الباحث القرآني

﴿واقْتُلُوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾، ضَمِيرُ المَفْعُولِ عائِدٌ عَلى ”﴿الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٠]“ وهَذا أمْرٌ بِقَتْلِهِمْ، و”﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾“ عامٌّ في كُلِّ مَكانٍ حَلَّ أوْ حَرُمَ، ويَلْزَمُ مِنهُ عُمُومُ الأزْمانِ، في شَهْرِ الحَرامِ وفي غَيْرِهِ، وفي (المُنْتَخَبِ) أمَرَ في الآيَةِ الأوْلى بِالجِهادِ، بِشَرْطِ إقْدامِ الكُفّارِ عَلى المُقاتَلَةِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ زادَ في التَّكْلِيفِ، فَأمَرَ بِالجِهادِ مَعَهم سَواءٌ قاتَلُوا أمْ لَمْ يُقاتِلُوا، واسْتَثْنى مِنهُ المُقاتَلَةَ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ، انْتَهى. ولَيْسَ كَما قالَ: إنَّهُ زادَ في التَّكْلِيفِ فَأمَرَ بِالجِهادِ، سَواءٌ قاتَلُوا أمْ لَمْ يُقاتِلُوا: لِأنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ عَلى ”الَّذِينَ يُقاتِلُونَكم“ فالوَصْفُ باقٍ إذِ المَعْنى: واقْتُلُوا الَّذِينَ يُقاتِلُونَكم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهم، فَلَيْسَ أمْرًا بِالجِهادِ سَواءٌ قاتَلُوا أمْ لَمْ يُقاتِلُوا. قالَ ابْنُ إسْحاقَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في شَأْنِ عَمْرِو بْنِ الحَضْرَمِيِّ حِينَ قَتَلَهُ وافِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، وذَلِكَ في سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ. ﴿وأخْرِجُوهم مِن حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ﴾، أيْ: مِنَ المَكانِ الَّذِي أخْرَجُوكم مِنهُ، يَعْنِي مَكَّةَ، وهو أمْرٌ بِالإخْراجِ أمْرُ تَمْكِينٍ، فَكَأنَّهُ وعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وقَدْ أنْجَزَ ما وعَدَ، وقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ بِمَن لَمْ يُسْلِمْ مَعَهم، و”مِن حَيْثُ“ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ”﴿وأخْرِجُوهُمْ﴾“، وقَدْ تُصَرَّفُ في ”حَيْثُ“ بِدُخُولِ حَرْفِ الجَرِّ عَلَيْها، كَمِن، والباءِ، وفي، وبِإضافَةِ لَدى إلَيْها. وضَمِيرُ النَّصْبِ في ”أخْرَجُوكم“ عائِدٌ عَلى المَأْمُورِينَ بِالقَتْلِ والإخْراجِ، وهو في الحَقِيقَةِ عائِدٌ عَلى بَعْضِهِمْ، جَعَلَ إخْراجَ بَعْضِهِمْ وهو أجَلُّهم قَدْرًا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والمُهاجِرُونَ، إخْراجًا لِكُلِّهِمْ. ﴿والفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ﴾، في الفِتْنَةِ هُنا أقْوالٌ. أحَدُها: الرُّجُوعُ إلى الكُفْرِ أشَدُّ مِن أنْ يُقْتَلَ المُؤْمِنُ، قالَهُ مُجاهِدٌ. وكانُوا قَدْ عَذَّبُوا نَفَرًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لِيَرْجِعُوا إلى الكُفْرِ، فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ. والكُفْرُ بِاللَّهِ يَقْتَضِي العَذابَ دائِمًا، والقَتْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وكانَ بَعْضُ الصَّحابَةِ قَتَلَ في الشَّهْرِ الحَرامِ، فاسْتَعْظَمَ المُسْلِمُونَ ذَلِكَ. الثّانِي: الشِّرْكُ، أيْ: شِرْكُهم بِاللَّهِ أشَدُّ حُرْمَةً مِنَ القَتْلِ الَّذِي عَيَّرُوكم بِهِ في شَأْنِ ابْنِ الحَضْرَمِيِّ. الثّالِثُ: هَتْكُ حُرُماتِ اللَّهِ مِنهم أشَدُّ مِنَ القَتْلِ الَّذِي أُبِيحَ لَكم أيُّها المُؤْمِنُونَ أنْ تُوقِعُوهُ بِهِمْ. الرّابِعُ: عَذابُ الآخِرَةِ لَهم أشَدُّ مِن قَتْلِهِمُ المُسْلِمِينَ في الحَرَمِ، ومِنهُ: ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ [الذاريات: ١٤]، ﴿إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ [البروج: ١٠]، أيْ: عَذَّبُوهم. الخامِسُ: الإخْراجُ مِنَ الوَطَنِ لِما فِيهِ مِن مُفارَقَةِ المَأْلُوفِ والأحْبابِ، وتَنْغِيصِ العَيْشِ دائِمًا، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎لَمَوْتٌ بِحَدِّ السَّيْفِ أهْوَنُ مَوْقِعًا عَلى النَّفْسِ مِن قَتْلٍ بِحَدِّ فِراقِ السّادِسُ: أنْ يُرادَ فِتْنَتُهم إيّاكم بِصَدِّكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ، أشَدُّ مِن قَتْلِكم إيّاهم في الحَرَمِ، أوْ مِن قَتْلِهِمْ إيّاكم، إنْ قَتَلُوكم فَلا تُبالُوا بِقِتالِهِمْ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وهو راجِعٌ لِمَعْنى القَوْلِ الثّالِثِ. السّابِعُ: تَعْذِيبُهُمُ المُسْلِمِينَ لِيَرْتَدُّوا، قالَهُ الكِسائِيُّ. وأصْلُ الفِتْنَةِ عَرْضُ الذَّهَبِ عَلى النّارِ لِاسْتِخْلاصِهِ مِنَ الغِشِّ، ثُمَّ صارَ يُسْتَعْمَلُ في الِامْتِحانِ، وإطْلاقُهُ عَلى ما فُسِّرَ بِهِ في هَذِهِ الأقْوالِ شائِعٌ، والفِتْنَةُ والقَتْلُ مَصْدَرانِ لَمْ يُذْكَرْ فاعِلُهُما، ولا مَفْعُولُهُما، وإنَّما أُقِرَّ أنَّ ماهِيَّةَ الفِتْنَةِ أشَدُّ مِن ماهِيَّةِ القَتْلِ، فَكُلُّ مَكانٍ تَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذِهِ النِّسْبَةُ كانَ داخِلًا في عُمُومِ هَذِهِ الأخْبارِ، سَواءٌ كانَ المَصْدَرُ فاعِلَهُ أوْ مَفْعُولَهُ، المُؤْمِنُونَ أمِ الكافِرُونَ، وتَعْيِينُ نَوْعٍ ما مِن أفْرادِ العُمُومِ يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ. ﴿ولا تُقاتِلُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكم فِيهِ﴾ هو أنْ يَبْدَأهم بِالقِتالِ في هَذا المَوْطِنِ حَتّى يَقَعَ ذَلِكَ مِنهم فِيهِ، قالَ مُجاهِدٌ: وهَذِهِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ لا يَجُوزُ قِتالُ أحَدٍ في المَسْجِدِ الحَرامِ إلّا بَعْدَ أنْ يُقاتِلَ. وبِهِ قالَ (p-٦٧)طاوُسٌ، وأبُو حَنِيفَةَ: وقالَ الرَّبِيعُ: مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وقاتِلُوهم حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٣]، وقالَ قَتادَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥]، والنَّسْخُ قَوْلُ الجُمْهُورِ، وقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنَ الكَلامِ في هَذا النَّسْخِ في هَذِهِ الآيَةِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ والأعْمَشُ: ”ولا تَقْتُلُوهم“، وكَذَلِكَ حَتّى يَقْتُلُوكم، فَإنْ قَتَلُوكم، مِنَ القَتْلِ، فَيُحْتَمَلُ المَجازُ في الفِعْلِ، أيْ: ولا تَأْخُذُوا في قَتْلِهِمْ حَتّى يَأْخُذُوا في قَتْلِكم، ويُحْتَمَلُ المَجازُ في المَفْعُولِ، أيْ: ولا تَقْتُلُوا بَعْضَهم حَتّى يَقْتُلُوا بَعْضَكم، فَإنْ قَتَلُوا بَعْضَكم، يُقالُ: قَتَلَنا بَنُو فُلانٍ، يُرِيدُ قَتَلَ بَعْضَنا، وقالَ: ؎فَإنْ تَقْتُلُونا نُقَتِّلْكم ∗∗∗ وإنْ تَقْصِدُوا لِدَمٍ نَقْصِدِ ونَظِيرُهُ: ”﴿قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وهَنُوا﴾ [آل عمران: ١٤٦]“، أيْ: قُتِلَ مَعَهم أُناسٌ مِنَ الرِّبِّيِّينَ، فَما وهَنَ الباقُونَ، والعامِلُ في عِنْدَ ”ولا تُقاتِلُوهم“، و”حَتّى“ هُنا لِلْغايَةِ، وفِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”يُقاتِلُوكم“، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى عِنْدَ، تَعَدّى الفِعْلُ إلى ضَمِيرِ الظَّرْفِ فاحْتِيجَ في الوُصُولِ إلَيْهِ إلى ”في“ هَذا، ولَمْ يَتَّسِعْ فَتَعَدّى الفِعْلُ إلى ضَمِيرِ الظَّرْفِ تَعْدِيَتَهُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ الصَّرِيحِ، لا يُقالُ: إنَّ الظَّرْفَ إذا كانَ غَيْرَ مُتَصَرِّفٍ لا يَجُوزُ أنْ يَتَعَدّى الفِعْلُ إلى ضَمِيرِهِ بِالِاتِّساعِ: لِأنَّ ظاهِرَهُ لا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ، بَلِ الِاتِّساعُ جائِزٌ إذْ ذاكَ. ألا تَرى أنَّهُ يُخالِفُهُ في جَرِّهِ بِفي وإنْ كانَ الظّاهِرُ لا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ ؟ فَكَذَلِكَ يُخالِفُهُ في الِاتِّساعِ. فَحُكْمُ الضَّمِيرِ إذْ ذاكَ لَيْسَ كَحُكْمِ الظّاهِرِ. ﴿فَإنْ قاتَلُوكم فاقْتُلُوهُمْ﴾ هَذا تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الغايَةِ، وفِيهِ مَحْذُوفٌ. أيْ: فَإنْ قاتَلُوكم فِيهِ فاقْتُلُوهم فِيهِ، ودَلَّ عَلى إرادَتِهِ سِياقُ الكَلامِ. ولَمْ يُخْتَلَفْ في قَوْلِهِ: ”فاقْتُلُوهم“ أنَّهُ أمْرٌ بِقَتْلِهِمْ عَلى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، وفِيهِ بِشارَةٌ عَظِيمَةٌ بِالغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ، أيْ: هم مِنَ الخِذْلانِ وعَدَمِ النُّصْرَةِ بِحَيْثُ أُمِرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ لا بِقِتالِهِمْ، فَأنْتُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنهم بِحَيْثُ لا يَحْتاجُونَ إلّا إلى إيقاعِ القَتْلِ بِهِمْ، إذا ناشَبُوكُمُ القِتالَ لا إلى قِتالِهِمْ. ﴿كَذَلِكَ جَزاءُ الكافِرِينَ﴾، الكافُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ: لِأنَّها خَبَرٌ عَنِ المُبْتَدَأِ الَّذِي هو خَبَرُ الكافِرِينَ. المَعْنى: جَزاءُ الكافِرِينَ مِثْلُ ذَلِكَ الجَزاءِ، وهو القَتْلُ، أيْ: مَن كَفَرَ بِاللَّهِ تَعالى فَجَزاؤُهُ القَتْلُ، وفي إضافَةِ الجَزاءِ إلى الكافِرِينَ إشْعارٌ بِعِلِّيَةِ القَتْلِ. ﴿فَإنِ انْتَهَوْا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، أيْ: عَنِ الكُفْرِ، ودَخَلُوا في الإسْلامِ، ولِذَلِكَ عَلَّقَ عَلَيْهِ الغُفْرانَ والرَّحْمَةَ، وهُما لا يَكُونانِ مَعَ الكُفْرِ ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨]، وتَقَدَّمَ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ اللَّفْظِ وهو جَزاءُ الكافِرِينَ، وسِياقُ الكَلامِ إنَّما هو مَعَ الكُفّارِ، وقِيلَ: فَإنِ انْتَهَوْا عَنِ المُقاتَلَةِ والشِّرْكِ، لِتَقَدُّمِهِما في الكَلامِ، وهو حَسَنٌ، وقِيلَ: عَنِ القِتالِ دُونَ الكُفْرِ، ولَيْسَ الغُفْرانُ لَهم عَلى هَذا القَوْلِ، بَلِ المَعْنى: فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لَكم رَحِيمٌ بِكم: حَيْثُ أسْقَطَ عَنْكم تَكْلِيفَ قِتالِهِمْ، وقِيلَ: الجَوابُ مَحْذُوفٌ، أيْ: فاغْفِرُوا لَهم فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَكم، وعَلى قَوْلِ إنَّ الِانْتِهاءَ عَنِ القِتالِ فَقَطْ تَكُونُ الآيَةُ مَنسُوخَةً، وعَلى القَوْلَيْنِ قَبْلَهُ تَكُونُ مُحْكَمَةً، ومَعْنى انْتَهى: كَفَّ، وهو افْتَعَلَ مِنَ النَّهْيِ، ومَعْناهُ فِعْلُ الفاعِلِ بِنَفْسِهِ، وهو نَحْوُ قَوْلِهِمُ اضْطَرَبَ، وهو أحَدُ المَعانِي الَّتِي جاءَتْ لَها افْتَعَلَ. قالُوا: وفي قَوْلِهِ: ﴿فَإنِ انْتَهَوْا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ دَلالَةٌ عَلى قَبُولِ تَوْبَةِ قاتِلِ العَمْدِ، إذْ كانَ الكُفْرُ أعْظَمَ مَأْثَمًا مِنَ القَتْلِ، وقَدْ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنَ الكُفْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب