الباحث القرآني

﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾، لَمّا بَيَّنَ حالَ المُطَلَّقَةِ قَبْلَ المَسِيسِ وقَبْلَ الفَرْضِ؛ بَيَّنَ حالَ المُطَلَّقَةِ قَبْلَ المَسِيسِ وبَعْدَ الفَرْضِ، والمُرادُ بِالمَسِيسِ: الجِماعُ، وبِالفَرِيضَةِ: الصَّداقُ. والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: (وقَدْ فَرَضْتُمْ) في مَوْضِعِ الحالِ، ويَشْمَلُ الفَرْضَ المُقارِنَ لِلْعَقْدِ، والفَرْضَ بَعْدَ العَقْدِ وقَبْلَ الطَّلاقِ، فَلَوْ كانَ فَرَضَ لَها بَعْدَ العَقْدِ ثُمَّ طَلَّقَ بَعْدَ الفَرْضِ - تَنَصَّفَ الصَّداقُ بِالطَّلاقِ لِعُمُومِ الآيَةِ، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ؛ إذْ لا يَتَنَصَّفُ عِنْدَهُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالعَقْدِ، فَلَها مَهْرُ مِثْلِها، كَقَوْلِ مالِكٍ والشّافِعِيِّ، ثُمَّ رَجَعَ إلى قَوْلِ صاحِبَيْهِ. وجَوابُ الشَّرْطِ: ﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾، وارْتِفاعُ (نِصْفُ) عَلى الِابْتِداءِ، وقُدِّرَ الخَبَرُ ”فَعَلَيْكم نِصْفُ ما فَرَضْتُمْ“، أوْ ”فَلَهُنَّ نِصْفُ ما فَرَضْتُمْ“، ويَجُوزُ أنْ يُقَدَّرَ مُؤَخَّرًا، ويَجُوزَ أنْ يَكُونَ خَبَرًا، أيْ: فالواجِبُ نِصْفُ ما فَرَضْتُمْ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: ”فَنِصْفَ“ بِفَتْحِ الفاءِ، أيْ: فادْفَعُوا نِصْفَ ما فَرَضْتُمْ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ”ما فَرَضْتُمْ“ أنَّهُ إذا أصْدَقَها عَرَضًا، وبَقِيَ إلى وقْتِ الطَّلاقِ وزادَ أوْ نَقَصَ - فَنَماؤُهُ ونُقْصانُهُ لَهُما ويَتَشَطَّرُ. أوْ عَيْنًا ذَهَبًا أوْ ورِقًا فاشْتَرَتْ بِهِ عَرَضًا، فَنَما أوْ نَقَصَ، فَلا يَكُونُ لَهُ إلّا نِصْفُ ما أصْدَقَ مِنَ العَيْنِ لا مِنَ العَرَضِ؛ لِأنَّ العَرَضَ لَيْسَ هو المُفَوَّضُ. وقالَ مالِكٌ: هَذا العَرَضُ كالعَيْنِ؛ أصْلُ ثَمَنِهِ يَتَشَطَّرُ، وهَذا تَفْرِيعٌ عَلى أنَّهُ هَلْ يَتَبَيَّنُ بَقاءُ مُلْكِهِ عَلى نِصْفِهِ أوْ يَرْجِعُ إلَيْهِ بَعْدَ أنْ مَلَكَتْهُ ؟ وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَتَشَطَّرُ إلّا المَفْرُوضُ، فَلَوْ كانَ نَحَلَها شَيْئًا في العَقْدِ، أوْ قَبْلَهُ لِأجْلِهِ؛ فَلا يَتَشَطَّرُ. وقِيلَ: هو في مَعْنى الصَّداقِ. وظاهِرُ الآيَةِ أنَّ الطَّلاقَ قَبْلَ الجِماعِ وبَعْدَ الفَرْضِ (p-٢٣٥)يُوجِبُ تَشْطِيرَ الصَّداقِ، سَواءٌ خَلا بِها، أمْ قَبَّلَها، أمْ عانَقَها، أمْ طالَ المُقامُ مَعَها، وبِهِ قالَ الشّافِعِيُّ، والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ، ولا عِدَّةَ عَلَيْها؛ ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وعَمْرِو بْنِ عُمَرَ، وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، وابْنِ عَبّاسٍ، وعَلِيِّ بْنِ الحَسَنِ، وإبْراهِيمَ: أنَّ لَها بِالخَلْوَةِ جَمِيعَ المَهْرِ. وقالَ مالِكٌ: إنْ خَلا بِها وقَبَّلَها أوْ كَشَفَها، وكانَ ذَلِكَ قَرِيبًا، فَلَها نِصْفُ الصَّداقِ، وإنْ طالَ فَلَها المَهْرُ، إلّا أنْ يَضَعَ مِنهُ، وقالَ الثَّوْرِيُّ: إذا خَلا بِها ولَمْ يَدْخُلْ عَلَيْها، وكانَ ذَلِكَ مِن جِهَتِهِ، فَلَها المَهْرُ كامِلًا، وإنْ كانَتْ رَتْقاءَ فَلَها شَطْرُ المَهْرِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ، وزُفَرُ: الخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ تَمْنَعُ سُقُوطَ شَيْءٍ مِنَ المَهْرِ بَعْدَ الطَّلاقِ، وطِئَ أوْ لَمْ يَطَأْ، وهو أنْ لا يَكُونَ أحَدُهُما مُحْرِمًا أوْ مَرِيضًا، أوْ لَمْ تَكُنْ حائِضَةً أوْ صائِمَةً في رَمَضانَ، أوْ رَتْقاءَ؛ فَإنَّهُ إذا كانَ كَذَلِكَ ثُمَّ طَلَّقَها وجَبَ لَها نِصْفُ المَهْرِ إذا لَمْ يَطَأْها. والعِدَّةُ واجِبَةٌ في هَذِهِ الوُجُوهِ كُلِّها، إنْ طَلَّقَها فَعَلَيْها العِدَّةُ. وقالَ الأوْزاعِيُّ: إذا دَخَلَ بِها عِنْدَ أهْلِها، قَبَّلَها أوْ لَمَسَها، ثُمَّ طَلَّقَها ولَمْ يُجامِعْها، وكانَ أرْخى عَلَيْها سِتْرًا أوْ أغْلَقَ بابًا فَقَدْ تَمَّ الصَّداقُ. وقالَ اللَّيْثُ: إذا أرْخى عَلَيْها سِتْرًا فَقَدْ وجَبَ الصَّداقُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”فَنِصْفُ“ بِكَسْرِ النُّونِ وضَمِّ الفاءِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ بِضَمِّ النُّونِ، وهي قِراءَةٌ عَلِيٍّ والأصْمَعِيِّ عَنْ أبِي عَمْرٍو، وفي جَمِيعِ القُرْآنِ. وتَقَدَّمَ أنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ، والِاقْتِصارُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُطَلَّقَةَ قَبْلَ المَسِيسِ، وقَدْ فَرَضَ لَها، لَيْسَ لَها إلّا النِّصْفُ. وكَذَلِكَ قالَ مالِكٌ وغَيْرُهُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُخْرِجَةٌ لِلْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الفَرْضِ وقَبْلَ المَسِيسِ مِن حُكْمِ التَّمْتِيعِ؛ إذْ كانَ قَدْ تَناوَلَها قَوْلُهُ: (ومَتِّعُوهُنَّ) . وقالَ ابْنُ المُسَيَّبِ: نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ آيَةَ الأحْزابِ. وقالَ قَتادَةُ: نَسَخَتِ الآيَةَ الَّتِي قَبْلَها. وزَعَمَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ أنَّها مَنسُوخَةٌ. وقالَ فَرِيقٌ مِنَ العُلَماءِ، مِنهم أبُو ثَوْرٍ: بَيَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ أنَّ المَفْرُوضَ لَها تَأْخُذُ نِصْفَ ما فُرِضَ، ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ لِإسْقاطِ مُتْعَتِها بَلْ لَها المُتْعَةُ ونِصْفُ المَفْرُوضِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى شَيْءٍ مِن هَذا. ﴿إلّا أنْ يَعْفُونَ﴾، نَصَّ ابْنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُ عَلى أنَّ هَذا اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ؛ لِأنَّ عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِن جِنْسِ أخْذِهِنَّ، والمَعْنى إلّا أنْ يَتْرُكْنَ النِّصْفَ الَّذِي وجَبَ لَهُنَّ عِنْدَ الزَّوْجِ. انْتَهى. وقِيلَ: ولَيْسَ عَلى ما ذَهَبُوا إلَيْهِ، بَلْ هو اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ، لَكِنَّهُ مِنَ الأحْوالِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ مَعْناهُ: عَلَيْكم نِصْفُ ما فَرَضْتُمْ في كُلِّ حالٍ إلّا في حالِ عَفْوِهِنَّ عَنْكم؛ فَلا يَجِبُ، وإنْ كانَ التَّقْدِيرُ: فَلَهُنَّ نِصْفُ، فالواجِبُ ما فَرَضْتُمْ، فَكَذَلِكَ أيْضًا وكَوْنُهُ اسْتِثْناءً مِنَ الأحْوالِ ظاهِرٌ، ونَظِيرُهُ: ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إلّا أنْ يُحاطَ بِكُمْ﴾ [يوسف: ٦٦]، إلّا أنَّ سِيبَوَيْهِ مَنَعَ أنْ تَقَعَ أنْ وصِلَتُها حالًا، فَعَلى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ يَكُونُ: ﴿إلّا أنْ يَعْفُونَ﴾ اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا. وقَرَأ الحَسَنُ: ”إلّا أنْ يُعْفُونَهُ“، والهاءُ ضَمِيرُ النِّصْفِ، والأصْلُ: يَعْفُونَ عَنْهُ، أيْ: عَنِ النِّصْفِ، فَلا يَأْخُذْنَهُ. وقالَ بَعْضُهم: الهاءُ لِلِاسْتِراحَةِ، كَما تَأوَّلَ ذَلِكَ بَعْضُهم في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎هُمُ الفاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ عَلى مَدَدِ الأيّامِ ما فُعِلَ البِرُّ وحُرِّكَتْ تَشْبِيهًا بِهاءِ الضَّمِيرِ، وهو تَوْجِيهٌ ضَعِيفٌ. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ: ”إلّا أنْ تَعْفُونَ“ بِالتّاءِ بِثِنْتَيْنِ مِن أعْلاها، وذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِالتِفاتِ؛ إذْ كانَ ضَمِيرُهُنَّ غائِبًا في قَوْلِهِ ”لَهُنَّ“ وما قَبْلَهُ، فالتَفَتَ إلَيْهِنَّ وخاطَبَهُنَّ، وفي خِطابِهِ لَهُنَّ، وجَعَلَ ذَلِكَ عَفْوًا ما يَدُلُّ عَلى نَدْبِ ذَلِكَ واسْتِحْبابِهِ. وفَرَّقَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَيْنَ قَوْلِكَ: الرِّجالُ يَعْفُونَ، والنِّساءُ يَعْفُونَ، بِأنَّ الواوَ في الأوَّلِ ضَمِيرٌ، والنُّونَ عَلامَةُ الرَّفْعِ، والواوَ في الثّانِي لامُ الفِعْلِ، والنُّونَ ضَمِيرُهُنَّ، والفِعْلُ مَبْنِيٌّ لا أثَرَ في لَفْظِهِ لِلْعامِلِ. انْتَهى فَرْقُهُ. وهَذا مِنَ النَّحْوِ الجَلِيِّ الَّذِي يُدْرَكُ بِأدْنى قِراءَةٍ في هَذا العِلْمِ، ونَقَصَهُ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ لامَ الفِعْلِ في: ”الرِّجالُ يَعْفُونَ“، حُذِفَتْ لِالتِقائِها ساكِنَةً مَعَ واوِ الضَّمِيرِ. وأنْ يَذْكُرَ خِلافًا في نَحْوِ: ”النِّساءُ يَعْفُونَ“، فَذَهَبَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ، والسُّهَيْلِيُّ مِنَ المُتَأخِّرِينَ، إلى أنَّ الفِعْلَ إذا اتَّصَلَتْ بِهِ نُونُ الإناثِ مُعْرَبٌ لا مَبْنِيٌّ، ويُنْسَبُ ذَلِكَ إلى (p-٢٣٦)كَلامِ سِيبَوَيْهِ. والكَلامُ عَلى هَذِهِ المَسْألَةِ مُوَضَّحٌ في عِلْمِ النَّحْوِ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿إلّا أنْ يَعْفُونَ﴾ العُمُومُ في كُلِّ مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ المَسِيسِ، وقَدْ فُرِضَ لَها؛ فَلَها أنْ تَعْفُوَ. قالُوا: وأُرِيدَ هُنا بِالعُمُومِ الخُصُوصُ، وكُلُّ امْرَأةٍ تَمْلِكُ أمْرَ نَفْسِها لَها أنْ تَعْفُوَ، فَأمّا مَن كانَتْ في حِجابٍ أوْ وصِيٍّ فَلا يَجُوزُ لَها العَفْوُ، وأمّا البِكْرُ الَّتِي لا ولِيَّ لَها، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وجَماعَةٌ مِنَ التّابِعِينَ والفُقَهاءِ: يَجُوزُ ذَلِكَ لَها. وحَكى سَحْنُونُ، عَنِ ابْنِ القاسِمِ: أنَّهُ لا يَجُوزُ ذَلِكَ لَها. ﴿أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾، وهو: الزَّوْجُ، قالَهُ عَلِيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، وجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وشُرَيْحٌ رَجَعَ إلَيْهِ، وابْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ، وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ، والضَّحّاكُ، ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، والرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ، وابْنُ شُبْرُمَةَ، وأبُو حَنِيفَةَ، وذَكَرَ ذَلِكَ عَنِ الشّافِعِيِّ. وعَفْوُهُ أنْ يُعْطِيَها المَهْرَ كُلَّهُ، ورُوِيَ أنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ تَزَوَّجَ وطَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَأكْمَلَ الصَّداقَ، وقالَ: أنا أحَقُّ بِالعَفْوِ. وسُمِّيَ ذَلِكَ عَفْوًا إمّا عَلى طَرِيقِ المُشاكَلَةِ؛ لِأنَّ قَبْلَهُ: ﴿إلّا أنْ يَعْفُونَ﴾، أوْ لِأنَّ مِن عادَتِهِمْ أنْ كانُوا يَسُوقُونَ المَهْرَ عِنْدَ التَّزَوُّجِ، ألا تَرى إلى «قَوْلِهِ ﷺ لِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ: (فَأيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ)» ؟ يَعْنِي أنْ يُصْدِقَها فاطِمَةَ - صَلّى اللَّهُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ وعَلَيْها - فَسَمّى تَرْكَ أخْذِهِمُ النِّصْفَ مِمّا ساقُوهُ عَفْوًا عَنْهُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والحَسَنِ، وعَلْقَمَةَ، وطاوُسٍ، والشَّعْبِيِّ، وإبْراهِيمَ، ومُجاهِدٍ، وشُرَيْحٍ، وأبِي صالِحٍ، وعِكْرِمَةَ، والزُّهْرِيِّ، ومالِكٍ، والشّافِعِيِّ، وغَيْرِهِمْ: أنَّهُ الوَلِيُّ الَّذِي المَرْأةُ في حِجْرِهِ، فَهو الأبُ في ابْنَتِهِ الَّتِي لَمْ تَمْلِكْ أمْرَها، والسَّيِّدُ في أمَتِهِ. وجَوَّزَ شُرَيْحٌ عَفْوَ الأخِ عَنْ نِصْفِ المَهْرِ، وقالَ: أنا أعْفُو عَنْ مُهُورِ بَنِي مُرَّةَ وإنْ كَرِهْنَ، وقالَ عِكْرِمَةُ: يَجُوزُ أنْ يَعْفُوَ عَمًّا كانَ أوْ أخًا أوْ أبًا - وإنْ كَرِهَتْ - ويَكُونُ دُخُولُ ”أوْ“ هُنا لِلتَّنْوِيعِ في العَفْوِ، ﴿إلّا أنْ يَعْفُونَ﴾ إنْ كُنَّ مِمَّنْ يَصِحُّ العَفْوُ مِنهُنَّ، أوْ يَعْفُو ولِيُّهُنَّ إنْ كُنَّ لا يَصِحُّ العَفْوُ مِنهُنَّ، ”أوْ“ لِلتَّخْيِيرِ، أيْ: هُنَّ مُخَيَّراتٌ بَيْنَ أنْ يَعْفُونَ، أوْ يَعْفُوَ ولِيُّهُنَّ. ورَجَّحَ كَوْنَهُ الوَلِيَّ بِأنَّ الزَّوْجَ المُطَلِّقَ يَبْعُدُ فِيهِ أنْ يُقالَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ، وأنْ يُجْعَلَ تَكْمِيلُهُ الصَّداقَ عَفْوًا، وأنْ يُبْهَمَ أمْرُهُ حَتّى يَبْقى كالمُلْبِسِ، وهو قَدْ أوْضَحَ بِالخِطابِ في قَوْلِهِ: ﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾، فَلَوْ جاءَ عَلى مِثْلِ هَذا التَّوْضِيحِ لَكانَ: إلّا أنْ يَعْفُونَ أوْ تَعْفُوا أنْتُمْ ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكم؛ فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّها دَرَجَةٌ ثالِثَةٌ، إذْ ذَكَرَ الأزْواجَ، ثُمَّ الزَّوْجاتِ، ثُمَّ الأوْلِياءَ. وأُجِيبَ عَنِ الأوَّلِ: بِأنَّ ﴿بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ مِن حَيْثُ كانَ عَقَدَها قَبْلُ، فَعَبَّرَ بِذَلِكَ عَنِ الحالَةِ السّابِقَةِ، ولِلنَّصِّ الَّذِي سَبَقَ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ﴾ [البقرة: ٢٣٥]، والمُرادُ بِهِ خِطابُ الأزْواجِ. وعَنِ الثّانِي: أنَّهُ عَلى سَبِيلِ المُشاكَلَةِ، أوْ لِكَوْنِهِ قَدْ ساقَ الصَّداقَ إلَيْها، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. وعَنِ الثّالِثِ: أنَّهُ لا إلْباسَ فِيهِ، وهو مِن بابِ الِالتِفاتِ؛ إذْ فِيهِ خُرُوجٌ مِن خِطابٍ إلى غَيْبَةٍ، وإنَّما قُلْنا: لا إلْباسَ فِيهِ، وأنَّهُ يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ الزَّوْجُ؛ لِإجْماعِ أهْلِ العِلْمِ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْأبِ أنْ يَهَبَ شَيْئًا مِن مالِ بِنْتِهِ، لا لِزَوْجٍ ولا لِغَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ المَهْرُ؛ إذْ لا فَرْقَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: بِيَدِهِ حَلُّ عُقْدَةِ النِّكاحِ، كَما قالُوا في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ﴾ [البقرة: ٢٣٥]، أيْ: عَلى عُقْدَةِ النِّكاحِ. ولَوْ فَرَضْنا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ مِنَ المُتَشابِهِ لَوَجَبَ رَدُّهُ إلى المُحْكَمِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: ٤]، وقالَ تَعالى: ﴿وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شَيْئًا﴾ [النساء: ٢٠]، وقالَ: ﴿ولا يَحِلُّ لَكم أنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلّا أنْ يَخافا﴾ [البقرة: ٢٢٩] الآيَةَ. فَهَذِهِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّ الوَلِيَّ لا دُخُولَ لَهُ في شَيْءٍ مِن أخْذِ مالِ الزَّوْجَةِ، ورُجِّحَ أيْضًا أنَّهُ الزَّوْجُ بِأنَّ عُقْدَةَ النِّكاحِ كانَتْ بِيَدِ الوَلِيِّ فَصارَتْ بِيَدِ الزَّوْجِ، وبِأنَّ العَفْوَ إنَّما يُطْلَقُ عَلى مِلْكِ الإنْسانِ وعَفْوُ الوَلِيِّ عَفْوٌ عَمّا لا يَمْلِكُ، وبِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ الفَضْلَ في هِبَةِ الإنْسانِ مالَ نَفْسِهِ لا مالَ غَيْرِهِ. وقَرَأ الحَسَنُ: ”أوْ يَعْفُو“ بِتَسْكِينِ الواوِ، فَتَسْقُطُ في الوَصْلِ لِالتِقائِها (p-٢٣٧)ساكِنَةً مَعَ السّاكِنِ بَعْدَها، فَإذا وقَفَ أثْبَتَها، وفَعَلَ ذَلِكَ اسْتِثْقالًا لِلْفَتْحَةِ في حَرْفِ العِلَّةِ، فَتُقَدَّرُ الفَتْحَةُ فِيها كَما تُقَدَّرُ في الألِفِ في نَحْوِ: لَنْ يَخْشى، وأكْثَرُ العَرَبِ عَلى اسْتِخْفافِ الفَتْحَةِ في الواوِ والياءِ في نَحْوِ: لَنْ يَرْمِيَ ولَنْ يَغْزُوَ، حَتّى أنَّ أصْحابَنا نَصُّوا عَلى أنَّ إسْكانَ ذَلِكَ ضَرُورَةٌ، وقالَ: ؎فَما سَوَّدَتْنِي عامِرٌ عَنْ وِراثَةٍ ∗∗∗ أبى اللَّهُ أنْ أسَمُو بِأُمٍّ ولا أبِ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والَّذِي عِنْدِي أنَّهُ اسْتَثْقَلَ الفَتْحَةَ عَلى واوٍ مُتَطَرِّفَةٍ قَبْلَها مُتَحَرِّكٌ لِقِلَّةِ مَجِيئِها في كَلامِ العَرَبِ، وقَدْ قالَ الخَلِيلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يَجِئْ في الكَلامِ واوٌ مَفْتُوحَةٌ مُتَطَرِّفَةٌ قَبْلَها فَتْحَةٌ إلّا في قَوْلِهِمْ: عَفَوَةٌ، وهو جَمْعُ عَفْوٍ، وهو ولَدُ الحِمارِ، وكَذَلِكَ الحَرَكَةُ ما كانَتْ قَبْلَ الواوِ مَفْتُوحَةً، فَإنَّها ثَقِيلَةٌ. انْتَهى كَلامُهُ. وقَوْلُهُ: لِقِلَّةِ مَجِيئِها في كَلامِ العَرَبِ، يَعْنِي مَفْتُوحَةً مَفْتُوحًا ما قَبْلَها، هَذا الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ تَفْصِيلٌ، وذَلِكَ أنَّ الحَرَكَةَ قَبْلَها إمّا أنْ تَكُونَ ضَمَّةً أوْ فَتْحَةً أوْ كَسْرَةً، إنْ كانَتْ ضَمَّةً فَإمّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ في فِعْلٍ أوِ اسْمٍ، إنْ كانَ في فِعْلٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ، بَلْ جَمِيعُ المُضارِعِ إذا دَخَلَ عَلَيْهِ النّاصِبُ، أوْ لَحِقَهُ نُونُ التَّوْكِيدِ - عَلى ما أُحْكِمَ في بابِهِ - ظَهَرَتِ الفَتْحَةُ فِيهِ، نَحْوَ: لَنْ يَغْزُوَ، وهَلْ يَغْزُونَ، والأمْرُ نَحْوَ: اغْزُونَ، وكَذَلِكَ الماضِي عَلى فَعُلَ نَحْوَ: سَرُوَ الرَّجُلُ، حَتّى ما بُنِيَ مِن ذَواتِ الياءِ عَلى فَعُلَ تَقُولُ فِيهِ: لَقَضُوَ الرَّجُلُ، ولَرَمُوَتِ اليَدُ، وهو قِياسٌ مُطَّرِدٌ عَلى ما أُحْكِمَ في بابِهِ. وإنْ كانَ في اسْمٍ فَإمّا أنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلى هاءِ التَّأْنِيثِ، أوْ لا؛ إنْ كانَ مَبْنِيًّا عَلى هاءِ التَّأْنِيثِ فَجاءَ كَثِيرًا نَحْوَ: عَرْقُوَةٍ، وتَرْقُوَةٍ، قَمَحْدُوَةٍ، وعَنْصُوَةٍ، وتُبْنى عَلَيْهِ المَسائِلُ في عِلْمِ التَّصْرِيفِ، وإنْ كانَتِ الحَرَكَةُ فَتْحَةً فَهو قَلِيلٌ، كَما ذَكَرَهُ الخَلِيلُ، وإنْ كانَتْ كَسْرَةً انْقَلَبَتِ الواوُ فِيهِ ياءً، نَحْوَ الغازِي والغازِيَةِ، والعَرِيقِيَةِ، وشَذَّ مِن ذَلِكَ: أقْرُوَةٌ جَمْعُ قَرْوٍ، وهي مِيلَغَةُ الكَلْبِ، وسَواسِوَةٌ، وهُمُ: المُسْتَوُونَ في الشَّرِّ، ومَقاتِوَةٌ جَمْعُ مُقْتَوٍ، وهو السّايِسُ الخادِمُ. والألِفُ واللّامُ في النِّكاحِ لِلْعَهْدِ، أيْ: عُقْدَةٌ لَها، قالَ المَغْرِبِيُّ: وهَذا عَلى طَرِيقَةِ البَصْرِيِّينَ، وقالَ غَيْرُهُ الألِفُ واللّامُ بَدَلُ الإضافَةِ، أيْ: نِكاحُهُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎لَهم شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِها اللَّهُ غَيْرَهم ∗∗∗ مِنَ النّاسِ والأحْلامُ غَيْرُ عَوازِبِ (p-٢٣٨)أيْ: وأحْلامُهم، وهَذا عَلى طَرِيقَةِ الكُوفِيِّينَ. ﴿وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾، هَذا خِطابٌ لِلزَّوْجِ والزَّوْجَةِ، وغَلَبَ المُذَكَّرُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خاطَبَ تَعالى الجَمِيعَ تَأدُّبًا بِقَوْلِهِ: ﴿وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾، أيْ: يا جَمِيعَ النّاسِ. انْتَهى كَلامُهُ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُ خِطابٌ لِلْأزْواجِ فَقَطْ، وقالَهُ الشَّعْبِيُّ؛ إذْ هُمُ الخاطِبُونَ في صَدْرِ الآيَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِالتِفاتِ؛ إذْ رَجَعَ مِن ضَمِيرِ الغائِبِ، وهو الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ عَلى ما اخْتَرْناهُ في تَفْسِيرِهِ، إلى الخِطابِ الَّذِي اسْتَفْتَحَ بِهِ صَدْرَ الآيَةِ، وكَوْنُ عَفْوِ الزَّوْجِ أقْرَبَ لِلتَّقْوى مِن حَيْثُ إنَّهُ كَسَرَ قَلْبَ مُطَلَّقَتِهِ؛ فَيَجْبُرُها بِدَفْعِ جَمِيعِ الصَّداقِ لَها؛ إذْ كانَ قَدْ فاتَها مِنهُ صُحْبَتُهُ، فَلا يَفُوتُها مِنهُ نِحْلَتُهُ؛ إذْ لا شَيْءَ أصْعَبُ عَلى النِّساءِ مِنَ الطَّلاقِ، فَإذا بَذَلَ لَها جَمِيعَ المَهْرِ لَمْ تَيْأسْ مِن رَدِّها إلَيْهِ، واسْتَشْعَرَتْ مِن نَفْسِها أنَّهُ مَرْغُوبٌ فِيها، فانْجَبَرَتْ بِذَلِكَ. وقَرَأ الشَّعْبِيُّ، وأبُو نَهِيكٍ: ”وأنْ يَعْفُوَ“ بِالياءِ بِاثْنَتَيْنِ مِن تَحْتِها، جَعَلَهُ غائِبًا، وجُمِعَ عَلى مَعْنى: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ؛ لِأنَّهُ لِلْجِنْسِ لا يُرادُ بِهِ واحِدٌ، وقِيلَ: هَذِهِ القِراءَةُ تُؤَيِّدُ أنَّ العَفْوَ مُسْنَدٌ لِلْأزْواجِ، قِيلَ: والعَفْوُ أقْرَبُ لِاتِّقاءِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما ظُلْمَ صاحِبِهِ. وقِيلَ: لِاتِّقاءِ مَعاصِي اللَّهِ. و”أقْرَبُ“ يَتَعَدّى بِاللّامِ كَهَذِهِ، ويَتَعَدّى بِـ إلى كَقَوْلِهِ: ﴿ونَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ﴾ [الواقعة: ٨٥]، ولا يُقالُ: إنَّ اللّامَ بِمَعْنى إلى، ولا إنَّ اللّامَ لِلتَّعْلِيلِ، بَلْ عَلى سَبِيلِ التَّعْدِيَةِ لِمَعْنى المَفْعُولِ بِهِ المُتَوَصَّلِ إلَيْهِ بِحَرْفِ الجَرِّ؛ فَمَعْنى اللّامِ ومَعْنى إلى مُتَقارِبانِ مِن حَيْثُ التَّعْدِيَةُ، وقَدْ قِيلَ: بِأنَّ اللّامَ بِمَعْنى إلى؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِن تَضْمِينِ الحُرُوفِ، ولا يَقُولُ بِهِ البَصْرِيُّونَ. وقِيلَ أيْضًا: إنَّ اللّامَ لِلتَّعْلِيلِ، فَيَدُلُّ عَلى عِلَّةِ ازْدِيادِ قُرْبِ العَفْوِ عَلى تَرْكِهِ، والمُفَضَّلُ عَلَيْهِ في القُرْبِ مَحْذُوفٌ، وحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُ أفْعَلَ التَّفْضِيلِ وقَعَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، والتَّقْدِيرُ: والعَفْوُ مِنكم أقْرَبُ لِلتَّقْوى مِن تَرْكِ العَفْوِ. ﴿ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، الخِطابُ فِيهِ مِنَ الخِلافِ ما في قَوْلِهِ: (وأنْ تَعْفُوا) . والنِّسْيانُ هُنا التَّرْكُ مِثْلُ: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧]، والفَضْلُ: هو فِعْلُ ما لَيْسَ بِواجِبٍ مِنَ البِرِّ، فَهو مِنَ الزَّوْجِ تَكْمِيلُ المَهْرِ، ومِنَ الزَّوْجَةِ تَرْكُ شَطْرِهِ الَّذِي لَها، قالَهُ مُجاهِدٌ، وإنْ كانَ المُرادُ بِهِ الزَّوْجَ فَهو تَكْمِيلُ المَهْرِ. ودَخَلَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَلى سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ بِنْتًا لَهُ، فَتَزَوَّجَها، فَلَمّا خَرَجَ طَلَّقَها وبَعَثَ إلَيْها بِالصَّداقِ كامِلًا، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تَزَوَّجْتَها ؟ فَقالَ: عَرَضَها عَلَيَّ فَكَرِهْتُ رَدَّهُ، قِيلَ: فَلِمَ بَعَثْتَ بِالصَّداقِ كامِلًا ؟ قالَ: فَأيْنَ الفَضْلُ ؟ وقَرَأ عَلِيٌّ، ومُجاهِدٌ، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: ”ولا تَناسَوُا الفَضْلَ“ . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهي قِراءَةٌ مُتَمَكِّنَةُ المَعْنى؛ لِأنَّهُ مَوْضِعُ تَناسٍ لا نِسْيانٍ إلّا عَلى التَّشْبِيهِ. انْتَهى. وقَرَأ يَحْيى بْنُ يَعْمَرَ: ”ولا تَنْسَوِا الفَضْلَ“ بِكَسْرِ الواوِ عَلى أصْلِ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ، تَشْبِيهًا لِلْواوِ الَّتِي هي ضَمِيرٌ بِواوِ لَوْ في قَوْلِهِ تَعالى: (لَوِ اسْتَطَعْنا)، كَما شَبَّهُوا واوَ ”لَوْ“ بِواوِ الضَّمِيرِ؛ فَضَمُّوها. قَرَأ (لَوِ اسْتَطَعْنا) بِضَمِّ الواوِ وانْتِصابِ ”بَيْنَكم“ بِالفِعْلِ المَنهِيِّ عَنْهُ و”بَيْنَ“ مُشْعِرٌ بِالتَّخَلُّلِ والتَّعارُفِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ [البقرة: ١٨٨]، فَهو أبْلَغُ مِن أنْ يَأْتِيَ النَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ لا يَكُونُ بَيْنَهم؛ لِأنَّ الفِعْلَ المَنهِيَّ عَنْهُ لَوْ وقَعَ لَكانَ ذَلِكَ مُشْتَهِرًا بَيْنَهم، قَدْ تَواطَئُوا عَلَيْهِ وعَلِمُوا بِهِ؛ لِأنَّ ما تَخَلَّلَ أقْوامًا يَكُونُ مَعْرُوفًا عِنْدَهم. ﴿إنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، خَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الدّالَّةِ عَلى المُبْصَراتِ؛ لِأنَّ ما تَقَدَّمَهُ مِنَ العَفْوِ مِنَ المُطَلَّقاتِ والمُطَلِّقِينَ، وهو أنْ يَدْفَعَ شَطْرَ ما قَبَضْنَ أوْ يُكْمِلُونَ لَهُنَّ الصَّداقَ، هو مُشاهَدٌ مَرْئِيٌّ، فَناسَبَ ذَلِكَ المَجِيءَ بِالصِّفَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالمُبْصِراتِ. ولَمّا كانَ آخِرُ قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٤] الآيَةَ، قَوْلَهُ: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْكم فِيما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٤] مِمّا يُدْرَكُ بِلُطْفٍ وخَفاءٍ، خَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٣٤]، وفي خَتْمِ هَذِهِ الآيَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وعْدٌ جَمِيلٌ لِلْمُحْسِنِ وحِرْمانٌ لِغَيْرِ المُحْسِنِ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ والَّتِي قَبْلَها أنْواعًا مِنَ الفَصاحَةِ، وضُرُوبًا مِن عِلْمِ البَيانِ والبَلاغَةِ: الكِنايَةَ في ”أنْ تَمَسُّوهُنَّ“، والتَّجْنِيسَ المُغايِرَ في ”فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً“، والطِّباقَ في ”المُوسِعِ والمُقْتِرِ“ (p-٢٣٩)والتَّأْكِيدَ بِالمَصْدَرَيْنِ في ”مَتاعًا“ و”حَقًّا“، والِاخْتِصاصَ في ”حَقًّا عَلى المُحْسِنِينَ“، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مِنَ التَّتْمِيمِ، لَمّا قالَ: ”حَقًّا“ أفْهَمَ الإيجابَ، فَلَمّا قالَ: (عَلى المُحْسِنِينَ) تَمَّمَ المَعْنى، وبَيَّنَ أنَّهُ مِن بابِ التَّفَضُّلِ والإحْسانِ لا مِن بابِ الإيجابِ، فَلَمّا قالَ: (عَلى المُحْسِنِينَ) تَمَّمَ التَّعْمِيمَ، وبَيَّنَ أنَّهُ مِن بابِ التَّفَضُّلِ والإحْسانِ، لا مِن بابِ الإيجابِ. والِالتِفاتَ في (وأنْ تَعْفُوا)، (ولا تَنْسَوْا)، والعُدُولَ عَنِ الحَقِيقَةِ إلى المَجازِ في ﴿الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ عَبَّرَ عَنِ الإيجابِ والقَبُولِ بِالعُقْدَةِ الَّتِي تُعْقَدُ حَقِيقَةً؛ لِما في ذَلِكَ القَوْلِ مِنَ الِارْتِباطِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالآخَرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب