الباحث القرآني
﴿أوْ كالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ: أوْ، ساكِنَةَ الواوِ، قِيلَ: ومَعْناها التَّفْصِيلُ، وقِيلَ: التَّخْيِيرُ في التَّعْجِيبِ مِن حالِ مَن يَنْشَأُ مِنهُما، وقَرَأ أبُو سُفْيانَ بْنُ حُسَيْنٍ: (أوَ كالَّذِي) بِفَتْحِ الواوِ، وهي حَرْفُ عَطْفٍ دَخَلَ عَلَيْها ألِفُ التَّقْرِيرِ، والتَّقْدِيرُ: وأرَأيْتَ مِثْلَ الَّذِي، ومَن قَرَأ: أوْ، بِحَرْفِ العَطْفِ فَجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي حاجَّ﴾ [البقرة: ٢٥٨] عَلى المَعْنى، إذْ مَعْنى (ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي) أرَأيْتَ كالَّذِي حاجَّ ؟ فَعُطِفَ قَوْلُهُ: (أوْ كالَّذِي مَرَّ) عَلى هَذا المَعْنى، والعَطْفُ عَلى المَعْنى مَوْجُودٌ في لِسانِ العَرَبِ؛ قالَ الشّاعِرُ:
؎تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكْثِرْ غَنِيمَةً بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبى ولا بِحَقَلَّدِ
المَعْنى في قَوْلِهِ: لَمْ يَكْثُرْ لَيْسَ بِمُكْثِرٍ، ولِذَلِكَ راعى هَذا المَعْنى فَعَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ولا بِحَقَلَّدٍ، وقالَ آخَرُ:
؎أجَدَّكَ لَنْ تَرى بِثُعَيْلَباتٍ ∗∗∗ ولا بَيْدانَ ناجِيَةً ذَمُولا
؎ولا مُتَدارِكًا واللَّيْلُ طِفْلٌ ∗∗∗ بِبَعْضِ نَواشِغِ الوادِي حُمُولا
المَعْنى: أجِدَّكَ لَسْتَ بِرَآءٍ، ولَمّا راعى هَذا المَعْنى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ولا مُتَدارِكًا، والعَطْفُ عَلى المَعْنى نَصُّوا عَلى أنَّهُ لا يَنْقاسُ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، أوْ كالَّذِي: مَعْناهُ أوْ رَأيْتَ مِثْلَ الَّذِي ؟ فَحُذِفَ لِدَلالَةِ (ألَمْ تَرَ) عَلَيْهِ؛ لِأنَّ كِلْتَيْهِما كَلِمَةُ تَعْجِيبٍ، انْتَهى. هو تَخْرِيجٌ حَسَنٌ؛ لِأنَّ إضْمارَ الفِعْلِ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ أسْهَلُ مِنَ العَطْفِ عَلى مُراعاةِ المَعْنى، وقَدْ جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ الوَجْهَ الأوَّلَ.
وقِيلَ: الكافُ زائِدَةٌ، فَيَكُونُ: الَّذِي قَدْ عُطِفَ عَلى: الَّذِي، التَّقْدِيرُ: ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ، أوِ الَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ؟ قِيلَ: كَما زِيدَتْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] وفي قَوْلِ الرّاجِزِ:
؎فَصُيِّرُوا مَثَلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ
ويُحْتَمَلُ أنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ عَلى حَذْفِ فِعْلٍ، ولا عَلى العَطْفِ عَلى المَعْنى، ولا عَلى زِيادَةِ الكافِ، بَلْ تَكُونُ الكافُ اسْمًا عَلى ما يَذْهَبُ إلَيْهِ أبُو الحَسَنِ، فَتَكُونُ الكافُ في مَوْضِعِ جَرٍّ مَعْطُوفَةً عَلى الَّذِي، التَّقْدِيرُ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] أوْ إلى مَثَلِ (الَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) ؟ ومَجِيءُ الكافِ اسْمًا فاعِلَةً ومُبْتَدَأةً ومَجْرُورَةً بِحَرْفِ الجَرِّ ثابِتٌ في لِسانِ العَرَبِ، وتَأْوِيلُها بَعِيدٌ، فالأوْلى هَذا الوَجْهُ الأخِيرُ، وإنَّما عَرَضَ لَهُمُ الإشْكالُ مِن حَيْثُ اعْتِقادُ حَرْفِيَّةِ الكافِ، حَمْلًا عَلى مَشْهُورِ مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، والصَّحِيحُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ أبُو الحَسَنِ، ألا تَرى في الفاعِلِيَّةِ لِمِثْلٍ في قَوْلِ الشّاعِرِ:
وإنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفاخِرٍ ضَعِيفٍ ولَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلِّبِ
والكَلامُ عَلى الكافِ يُذْكَرُ في عِلْمِ النَّحْوِ.
والَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ هو عُزَيْرٌ، قالَهُ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، وأبُو العالِيَةِ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ، والرَّبِيعُ، والضَّحّاكُ، والسُّدِّيُّ، ومُقاتِلٌ، وسُلَيْمانُ بْنُ بُرَيْدَةَ، وناجِيَةُ بْنُ كَعْبٍ، وسالِمٌ الخَوّاصُ. وقِيلَ: أرْمِياءُ، قالَهُ وهْبٌ، ومُجاهِدٌ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وبَكْرُ بْنُ مُضَرٍ. وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: هو أرْمِياءُ، وهو الخَضِرُ، وحَكاهُ النَّقّاشُ عَنْ وهْبٍ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا كَما نَراهُ إلّا أنْ يَكُونَ اسْمًا وافَقَ اسْمًا؛ لِأنَّ الخَضِرَ مُعاصِرٌ لِمُوسى، وهَذا الَّذِي مَرَّ عَلى القَرْيَةِ هو بَعْدَهُ بِزَمانٍ مِن سِبْطِ هارُونَ فِيما رَوى وهْبٌ؛ قالَ بَعْضُ شُيُوخِنا، يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الخَضِرُ بِعَيْنِهِ ويَكُونَ مِنَ المُعَمِّرِينَ، فَيَكُونُ أدْرَكَ زَمانَ خَرابِ القَرْيَةِ، وهو إلى الآنِ باقٍ عَلى قَوْلِ أكْثَرِ العُلَماءِ (p-٢٩١)انْتَهى كَلامُهُ. وقِيلَ: عَلى كافِرٍ مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وكانَ عَلى حِمارٍ ومَعَهُ سَلَّةُ تِينٍ، قالَهُ الحَسَنُ، وقِيلَ: رَجُلٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ غَيْرُ مُسَمًّى، قالَهُ مُجاهِدٌ فِيما حَكاهُ مَكِّيٌّ، وقِيلَ: غُلامُ لُوطٍ، عَلَيْهِ السَّلامُ، وقِيلَ: أشَعِياءُ. والَّذِي أحْياها بَعْدَ خَرابِها: لَوْسَكُ الفارِسِيُّ، حَكاهُ السُّهَيْلِيُّ عَنِ القُتَيْبِيِّ.
والقَرْيَةُ: بَيْتُ المَقْدِسِ، قالَهُ وهْبٌ، وقَتادَةُ، والضَّحّاكُ، وعِكْرِمَةُ، والرَّبِيعُ. أوْ قَرْيَةُ العِنَبِ، وهي عَلى فَرْسَخَيْنِ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ، أوِ الأرْضُ المُقَدَّسَةُ، قالَهُ الضَّحّاكُ، أوِ المُؤْتَفِكَةُ، قالَهُ قَوْمٌ، أوِ القَرْيَةُ الَّتِي خَرَجَ مِنها الأُلُوفُ حَذَرَ المَوْتِ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أوْ دَيْرُ هِرَقْلَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوْ شابُورابادُ، قالَهُ الكَلْبِيُّ، أوْ سَلْماياذَ، قالَهُ السُّدِّيُّ.
﴿وهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها﴾ قِيلَ: المَعْنى خاوِيَةٌ مِن أهْلِها ثابِتَةٌ عَلى عُرُوشِها، فالبُيُوتُ قائِمَةٌ. وقالَ السُّدِّيُّ: ساقِطَةٌ مُتَهَدِّمَةٌ جُدْرانُها عَلى سُقُوفِها بَعْدَ سُقُوطِ السُّقُوفِ، وقِيلَ: عَلى بِمَعْنى مَعَ، أيْ: مَعَ أبْنِيَتِها، والعُرُوشُ عَلى هَذِهِ الأبْنِيَةِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الفاعِلِ الَّذِي في (مَرَّ) أوْ مِن قَرْيَةٍ، والحالُ مِنَ النَّكِرَةِ إذا تَأخَّرَتْ، تَقِلُّ: وقِيلَ: الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِلْقَرْيَةِ، ويُبْعِدُ هَذا القَوْلَ الواوُ، وعَلى، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ إذا كانَ المَعْنى: خاوِيَةٌ مِن أهْلِها، أيْ: مُسْتَقِرَّةٌ عَلى عُرُوشِها، أوْ بِـ (خاوِيَةٌ) إذا كانَ المَعْنى ساقِطَةً. وقِيلَ: (عَلى عُرُوشِها) بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: (قَرْيَةٍ) أيْ: مَرَّ عَلى عُرُوشِها، وقِيلَ: في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِـ (قَرْيَةٍ) أيْ: مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ كائِنَةٍ عَلى عُرُوشِها وهي خاوِيَةٌ.
﴿قالَ أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها﴾ قِيلَ: لَمّا خَرَّبَ بُخْتَ نَصَّرُ البابِلِيُّ بَيْتَ المَقْدِسِ، حِينَ أحْدَثَتْ بَنُو إسْرائِيلَ الأحْداثَ، وقَفَ أرْمِياءُ - أوْ عُزَيْرٌ - عَلى القَرْيَةِ وهي كالتَّلِّ العَظِيمِ وسَطَ بَيْتِ المَقْدِسِ؛ لِأنَّ بُخْتَ نَصَّرَ أمَرَ جُنْدَهُ بِنَقْلِ التُّرابِ إلَيْهِ حَتّى جَعَلَهُ كالجَبَلِ، فَقالَ هَذا الكَلامَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والمارُّ كانَ كافِرًا بِالبَعْثِ وهو الظّاهِرُ لِانْتِظامِهِ مَعَ نُمْرُوذَ في سِلْكٍ، ولِكَلِمَةِ الِاسْتِبْعادِ الَّتِي هي ﴿أنّى يُحْيِي﴾ وقِيلَ: عُزَيْرٌ، أوِ الخَضِرُ، أرادَ أنْ يُعايِنَ إحْياءَ المَوْتى لِيَزْدادَ بَصِيرَةً كَما طَلَبَهُ إبْراهِيمُ، انْتَهى. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَبِيًّا؛ لِأنَّ مِثْلَ هَذا الشَّكِّ لا يَقَعُ لِلْأنْبِياءِ. والإحْياءُ والإماتَةُ هُنا مَجازانِ، عَبَّرَ بِالإحْياءِ عَنِ العِمارَةِ، وبِالمَوْتِ عَنِ الخَرابِ، وقِيلَ: حَقِيقَتانِ فَيَكُونُ ثُمَّ مُضافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أنّى يُحْيِي أهْلَ هَذِهِ القَرْيَةِ، أوْ يَكُونُ (هَذِهِ) إشارَةً إلى ما دَلَّ عَلَيْهِ المَعْنى مِن عِظامِ أهْلِها البالِيَةِ، وجُثَثِهِمُ المُتَمَزِّقَةِ، وأوْصالِهِمُ المُتَفَرِّقَةِ، فَعَلى القَوْلِ بِالمَجازِ يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿أنّى يُحْيِي﴾ عَلى سَبِيلِ التَّلَهُّفِ مِنَ الواقِفِ المُعْتَبَرِ عَلى مَدِينَتِهِ الَّتِي عَهِدَ فِيها أهْلَهُ وأحِبَّتَهُ، وضَرَبَ لَهُ المَثَلَ في نَفْسِهِ بِما هو أعْظَمُ مِمّا سَألَ عَنْهُ. وعَلى القَوْلِ الثّانِي يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿أنّى يُحْيِي﴾ اعْتِرافًا بِالعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ طَرِيقَةِ الإحْياءِ واسْتِعْظامًا لِقُدْرَةِ المُحْيِي، ولَيْسَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الشَّكِّ. وحَكى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّهُ قالَ: كانَ هَذا القَوْلُ شَكًّا في قُدْرَةِ اللَّهِ عَلى الإحْياءِ، فَلِذَلِكَ ضَرَبَ لَهُ المَثَلَ في نَفْسِهِ.
﴿فَأماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ أيْ: أحْياهُ وجَعَلَ لَهُ الحَرَكَةَ والِانْتِقالَ، قِيلَ: لَمّا مَرَّ سَبْعُونَ سَنَةً مِن مَوْتِهِ، وقَدْ مَنَعَهُ مِنَ السِّباعِ والطَّيْرِ، ومَنَعَ العُيُونَ أنْ تَراهُ، أرْسَلَ اللَّهُ مَلَكًا إلى مَلِكٍ مِن مُلُوكِ فارِسَ عَظِيمٍ يُقالُ لَهُ: لَوْسَكُ، فَقالَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أنْ تَنْفِرَ بِقَوْمٍ؛ فَتُعَمِّرْ بَيْتَ المَقْدِسِ وإيلِياءَ وأرْضَها حَتّى تَعُودَ أحْسَنَ ما كانَتْ، فانْتَدَبَ المَلِكُ، قِيلَ: ثَلاثَةَ آلافِ قَهْرَمانَ، مَعَ كُلِّ قَهْرَمانَ ألْفُ عامِلٍ، وجَعَلُوا يُعَمِّرُونَها، وأهْلَكَ اللَّهُ بُخْتَ نَصَّرَ بِبَعُوضَةٍ دَخَلَتْ دِماغَهُ، ونَجّى اللَّهُ مَن بَقِيَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ ورَدَّهم إلى بَيْتِ المَقْدِسِ ونَواحِيهِ فَعَمَّرُوها ثَلاثِينَ سَنَةً، وكَثُرُوا حَتّى كانُوا كَأحْسَنِ ما كانُوا عَلَيْهِ.
﴿قالَ كَمْ لَبِثْتَ﴾ الظّاهِرُ أنَّ القائِلَ هو اللَّهُ تَعالى لِقَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ نُنْشِزُها﴾ وقِيلَ: هاتِفٌ مِنَ السَّماءِ، وقِيلَ: جِبْرِيلُ، وقِيلَ: نَبِيٌّ، وقِيلَ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ شاهَدَهُ حِينَ ماتَ وعَمَّرَ إلى حِينِ إحْيائِهِ، وعَلى اخْتِيارِ الزَّمَخْشَرِيِّ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ البَعْثِ كافِرًا، فَلِذَلِكَ ساغَ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ، انْتَهى. ولا نَصَّ في الآيَةِ عَلى أنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ شِفاهًا، و(كَمْ) ظَرْفٌ أيْ: كَمْ مُدَّةً لَبِثْتَ ؟ أيْ: لَبِثْتَ (p-٢٩٢)مَيِّتًا وهو سُؤالٌ عَلى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ.
﴿قالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وقَتادَةُ، والرَّبِيعُ: أماتَهُ اللَّهُ غَدْوَةَ يَوْمٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَبْلَ الغُرُوبِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ، فَقالَ: قَبْلَ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ يَوْمًا، ثُمَّ التَفَتَ فَرَأى بَقِيَّةً مِنَ الشَّمْسِ، فَقالَ: أوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَكانَ قَوْلُهُ: يَوْمًا عَلى سَبِيلِ الظَّنِّ، ثُمَّ لَمّا تَحَقَّقَ أنَّهُ لَمْ يُكْمِلِ اليَوْمَ، قالَ: أوْ بَعْضَ يَوْمٍ، والأوْلى أنْ لا تَكُونَ (أوْ) هُنا لِلتَّرْدِيدِ، بَلْ تَكُونُ لِلْإضْرابِ، كَأنَّهُ قالَ: بَلْ بَعْضَ يَوْمٍ، لَمّا لاحَتْ لَهُ الشَّمْسُ أضْرَبَ عَنِ الإخْبارِ الأوَّلِ الَّذِي كانَ عَلى طَرِيقِ الظَّنِّ، ثُمَّ أخْبَرَ بِالثّانِي عَلى طَرِيقِ التَّيَقُّنِ عِنْدَهُ. وفي قَوْلِهِ: ﴿أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ يُطْلِقُ لَفْظَ بَعْضٍ عَلى أكْثَرِ الشَّيْءِ.
﴿قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ﴾ بَلْ، لِعَطْفِ هَذِهِ الجُمْلَةِ عَلى الجُمْلَةِ مَحْذُوفَةِ التَّقْدِيرِ، قالَ: ما لَبِثْتَ هَذِهِ المُدَّةَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ بِإظْهارِ التّاءِ في (لَبِثْتَ) وقَرَأ الباقُونَ بِالإدْغامِ، وذَلِكَ في جَمِيعِ القُرْآنِ، وذَكَرَ تَعْيِينَ المُدَّةِ هُنا في قَوْلِهِ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ، ولَمْ يَذْكُرْ تَعْيِينَها في قَوْلِهِ: ﴿قالَ إنْ لَبِثْتُمْ إلّا قَلِيلًا﴾ [المؤمنون: ١١٤] وإنِ اشْتَرَكُوا في جَوابِ: ﴿لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [الكهف: ١٩] لِأنَّ المَبْعُوثَ في البَقَرَةِ واحِدٌ فانْحَصَرَتْ مُدَّةُ إماتَةِ اللَّهِ إيّاهُ، وأُولَئِكَ مُتَفاوِتُو اللُّبْثَ تَحْتَ الأرْضِ، نَحْوَ: مَن ماتَ في أوَّلِ الدُّنْيا، ومَن ماتَ في آخِرِها، فَلَمْ يَنْحَصِرُوا تَحْتَ عَدَدٍ مَخْصُوصٍ، فَلِذَلِكَ أُدْرِجُوا تَحْتَ قَوْلِهِ: (إلّا قَلِيلًا) لِأنَّ مُدَّةَ الحَياةِ الدُّنْيا بِالنِّسْبَةِ إلى حَياةِ الآخِرَةِ قَلِيلَةٌ، واللَّهُ تَعالى مُحِيطٌ عِلْمُهُ بِمُدَّةِ لُبْثِ كُلِّ واحِدٍ واحِدٍ، فَلَوْ ذَكَرَ مُدَّةَ كُلِّ واحِدٍ واحِدٍ لاحْتِيجَ في عِدَّةِ ذَلِكَ إلى أسْفارٍ كَثِيرَةٍ.
﴿فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ في قِصَّةِ عُزَيْرٍ أنَّهُ لَمّا نَجا مِن بابِلَ ارْتَحَلَ عَلى حِمارٍ لَهُ حَتّى نَزَلَ دَيْرَ هِرَقْلَ عَلى شَطِّ دِجْلَةَ، فَطافَ في القَرْيَةِ فَلَمْ يَرَ فِيها أحَدًا، وعامَّةُ شَجَرِها حامِلٌ، فَأكَلَ مِنَ الفاكِهَةِ واعْتَصَرَ مِنَ العِنَبِ فَشَرِبَ مِنهُ، وجَعَلَ فَضْلَ الفاكِهَةِ في سَلَّةٍ وفَضْلَ العِنَبِ في زِقٍّ، فَلَمّا رَأى خَرابَ القَرْيَةِ وهَلاكَ أهْلِها قالَ: ﴿أنّى يُحْيِي﴾ عَلى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ، لا شَكًا في البَعْثِ، وقِيلَ: كانَ شَرابُهُ لَبَنًا. قِيلَ: وجَدَ التِّينَ والعِنَبَ كَما تَرَكَهُ جَنْيًا، والشَّرابَ عَلى حالِهِ.
وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِحَذْفِ الهاءِ في الوَصْلِ عَلى أنَّها هاءُ السَّكْتِ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِإثْباتِ الهاءِ في الوَصْلِ والوَقْفِ، والأظْهَرُ أنْ تَكُونَ الهاءُ أصْلِيَّةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن إجْراءِ الوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذِهِ اللَّفْظَةِ في الكَلامِ عَلى المُفْرَداتِ، وقَرَأ أُبَيٌّ: (لَمْ يَسَّنَّهْ) بِإدْغامِ التّاءِ في السِّينِ، كَما قُرِئَ: (لا يَسْمَعُونَ) والأصْلُ: لا يَتَسَمَّعُونَ، وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وغَيْرُهُ: (لِمِائَةِ سَنَةٍ) مَكانَ لَمْ يَتَسَنَّهْ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: (وهَذا شَرابُّكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) والضَّمِيرُ في (يَتَسَنَّهْ) مُفْرَدٌ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عائِدًا عَلى الشَّرابِ خاصَّةً، ويَكُونَ قَدْ حُذِفَ مِثْلُ هَذِهِ الجُمْلَةِ الحالِيَّةِ مِنَ الطَّعامِ لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الطَّعامُ والشَّرابُ أُفْرِدَ ضَمِيرُهُما لِكَوْنِهِما مُتَلازِمَيْنِ، فَعُومِلا مُعامَلَةَ المُفْرَدِ، أوْ لِكَوْنِهِما في مَعْنى الغِذاءِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: وانْظُرْ إلى غِذائِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ، وقالَ الشّاعِرُ في المُتَلازِمَيْنِ:
؎وكَأنَّ في العَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ ∗∗∗ أوْ سُنْبُلًا كُحِّلَتْ بِهِ فانْهَلَّتِ
والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: (لَمْ يَتَسَنَّهْ)، في مَوْضِعِ الحالِ، وهي مَنفِيَّةٌ: بِـ (لَمْ)، وزَعَمَ بَعْضُ أصْحابِنا أنَّ إثْباتَ الواوِ في الجُمْلَةِ المَنفِيَّةِ بِـ (لَمْ) هو المُخْتارُ، كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎بِأيْدِي رِجالٍ لَمْ يَشِيمُوا سُيُوفَهم ∗∗∗ ولَمْ تَكْثُرِ القَتْلى بِها حِينَ سُلَّتْ
وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّهُ إذا كانَ مَنفِيًّا فالأوْلى أنْ يُنْفى بِلَمّا، نَحْوُ جاءَ زَيْدٌ ولَمّا يَضْحَكْ، قالَ: وقَدْ تَكُونُ مَنفِيَّةً بِلَمْ وما، نَحْوُ: قامَ زَيْدٌ ولَمْ يَضْحَكْ، أوْ ما يَضْحَكُ، وذَلِكَ قَلِيلٌ جِدًّا، انْتَهى كَلامُهُ. ولَيْسَ إثْباتُ الواوِ مَعَ لَمْ أحْسَنَ مِن عَدَمِها، بَلْ يَجُوزُ إثْباتُها وحَذْفُها فَصِيحًا، وقَدْ جاءَ ذَلِكَ في القُرْآنِ في مَواضِعَ، قالَ تَعالى: ﴿فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهم سُوءٌ﴾ [آل عمران: ١٧٤] وقالَ تَعالى: ﴿أوْ قالَ أُوحِيَ إلَيَّ ولَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ﴾ [الأنعام: ٩٣] ومَن قالَ: إنَّ النَّفْيَ بِلَمْ قَلِيلٌ (p-٢٩٣)جِدًّا فَغَيْرُ مُصِيبٍ، وقَدْ أمْعَنّا الكَلامَ عَلى هَذِهِ المَسْألَةِ في بابِ الحالِ، في (مَنهَجِ السّالِكِ عَلى شَرْحِ ألْفِيَّةِ ابْنِ مالِكٍ) مِن تَأْلِيفِنا.
(وانْظُرْ إلى حِمارِكَ) قِيلَ: لَمّا مَضَتِ المِائَةُ أحْيا اللَّهُ مِنهُ عَيْنَيْهِ وسائِرُ جَسَدِهِ مَيِّتٌ، ثُمَّ أحْيا جَسَدَهُ وهو يَنْظُرُ، ثُمَّ نَظَرَ إلى حِمارِهِ، فَإذا عِظامُهُ مُتَفَرِّقَةٌ بِيضٌ تَلُوحُ، فَسَمِعَ صَوْتًا مِنَ السَّماءِ: أيَّتُها العِظامُ البالِيَةُ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أنْ تَجْتَمِعِي، فاجْتَمَعَ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، واتَّصَلَتْ، ثُمَّ نُودِيَ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أنْ تَكْتَسِيَ لَحْمًا وجِلْدًا، فَكانَ كَذَلِكَ. ورُوِيَ أنَّهُ حِينَ أحْياهُ اللَّهُ نَهَقَ، وقِيلَ: رَدَّ اللَّهُ الحَياةَ في عَيْنَيْهِ وأخَّرَ جَسَدَهُ مَيِّتًا، فَنَظَرَ إلى إيلِياءَ وما حَوْلَها وهي تُعَمَّرُ وتُجَدَّدُ، ثُمَّ نَظَرَ إلى طَعامِهِ وشَرابِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، نَظَرَ إلى حِمارِهِ واقِفًا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ رَبَطَهُ لَمْ يَطْعَمْ ولَمْ يَشْرَبْ أحْياهُ اللَّهُ لَهُ وهو يَرى، ونَظَرَ إلى الجَبَلِ وهو لَمْ يَتَغَيَّرْ وقَدْ أتى عَلَيْهِ رِيحُ مِائَةِ عامٍ ومَطَرُها وشَمْسُها وبَرْدُها. وقالَ وهْبٌ، والضَّحّاكُ: وانْظُرْ إلى حِمارِكَ قائِمًا في مَرْبَطِهِ لَمْ يَصُبْهُ شَيْءٌ مِائَةَ سَنَةٍ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وذَلِكَ مِن أعْظَمِ الآياتِ أنْ يُعِيشَهُ مِائَةَ عامٍ مِن غَيْرِ عَلَفٍ ولا ماءٍ، كَما حَفِظَ طَعامَهُ وشَرابَهُ مِنَ التَّغَيُّرِ.
﴿ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ﴾ قِيلَ: الواوُ مُقْحَمَةٌ أيْ: لِنَجْعَلَكَ آيَةً، وقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللّامُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ أيْ: أرَيْناكَ ذَلِكَ لِتَعَلَمَ قُدْرَتَنا، ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ، وقِيلَ: بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ تَأْخِيرُهُ، أيْ: ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ فَعَلْنا ذَلِكَ، يُرِيدُ إحْياءَهُ بَعْدَ المَوْتِ وحِفْظَ ما مَعَهُ. وقالَ الأعْمَشُ: كَوْنُهُ آيَةً هو أنَّهُ جاءَ شابًا عَلى حالِهِ يَوْمَ ماتَ، فَوَجَدَ الحَفَدَةَ والأبْناءَ شُيُوخًا. وقالَ عِكْرِمَةُ: جاءَ وهو ابْنُ أرْبَعِينَ سَنَةً كَما كانَ يَوْمَ ماتَ، ووَجَدَ بَنِيهِ قَدْ يَتَوَفَّوْنَ عَلى مِائَةِ سَنَةٍ، وقِيلَ: كَوْنُهُ آيَةً هو أنَّهُ جاءَ وقَدْ هَلَكَ كُلُّ مَن يَعْرِفُ، وكانَ آيَةً لِمَن كانَ حَيًّا مِن قَوْمِهِ؛ إذْ كانُوا مُوقِنِينَ بِحالِهِ سَماعًا، وقِيلَ: أتى قَوْمَهُ راكِبٌ حِمارَهُ، وقالَ: أنا عُزَيْرٌ، فَكَذَّبُوهُ، فَقالَ: هاتُوا التَّوْراةَ، فَأخَذَ يُهَذْهِذُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ وهم يَنْظُرُونَ في الكِتابِ، فَما خَرَمَ حَرْفًا، فَقالُوا: هو ابْنُ اللَّهِ، ولَمْ يَقْرَأِ التَّوْراةَ ظاهِرًا أحَدٌ قَبْلَ عُزَيْرٍ، فَذَلِكَ كَوْنُهُ آيَةً، وفي إماتَتِهِ هَذِهِ المُدَّةَ ثُمَّ إحْيائِهِ أعْظَمُ آيَةٍ، وأمْرُهُ كُلُّهُ آيَةٌ لِلنّاسِ غابِرَ الدَّهْرِ لا يَحْتاجُ إلى تَخْصِيصِ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، والألِفُ واللّامُ في (لِلنّاسِ) لِلْعَهْدِ إنْ عَنى بِهِ مَن بَقِيَ مِن قَوْمِهِ، أوْ مَن كانَ في عَصْرِهِ. أوْ لِلْجِنْسِ إذْ هو آيَةٌ لِمَن عاصَرَهُ ولِمَن يَأْتِي بَعْدَهم إلى يَوْمِ القِيامَةِ.
(وانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) يَعْنِي بِالعِظامِ عِظامَ نَفْسِهِ، قالَهُ قَتادَةُ والضَّحّاكُ، والرَّبِيعُ، وابْنُ زَيْدٍ، أوْ عِظامَ حِمارِهِ، أوْ عِظامَهُما. زادَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ عِظامَ المَوْتى الَّذِينَ تَعَجَّبَ مِن إحْيائِهِمْ، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ؛ لِأنَّهم لَمْ يُحْيُوا لَهُ في الدُّنْيا، ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ يُقالُ لَهُ في الآخِرَةِ: (وانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) وإنَّما هَذا قِيلَ لَهُ في الدُّنْيا، فَلا يُمْكِنُ حَمْلُهُ إلّا عَلى عِظامِهِ، أوْ عِظامِ حِمارِهِ، أوْ عِظامِهِما. والأظْهَرُ أنْ يُرادَ عِظامُ الحِمارِ، والتَّقْدِيرُ: إلى العِظامِ مِنهُ، أوْ عَلى رَأيِ الكُوفِيِّينَ، أنَّ الألِفَ واللّامَ عِوَضٌ مِنَ الضَّمِيرِ، أيْ: إلى عِظامِهِ؛ لِأنَّهُ قَدْ أخْبَرَ أنَّهُ بَعَثَهُ، ثُمَّ أخْبَرَ بِمُحاوَرَتِهِ تَعالى لَهُ في السُّؤالِ عَنْ مِقْدارِ ما أقامَ مَيِّتًا، ثُمَّ أعْقَبَ الأمْرَ بِالنَّظَرِ بِالفاءِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ إحْياءَهُ تَقَدَّمَ عَلى المُحاوَرَةِ وعَلى الأمْرِ بِالنَّظَرِ.
وقَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو: (نُنْشِرُها) بِضَمِّ النُّونِ والرّاءِ المُهْمَلَةِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وأبُو حَيْوَةَ، وأبانُ عَنْ عاصِمٍ: بِفَتْحِ النُّونِ والرّاءِ المُهْمَلَةِ، وهُما مِن أنْشَرَ ونَشَرَ بِمَعْنى: أحْيا، ويَحْتَمِلُ (نَشَرَ) أنْ يَكُونَ ضِدَّ الطَّيِّ، كَأنَّ المَوْتَ طَيُّ العِظامِ والأعْضاءِ، وكَأنَّ جَمْعَ بَعْضِها إلى بَعْضٍ نَشْرٌ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ (نُنْشِزُها) بِضَمِّ النُّونِ والزّايِ المُعْجَمَةِ، وقَرَأ النَّخَعِيُّ: بِفَتْحِ النُّونِ، وضَمِّ الشِّينِ والزّايِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَتادَةَ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقالَ السَّجاوَنْدِيُّ، عَنِ النَّخَعِيِّ أنَّهُ قَرَأ بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّها مَعَ الرّاءِ والزّايِ.
ومَعْنى (نُنْشِزُها) بِالزّايِ: نُحَرِّكُها، أوْ نَرْفَعُ بَعْضَها إلى بَعْضٍ لِلتَّرْكِيبِ لِلْإحْياءِ، يُقالُ: نَشَزَ وأنْشَزْتُهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وتَعَلَّقَ عِنْدِي أنْ يَكُونَ مَعْنى النُّشُوزِ رَفْعَ العِظامِ بَعْضِها إلى بَعْضٍ، وإنَّما النُّشُوزُ الِارْتِفاعُ قَلِيلًا، فَكَأنَّهُ (p-٢٩٤)وقَفَ عَلى نَباتِ العِظامِ الرُّفاتِ، وخَرَجَ ما يُوجَدُ مِنها عِنْدَ الِاخْتِراعِ، وقالَ النَّقّاشِيُّ: (نُنْشِزُها) مَعْناهُ نُنْبِتُها، وانْظُرِ اسْتِعْمالَ العَرَبِ تَجِدُهُ عَلى ما ذَكَرْتُ لَكَ، ومِن ذَلِكَ: نَشَزَ نابُ البَعِيرِ، والنَّشِزُ مِنَ الأرْضِ عَلى التَّشْبِيهِ بِذَلِكَ، ونَشَزَتِ المَرْأةُ، كَأنَّها فارَقَتِ الحالَ الَّتِي يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ عَلَيْها، وانْشُزُوا فانْشُزُوا أيِ: ارْتَفَعُوا شَيْئًا فَشَيْئًا كَنُشُوزِ النّابِ، فَبِذَلِكَ تَكُونُ التَّوْسِعَةُ، فَكَأنَّ النُّشُوزَ ضَرْبٌ مِنَ الِارْتِفاعِ، ويَبْعُدُ في الِاسْتِعْمالِ لِمَنِ ارْتَفَعَ في حائِطٍ أوْ غُرْفَةٍ: نَشَزَ، انْتَهى كَلامُهُ.
وقَرَأ أُبَيٌّ: (كَيْفَ نُنْشِيها) بِالياءِ أيْ: نَخْلُقُها. وقالَ بَعْضُهم: العِظامُ لا تَحْيا عَلى الِانْفِرادِ حَتّى يَنْضَمَّ بَعْضُها إلى بَعْضٍ، فالزّايُ أوْلى بِهَذا المَعْنى، إذْ هو بِمَعْنى الِانْضِمامِ دُونَ الإحْياءِ، فالمَوْصُوفُ بِالإحْياءِ الرَّجُلُ دُونَ العِظامِ، ولا يُقالُ: هَذا عَظْمٌ حَيٌّ، فالمَعْنى: وانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نَرْفَعُها مِن أماكِنِها مِنَ الأرْضِ إلى جِسْمِ صاحِبِها لِلْإحْياءِ، انْتَهى. والقِراءَةُ بِالرّاءِ مُتَواتِرَةٌ، فَلا تَكُونُ قِراءَةُ الزّايِ أوْلى.
و(كَيْفَ) مَنصُوبَةٌ بِـ (نُنْشِزُها) نَصْبُ الأحْوالِ، وذُو الحالِ مَفْعُولُ (نُنْشِزُها) ولا يَجُوزُ أنْ يَعْمَلَ فِيها (انْظُرْ) لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ لا يَعْمَلُ فِيهِ ما قَبْلَهُ، وأعْرَبُوا (كَيْفَ نُنْشِزُها) حالًا مِنَ العِظامِ، تَقْدِيرُهُ: وانْظُرْ إلى العِظامِ مُحْياةً، وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ الجُمْلَةَ الِاسْتِفْهامِيَّةَ لا تَقَعُ حالًا، وإنَّما تَقَعُ حالًا كَيْفَ وحَّدَها نَحْوَ: كَيْفَ ضَرَبْتَ زَيْدًا ؟ ولِذَلِكَ تَقُولُ: قائِمًا أمْ قاعِدًا ؟ فَتُبْدَلُ مِنها الحالُ، والَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ في مَوْضِعِ البَدَلِ مِنَ العِظامِ، وذَلِكَ أنَّ (انْظُرْ) البَصْرِيَّةَ تَتَعَدّى بِإلى، ويَجُوزُ فِيها التَّعْلِيقُ، فَتَقُولُ: انْظُرْ كَيْفَ يَصْنَعُ زَيْدٌ، قالَ تَعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: ٢١] فَتَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى المَفْعُولِ بِانْظُرْ؛ لِأنَّ ما يَتَعَدّى بِحَرْفِ الجَرِّ، إذا عُلِّقَ صارَ يَتَعَدّى لِمَفْعُولٍ، تَقُولُ: فَكَّرْتُ في أمْرِ زَيْدٍ، ثُمَّ تَقُولُ: فَكَّرْتُ هَلْ يَجِيءُ زَيْدٌ ؟ فَيَكُونُ: هَلْ يَجِيءُ زَيْدٌ، في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى المَفْعُولِ بِفَكَّرْتُ، (فَكَيْفَ نُنْشِزُها) بَدَلٌ مِنَ العِظامِ عَلى المَوْضِعِ؛ لِأنَّ مَوْضِعَهُ نَصْبٌ، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: فانْظُرْ إلى حالِ العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها، ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ العَرَبِ: عَرَفْتُ زَيْدًا أبُو مَن هو، عَلى أحَدِ الأوْجُهِ فالجُمْلَةُ مِن قَوْلِكَ: (أبُو مَن هو) في مَوْضِعِ البَدَلِ مِن قَوْلِهِ (زَيْدًا) مَفْعُولَ عَرَفْتُ، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، التَّقْدِيرُ: عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ أبُو مَن، ولَيْسَ الِاسْتِفْهامُ في بابِ التَّعْلِيقِ مُرادًا بِهِ مَعْناهُ، بَلْ هَذا مِنَ المَواضِعِ الَّتِي جَرَتْ في لِسانِ العَرَبِ مُغَلَّبًا عَلَيْها أحْكامُ اللَّفْظِ دُونَ المَعْنى، ونَظِيرُ ذَلِكَ: أيْ: في بابِ الِاخْتِصاصِ، في نَحْوِ قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنا أيَّتُها العِصابَةُ، غَلَبَ عَلَيْها أكْثَرُ أحْكامِ النِّداءِ ولَيْسَ المَعْنى عَلى النِّداءِ، وقَدْ تَقَدَّمَ مِن قَوْلِنا، إنَّ كَلامَ العَرَبِ عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: قِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ اللَّفْظُ مُطابِقًا لِلْمَعْنى، وهو أكْثَرُ كَلامِ العَرَبِ. وقِسْمٌ يَغْلِبُ فِيهِ أحْكامُ اللَّفْظِ كَهَذا الِاسْتِفْهامِ الواقِعِ في التَّعْلِيقِ، والواقِعِ في التَّسْوِيَةِ. وقِسْمٌ يَغْلِبُ فِيهِ أحْكامُ المَعْنى نَحْوَ: أقائِمٌ الزَّيْدانِ. وقَدْ أمْعَنّا الكَلامَ عَلى مَسْألَةِ الِاسْتِفْهامِ الواقِعِ في التَّعْلِيقِ في كِتابِنا الكَبِيرِ المُسَمّى (بِالتَّذْكِرَةِ) وهي إحْدى المَسائِلِ الَّتِي سَألَنِي عَنْها قاضِي القُضاةِ تَقِيُّ الدِّينِ أبُو الفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ القُشَيْرِيُّ، عُرِفَ بِابْنِ دَقِيقِ العِيدِ؛ وسَألَنِي أنْ أكْتُبَ لَهُ فِيها، وكانَ سُؤالُهُ في قَوْلِهِ، عَلَيْهِ السَّلامُ: ”فَإنَّ أحَدَكم لا يَدْرِي أيْنَ باتَتْ يَدُهُ“ .
(ثُمَّ نَكْسُوها لَحْمًا) الكُسْوَةُ حَقِيقَةٌ هي ما وارى الجَسَدَ مِنَ الثِّيابِ، واسْتَعارَها هُنا لِما أنْشَأ مِنَ اللَّحْمِ الَّذِي غَطّى بِهِ العَظْمَ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَكَسَوْنا العِظامَ لَحْمًا﴾ [المؤمنون: ١٤] وهي اسْتِعارَةٌ في غايَةِ الحُسْنِ، إذْ هي اسْتِعارَةُ عَيْنٍ لِعَيْنٍ، وقَدْ (p-٢٩٥)جاءَتِ الِاسْتِعارَةُ في المَعْنى لِلْجُرْمِ، قالَ النّابِغَةُ:
؎الحَمْدُ لِلَّهِ إذْ لَمْ يَأْتِنِي أجَلِي ∗∗∗ حَتّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإسْلامِ سِرْبالا
ورُوِيَ أنَّهُ كانَ يُشاهِدُ اللَّحْمَ والعَصَبَ والعُرُوقَ كَيْفَ تَلْتَئِمُ وتَتَواصَلُ، والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ: أنَّ قَوْلَ اللَّهِ لَهُ كانَ بَعْدَ تَمامِ بَعْثِهِ، لا أنَّ القَوْلَ كانَ بَعْدَ إحْياءِ بَعْضِهِ.
والتَّعْقِيبُ بِالفاءِ في قَوْلِهِ: (فانْظُرْ) إلى آخِرِهِ، يَدُلُّ عَلى أنَّ العِظامَ لا يُرادُ بِها عِظامُ نَفْسِهِ، وتَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِن هَذا، إلّا إنْ كانَ وضَعَ (نَنْشُرُها) مَكانَ أنْشَرْتُها، و(نَكْسُوها) مَكانَ كَسَوْتُها، فَيُحْتَمَلُ، وتَكَرَّرَ الأمْرُ بِالنَّظَرِ إلى الطَّعامِ والشَّرابِ في الثَّلاثِ الخَوارِقِ، ولَمْ يُنَسَّقْ نَسَقَ المُفْرَداتِ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنها خارِقٌ عَظِيمٌ ومُعْجِزٌ بالِغٌ، وبَدَأ أوَّلًا بِالنَّظَرِ إلى العِظامِ والشَّرابِ حَيْثُ لَمْ يَتَغَيَّرا عَلى طُولِ هَذِهِ المُدَّةِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ أبْلَغُ، إذْ هُما مِنَ الأشْياءِ الَّتِي يَتَسارَعُ إلَيْها الفَسادُ، إذْ ما قامَ بِهِ الحَياةُ وهو الحِمارُ يُمْكِنُ بَقاؤُهُ الزَّمانَ الطَّوِيلَ، ويُمْكِنُ أنْ يَحْتَشَّ بِنَفْسِهِ ويَأْكُلَ ويَرِدَ المِياهَ، كَما قالَ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهَ وسَلَّمَ في ضالَّةِ الإبِلِ: «مَعَها سِقاؤُها وحِذاؤُها تَرِدُ الماءَ وتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتّى يَأْتِيَها رَبُّها» . ولَمّا أُمِرَ بِالنَّظَرِ إلى الطَّعامِ والشَّرابِ، وبِالنَّظَرِ إلى الحِمارِ وهَذِهِ الأشْياءِ هي الَّتِي كانَتْ صُحْبَتَهُ، وقالَ تَعالى: ﴿ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ﴾ أيْ: فَعَلْنا ذَلِكَ، ولَمّا كانَ قَوْلُهُ: ﴿وانْظُرْ إلى حِمارِكَ﴾ كالمُجْمَلِ، بَيَّنَ لَهُ جِهَةَ النَّظَرِ بِالنِّسْبَةِ إلى الحِمارِ، فَجاءَ النَّظَرُ الثّالِثُ تَوْضِيحًا لِلنَّظَرِ الثّانِي، مِن أيِّ جِهَةٍ يَنْظُرُ إلى الحِمارِ، وهي جِهَةُ إحْيائِهِ وارْتِفاعِ عِظامِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا عِنْدَ التَّرْكِيبِ وكَسَوْتِها اللَّحْمَ، فَلَيْسَ نَظَرًا مُسْتَقِلًّا، بَلْ هو مِن تَمامِ النَّظَرِ الثّانِي، فَلِذَلِكَ حَسُنَ الفَصْلُ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ﴾ ولَيْسَ في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ كَما زَعَمَ بَعْضُهم، وإنَّ الأنْظارَ مَنسُوقٌ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، وإنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ﴾ إلَخْ وهو مُقَدَّمٌ في اللَّفْظِ، مُؤَخَّرٌ في الرُّتْبَةِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ أقْوى دَلِيلٍ عَلى البَعْثِ إذْ وقَعَتِ الإماتَةُ والإحْياءُ في دارِ الدُّنْيا مُشاهَدَةً.
﴿فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ: (تَبَيَّنَ) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: (تَبَيَّنَ لَهُ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، وقَرَأ ابْنُ السَّمَيْقَعِ: بَيَّنَ لَهُ، بِغَيْرِ تاءٍ مَبْنِيًّا لِما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، فَعَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ الظّاهِرُ أنَّ تَبَيَّنَ فِعْلٌ لازِمٌ والفاعِلُ مُضْمَرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَعْنى، وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ ما أشْكَلَ عَلَيْهِ، يَعْنِي أمْرَ إحْياءِ المَوْتى، ويَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ عَلى أنَّهُ تَفْسِيرُ مَعْنًى، وتَفْسِيرُ الإعْرابِ أنْ يُقَدِّرَ مُضْمَرًا يَعُودُ عَلى كَيْفِيَّةِ الإحْياءِ الَّتِي اسْتَغْرَبَها بَعْدَ المَوْتِ، وقالَ الطَّبَرِيُّ: لَمّا اتَّضَحَ لَهُ عِيانًا ما كانَ مُسْتَنْكِرًا في قُدْرَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ قَبْلَ إعادَتِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا خَطَأٌ؛ لِأنَّهُ ألْزَمَ ما لا يَقْتَضِيهِ، وفَسَّرَ عَلى القَوْلِ الشّاذِّ. والِاحْتِمالُ الضَّعِيفُ ما حَكى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّهُ قالَ: كانَ هَذا القَوْلُ شَكًّا في قُدْرَةِ اللَّهِ عَلى الإحْياءِ، ولِذَلِكَ ضَرَبَ لَهُ المَثَلَ في نَفْسِهِ، انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وبَدَأ بِهِ - ما نَصُّهُ -: وفاعِلُ تَبَيَّنَ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قالَ: (p-٢٩٦)أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَحُذِفِ الأوَّلُ لِدَلالَةِ الثّانِي عَلَيْهِ كَما في قَوْلِهِمْ: ضَرَبَنِي وضَرَبْتُ زَيْدًا، انْتَهى كَلامُهُ. فَجَعَلَ ذَلِكَ مِن بابِ الإعْمالِ، وهَذا لَيْسَ مِن بابِ الإعْمالِ؛ لِأنَّهم نَصُّوا عَلى أنَّ العامِلَيْنِ في هَذا البابِ لا بُدَّ أنْ يَشْتَرِكا، وأدّى ذَلِكَ بِحَرْفِ العَطْفِ حَتّى لا يَكُونَ الفَصْلُ مُعْتَبَرًا، ويَكُونَ العامِلُ الثّانِي مَعْمُولًا لِلْأوَّلِ، وذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِكَ: جاءَنِي يَضْحَكُ زَيْدٌ، فَجَعَلَ في جاءَنِي ضَمِيرًا أوْ في يَضْحَكُ، حَتّى لا يَكُونَ هَذا الفِعْلُ فاصِلًا، ولا يَرُدَّ عَلى هَذا جَعْلُهم ﴿آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ [الكهف: ٩٦] ولا ﴿هاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩] ولا ﴿تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكم رَسُولُ اللَّهِ﴾ [المنافقون: ٥] ولا ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم في الكَلالَةِ﴾ [النساء: ١٧٦] مِنَ الإعْمالِ؛ لِأنَّ هَذِهِ العَوامِلَ مُشْتَرِكَةٌ بِوَجْهٍ ما مِن وُجُوهِ الِاشْتِراكِ، ولَمْ يَحْصُلِ الِاشْتِراكُ في العَطْفِ ولا العَمَلِ، ولِتَقْرِيرِ هَذا بَحْثٌ يُذْكَرُ في النَّحْوِ، فَإذا كانَ عَلى ما نَصُّوا فَلَيْسَ العامِلُ الثّانِي مُشْرَكًا بَيْنَهُ وبَيْنَ (تَبَيَّنَ) الَّذِي هو العامِلُ الأوَّلُ بِحَرْفِ عَطْفٍ، ولا بِغَيْرِهِ، ولا هو مَعْمُولٌ لِتَبَيَّنَ، بَلْ هو مَعْمُولٌ لَقالَ، وقالَ جَوابُ لَمّا أنْ قُلْنا: إنَّها حَرْفٌ وعامِلَةٌ في (لَمّا) أنْ قُلْنا: إنَّها ظَرْفٌ، و(تَبَيَّنَ) عَلى هَذا القَوْلِ في مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالظَّرْفِ، ولَمْ يَذْكُرِ النَّحْوِيُّونَ في مِثْلِ هَذا البابِ: لَوْ جاءَ قَتَلْتَ زَيْدًا، ولا: مَتى جاءَ قَتَلْتَ زَيْدًا، ولا: إذا جاءَ ضَرَبْتَ خالِدًا، ولِذَلِكَ حَكى النَّحْوِيُّونَ أنَّ العَرَبَ لا تَقُولُ: أكْرَمْتَ أهَنْتَ زَيْدًا.
وقَدْ ناقَضَ الزَّمَخْشَرِيُّ في قَوْلِهِ: فَإنَّهُ قالَ: وفاعِلُ (تَبَيَّنَ) مُضْمَرٌ، ثُمَّ قَدَّرَهُ، فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قالَ: أعْلَمُ، إلى آخِرِهِ، قالَ: فَحُذِفَ الأوَّلُ لِدَلالَةِ الثّانِي عَلَيْهِ، كَما في قَوْلِهِمْ: ضَرَبَنِي وضَرَبْتُ زَيْدًا، والحَذْفُ يُنافِي الإضْمارَ لِلْفاعِلِ، وهَذا عِنْدَ البَصْرِيِّينَ إضْمارٌ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ، ولا يُجِيزُ البَصْرِيُّونَ في مِثْلِ هَذا البابِ حَذْفَ الفاعِلِ أصْلًا، فَإنَّ كانَ أرادَ بِالإضْمارِ الحَذْفَ فَقَدْ خَرَجَ إلى قَوْلِ الكِسائِيِّ مِن أنَّ الفاعِلَ في هَذا البابِ لا يُضْمَرُ؛ لِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى الإضْمارِ قَبْلَ الذِّكْرِ، بَلْ يُحْذَفُ عِنْدَهُ الفاعِلُ، والسَّماعُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، قالَ الشّاعِرُ:
؎هَوَيْنَنِي وهَوَيْتُ الخُرُدَ العُرْبا ∗∗∗ أزْمانَ كُنْتُ مَنُوطًا بِي هَوًى وصِبا
وأمّا عَلى قِراءَةِ ابْنِ عَبّاسٍ فالجارُّ والمَجْرُورُ هو المَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، وأمّا في قِراءَةِ ابْنِ السَّمَيْقَعِ فَهو مُضْمَرٌ: أيْ: بَيَّنَ لَهُ هو، أيْ: كَيْفِيَّةَ الإحْياءِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ وقالَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، عَلى قِراءَةِ جُمْهُورِ السَّبْعَةِ: أعْلَمُ، مُضارِعًا ضَمِيرُهُ يَعُودُ عَلى المارِّ، وقالَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاعْتِبارِ، كَما أنَّ الإنْسانَ إذا رَأى شَيْئًا غَرِيبًا قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: مَعْناهُ أعْلَمُ هَذا الضَّرْبَ مِنَ العِلْمِ الَّذِي لَمْ أكُنْ عَلِمْتُهُ، يَعْنِي يَعْلَمُ عِيانًا ما كانَ يَعْلَمُهُ غَيْبًا، وأمّا عَلى قِراءَةِ أبِي رَجاءٍ، وحَمْزَةَ، والكِسائِيِّ اعْلَمْ، فِعْلُ أمْرٍ مِن عَلِمَ، فالفاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى اللَّهِ تَعالى، أوْ عَلى المَلَكِ القائِلِ لَهُ عَنِ اللَّهِ، ويُناسِبُ هَذا الوَجْهُ الأوامِرَ السّابِقَةَ مِن قَوْلِهِ: وانْظُرْ، فَقالَ لَهُ: اعْلَمْ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ والأعْمَشِ: (قِيلَ اعْلَمْ) فَبَنى: قِيلَ لِما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، والمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ ضَمِيرُ القَوْلِ لا الجُمْلَةُ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ مُشْبِعًا فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ هُنا، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ الفاعِلُ ضَمِيرَ المارِّ، ويَكُونَ نَزَّلَ نَفْسِهِ مَنزِلَةَ المُخاطَبِ الأجْنَبِيِّ، كَأنَّهُ قالَ لِنَفْسِهِ: اعْلَمْ، ومِنهُ:
ودِّعْ هُرَيْرَةَ. . . . .
وألَمْ تَغْتَمِضْ عَيْناكَ. . . . . .
وتَطاوَلَ لَيْلُكَ. . . . .
وإنَّما يُخاطِبُ نَفْسَهُ، نَزَّلَها مَنزِلَةَ الأجْنَبِيِّ.
ورَوى الجَعْبِيُّ عَنْ أبِي بَكْرٍ قالَ: أُعْلِمْ أمْرًا، مِن أعْلَمَ، فالفاعِلُ بِـ (قالَ) يَظْهَرُ أنَّهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى اللَّهِ، أمَرَهُ أنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ بِما شاهَدَ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ، وعَلى ما جَوَّزُوا في (اعْلَمْ) الأمْرُ، مِن عَلِمَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ ضَمِيرَ المارِّ.
{"ayah":"أَوۡ كَٱلَّذِی مَرَّ عَلَىٰ قَرۡیَةࣲ وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ یُحۡیِۦ هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِا۟ئَةَ عَامࣲ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ یَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ یَوۡمࣲۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِا۟ئَةَ عَامࣲ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ یَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَایَةࣰ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَیۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمࣰاۚ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق