الباحث القرآني
﴿تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالحَقِّ وإنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ (تِلْكَ) إشارَةٌ لِلْبَعِيدِ، و(آياتُ اللَّهِ) قِيلَ: هي القُرْآنُ، والأظْهَرُ أنَّها الآياتُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ في القَصَصِ السّابِقِ مِن خُرُوجِ أُولَئِكَ الفارِّينَ مِنَ المَوْتِ، وإماتَةِ اللَّهِ لَهم دُفْعَةً واحِدَةً، ثُمَّ أحْياهم إحْياءَةً واحِدَةً، وتَمْلِيكِ طالُوتَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ ولَيْسَ مِن أوْلادِ مُلُوكِهِمْ، والإتْيانُ بِالتّابُوتِ بَعْدَ فَقْدِهِ مُشْتَمِلًا عَلى بَقايا مِن إرْثِ آلِ مُوسى وآلِ هارُونَ، وكَوْنُهُ تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ مُعايَنَةً عَلى ما نُقِلَ عَنْ تُرْجُمانِ القُرْآنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وذَلِكَ الِابْتِلاءُ العَظِيمُ بِالنَّهَرِ في فَصْلِ القَيْظِ والسَّفَرِ، وإجابَةُ مَن تَوَكَّلَ عَلى اللَّهِ في النُّصْرَةِ، وقَتْلُ داوُدَ جالُوتَ، وإيتاءُ اللَّهِ إيّاهُ المُلْكَ والحِكْمَةَ، فَهَذِهِ كُلُّها آياتٌ عَظِيمَةٌ خَوارِقُ، تَلاها اللَّهُ عَلى نَبِيِّهِ بِالحَقِّ أيْ: مَصْحُوبَةً بِالحَقِّ لا كَذِبَ فِيها ولا انْتِحالَ، ولا بِقَوْلِ كَهَنَةٍ، بَلْ مُطابِقًا لِما في كُتُبِ بَنِي إسْرائِيلَ، ولِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِن هَذا القَصَصِ الحَظُّ الأوْفَرُ في الِاسْتِنْصارِ بِاللَّهِ والإعْدادِ لِلْكُفّارِ، وأنَّ كَثْرَةَ العَدَدِ قَدْ يَغْلِبُها المُقِلُّ، وأنَّ الوُثُوقَ (p-٢٧١)بِاللَّهِ والرُّجُوعَ إلَيْهِ هو الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ في المُلِمّاتِ، ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ تَلا الآياتِ عَلى نَبِيِّهِ أعْلَمَ أنَّهُ مِنَ المُرْسَلِينَ، وأكَدَّ ذَلِكَ بِـ (إنَّ) واللّامِ، حَيْثُ أخْبَرَ بِهَذِهِ الآيَةِ مِن غَيْرِ قِراءَةِ كِتابٍ ولا مُدارَسَةِ أحْبارٍ ولا سَماعِ أخْبارٍ.
وتَضَمَّنَتِ الآياتُ الكَرِيمَةُ أخْبارَ بَنِي إسْرائِيلَ حَيْثُ اسْتَقْيَدُوا تَمْلِيكَ طالُوتَ عَلَيْهِمْ أنَّ لِذَلِكَ آيَةً تَدُلُّ عَلى تَمْلِكِيهِ، وهو أنَّ التّابُوتَ الَّذِي فَقَدْتُمُوهُ يَأْتِيكم مُشْتَمِلًا عَلى ما كانَ فِيهِ مِنَ السَّكِينَةِ والبَقِيَّةِ المُخَلَّفَةِ عَنْ آلِ مُوسى وآلِ هارُونَ، وأنَّ المَلائِكَةَ تَحْمِلُهُ، وإنَّ في ذَلِكَ آيَةً أيْ: آيَةً لِمَن كانَ مُؤْمِنًا؛ لِأنَّ هَذا خارِقٌ عَظِيمٌ. وفَصْلُ طالُوتَ بِالجُنُودِ وتَبْرِيزُهُ بِهِمْ مِن دِيارِهِمْ لِلِقاءِ العَدُوِّ يَدُلُّ عَلى أنَّهم مَلَّكُوهُ وانْقادُوا لَهُ، وأخْبَرَهم عَنِ اللَّهِ أنَّهُ مُبْتَلِيهِمْ بِنَهَرٍ فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ اللَّهُ نَبَّأهُ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإخْبارِ نَبِيِّهِمْ لَهُ عَنِ اللَّهِ، وأنَّ مَن شَرِبَ مِنهُ كَرَعًا فَلَيْسَ مِنهُ إلّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، وأنَّ مَن لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنهُ، وأخْبَرَ اللَّهُ أنَّهم قَدْ خالَفَ أكْثَرُهم فَشَرِبُوا مِنهُ، ولَّما عَبَرُوا النَّهَرَ ورَأوْا ما هو فِيهِ جالُوتُ مِنَ العَدَدِ والعُدَدِ أخْبَرُوا أنَّهم لا طاقَةَ لَهم بِذَلِكَ، فَأجابَهم مَن أيْقَنَ بِلِقاءِ اللَّهِ: بِأنَّ الكَثْرَةَ لا تَدُلُّ عَلى الغَلَبَةِ، فَكَثِيرًا ما غَلَبَ القَلِيلُ الكَثِيرَ بِتَمْكِينِ اللَّهِ وإقْدارِهِ، وأنَّهُ إذا كانَ اللَّهُ مَعَ الصّابِرِينَ فَهُمُ المَنصُورُونَ، فَحُضُّوا عَلى التَّصابُرِ عِنْدَ لِقاءِ العَدُوِّ، وحِينَ بَرَزُوا لِأعْدائِهِمْ ووَقَعَتِ العَيْنُ عَلى العَيْنِ لَجَئُوا إلى اللَّهِ تَعالى بِالدُّعاءِ والِاسْتِغاثَةِ، وسَألُوا مِنهُ الصَّبْرَ عَلى القِتالِ وتَثْبِيتَ الأقْدامِ عِنْدَ المَداحِضِ، والنَّصْرَ عَلى مَن كَفَرَ بِهِ، وكانَتْ نَتِيجَةُ هَذا القَوْلِ وصِدْقِ القِتالِ أنْ مَكَّنَهم مِن أعْدائِهِمْ وهَزَمُوهم وقَتَلَ مَلِكَهم، وإذا ذَهَبَ الرَّأْسُ ذَهَبَ الجَسَدُ، وأعْطى اللَّهُ داوُدَ مُلْكَ بَنِي إسْرائِيلَ والنُّبُوَّةَ وهي الحِكْمَةُ، وعَلَّمَهُ مِمّا أرادَ أنْ يُعَلِّمَهُ مِنَ الزَّبُورِ، وصَنْعَةِ اللَّبُوسِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا عَلَّمَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّ إصْلاحَ الأرْضِ هو بِدَفْعِ بَعْضِ النّاسِ بَعْضًا، فَلَوْلا أنْ دَفَعَ اللَّهُ عَنْ بَنِي إسْرائِيلَ بِهَزِيمَةِ قَوْمِ جالُوتَ وقَتْلِ داوُدَ جالُوتَ، لَغَلَبَ عَلَيْهِمْ أعْداؤُهم واسْتُؤْصِلُوا قَتْلًا ونَهْبًا وأسْرًا، وكَذَلِكَ مَن جَرى مَجْراهم، ولَكِنَّ فَضْلَ اللَّهِ هو السّابِقُ، حَيْثُ لَمْ يُمَكِّنْ مِنهم أعْداءَهم، ومَكَّنَهم مِنهم، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ هَذِهِ الآياتِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ هَذِهِ العِبَرَ وهَذِهِ الخَوارِقَ تَلاها اللَّهُ عَلى نَبِيِّهِ بِالحَقِّ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ، ثُمَّ أخْبَرَهُ أنَّهُ مُرْسَلٌ مِن جُمْلَةِ المُرْسَلِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمُوهُ في الزَّمانِ، والرِّسالَةُ فَوْقَ النُّبُوَّةِ، ودَلَّ عَلى رِسالَتِهِ إخْبارُهُ بِهَذا القَصَصِ المُتَضَمِّنِ لِلْآياتِ الباهِرَةِ الدّالَّةِ عَلى صِدْقِ مَن أخْبَرَ بِها، مِن غَيْرِ أنْ يُعْلِمَهُ بِها مُعْلِمٌ إلّا اللَّهَ.
* * *
﴿تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالحَقِّ وإنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ مِنهم مَن كَلَّمَ اللَّهُ ورَفَعَ بَعْضَهم دَرَجاتٍ وآتَيْنا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّناتِ وأيَّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ ولَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنهم مَن آمَنَ ومِنهم مَن كَفَرَ ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما اقْتَتَلُوا ولَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ﴾ [البقرة: ٢٥٣] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكم مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خُلَّةٌ ولا شَفاعَةٌ والكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٤] ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ إلّا بِما شاءَ وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأرْضَ ولا يَؤدُهُ حِفْظُهُما وهو العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] ﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ ويُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى لا انْفِصامَ لَها واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٦] البَيْعُ مَعْرُوفٌ، والفِعْلُ مِنهُ باعَ يَبِيعُ، ومَن قالَ: أباعَ في مَعْنى باعَ أخْطَأ.
الخُلَّةُ: الصَّداقَةُ كَأنَّها تَتَخَلَّلُ الأعْضاءَ أيْ: تَدْخُلُ خِلالَها، والخُلَّةُ الصَّدِيقُ، قالَ الشّاعِرُ:
؎وكانَ لَها في سالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ يُسارِقُ بِالطَّرَفِ الخِباءَ المُسَتَّرا
السِّنَةُ والوَسَنُ: قِيلَ: النُّعاسُ، وهو الَّذِي يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ مِنَ الفُتُورِ قالَ الشّاعِرُ:(p-٢٧٢)
؎وسْنانُ أقْصَدَهُ النُّعاسُ فَرَنَّقَتْ ∗∗∗ في عَيْنِهِ سِنَةٌ ولَيْسَ بِنائِمِ
ويَبْقى مَعَ السِّنَةِ بَعْضُ الذِّهْنِ، والنَّوْمُ هو المُسْتَثْقَلُ الَّذِي يَزُولُ مَعَهُ الذِّهْنُ، وهَذا البَيْتُ يَظْهَرُ مِنهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ السِّنَةِ والنَّوْمِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الوَسْنانُ الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّوْمِ وهو لا يَعْقِلُ، حَتّى رُبَّما جَرَّدَ السَّيْفَ عَلى أهْلِهِ، وهَذا الَّذِي قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ لَيْسَ بِمَفْهُومٍ مِن كَلامِ العَرَبِ؛ قالَ المُفَضَّلُ: السِّنَةُ ثِقَلٌ في الرَّأْسِ، والنُّعاسُ في العَيْنِ، والنَّوْمُ في القَلْبِ. الكُرْسِيُّ: آلَةٌ مِنَ الخَشَبِ أوْ غَيْرِهِ مَعْلُومَةٌ، يُقْعَدُ عَلَيْها، والياءُ فِيهِ كالياءِ في قَرِيٍّ، لَيْسَتْ لِلنَّسَبِ، وجَمْعُهُ كَراسِيٌّ، وسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ بِالنِّسْبَةِ إلى اللَّهِ تَعالى، آدَهُ الشَّيْءُ يَؤُدُهُ: أثْقَلَهُ، وتَحَمَّلَ مِنهُ مَشَقَّةً، قالَ الشّاعِرُ:
؎ألا ما لِسَلْمى اليَوْمَ بَتَّ جَدِيدُها ∗∗∗ وضَنَّتْ وما كانَ النَّوالُ يَؤُدُها
الغَيُّ: مُقابِلُ الرُّشْدِ، يُقالُ: غَوى الرَّجُلُ يَغْوِي أيْ: ضَلَّ في مُعْتَقَدٍ أوْ رَأْيٍ، ويُقالُ: أغْوى الفَصِيلُ إذا بَشِمَ، وإذا جاعَ عَلى الضِّدِّ. الطّاغُوتُ: بِناءُ مُبالَغَةٍ مِن طَغى يَطْغى، وحَكى الطَّبَرِيُّ يَطْغُو إذا جاوَزَ الحَدَّ بِزِيادَةٍ عَلَيْهِ، ووَزْنُهُ الأصْلِيُّ: فَعْلُوتُ، قُلِبَ إذْ أصْلُهُ: طَغْوُوتُ، فَجُعِلَتِ اللّامُ مَكانَ العَيْنِ، والعَيْنُ مَكانَ اللّامِ، فَصارَ طَوْغُوتَ، تَحَرَّكَتِ الواوُ وانْفَتَحَ ما قَبْلَها فَقُلِبَتْ ألِفًا، فَصارَ طاغُوتَ، ومَذْهَبُ أبِي عَلِيٍّ أنَّهُ مَصْدَرٌ كَرَهَبُوتٍ وجَبَرُوتٍ، وهو يُوصَفُ بِهِ الواحِدُ والجَمْعُ، ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ كَأنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ لِلْكَثِيرِ والقَلِيلِ، وزَعَمَ أبُو العَبّاسِ أنَّهُ جَمْعٌ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ التّاءَ في طاغُوتَ بَدَلٌ مِن لامِ الكَلِمَةِ، ووَزْنُهُ فاعُولٌ. العُرْوَةُ: مَوْضِعُ الإمْساكِ وشَدِّ الأيْدِي والتَّعَلُّقِ، والعُرْوَةُ شَجَرَةٌ تَبْقى عَلى الجَذْبِ لِأنَّ الإبِلَ تَتَعَلَّقُ بِها في الخِصْبِ مِن: عَرَوْتُهُ: ألْمَمْتُ بِهِ مُتَعَلِّقًا، واعْتَراهُ ألَمٌ: تَعَلَّقَ بِهِ. الِانْفِصامُ: الِانْقِطاعُ، وقِيلَ: الِانْكِسارُ مِن غَيْرِ بَيْنُونَةٍ، والقَصْمُ بِالقافِ الكَسْرُ بِبَيْنُونَةٍ، وقَدْ يَجِيءُ الفَصْمُ بِالفاءِ في مَعْنى البَيْنُونَةِ.
﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ﴾ [البقرة: ٢٥٣] مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ اصْطِفاءَ طالُوتَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، وتَفَضُّلَ داوُدَ عَلَيْهِمْ بِإيتائِهِ المُلْكَ والحِكْمَةَ وتَعْلِيمِهِ، ثُمَّ خاطَبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِأنَّهُ مِنَ المُرْسَلِينَ، وكانَ ظاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ المُرْسَلِينَ، بَيَّنَ بِأنَّ المُرْسَلِينَ مُتَفاضِلُونَ أيْضًا، كَما كانَ التَّفاضُلُ بَيْنَ غَيْرِ المُرْسَلِينَ كَ طالُوتَ وبَنِي إسْرائِيلَ، و(تِلْكَ) مُبْتَدَأٌ وخَبُرُهُ (الرُّسُلُ) و(فَضَّلْنا) جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، وذُو الحالِ الرُّسُلُ، والعامِلُ فِيهِ اسْمُ الإشارَةِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (الرُّسُلُ) صِفَةً لِاسْمِ الإشارَةِ، أوْ عَطْفَ بَيانٍ، وأشارَ بِتِلْكَ الَّتِي لِلْبَعِيدِ لِبُعْدِ ما بَيْنَهم مِنَ الأزْمانِ وبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ قِيلَ: الإشارَةُ إلى الرُّسُلِ الَّذِينَ ذُكِرُوا في هَذِهِ السُّورَةِ، أوْ لِلرُّسُلِ الَّتِي ثَبَتَ عِلْمُها عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والأوْلى أنْ تَكُونَ إشارَةً إلى المُرْسَلِينَ في قَوْلِهِ: ﴿وإنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ ولا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ عِلْمُهُ ﷺ بِأعْيانِهِمْ بَلْ أخْبَرَ أنَّهُ مِن جُمْلَةِ المُرْسَلِينَ، وأنَّ المُرْسَلِينَ فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ، وأتى بِتِلْكَ، الَّتِي لِلْواحِدَةِ المُؤَنَّثَةِ، وإنْ كانَ المُشارُ إلَيْهِ جَمْعًا؛ لِأنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وجَمْعُ التَّكْسِيرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الواحِدَةِ المُؤَنَّثَةِ في الوَصْفِ، وفي عَوْدِ الضَّمِيرِ، وفي غَيْرِ ذَلِكَ، وكانَ جَمْعُ تَكْسِيرٍ هُنا لِاخْتِصارِ اللَّفْظِ، ولِإزالَةِ قَلَقِ التَّكْرارِ؛ لِأنَّهُ لَوْ جاءَ: أُولَئِكَ المُرْسَلُونَ فَضَّلْنا، كانَ اللَّفْظُ فِيهِ طُولٌ، وكانَ فِيهِ التَّكْرارُ والِالتِفاتُ في (نَتْلُوها)، وفي (فَضَّلْنا)؛ لِأنَّهُ خُرُوجٌ إلى مُتَكَلِّمٍ مِن غائِبٍ، إذْ قَبْلَهُ ذُكِرَ لَفْظُ اللَّهِ، وهو لَفْظٌ غائِبٌ. والتَّضْعِيفُ في (فَضَّلْنا) لِلتَّعْدِيَةِ، و(عَلى بَعْضٍ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (فَضَّلْنا) قِيلَ: والتَّفْضِيلُ بِالفَضائِلِ بَعْدَ الفَرائِضِ أوِ الشَّرائِعِ عَلى غَيْرِ ذِي الشَّرائِعِ، أوْ بِالخَصائِصِ كالكَلامِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ﴾ [البقرة: ٢٥٣] لَمّا أوْجَبَ ذَلِكَ مِن تَفاضُلِهِمْ في الحَسَناتِ، انْتَهى. وفِيهِ دَسِيسَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ. ونَصَّ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ عَلى تَفْضِيلِ بَعْضِ الأنْبِياءِ عَلى بَعْضٍ في الجُمْلَةِ دُونَ تَعْيِينِ مَفْضُولٍ. (p-٢٧٣)وهَكَذا جاءَ في الحَدِيثِ: «أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ» . وقالَ: «لا تُفَضِّلُونِي عَلى مُوسى» وقالَ: «لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ أنْ يَقُولَ: أنا خَيْرٌ مِن يُونُسَ بْنِ مَتّى» .
﴿مِنهم مَن كَلَّمَ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٥٣] قَرَأ الجُمْهُورُ بِالتَّشْدِيدِ ورَفَعِ الجَلالَةِ والعائِدُ عَلى (مَن) مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَن كَلَّمَهُ، وقُرِئَ بِنَصْبِ الجَلالَةِ والفاعِلُ مُسْتَتِرٌ في (كَلَّمَ) يَعُودُ عَلى (مَن) ورَفْعُ الجَلالَةِ أتَمُّ في التَّفْضِيلِ مِنَ النَّصْبِ، إذِ الرَّفْعُ يَدُلُّ عَلى الحُضُورِ والخِطابِ مِنهُ تَعالى لِلْمُتَكَلِّمِ، والنُّصْبُ يَدُلُّ عَلى الحُضُورِ دُونَ الخِطابِ مِنهُ، وقَرَأ أبُو المُتَوَكِّلِ وأبُو نَهْشَلٍ وابْنُ السَّمَيْقَعِ: (كالَمَ اللَّهَ) بِالألِفِ ونَصَبِ الجَلالَةِ مِنَ المُكالَمَةِ، وهي صُدُورُ الكَلامِ مِنِ اثْنَيْنِ، ومِنهُ قِيلَ: كَلِيمُ اللَّهِ أيْ: مُكالِمُهُ، فَعِيلٌ بِمَعْنى مُفاعِلٍ، كَجَلِيسٍ وخَلِيطٍ. وذَكَرَ التَّفْضِيلَ بِالكَلامِ وهو مِن أشْرَفِ تَفْضِيلٍ حَيْثُ جَعَلَهُ مَحَلًّا لِخِطابِهِ ومُناجاتِهِ مِن غَيْرِ سَفِيرٍ، وتَضافَرَتْ نُصُوصُ المُفَسِّرِينَ هُنا عَلى أنَّ المُرادَ بِالمُكَلَّمِ هُنا هو مُوسى، عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، «وقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ آدَمَ: أنْبِيٌّ مُرْسَلٌ ؟ فَقالَ: ”نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ“» . وقَدْ صَحَّ في حَدِيثِ الإسْراءِ حَيْثُ ارْتَقى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى مَقامٍ تَأخَّرَ عَنْهُ فِيهِ جِبْرِيلُ، أنَّهُ جَرَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ رَبِّهِ تَعالى مُخاطَباتٌ ومُحاوَراتٌ، فَلا يَبْعُدُ أنْ يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿مِنهم مَن كَلَّمَ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٥٣]: مُوسى وآدَمُ ومُحَمَّدٌ ﷺ لِأنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَكْلِيمُ اللَّهِ لَهم. وفي قَوْلِهِ: ﴿كَلَّمَ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٥٣] التِفاتٌ، إذْ هو خُرُوجٌ إلى ظاهِرٍ غائِبٍ مِن ضَمِيرٍ مُتَكَلِّمٍ، لِما في ذِكْرِ هَذا الِاسْمِ العَظِيمِ مِنَ التَّفْخِيمِ والتَّعْظِيمِ، ولِزَوالِ قَلَقِ تَكْرارِ ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ، إذْ كانَ يَكُونُ: فَضَّلْنا، وكَلَّمْنا، ورَفَعْنا، وآتَيْنا.
{"ayah":"تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَیۡكَ بِٱلۡحَقِّۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق