الباحث القرآني

﴿وإذا سَألَكَ عِبادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ﴾ سَبَبُ النُّزُولِ فِيما قالَ الحَسَنُ: «أنَّ قَوْمًا، قِيلَ: اليَهُودُ، وقِيلَ: المُؤْمِنُونَ، قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: أقَرِيبٌ رَبُّنا فَنُناجِيهِ، أمْ بَعِيدٌ فَنُنادِيهِ ؟» وقالَ عَطاءٌ: لَمّا نَزَلَ: ﴿وقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠] قالَ قَوْمٌ: في أيِّ ساعَةٍ نَدْعُو ؟ فَنَزَلَ ﴿وإذا سَألَكَ﴾ . ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: ﴿ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكم ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: ١٨٥] طَلَبَ تَكْبِيرِهِ وشُكْرِهِ، بَيَّنَ أنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلى ذِكْرِ مَن ذَكَرَهُ وشُكْرِ مَن شَكَرَهُ، يَسْمَعُ نِداءَهُ ويُجِيبُ دُعاءَهُ أوْ رَغَباتَهُ، تَنْبِيهًا عَلى أنْ يَكُونَ ولا بُدَّ مَسْبُوقًا بِالثَّناءِ الجَمِيلِ. والكافُ في: سَألَكَ خِطابٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وإنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ في اللَّفْظِ لَكِنْ في قَوْلِهِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ أيْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ”أُنْزِلَ عَلَيْكَ فِيهِ القُرْآنُ، فَجاءَ هَذا الخِطابُ مُناسِبًا لِهَذا المَحْذُوفِ“ . و”عِبادِي“، ظاهِرُهُ العُمُومُ، وقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الخُصُوصُ: إمّا اليَهُودُ وإمّا المُؤْمِنُونَ عَلى الخِلافِ في السَّبَبِ، وأمّا عِبادِي، و”عَنِّي“، فالضَّمِيرُ فِيهِ لِلَّهِ تَعالى، وهو مِن بابِ الِالتِفاتِ: لِأنَّهُ سَبَقَ ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ، فَهو خُرُوجٌ مِن غائِبٍ إلى مُتَكَلِّمٍ، و”عَنِّي“ مُتَعَلِّقٌ بِسَألَكَ، ولَيْسَ المَقْصُودُ هُنا عَنْ ذاتِهِ: لِأنَّ الجَوابَ وقَعَ بِقَوْلِهِ: ”﴿فَإنِّي قَرِيبٌ﴾“، والقُرْبُ المَنسُوبُ إلى اللَّهِ تَعالى يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ قُرْبًا بِالمَكانِ، وإنَّما القُرْبُ هُنا عِبارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعالى سامِعًا لِدُعائِهِ، مُسْرِعًا في إنْجاحِ طَلَبَةِ مَن سَألَهُ، فَمَثَّلَ حالَةَ تَسْهِيلِهِ ذَلِكَ بِحالَةِ مَن قَرُبَ مَكانُهُ مِمَّنْ يَدْعُوهُ، فَإنَّهُ لِقُرْبِ المَسافَةِ يُجِيبُ دُعاءَهُ، ونَظِيرُ هَذا القُرْبِ هُنا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِن حَبْلِ الوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦]، وما رُوِيَ مِن قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «هو بَيْنَكم وبَيْنَ أعْناقِ رَواحِلِكم» . والفاءُ في قَوْلِهِ ”﴿فَإنِّي قَرِيبٌ﴾“ جَوابُ ”إذا“، وثَمَّ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَقُلْ لَهم إنِّي قَرِيبٌ: لِأنَّهُ لا يَتَرَتَّبُ عَلى الشَّرْطِ القُرْبُ، إنَّما يَتَرَتَّبُ الإخْبارُ عَنِ القُرْبِ. ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذا دَعانِ﴾ أُجِيبُ: إمّا صِفَةٌ لِـ ”قَرِيبٌ“، أوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، ورُوعِيَ الضَّمِيرُ في ”فَإنِّي“ فَلِذَلِكَ جاءَ أُجِيبُ، ولَمْ يُراعَ الخَبَرُ فَيَجِيءُ ”يُجِيبُ“ عَلى طَرِيقَةِ الإسْنادِ لِلْغائِبِ طَرِيقانِ لِلْعَرَبِ: أشْهَرُهُما مُراعاةُ السّابِقِ مِن تَكَلُّمٍ أوْ خِطابٍ كَهَذا، وكَقَوْلِهِمْ: ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ [النمل: ٤٧]، ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [النمل: ٥٥] . وكَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎وإنّا لَقَوْمٌ ما نَرى القَتْلَ سُبَّةً والطَّرِيقُ الثّانِي: مُراعاةُ الخَبَرِ كَقَوْلِكَ: أنا رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ، وأنْتَ امْرُؤٌ يُرِيدُ الخَيْرَ، والكَلامُ عَلى هَذِهِ المَسْألَةِ مُتَّسِعٌ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ، وقَدْ تَكَلَّمْنا عَلَيْها في كِتابِنا المُسَمّى بِـ (مَنهَجِ السّالِكِ) . والعامِلُ في إذا قَوْلُهُ ”أُجِيبُ“ ورُوِيَ أنَّهُ نَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ (p-٤٦)إذا دَعانِ﴾ لَمّا نَزَلَ: ﴿فَإنِّي قَرِيبٌ﴾، وقالَ المُشْرِكُونَ: كَيْفَ يَكُونُ قَرِيبًا مَن بَيْنَنا وبَيْنَهُ عَلى قَوْلِكَ سَبْعُ سَمَواتٍ في غِلَظٍ، سُمْكُ كُلِّ سَماءٍ خَمْسُمِائَةِ عامٍ، وفي ما بَيْنَ كُلِّ سَماءٍ وسَماءٍ مِثْلُ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: ﴿أُجِيبُ﴾ أنَّ ذَلِكَ القُرْبَ هو الإجابَةُ والقُدْرَةُ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ﴾ عُمُومُ الدَّعَواتِ، إذْ لا يُرِيدُ دَعْوَةً واحِدَةً، والهاءُ في ”دَعْوَةَ“ هُنا لَيْسَتْ لِلْمَرَّةِ، وإنَّما المَصْدَرُ هُنا بُنِيَ عَلى فَعْلَةٍ نَحْوَ ”رَحْمَةٍ“ والظّاهِرُ عُمُومُ الدّاعِي: لِأنَّهُ لا يَدُلُّ عَلى داعٍ مَخْصُوصٍ: لِأنَّ الألِفَ واللّامَ فِيهِ لَيْسَتْ لِلْعَهْدِ، وإنَّما هي لِلْعُمُومِ. والظّاهِرُ تَقْيِيدُ الإجابَةِ بِوَقْتِ الدُّعاءِ، والمَعْنى عَلى هَذا الظّاهِرِ أنَّ اللَّهَ تَعالى يُعْطِي مَن سَألَهُ ما سَألَهُ. وذَكَرُوا قُيُودًا في هَذا الكَلامِ وتَخْصِيصاتٍ، فَقُيِّدَتِ الإجابَةُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى. التَّقْدِيرُ: إنْ شِئْتُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ بِهَذا القَيْدِ في الآيَةِ الأُخْرى، ﴿فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شاءَ﴾ [الأنعام: ٤١]، وقِيلَ: بِوَفْقِ القَضاءِ أيْ: أُجِيبُ إنْ وافَقَ قَضائِيَ، وهو راجِعٌ لِمَعْنى المَشِيئَةِ، وقِيلَ: يَكُونُ المَسْئُولُ خَيْرًا لِلسّائِلِ، أيْ: إنْ كانَ خَيْرًا. وقِيلَ: يَكُونُ المَسْئُولُ غَيْرَ مُحالٍ، وقَدْ يَثْبُتُ بِصَرِيحِ العَقْلِ وصَحِيحِ النَّقْلِ أنَّ بَعْضَ الدُّعاةِ لا يُجِيبُهُ اللَّهُ إلى ما سَألَ، ولا يُبَلِّغُهُ المَقْصُودَ مِمّا طَلَبَ، فَخَصَّصُوا الدّاعِيَ بِأنْ يَكُونَ مُطِيعًا مُجْتَنِبًا لِمَعاصِيهِ. وقَدْ «صَحَّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ في الرَّجُلِ يُطِيلُ السَّفَرَ، أشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، وغُذِّيَ بِالحَرامِ، فَأنّى يُسْتَجابُ لَهُ ”؟» قالُوا: ومِن شَرْطِهِ أنْ لا يَمَلَّ، فَفي الصَّحِيحِ: «يُسْتَجابُ لِأحَدِكم ما لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» . وخُصِّصَ الدُّعاءُ بِأنْ يَدْعُوا بِما لَيْسَ فِيهِ إثْمٌ، ولا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، ولا مَعْصِيَةٌ، فَفي الصَّحِيحِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما مِن مُسْلِمٍ يَدْعُوهُ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيها إثْمٌ ولا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلّا أعْطاهُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى إحْدى ثَلاثٍ: إمّا أنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وإمّا أنْ يَدَّخِرَ لَهُ، وإمّا أنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ بِمِثْلِها» . ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الدُّعاءُ بِالمَأْثُورِ، وأنْ لا يُقْصَدَ فِيهِ السَّجْعُ، سَجْعُ الجاهِلِيَّةِ، وأنْ يَكُونَ غَيْرَ مَلْحُونٍ. وتُرْتَجى الإجابَةُ مِنَ الأزْمانِ عِنْدَ السَّحَرِ، وفي الثُّلُثِ الأخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ، ووَقْتِ الفِطْرِ، وما بَيْنَ الأذانِ والإقامَةِ، وما بَيْنَ الظَّهْرِ والعَصْرِ في يَوْمِ الأرْبِعاءِ، وأوْقاتِ الِاضْطِرارِ، وحالَةِ السَّفَرِ والمَرَضِ، وعِنْدَ نُزُولِ المَطَرِ، والصَّفِّ في سَبِيلِ اللَّهِ، والعِيدَيْنِ، والسّاعَةِ الَّتِي أخْبَرَ عَنْها النَّبِيُّ ﷺ في يَوْمِ الجُمُعَةِ: وهي مِنَ الإقامَةِ إلى فَراغِ الصَّلاةِ، كَذا ورَدَ مُفَسَّرًا في الحَدِيثِ، وقِيلَ: بَعْدَ عَصْرِ الجُمُعَةِ، وعِنْدَما تَزُولُ الشَّمْسُ. ومِنَ الأماكِنِ: في الكَعْبَةِ، وتَحْتَ مِيزابِها، وفي الحَرَمِ، وفي حُجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ، والجامِعِ الأقْصى. وإذا كانَ الدّاعِي بِالأوْصافِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ غَلَبَ عَلى الظَّنِّ قَبُولُ دُعائِهِ، وأمّا إنْ كانَ عَلى غَيْرِ تِلْكَ الأوْصافِ فَلا يَيْأسْ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ، ولا يَقْطَعْ رَجاءَهُ مِن فَضْلِهِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿قُلْ ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٥٣]، وقالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لا يَمْنَعَنَّ أحَدًا مِنَ الدُّعاءِ ما يَعْلَمُ مِن نَفْسِهِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أجابَ دُعاءَ شَرِّ الخَلْقِ إبْلِيسَ: ﴿قالَ رَبِّ فَأنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الحجر: ٣٦] . وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: الإجابَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالمُؤْمِنِينَ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢]: لِأنَّ وصْفَ الإنْسانِ بِأنَّ اللَّهَ أجابَ دَعْوَتَهُ صِفَةُ مَدْحٍ وتَعْظِيمٍ، والفاسِقُ لا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ، بَلِ الفاسِقُ قَدْ يَطْلُبُ الشَّيْءَ فَيَفْعَلُهُ اللَّهُ ولا يُسَمّى إجابَةً. قِيلَ: والدُّعاءُ أعْظَمُ مَقاماتِ العُبُودِيَّةِ: لِأنَّهُ إظْهارُ الِافْتِقارِ إلى اللَّهِ تَعالى، والشَّرْعُ قَدْ ورَدَ بِالأمْرِ بِهِ، وقَدْ دَعَتِ الأنْبِياءُ والرُّسُلُ، ونَزَلَتْ بِالأمْرِ بِهِ الكُتُبُ الإلَهِيَّةُ، وفي هَذا رَدٌّ عَلى مَن زَعَمَ مِنَ الجُهّالِ أنَّ الدُّعاءَ لا فائِدَةَ فِيهِ، وذَكَرَ شُبَهًا لَهُ عَلى ذَلِكَ رَدَّها أهْلُ العِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ، وقالُوا: الأوْلى بِالعَبْدِ التَّضَرُّعُ والسُّؤالُ إلى اللَّهِ تَعالى، وإظْهارُ الحاجَةِ إلَيْهِ لِما رُوِيَ مِنَ النُّصُوصِ الدّالَّةِ عَلى التَّرْغِيبِ في الدُّعاءِ والحَثِّ عَلَيْهِ، وقالَ قَوْمٌ مِمَّنْ يَقُولُ فِيهِمْ بَعْضُ النّاسِ، إنَّهم عُلَماءُ الحَقِيقَةِ: يُسْتَحَبُّ الدُّعاءُ فِيما يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ (p-٤٧)الآخِرَةِ، وأمّا ما يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدُّنْيا فاللَّهُ مُتَكَفِّلٌ، فَلا حاجَةَ إلَيْها. وقالَ قَوْمٌ مِنهم: إنْ كانَ في حالَةِ الدُّعاءِ أصْلَحَ، وقَلَبُهُ أطْيَبَ، وسَرُّهُ أصْفى، ونَفْسُهُ أزْكى، فَلْيَدْعُ: وإنْ كانَ في التَّرْكِ أصْلَحَ فالإمْساكُ عَنِ الدُّعاءِ أوْلى بِهِ. وقالَ قَوْمٌ مِنهم: تَرْكُ الدُّعاءِ في كُلِّ حالٍ أصْلَحُ لِما فِيهِ مِنَ الثِّقَةِ بِاللَّهِ، وعَدَمِ الِاعْتِراضِ: ولِأنَّهُ اخْتِيارٌ والعارِفُ لَيْسَ لَهُ اخْتِيارٌ. وقالَ قَوْمٌ مِنهم: تَرْكُ الذُّنُوبِ هو الدُّعاءُ: لِأنَّهُ إذا تَرَكَها تَوَلّى اللَّهُ أمْرَهُ وأصْلَحَ شَأْنَهُ، قالَ تَعالى: ﴿ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: ٣] . وقَدْ تُؤُوِّلَتِ الإجابَةُ والدُّعاءُ هُنا عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: أنْ يَكُونَ الدُّعاءُ عِبارَةً عَنِ التَّوْحِيدِ والثَّناءِ عَلى اللَّهِ: لِأنَّكَ دَعَوْتَهُ ووَحَّدْتَهُ، والإجابَةُ عِبارَةٌ عَنِ القَبُولِ، لَمّا سُمِّيَ التَّوْحِيدُ دُعاءً سُمِّيَ القَبُولُ إجابَةً، لِتَجانُسِ اللَّفْظِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ الإجابَةَ هو السَّماعُ فَكَأنَّهُ قالَ: أسْمَعُ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ الدُّعاءَ هو التَّوْبَةُ عَنِ الذُّنُوبِ: لِأنَّ التّائِبَ يَدْعُو اللَّهَ عِنْدَ التَّوْبَةِ، والإجابَةُ قَبُولُ التَّوْبَةِ. الوَجْهُ الرّابِعُ: أنْ يَكُونَ الدُّعاءُ هو العِبادَةَ، وفي الحَدِيثِ: «الدُّعاءُ العِبادَةُ» قالَ تَعالى: ﴿وقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠]، ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي﴾ [غافر: ٦٠]، والإجابَةُ عِبارَةٌ عَنِ الوَفاءِ بِما ضُمِنَ لِلْمُطِيعِينَ مِنَ الثَّوابِ. الوَجْهُ الخامِسُ: الإجابَةُ أعَمُّ مِن أنْ يَكُونَ بِإعْطاءِ المَسْئُولِ وبِمَنعِهِ، فالمَعْنى: إنِّي أخْتارُ لَهُ خَيْرَ الأمْرَيْنِ مِنَ العَطاءِ والرَّدِّ. وكُلُّ هَذِهِ التَّفاسِيرِ خِلافُ الظّاهِرِ. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ أيْ: فَيَطْلُبُوا، أيْ: فَلْيَطْلُبُوا إجابَتِي لَهم إذا دَعَوْنِي، قالَهُ ثَعْلَبٌ، فَيَكُونُ اسْتَفْعِلْ، قَدْ جاءَتْ بِمَعْنى الطَّلَبِ، كاسْتَغْفِرْ، وهو الكَثِيرُ فِيها، أوْ فَلْيُجِيبُوا لِي إذا دَعَوْتُهم إلى الإيمانِ والطّاعَةِ كَما أنِّي أُجِيبُهم إذا دَعَوْنِي لِحَوائِجِهِمْ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وأبُو عُبَيْدَةَ، وغَيْرُهُما. ويَكُونُ اسْتَفْعِلْ فِيهِ بِمَعْنى افْعَلْ، وهو كَثِيرٌ في القُرْآنِ: ﴿فاسْتَجابَ لَهم رَبُّهم أنِّي لا أُضِيعُ﴾ [آل عمران: ١٩٥]، ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ ووَهَبْنا لَهُ يَحْيى﴾ [الأنبياء: ٩٠]: إلّا أنَّ تَعْدِيَتَهُ في القُرْآنِ بِاللّامِ، وقَدْ جاءَ في كَلامِ العَرَبِ مُعَدًّى بِنَفْسِهِ، قالَ: ؎وداعٍ دَعا يا مَن يُجِيبُ إلى النِّدا ∗∗∗ فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذاكَ مُجِيبُ أيْ: فَلَمْ يُجِبْهُ، ومِثْلُ ذَلِكَ، أعْنِي كَوْنَ“ اسْتَفْعَلَ ”مُوافِقَ“ أفْعَلَ ”، قَوْلُهُمُ: اسْتَبْلَ بِمَعْنى أبْلَ، واسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ وأحْصَدَ، واسْتَعْجَلَ الشَّيْءَ وأعْجَلَ، واسْتَثارَهُ وأثارَهُ، ويَكُونُ“ اسْتَفْعَلَ ”مُوافِقَةً“ أفْعَلَ ”مُتَعَدِّيًا ولازِمًا، وهَذا المَعْنى أحَدُ المَعانِي الَّتِي ذَكَرْناها لاسْتَفْعَلَ في قَوْلِهِ: ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] . وقالَ أبُو رَجاءٍ الخُراسانِيُّ: مَعْناهُ فَلْيَدْعُوا لِي، وقالَ الأخْفَشُ: فَلْيُذْعِنُوا لِلْإجابَةِ، وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا، والرَّبِيعُ:“ فَلْيُطِيعُوا ”، وقِيلَ: الِاسْتِجابَةُ هُنا التَّلْبِيَةُ، وهو: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، واللّامُ لامُ الأمْرِ، وهي ساكِنَةٌ، ولا نَعْلَمُ أحَدًا قَرَأها بِالكَسْرِ. ﴿ولْيُؤْمِنُوا بِي﴾ مَعْطُوفٌ عَلى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، ومَعْناهُ الأمْرُ بِالإيمانِ بِاللَّهِ، وحَمْلُهُ عَلى الأمْرِ بِإنْشاءِ الإيمانِ فِيهِ بُعْدٌ: لِأنَّ صَدْرَ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّهم مُؤْمِنُونَ، فَلِذَلِكَ يُؤَوَّلُ عَلى الدَّيْمُومَةِ، أوْ عَلى إخْلاصِ الدِّينِ، والدَّعْوَةِ والعَمَلِ، أوْ في الثَّوابِ عَلى الِاسْتِجابَةِ لِي بِالطّاعَةِ، أوْ بِالإيمانِ وتَوابِعِهِ، أوْ بِالإيمانِ، في أنِّي أُجِيبُ دُعاءَهم، خَمْسَةُ أقْوالٍ آخِرُها لِأبِي رَجاءٍ الخُراسانِيِّ. ﴿لَعَلَّهم يَرْشُدُونَ﴾ قِراءَةُ الجُمْهُورِ بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الشِّينِ، وقَرَأ قَوْمٌ:“ يُرْشَدُونَ ”مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ورُوِيَ عَنْ أبِي حَيْوَةَ، وإبْراهِيمَ بْنِ أبِي عَبْلَةَ:“ يَرْشِدُونَ ”بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الشِّينِ، وذَلِكَ بِاخْتِلافٍ عَنْهُما، وقُرِئَ أيْضًا“ يَرْشَدُونَ " بِفَتْحِهِما، والمَعْنى: أنَّهم إذا اسْتَجابُوا لِلَّهِ وآمَنُوا بِهِ كانُوا عَلى رَجاءٍ مِن حُصُولِ الرُّشْدِ لَهم، وهو الِاهْتِداءُ لِمَصالِحِ دِينِهِمْ ودُنْياهم، وخَتْمُ الآيَةِ بِرَجاءِ الرُّشْدِ مِن أحْسَنِ الأشْياءِ: لِأنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَهم بِالِاسْتِجابَةِ لَهُ وبِالإيمانِ بِهِ، نَبَّهَ عَلى أنَّ هَذا التَّكْلِيفَ لَيْسَ القَصْدُ مِنهُ إلّا وُصُولَكَ بِامْتِثالِهِ إلى رَشادِكَ في نَفْسِكَ، لا يَصِلُ إلَيْهِ تَعالى مِنهُ شَيْءٌ مِن مَنافِعِهِ، وإنَّما ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِكَ. ولَمّا كانَ الإيمانُ شُبِّهَ بِالطَّرِيقِ المَسْلُوكِ في القُرْآنِ، ناسَبَ ذِكْرُ الرَّشادِ وهو الهِدايَةُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦]، ﴿وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢]، ﴿وهَدَيْناهُما الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الصافات: ١١٨] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب