الباحث القرآني
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أنْفَقُوا مَنًّا ولا أذًى لَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٢] ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ومَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أذًى واللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٦٣] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكم بِالمَنِّ والأذى كالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ ولا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٦٤] ﴿ومَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ وتَثْبِيتًا مِن أنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٦٥] ﴿أيَوَدُّ أحَدُكم أنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وأعْنابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ لَهُ فِيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ وأصابَهُ الكِبَرُ ولَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأصابَها إعْصارٌ فِيهِ نارٌ فاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٦] (p-٣٠٢)الحَبَّةُ: اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ ما يَزْرَعُهُ ابْنُ آدَمَ ويَقْتاتُهُ، وأشْهَرُ ذَلِكَ البُرُّ، وكَثِيرًا ما يُرادُ بِالحَبِّ، ومِنهُ قَوْلُ المُتَلَمِّسِ:
؎آلَيْتُ حَبَّ العِراقِ الدَّهْرَ أُطْعَمُهُ والحَبُّ يَأْكُلُهُ في القَرْيَةِ السُّوسُ
وحَبَّةُ القَلْبِ سُوَيْداؤُهُ، والحِبَّةُ بِكَسْرِ الحاءِ بُذُورُ البَقْلِ مِمّا لَيْسَ بِقُوتٍ، والحُبَّةُ بِالضَّمِّ الحُبُّ والحُبُّ الحَبِيبُ. الإنْباتُ: الإخْراجُ عَلى سَبِيلِ التَّوَلُّدِ. السُّنْبُلَةُ: مَعْرُوفَةٌ، ووَزْنُها فُنْعُلَةٌ، فالنُّونُ زائِدَةٌ بِذَلِكَ عَلى قَوْلِهِمْ: أسْبَلَ الزَّرْعُ أرْسَلَ ما فِيهِ كَما يَنْسَبِلُ الثَّوْبُ، وحَكى بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ سَنْبَلَ الزَّرْعَ. قالَ بَعْضُ أصْحابِنا: النُّونُ أصْلِيَّةٌ، ووَزْنُهُ فَعْلَلَ؛ لِأنَّ فَنَعْلَ لَمْ يَثْبُتْ فَيَكُونُ مَعَ أسْبَلَ كَسِبْطٍ وسِبَطَرٍ.
المَنُّ: ما يُوزَنُ بِهِ، والمَنُّ قَدَرُ الشَّيْءِ ووَزْنُهُ، والمَنُّ والمِنَّةُ النِّعْمَةُ، مَنَّ عَلَيْهِ أنْعَمَ. ومِن أسْمائِهِ تَعالى: المَنّانُ، والمَنُّ النَّقْصُ مِنَ الحَقِّ والبَخْسُ لَهُ، ومِنهُ المَنُّ المَذْمُومُ، وهو ذِكْرُ المِنَّةِ لِلْمُنْعَمِ عَلَيْهِ عَلى سَبِيلِ الفَخْرِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، والِاعْتِدادِ عَلَيْهِ بِإحْسانِهِ، وأصْلُ المَنِّ القَطْعُ؛ لِأنَّ المُنْعِمَ يَقْطَعُ قِطْعَةً مِن مالِهِ لِمَن يُنْعَمُ عَلَيْهِ. الغَنِيُّ، فَعِيلٌ لِلْمُبالَغَةِ مِن غِنى وهو الَّذِي لا حاجَةَ لَهُ إلى أحَدٍ كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎كِلانا غَنِيٌّ عَنْ أخِيهِ حَياتُهُ
ويُقالُ: غَنِيٌّ أقامَ بِالمَكانِ، والغانِيَةُ هي الَّتِي غَنِيَتْ بِحُسْنِها عَنِ التَّحَسُّنِ. الرِّئاءُ: فِعالٌ مَصْدَرٌ مِن راءٍ مِنَ الرُّؤْيَةِ، ويَجُوزُ إبْدالُ هَمْزَتِهِ ياءً لِكَسْرَةِ ما قَبْلَها، وهو أنْ يَرى النّاسَ ما يَفْعَلُهُ مِنَ البِرِّ حَتّى يُثْنُوا عَلَيْهِ ويُعَظِّمُوهُ بِذَلِكَ لا نِيَّةَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ.
الصَّفْوانُ: الحَجَرُ الكَبِيرُ الأمْلَسُ، وتَحْرِيكُ فائِهِ بِالفَتْحِ لُغَةٌ، وقِيلَ: هو اسْمُ جِنْسٍ واحِدُهُ صَفْوانَةٌ. وقالَ الكِسائِيُّ: الصَّفْوانُ واحِدُهُ صَفِيٌّ، وأنْكَرَهُ المُبَرِّدُ وقالَ: صُفِيٌّ جَمْعُ صَفا نَحْوَ: عَصا وعُصِيٍّ، وقَفا وقُفِيٍّ. وقالَ الكِسائِيُّ أيْضًا: صَفْوانٌ واحِدٌ، وجَمْعُهُ صِفْوانٌ بَكَسْرِ الصّادِ. وقالَهُ النَّحاسُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَكْسُورُ الصّادِ واحِدًا. وما قالَهُ الكِسائِيُّ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ صَفْوانٌ جَمْعٌ لِصَفا. كَوَرَلٍ ووِرْلانِ، وأخٍ وإخْوانٍ. وكَرى وكَرَوانِ.
التُّرابُ: مَعْرُوفٌ ويُقالُ فِيهِ تَوْرابٌ، وتَرِبَ الرَّجُلُ افْتَقَرَ، واتَّرَبَ اسْتَغْنى، الهَمْزَةُ فِيهِ لِلسَّلْبِ، أيْ: زالَ عَنْهُ التُّرْبُ وهو الفَقْرُ، وإذا زالَ عَنْهُ كانَ غَنِيًّا. الوابِلُ: المَطَرُ الشَّدِيدُ، وبَلَتِ السَّماءُ تَبِلُّ، والأرْضُ مَوْبُولَةٌ. وقالَ النَّضْرُ: أوَّلُ ما يَكُونُ المَطَرُ رَشًّا، ثُمَّ طَسًّا، ثُمَّ طَلًّا، ورَذاذًا، ثُمَّ نَضْحًا وهو قَطْرَتَيْنِ قَطْرَتَيْنِ، ثُمَّ هَطْلًا وتَهْتانًا، ثُمَّ وابِلًا وُجُودًا. والوَبِيلُ: الوَخِيمُ، والوَبِيلُ: العَصا الغَلِيظَةُ، والوَبِيلَةُ حُزْمَةُ الحَطَبِ. الصَّلْدُ: الأجْرَدُ الأمْلَسُ النَّقِيُّ مِنَ التُّرابِ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ، ومِنهُ صَلَدَ جَبِينُ الأصْلَعِ بَرَقَ. يُقالُ: صَلَدَ يَصْلُدُ صَلَدًا، بِتَحْرِيكِ اللّامِ فَهو صَلْدٌ بِالإسْكانِ. وقالَ النَّقّاشُ: الصَّلْدُ الأجْرَدُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ. وحَكى أبانُ بْنُ تَغْلِبٍ: أنَّ الصَّلْدَ هو اللَّيِّنُ مِنَ الحِجارَةِ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى: الصَّلْدُ، الخالِي مِنَ الخَيْرِ مِنَ الحِجارَةِ والأرَضِينَ وغَيْرِهِما، ومِنهُ: قَدْرٌ صَلُودٌ: بَطِيئَةُ الغَلَيانِ.
الرَّبْوَةُ: قالَ الخَلِيلُ: أرْضٌ مُرْتَفِعَةٌ طَيِّبَةٌ، ويُقالُ فِيها: الرِّباوَةُ، وتُثَلَّثُ الرّاءُ في اللُّغَتَيْنِ، ويُقالُ: رابِيَةٌ. قالَ الشّاعِرُ:
؎وغَيْثٍ مِنَ الوَسْمِيِّ حُوٍّ تِلاعُهُ ∗∗∗ أجابَتْ رَوابِيهِ النِّجا وهَواطِلُهُ
وقالَ الأخْفَشُ: ويُخْتارُ الضَّمُّ في رَبْوَةٍ؛ لِأنَّهُ لا يَكادُ يُسْمَعُ في الجَمْعِ إلّا الرِّبا، وأصْلُهُ مِن رَبا الشَّيْءُ زادَ وارْتَفَعَ. وتَفْسِيرُ السُّدِّيِّ بِأنَّها: ما انْخَفَضَ مِنَ الأرْضِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. الطَّلُّ: المُسْتَدَقُّ مِنَ القَطْرِ الخَفِيفِ، هَذا مَشْهُورُ اللُّغَةِ. وقالَ قَوْمٌ، مِنهم مُجاهِدٌ: الطَّلُّ النَّدى، وهَذا تَجَوُّزٌ. وفي (الصِّحاحِ): الطَّلُّ (p-٣٠٣)أضْعَفُ المَطَرِ، والجَمْعُ طِلالٌ، يُقالُ: طَلَّتِ الأرْضُ وهي مَطْلُولٌ، قالَ الشّاعِرُ:
؎ولَمّا نَزَلْنا مَنزِلًا طَلَّهُ النَّدى
ويُقالُ أيْضًا: أطَلَّها النَّدى، والطَّلَّةُ الزَّوْجَةُ.
النَّخِيلُ: اسْمُ جَمْعٍ أوْ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، كَنَخْلٍ اسْمُ الجِنْسِ، كَما قالُوا: كَلْبٌ وكُلَيْبٌ. قالَ الرّاغِبُ: سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأنَّهُ مَنخُولُ الأشْجارِ وصَفْوُها، وذَلِكَ أنَّهُ أكْرَمُ ما يَنْبُتُ، لِكَوْنِهِ مُشَبَّهًا لِلْحَيَوانِ في احْتِياجِ الأُنْثى مِنهُ إلى الفَحْلِ في التَّذْكِيرِ، أيِ: التَّلْقِيحِ، وأنَّهُ إذا قُطِعَ رَأْسُهُ لَمْ يُثْمِرْ. العِنَبُ: ثَمَرُ الكَرْمِ، وهو اسْمُ جِنْسٍ، واحِدُهُ عِنَبَةٌ، وجُمِعَ عَلى أعْنابٍ، ويُقالُ: عِنَباءُ بِالمَدِّ غِيرِ مُنْصَرِفٍ عَلى وزْنِ سِيَراءَ في مَعْنى العِنَبِ. الإعْصارُ: رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَرْتَفِعُ فَيَرْتَفِعُ مَعَها غُبارٌ إلى السَّماءِ يُسَمِّيها العامَّةُ الزَّوْبَعَةُ، قالَهُ الزَّجّاجُ، وقِيلَ: الرِّيحُ السَّمُومُ الَّتِي تَقْتُلُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأنَّها تَعْصِرُ السَّحابَ، وجَمْعُها أعاصِيرُ.
الِاحْتِراقُ: مَعْرُوفٌ وفِعْلُهُ لا يَتَعَدّى، ومُتَعَدِّيهِ رُباعِيٌّ، تَقُولُ: أحْرَقَتِ النّارُ الحَطَبَ والخُبْزَ، وحَرَقَ نابُ الرَّجُلِ، ثُلاثِيٌّ لازِمٌ، إذا احْتَكَّ بِغَيْرِهِ غَيْظًا، ومُتَعَدٍّ تَقُولُ: حَرَقَ الرَّجُلُ نابَهُ، حَكَّهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الغَيْظِ. قالَ الشّاعِرُ:
؎أبى الضَّيْمَ والنُّعْمانُ يَحْرِقُ نابَهُ ∗∗∗ عَلَيْهِ فَأفْضى والسُّيُوفُ مَعاقِلُهُ
قَرَأْناهُ بِرَفْعِ النّابِ ونَصْبِهِ.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها هي أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ قِصَّةَ المارِّ عَلى قَرْيَةٍ وقِصَّةَ إبْراهِيمَ، وكانا مِن أدَلِّ دَلِيلٍ عَلى البَعْثِ، ذَكَرَ ما يَنْتَفِعُ بِهِ يَوْمَ البَعْثِ، وما يَجِدُ جَدْواهُ هُناكَ، وهو الإنْفاقُ في سَبِيلِ اللَّهِ، كَما أعْقَبَ قِصَّةَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيارِهِمْ وهم أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ بِقَوْلِهِ: ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: ٢٤٥] وكَما أعْقَبَ قَتْلَ داوُدَ جالُوتَ، وقَوْلَهُ: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما اقْتَتَلُوا﴾ [البقرة: ٢٥٣] بِقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكم مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٤] فَكَذَلِكَ أعْقَبَ هُنا ذِكْرَ الإحْياءِ والإماتَةِ بِذِكْرِ النَّفَقَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِأنَّ ثَمَرَةَ النَّفَقَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ إنَّما تَظْهَرُ حَقِيقَةً يَوْمَ البَعْثِ: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾ [آل عمران: ٣٠] واسْتِدْعاءُ النَّفَقَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ مُذَكِّرٌ بِالبَعْثِ، وخاضَ عَلى اعْتِقادِهِ؛ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُودَهُ لَما كانَ يُنْفِقُ في سَبِيلِ اللَّهِ، وفي تَمْثِيلِ النَّفَقَةِ بِالحَبَّةِ المَذْكُورَةِ إشارَةٌ أيْضًا إلى البَعْثِ، وعَظِيمِ القُدْرَةِ، إذْ حَبَّةٌ واحِدَةٌ يُخْرِجُ اللَّهُ مِنها سَبْعَمِائَةِ حَبَّةٍ، فَمَن كانَ قادِرًا عَلى مِثْلِ هَذا الأمْرِ العُجابِ فَهو قادِرٌ عَلى إحْياءِ المَواتِ، وبِجامِعِ ما اشْتَرَكا فِيهِ مِنَ التَّغْذِيَةِ والنُّمُوِّ.
ويُقالُ: لَمّا ذَكَرَ المَبْدَأ والمَعادَ، ودَلائِلَ صِحَّتِها، أتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيانِ الشَّرائِعِ والأحْكامِ والتَّكالِيفِ، فَبَدَأ بِإنْفاقِ الأمْوالِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وأمْعَنَ في ذَلِكَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلى كَيْفِيَّةِ تَحْصِيلِ الأمْوالِ بِالوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ شَرْعًا. ولَمّا أجْمَلَ في ذِكْرِ التَّضْعِيفِ في قَوْلِهِ: ﴿أضْعافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥] وأطْلَقَ في قَوْلِهِ: ﴿أنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكم مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٤] فَصَّلَ في هَذِهِ الآيَةِ، وقَيَّدَ بِذِكْرِ المُشَبَّهِ بِهِ، وما بَيْنَ الآياتِ دَلالَةٌ عَلى قُدْرَتِهِ عَلى الإحْياءِ والإماتَةِ، إذْ لَوْلا ذَلِكَ لَمْ يُحْسِنِ التَّكْلِيفَ كَما ذَكَرْناهُ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ مِنَ المُناسَبَةِ والمَثَلُ هُنا الصِّفَةُ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾ أيْ: كَصِفَةِ حَبَّةٍ، وتَقْدِيرُ زِيادَةِ الكافِ، أوْ زِيادَةِ مَثَلٍ، قَوْلٌ بَعِيدٌ، وهَذِهِ الآيَةُ شَبِيهَةٌ في تَقْدِيرِ الحَذْفِ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ [البقرة: ١٧١] فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الحَذْفُ مِنَ الأوَّلِ، أيْ: مَثَلُ مُنْفِقِ الَّذِينَ، أوْ مِنَ الثّانِي: أيْ كَمَثَلِ زارِعٍ حَتّى يَصِحَّ التَّشْبِيهُ، أوْ مِنَ الأوَّلِ ومِنَ الثّانِي بِاخْتِلافِ التَّقْدِيرِ، أيْ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللَّهِ ومُنْفِقُهم، كَمَثَلِ حَبَّةٍ وزارِعُها، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في تَقْرِيرِ هَذا الوَجْهِ في قِصَّةِ الكافِرِ والنّاعِقِ، فَيُطالَعُ (p-٣٠٤)هُناكَ، وهَذا المَثَلُ يَتَضَمَّنُ التَّحْرِيضَ عَلى الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ جَمِيعَ ما هو طاعَةٌ، وعائِدُ نَفْعِهِ عَلى المُسْلِمِينَ، وأعْظَمُها وأغْناها الجِهادُ لِإعْلاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وقِيلَ: المُرادُ: بِسَبِيلِ اللَّهِ، هُنا الجِهادُ خاصَّةً، وظاهِرُ الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ يَقْتَفِي الفَرْضَ والنَّفْلَ، ويَقْتَضِي الإنْفاقَ عَلى نَفْسِهِ في الجِهادِ وغَيْرِهِ، والإنْفاقَ عَلى غَيْرِهِ لِيَتَقَوّى بِهِ عَلى طاعَةٍ مِن جِهادٍ أوْ غَيْرِهِ، وشُبِّهَ الإنْفاقُ بِالزَّرْعِ؛ لِأنَّ الزَّرْعَ لا يَنْقَطِعُ، وأظْهَرَ تاءَ التَّأْنِيثِ عِنْدَ السِّينِ الحَرَمِيّانِ، وعاصِمٌ، وابْنُ ذَكْوانَ، وأدْغَمَ الباقُونَ. ولِتُقارِبِ السِّينِ مِنَ التّاءِ أُبْدِلَتْ مِنها، النّاتُ والأكْياتُ في النّاسِ والأكْياسِ.
ونُسِبَ الإنْباتُ إلى الحَبَّةِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ، إذْ كانَتْ سَبَبًا لِلْإنْباتِ، كَما يُنْسَبُ ذَلِكَ إلى الماءِ والأرْضِ والمَنبَتُ هو اللَّهُ، والمَعْنى: أنَّ الحَبَّةَ خَرَجَ مِنها ساقٌ تَشَعَّبَ مِنها سَبْعَ شُعَبٍ، في كُلِّ شُعْبَةٍ سُنْبُلَةٌ، في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وهَذا التَّمْثِيلُ تَصْوِيرٌ لِلْأضْعافِ كَأنَّها ماثِلَةٌ بَيْنَ عَيْنَيِ النّاظِرِ، قالُوا: والمُمَثَّلُ بِهِ مَوْجُودٌ، شُوهِدَ ذَلِكَ في سُنْبُلَةِ الجاوَرْسِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو مَوْجُودٌ في الدُّخْنِ والذُّرَةِ وغَيْرِهِما، ورُبَّما فُرِّخَتْ ساقُ البُرَّةِ في الأراضِي القَوِيَّةِ المُغِلَّةِ، فَبَلَغَ حَبُّها هَذا المَبْلَغَ، ولَوْ لَمْ يُوجَدْ لَكانَ صَحِيحًا في سَبِيلِ الفَرْضِ والتَّقْدِيرِ، انْتَهى كَلامُهُ.
وقالَ ابْنُ عِيسى: ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ في الدُّخْنِ، عَلى أنَّ التَّمْثِيلَ يَصِحُّ بِما يُتَصَوَّرُ، وإنْ لَمْ يُعايَنْ، كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎فَما تَدُومُ عَلى عَهْدٍ تَكُونُ بِهِ ∗∗∗ كَما تَلَوَّنُ في أثْوابِها الغُولُ
انْتَهى كَلامُهُ، وكَما قالَ امْرِؤُ القَيْسِ:
؎أيَقْتُلُنِي والمَشْرَفِيُّ مُضاجِعِي ∗∗∗ ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأنْيابِ أغْوالِ
وخَصَّ سَبْعًا مِنَ العَدَدِ؛ لِأنَّهُ كَما ذَكَرَ، وأقْصى ما تُخْرِجُهُ الحَبَّةُ مِنَ الأسْؤُقِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَدْ يُوجَدُ في سُنْبُلِ القَمْحِ ما فِيهِ مِائَةُ حَبَّةٍ، وأمّا في سائِرِ الحُبُوبِ فَأكْثَرُ، ولَكِنَّ المِثالَ وقَعَ بِمِائَةٍ، وقَدْ ورَدَ القُرْآنُ بِأنَّ الحَسَنَةَ في جَمِيعِ أعْمالِ البِرِّ بِعَشَرَةِ أمْثالِها، واقْتَضَتْ هَذِهِ الآيَةُ أنَّ نَفَقَةَ الجِهادِ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، ومِن ذَلِكَ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ، انْتَهى ما ذَكَرَهُ، قِيلَ: واخْتَصَّ هَذا العَدَدَ؛ لِأنَّ السَّبْعَ أكْثَرُ أعْدادِ العَشَرَةِ، والسَبْعِينَ أكْثَرُ أعْدادِ المِائَةِ، وسَبْعُ المِائَةِ أكْثَرُ أعْدادِ الألْفِ، والعَرَبُ كَثِيرًا ما تُراعِي هَذِهِ الأعْدادَ، قالَ تَعالى: ﴿سَبْعَ سَنابِلَ﴾ و﴿سَبْعَ لَيالٍ﴾ [الحاقة: ٧] و(سَبْعَ سُنْبُلاتٍ) و﴿سَبْعَ بَقَراتٍ﴾ [يوسف: ٤٣] و﴿سَبْعَ سَماواتٍ﴾ [البقرة: ٢٩] و﴿سَبْعَ سِنِينَ﴾ [يوسف: ٤٧] و﴿إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهم سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ [التوبة: ٨٠] ﴿ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعًا﴾ [الحاقة: ٣٢] وفي الحَدِيثِ: «إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ»، «إلى سَبْعَةِ آلافٍ» «إلى ما لا يُحْصِي عَدَدَهُ إلّا اللَّهُ» . وأتى التَّمْيِيزُ هُنا بِالجَمْعِ الَّذِي لا نَظِيرَ لَهُ في الآحادِ، وفي سُورَةِ يُوسُفَ بِالجَمْعِ بِالألِفِ والتّاءِ في قَوْلِهِ: ﴿وسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ﴾ [يوسف: ٤٣] . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: هَلّا قِيلَ: (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ) عَلى حَقِّهِ مِنَ التَّمْيِيزِ لِجَمْعِ القِلَّةِ، كَما قالَ: ﴿وسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ﴾ [يوسف: ٤٣] ؟ قُلْتُ: هَذا لَمّا قُدِّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨] مِن وُقُوعِ أمْثِلَةِ الجَمْعِ مُتَعاوِرَةٍ مَواقِعُها، انْتَهى كَلامُهُ. فَجُعِلَ هَذا مِن بابِ الِاتِّساعِ، ووُقُوعِ أحَدِ الجَمْعَيْنِ مَوْقِعَ الآخَرِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ، إذْ كانَ حَقُّهُ أنْ يُمَيَّزَ بِأقَلِّ الجَمْعِ؛ لِأنَّ السَّبْعَ مِن أقَلِّ العَدَدِ، وهَذا الَّذِي قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ عَلى إطْلاقِهِ، فَنَقُولُ: جَمْعُ السَّلامَةِ بِالواوِ والنُّونِ، أوْ بِالألِفِ والتّاءِ، لا يُمَيَّزُ بِهِ مِن ثَلاثَةٍ إلى عَشَرَةٍ إلّا إذا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ المُفْرَدِ جَمْعٌ غَيْرُ هَذا الجَمْعِ، أوْ جاوَرَ ما أُهْمِلَ فِيهِ هَذا الجَمْعُ، وإنْ كانَ المُجاوِرُ لَمْ يُهْمَلْ فِيهِ هَذا الجَمْعُ، فَمِثالُ الأوَّلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَبْعَ سَماواتٍ﴾ [البقرة: ٢٩] فَلَمْ يَجْمَعْ سَماءَ هَذِهِ المَظَلَّةِ سِوى هَذا الجَمْعِ وأمّا قَوْلُهُ:
؎فَوْقَ سَبْعِ سَمائِيّا
فَنَصُّوا عَلى شُذُوذِهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَبْعَ بَقَراتٍ﴾ [يوسف: ٤٣] و﴿تِسْعَ آياتٍ﴾ [الإسراء: ١٠١] و(خَمْسَ صَلَواتٍ)؛ لِأنَّ البَقَرَةَ والآيَةَ والصَّلاةَ لَيْسَ لَها سِوى هَذا الجَمْعِ، ولَمْ يُجْمَعْ عَلى غَيْرِهِ.
ومِثالُ الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ﴾ [يوسف: ٤٣] لَمّا عُطِفَ عَلى: ﴿سَبْعَ بَقَراتٍ﴾ [يوسف: ٤٣] وجاوَرَهُ حَسُنَ فِيهِ جَمْعُهُ بِالألِفِ والتّاءِ، ولَوْ كانَ لَمْ يَعْطِفْ ولَمْ يُجاوِرْ لَكانَ: (سَبْعَ سَنابِلَ)، كَما في هَذِهِ الآيَةِ، ولِذَلِكَ إذا عُرِّيَ عَنِ المُجاوِرِ جاءَ عَلى (p-٣٠٥)مَفاعِلَ في الأكْثَرِ والأوْلى وإنْ كانَ يُجْمَعُ بِالألِفِ والتّاءِ، مِثالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَبْعَ طَرائِقَ﴾ [المؤمنون: ١٧] و﴿سَبْعَ لَيالٍ﴾ [الحاقة: ٧] ولَمْ يَقُلْ: طَرِيقاتٌ، ولا لَيْلاتٌ، وإنْ كانَ جائِزًا في جَمْعِ طَرِيقَةٍ ولَيْلَةٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَشَرَةِ مَساكِينَ﴾ [المائدة: ٨٩]، وإنْ كانَ جائِزًا في جَمْعِهِ أنْ يَكُونَ جَمْعَ سَلامَةٍ، فَتَقُولُ: مِسْكِينُونَ ومِسْكِينِينَ، وقَدْ آثَرُوا ما لا يُماثِلُ مَفاعِلَ مِن جُمُوعِ الكَثْرَةِ عَلى جَمْعِ التَّصْحِيحِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ مُجاوِرٌ يُقْصَدُ مُشاكَلَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثَمانِيَ حِجَجٍ﴾ [القصص: ٢٧] وإنْ كانَ جائِزًا فِيهِ أنْ يُجْمَعَ بِالألِفِ والتّاءِ؛ لِأنَّ مُفْرَدَهُ حَجَّةٌ، فَتَقُولُ: حَجّاتٌ، فَعَلى هَذا الَّذِي تَقَرَّرَ إذا كانَ لِلِاسْمِ جَمْعانِ: جَمْعُ تَصْحِيحٍ، وجَمْعُ تَكْسِيرٍ، فَجَمْعُ التَّكْسِيرِ إمّا أنْ يَكُونَ لِلْكَثْرَةِ أوْ لِلْقِلَّةِ، فَإنْ كانَ لِلْكَثْرَةِ، فَإمّا أنْ يَكُونَ مِن بابِ مَفاعِلَ، أوْ مِن غَيْرِ بابِ مَفاعِلَ، إنْ كانَ مِن بابِ مَفاعِلَ أُوثِرَ عَلى جَمْعِ التَّصْحِيحِ، فَتَقُولُ: جاءَنِي ثَلاثَةُ أحامِدَ، وثَلاثُ زَيانِبَ، ويَجُوزُ التَّصْحِيحُ عَلى قِلَّةٍ، فَتَقُولُ: جاءَنِي ثَلاثَةُ أحامِدَ، وثَلاثُ زَيْنَباتٍ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مِن بابِ مَفاعِلَ، فَإمّا أنْ يَكْثُرَ فِيهِ غَيْرُ التَّصْحِيحِ، وغَيْرُ جَمْعِ الكَثْرَةِ، فَلا يَجُوزُ التَّصْحِيحُ، ولا جَمْعُ الكَثْرَةِ إلّا قَلِيلًا، مِثالُ ذَلِكَ: جاءَنِي ثَلاثَةُ زُيُودٍ، وثَلاثُ هُنُودٍ، وعِنْدِي ثَلاثَةُ أفْلُسٍ، ولا يَجُوزُ: ثَلاثَةُ زَيْدِينَ، ولا ثَلاثُ هِنْداتٍ، ولا ثَلاثَةُ فُلُوسٍ، إلّا قَلِيلًا.
وإنْ قَلَّ فِيهِ غَيْرُ التَّصْحِيحِ، وغَيْرُ جَمْعِ الكَثْرَةِ أُوثِرَ التَّصْحِيحُ وجَمْعُ الكَسْرَةِ، مِثالُ ذَلِكَ: ثَلاثُ سُعاداتٍ، وثَلاثَةُ شُسُوعٍ، ويَجُوزُ عَلى قِلَّةٍ: ثَلاثُ سَعائِدَ، وثَلاثَةُ أُشْسُعٍ، وتَحَصَّلَ مِن هَذا الَّذِي قَرَّرْناهُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿سَبْعَ سَنابِلَ﴾ جاءَ عَلى ما تَقَرَّرَ في العَرَبِيَّةِ مِن كَوْنِهِ جَمْعًا مُتَناهِيًا، وأنَّ قَوْلَهُ: (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ) إنَّما جازَ لِأجْلِ مُشاكَلَةِ: ﴿سَبْعَ بَقَراتٍ﴾ [يوسف: ٤٣] ومُجاوَرَتِهِ، فَلَيْسَ اسْتِعْذارُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِصَحِيحٍ، و﴿فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ﴾ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ: لِـ (سَنابِلَ) فَتَكُونُ في مَوْضِعِ جَرٍّ، أوْ لِـ (سَبْعَ) فَيَكُونُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وتَرْتَفِعُ عَلى التَّقْدِيرَيْنِ (مِائَةُ) عَلى الفاعِلِ؛ لِأنَّ الجارَ قَدِ اعْتَمَدَ بِكَوْنِهِ صِفَتَهُ، وهو أحْسَنُ مِن أنْ يَرْتَفِعَ عَلى الِابْتِداءِ، و(في كُلِّ) خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ صِفَةٌ؛ لِأنَّ الوَصْفَ بِالمُفْرَدِ أوْلى مِنَ الوَصْفِ بِالجُمْلَةِ، ولا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أيْ: في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِنها، أيْ: مِنَ السَّنابِلِ.
وقُرِئَ شاذًّا: (مِائَةَ حَبَّةٍ) بِالنَّصْبِ، وقُدِّرَ بِأخْرَجَتْ، وقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأنْبَتَتْ، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الحَبَّةِ، وجَوَّزَ أنْ يَنْتَصِبَ عَلى البَدَلِ مِن: ﴿سَبْعَ سَنابِلَ﴾ وفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّهُ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ بَدَلَ كُلٍّ مِن كُلٍّ؛ لِأنَّ ﴿مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ لَيْسَ نَفْسَ ﴿سَبْعَ سَنابِلَ﴾ ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ؛ لِأنَّهُ لا ضَمِيرَ في البَدَلِ يَعُودُ عَلى المُبَدَّلِ مِنهُ، ولَيْسَ: ﴿مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ بَعْضًا مِن ﴿سَبْعَ سَنابِلَ﴾ لِأنَّ المَظْرُوفَ لَيْسَ بَعْضًا مِنَ الظَّرْفِ، والسُّنْبُلَةُ ظَرْفٌ لِلْحَبِّ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمالٍ لِعَدَمِ عَوْدِ الضَّمِيرِ مِنَ البَدَلِ عَلى المُبَدَّلِ مِنهُ، ولِأنَّ المُشْتَمِلَ عَلى مِائَةِ حَبَّةٍ هو سُنْبُلَةٌ مِن سَبْعِ سَنابِلَ، إلّا إنْ قِيلَ: المُشْتَمِلُ عَلى المُشْتَمِلِ عَلى الشَّيْءِ هو مُشْتَمِلٌ عَلى ذَلِكَ الشَّيْءِ، والسُّنْبُلَةُ مُشْتَمِلٌ عَلى سَبْعِ سَنابِلَ، فالسَّبْعُ مُشْتَمِلَةٌ عَلى حَبِّ السُّنْبُلَةِ، فَإنْ قَدَّرْتَ في الكَلامِ مَحْذُوفًا، وهو أنْبَتَتْ حَبَّ سَبْعِ سَنابِلَ، جازَ أنْ يَكُونَ ﴿مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ عَلى حَذْفِ: (حَبَّ)، وإقامَةُ (سَبْعَ) مَقامَهُ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ العَدَدُ المَعْرُوفُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ التَّكْثِيرَ، كَأنَّهُ قِيلَ: في كُلِّ سُنْبُلَةٍ حَبٌّ كَثِيرٌ؛ لِأنَّ العَرَبَ تُكْثِرُ بِالمِائَةِ، وتَقَدَّمَ لَنا ذِكْرُ نَحْوِ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وهم أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ﴾ [البقرة: ٢٤٣] .
قِيلَ: وفي هَذِهِ الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ اتِّخاذَ الزَّرْعِ مِن أعْلى الحَرْفِ الَّتِي يَتَّخِذُها النّاسُ، ولِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ بِهِ المَثَلَ في قَوْلِهِ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهُمْ﴾ الآيَةَ. وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) «ما مِن مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنهُ طَيْرٌ أوْ إنْسانٌ أوْ بَهِيمَةٌ إلّا كانَ لَهُ صَدَقَةً» . وفي رِوايَةٍ أُخْرى: «وما رُزِئَ فَهو صَدَقَةٌ» . وفي التِّرْمِذِيِّ: «التَمِسُوا الرِّزْقَ في خَبايا الأرْضِ» يَعْنِي: الزَّرْعَ، وقالَ بَعْضُهم، وقَدْ قالَ لَهُ رَجُلٌ: دُلَّنِي عَلى عَمَلٍ أُعالِجُهُ، فَقالَ:
؎تَتَبَّعْ خَبايا الأرْضِ وادْعُ مَلِيكَها ∗∗∗ لَعَلَّكَ يَوْمًا أنْ تُجابَ وتُرْزَقا
(p-٣٠٦)والزَّرْاعَةُ مِن فُرُوضِ الكِفايَةِ، فَيُجْبَرُ عَلَيْها بَعْضُ النّاسِ إذا اتَّفَقُوا عَلى تَرْكِها.
﴿واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ﴾ أيْ: هَذا التَّضْعِيفَ؛ إذْ لا تَضْعِيفَ فَوْقَ سَبْعِمِائَةٍ، وقِيلَ: يُضاعِفُ أكْثَرَ مِن هَذا العَدَدِ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ التَّضْعِيفَ يَنْتَهِي لِمَن شاءَ اللَّهُ إلى ألْفَيْ ألْفٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَيْسَ هَذا بِثابِتِ الإسْنادِ عَنْهُ، انْتَهى. وقالَ الضَّحّاكُ: يُضاعِفُ إلى أُلُوفِ الأُلُوفِ، وخَرَّجَ أبُو حاتِمٍ في صَحِيحِهِ المُسَمّى (بِالتَّقاسِيمِ والأنْواعِ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآيَةَ، قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”رَبِّ زِدْ أُمَّتِي“ . فَنَزَلَتْ: ﴿إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [الزمر: ١٠]» وفي (سُنَنِ النَّسائِيِّ) قَرِيبٌ مِن هَذا، إلّا أنَّهُ ذَكَرَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ نُزُولَ ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أضْعافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥] . وقَوْلُهُ: ﴿لِمَن يَشاءُ﴾ أيْ: لِمَن يَشاءُ التَّضْعِيفَ، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى حَذْفِ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى وإرادَتِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ: يُضاعِفُ تِلْكَ المُضاعَفَةَ لا لِكُلِّ مُنْفِقٍ، لِتَفاوُتِ أحْوالِ المُنْفِقِينَ، أوْ يُضاعِفُ سَبْعَ المِائَةِ ويَزِيدُ عَلَيْها أضْعافًا لِمَن يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ، انْتَهى. فَقَوْلُهُ: لِمَن يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ، فِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ.
﴿واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أيْ: واسْعٌ بِالعَطاءِ، عَلِيمٌ بِالنِّيَّةِ، وقِيلَ: واسْعُ القُدْرَةِ عَلى المُجازاةِ، عَلِيمٌ بِمَقادِيرِ المُنْفَقاتِ وما يُرَتِّبُ عَلَيْها مِنَ الجَزاءِ.
{"ayah":"مَّثَلُ ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِی كُلِّ سُنۢبُلَةࣲ مِّا۟ئَةُ حَبَّةࣲۗ وَٱللَّهُ یُضَـٰعِفُ لِمَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰسِعٌ عَلِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق