتَصَّ بِالنَّفْيِ وشِبْهِهِ، وإنَّما المَعْنى: أيَوَدُّ (p-٣١٤)واحِدٌ مِنكم ؟ عَلى طَرِيقِ البَدَلِيَّةِ، وقَرَأ الحَسَنُ: (جَنّاتٌ) بِالجَمْعِ. ﴿مِن نَخِيلٍ وأعْنابٍ﴾ لَمّا كانَ النَّخِيلُ والأعْنابُ أكْرَمَ الشَّجَرِ وأكْثَرَها مَنافِعَ، خُصّا بِالذِّكْرِ، وجُعِلَتِ الجَنَّةُ مِنهُما، وإنْ كانَ في الجَنَّةِ غَيْرُهُما، وحَيْثُ جاءَ في القُرْآنِ ذِكْرُ هَذا، نَصَّ عَلى النَّخِيلِ دُونَ الثَّمَرَةِ، وعَلى ثَمَرَةِ الكَرْمِ دُونَ الكَرْمِ، وذَلِكَ لِأنَّ أعْظَمَ مَنافِعِ الكَرْمِ هو ثَمَرَتُهُ دُونَ أصْلِهِ، والنَّخِيلُ كُلُّهُ مَنافِعُهُ عَظِيمَةٌ، تُوازِي مَنفَعَةَ ثَمَرَتِهِ مِن خَشَبِهِ وجَرِيدِهِ ولِيفِهِ وخُوصِهِ، وسائِرِ ما يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ، واللَّهُ أعْلَمُ، اقْتَصَرَ عَلى ذِكْرِ النَّخِيلِ وثَمَرَةِ الكَرْمِ. ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذا في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. ﴿لَهُ فِيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ فِيهِ أشْجارٌ غَيْرُ النَّخِيلِ والكَرْمِ، كَما ذَكَرْنا قَبْلَ هَذا الظّاهِرِ، وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يُرِيدَ بِالثَّمَراتِ المَنافِعَ الَّتِي كانَتْ تَحْصُلُ لَهُ فِيها، وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُرَكَّبَةٌ مِن مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ، فَعَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ: مِن زائِدَةٌ، التَّقْدِيرُ: لَهُ فِيها كُلُّ الثَّمَراتِ، عَلى إرادَةِ التَّكْثِيِرِ، بِلَفْظِ العُمُومِ، لا أنَّ العُمُومَ مُرادٌ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ زائِدَةً عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ؛ لِأنَّهم شَرَطُوا في زِيادَتِها أنْ يَكُونَ بَعْدَها نَكِرَةٌ، نَحْوَ: قَدْ كانَ مِن مَطَرٍ، وأمّا عَلى مَذْهَبِ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ، فَلا يَجُوزُ زِيادَتُها؛ لِأنَّهم شَرَطُوا أنْ يَكُونَ قَبْلَها غَيْرُ مُوجَبٍ، وبَعْدَها نَكِرَةٌ، ويَحْتاجُ هَذا إلى تَقْيِيدٍ، قَدْ ذَكَرْناهُ في كِتابِ (مَنهَجِ السّالِكِ) مِن تَأْلِيفِنا، ويَتَخَرَّجُ مَذْهَبُ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ عَلى حَذْفِ المُبْتَدَأِ المَحْذُوفِ، تَقْدِيرُهُ: لَهُ فِيها رِزْقٌ، أوْ ثَمَراتٌ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ، ونَظِيرُهُ في الحَذْفِ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎كَأنَّكَ مِن جِمالِ بَنِي أُقَيْشٍ تُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ التَّقْدِيرُ: كَأنَّكَ جَمَلٌ مِن جِمالِ بَنِي أُقَيْشٍ، حُذِفَ جَمَلٌ، لِدَلالَةِ: ”مِن جِمالِ“ عَلَيْهِ، كَما حُذِفَ ثَمَراتٌ لِدَلالَةِ ﴿مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ عَلَيْهِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما مِنّا إلّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤] أيْ: وما أحَدٌ مِنّا، فَأحَدٌ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفٌ، ومِنّا صِفَةٌ، وما بَعْدَ (إلّا) جُمْلَةُ خَبَرٍ عَنِ المُبْتَدَأِ. ﴿وأصابَهُ الكِبَرُ﴾ الظّاهِرُ أنَّ الواوَ لِلْحالِ، (وقَدْ) مُقَدَّرَةٌ أيْ: وقَدْ أصابَهُ الكِبَرُ، كَقَوْلِهِ: ﴿وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] ﴿وقَعَدُوا لَوْ أطاعُونا﴾ [آل عمران: ١٦٨] أيْ: وقَدْ كُنْتُمْ، وقَدْ قَعَدُوا، وقِيلَ مَعْناهُ: ويُصِيبُهُ، فَعُطِفَ الماضِي عَلى المُضارِعِ لِوَضْعِهِ مَوْضِعَهُ، وقالَ الفَرّاءُ: يَجُوزُ ذَلِكَ في (يَوَدُّ) لِأنَّهُ يَتَلَقّى مَرَّةً بِـ (أنْ) ومَرَّةً بِـ (أوْ)، فَجازَ أنْ يُقَدَّرَ أحَدُهُما مَكانَ الآخَرِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقِيلَ يُقالُ: ودِدْتُ لَوْ كانَ كَذا، فَحُمِلَ العَطْفُ عَلى المَعْنى، كَأنَّهُ قِيلَ: أيَوَدُّ أحَدُكم لَوْ كانَتْ لَهُ جَنَّةٌ، وأصابَهُ الكِبَرُ ؟ انْتَهى. وظاهِرُ كَلامِهِ أنْ يَكُونَ (وأصابَهُ) مَعْطُوفًا عَلى مُتَعَلِّقِ (أيَوَدُّ) وهو (أنْ تَكُونَ) لِأنَّهُ في مَعْنى: لَوْ كانَتْ، إذْ يُقالُ: أيَوَدُّ أحَدُكم لَوْ كانَتْ ؟ وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِن حَيْثُ (أنْ يَكُونَ) مَعْطُوفًا عَلى: كانَتْ، الَّتِي قَبْلَها (لَوْ)؛ لِأنَّهُ مُتَعَلِّقُ الوُدِّ، وأمّا ﴿وأصابَهُ الكِبَرُ﴾ فَلا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقَ الوُدِّ؛ لِأنَّ إصابَةَ الكِبَرِ لا يَوَدُّهُ أحَدٌ ولا يَتَمَنّاهُ، لَكِنْ يُحْمَلُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلى أنَّهُ: لَمّا كانَ (أيَوَدُّ) اسْتِفْهامًا مَعْناهُ الإنْكارُ، جُعِلَ مُتَعَلِّقُ الوِدادَةِ الجَمْعَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وهُما كَوْنُ جَنَّةٍ لَهُ، وإصابَةُ الكِبَرِ إيّاهُ، لا أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يَكُونُ مَوْدُودًا عَلى انْفِرادِهِ، وإنَّما أنْكَرَ وِدادَهُ الجَمْعُ بَيْنَهُما، وفي لَفْظِ الإصابَةِ مَعْنى التَّأْثِيرِ، وهو أبْلَغُ مِن وكَبِرَ، وكَذَلِكَ بِرَبْوَةٍ أصابَها وابِلٌ، وعَلَيْهِ تُرابٌ فَأصابَهُ وابِلٌ، ولَمْ يَأْتِ: وبَلَتْ، ولا تُوبِلُ، والكِبَرُ: الشَّيْخُوخَةُ، وعُلُوُّ السِّنِّ. ﴿ولَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ﴾ وقُرِئَ: ضِعافٌ، وكِلاهُما جَمْعُ ضَعِيفٍ، كَظَرِيفٍ وظُرَفاءَ وظِرافٍ، والمَعْنى (p-٣١٥)ذُرِّيَّةٌ صِبْيَةٌ صِغارٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِضُعَفاءَ مَحاوِيجُ. ﴿فَأصابَها إعْصارٌ فِيهِ نارٌ فاحْتَرَقَتْ﴾ قالَ فِيهِ: فَأتى بِالضَّمِيرِ مُذَكَّرًا؛ لِأنَّ الإعْصارَ مُذَكَّرٌ مِن سائِرِ أسْماءِ الرِّياحِ، وارْتِفاعُ (نارٌ) عَلى الفاعِلِيَّةِ بِالجارِ قَبْلَهُ، أوْ: كائِنٌ فِيهِ نارٌ، وفي العَطْفِ بِالفاءِ في قَوْلِهِ: ﴿فَأصابَها إعْصارٌ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّها حِينَ أزْهَتْ وحَسُنَتْ لِلِانْتِفاعِ بِها أعْقَبَها الإعْصارُ. ﴿فاحْتَرَقَتْ﴾ هَذا فِعْلٌ مُطاوِعٌ لِأحْرَقَ، كَأنَّهُ قِيلَ: فِيهِ نارٌ أحْرَقَتْها فاحْتَرَقَتْ، كَقَوْلِهِ: أنْصَفْتُهُ فانْتَصَفَ، وأوْقَدْتُهُ فاتَّقَدَ، وهَذِهِ المُطاوَعَةُ هي انْفِعالٌ في المَفْعُولِ يَكُونُ لَهُ قابِلِيَّةٌ لِلْواقِعِ بِهِ، فَيَتَأثَّرُ لَهُ، والنّارُ الَّتِي في الإعْصارِ هي السَّمُومُ الَّتِي تَكُونُ فِيها، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: السَّمُومُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ مِنها الجانَّ جُزْءٌ مِن سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النّارِ، يَعْنِي نارَ الآخِرَةِ، وقَدْ فَسَّرَ أنَّها هَلَكَتْ بِالصّاعِقَةِ، وقالَ الحَسَنُ، والضَّحّاكُ: إعْصارٌ فِيهِ نارٌ، أيْ: رِيحٌ فِيها صِرُّ بَرْدٍ. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ﴾ أيْ: مِثْلُ هَذا البَيانِ تُصْرَفُ الأمْثالُ المُقَرِّبَةُ الأشْياءِ لِلذِّهْنِ، يُبَيِّنُ لَكُمُ العَلاماتِ الَّتِي يُوَصَّلُ بِها إلى اتِّباعِ الحَقِّ. ﴿لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ﴾ أيْ: تَعْلَمُونَ أفْكارَكم فِيما يَفْنى ويَضْمَحِلُّ مِنَ الدُّنْيا، وفِيما هو باقٍ لَكم في الآخِرَةِ، فَتَزْهَدُونَ في الدُّنْيا، وتَرْغَبُونَ في الآخِرَةِ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الكَرِيمَةُ مِن ضُرُوبِ الفَصاحَةِ وصُنُوفِ البَلاغَةِ أنْواعًا: مِنَ الِانْتِقالِ مِنَ الخُصُوصِ إلى العُمُومِ، ومِنَ الإشارَةِ، ومِنَ التَّشْبِيهِ، ومِنَ الحَذْفِ، ومِنَ الِاخْتِصاصِ، ومِنَ الأمْثالِ، ومِنَ المَجازِ، وكُلُّ هَذا قَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ غُضُونُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآياتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب