الباحث القرآني

﴿ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [البقرة: ١٠٧] ؟ هَذا أيْضًا اسْتِفْهامٌ دَخَلَ عَلى النَّفْيِ فَهو تَقْرِيرٌ، فَلَيْسَ لَهُ مُعادِلٌ؛ لِأنَّ التَّقْرِيرَ مَعْناهُ: الإيجابُ، أيْ قَدْ عَلِمْتَ أيُّها المُخاطَبُ أنَّ اللَّهَ لَهُ سُلْطانُ السَّماواتِ والأرْضِ والِاسْتِيلاءُ عَلَيْهِما، فَهو يَمْلِكُ أُمُورَكم ويُدَبِّرُها، ويُجْرِيها عَلى ما يَخْتارُهُ لَكم مِن نَسْخٍ وغَيْرِهِ، وخَصَّ السَّماواتِ والأرْضَ بِالمُلْكِ، لِأنَّهُما مِن أعْظَمِ المَخْلُوقاتِ، ولِأنَّهُما قَدِ اشْتَمَلا عَلى جَمِيعِ المَخْلُوقاتِ. وإذا كانَ اسْتِيلاؤُهُ عَلى الطَّرَفَيْنِ، كانَ مُسْتَوْلِيًا عَلى ما اشْتَمَلا عَلَيْهِ، أوْ لِأنَّهُ يُعَبِّرُ عَنْ مَخْلُوقاتِهِ العُلْوِيَّةِ بِالسَّماواتِ، والسُّفْلِيَّةِ بِالأرْضِ. وتَضَمَّنَتْ هاتانِ الجُمْلَتانِ التَّقْرِيرَ عَلى الوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِما كَمالُ التَّصَرُّفِ، وهُما: القُدْرَةُ والِاسْتِيلاءُ؛ لِأنَّ الشَّخْصَ قَدْ يَكُونُ قادِرًا، بِمَعْنى أنَّ لَهُ اسْتِطاعَةً عَلى فِعْلِ شَيْءٍ، لَكِنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِيلاءٌ عَلى ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَيُنَفِّذَ فِيهِ ما يَسْتَطِيعُ أنْ يَفْعَلَ. فَإذا اجْتَمَعَتِ الِاسْتِطاعَةُ وعَدَمُ المانِعِيَّةِ، كَمُلَ بِذَلِكَ التَّصَرُّفُ مَعَ الإرادَةِ. وبَدَأ بِالتَّقْرِيرِ عَلى وصْفِ القُدْرَةِ؛ لِأنَّهُ آكَدُ مِن وصْفِ الِاسْتِيلاءِ والسُّلْطانِ. ﴿وما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٠٧]: انْتَقَلَ مِن ضَمِيرِ الإفْرادِ في الخِطابِ إلى ضَمِيرِ الجَماعَةِ، وناسَبَ الجَمْعَ هُنا؛ لِأنَّ المَنفِيَّ بِدُخُولِ مِن عَلَيْهِ صارَ نَصًّا في العُمُومِ، فَناسَبَ كَوْنَ المَنفِيِّ عَنْهُ يَكُونُ عامًّا أيْضًا، كانَ المَعْنى: وما لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنكم فَرْدٌ فَرْدٌ. ﴿مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: ١٠٧]: وأتى بِصِيغَةِ ولِيٍّ، وهو فَعِيلٌ، لِلْمُبالَغَةِ، ولِأنَّهُ أكْثَرُ في الِاسْتِعْمالِ، ولِذَلِكَ لَمْ يَجِئْ في القُرْآنِ (والٍ) إلّا في سُورَةِ الرَّعْدِ، لِمُواخاةِ الفَواصِلِ، وأتى بِنَصِيرٍ عَلى وزْنِ فَعِيلٍ، لِمُناسَبَةِ ولِيٍّ في كَوْنِهِما عَلى فَعِيلٍ، ولِمُناسَبَةِ أواخِرِ الآيِ، ولِأنَّهُ أبْلَغُ مِن فاعِلٍ. ومِن زائِدَةٌ في قَوْلِهِ: (مِن ولِيٍّ)، فَلا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ. ومِن في: ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٠٧] مُتَعَلِّقَةٌ بِما يَتَعَلَّقُ بِهِ المَجْرُورُ الَّذِي هو لَكم، وهو يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، إذْ هو في مَوْضِعِ الخَبَرِ، ويَجُوزُ في ما هَذِهِ أنْ تَكُونَ تَمِيمِيَّةً، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ حِجازِيَّةً عَلى مَذْهَبِ مَن يُجِيزُ تَقَدُّمَ خَبَرِها، إذا كانَ ظَرْفًا أوْ مَجْرُورًا. أمّا مَن مَنعَ ذَلِكَ فَلا يَجُوزُ في ما أنْ تَكُونَ حِجازِيَّةً، ومَعْنى ”مِن“ الأُولى ابْتِداءُ الغايَةِ. وتَكَرَّرَ اسْمُ اللَّهِ ظاهِرًا في هَذِهِ الجُمَلِ الثَّلاثِ، ولَمْ يُضْمَرْ لِلدَّلالَةِ عَلى اسْتِقْلالِ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنها، وأنَّها لَمْ تُجْعَلْ مُرْتَبِطَةً بَعْضُها بِبَعْضٍ ارْتِباطَ ما يُحْتاجُ فِيهِ إلى إضْمارٍ. ولَمّا كانَتِ الجُمْلَتانِ الأُولَيانِ لِلتَّقْرِيرِ - وهو إيجابٌ مِن حَيْثُ المَعْنى - ناسَبَ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ الثّالِثَةُ نَفْيًا لِلْوَلِيِّ والنّاصِرِ، أيْ أنَّ الأشْياءَ الَّتِي هي تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ وسُلْطانِهِ واسْتِيلائِهِ، فاللَّهُ تَعالى لا يَحْجِزُهُ عَمّا يُرِيدُ بِها شَيْءٌ، ولا مُغالِبَ لَهُ تَعالى فِيما يُرِيدُ. ﴿أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسْألُوا رَسُولَكم كَما سُئِلَ مُوسى مِن قَبْلُ﴾: اخْتُلِفَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، فَقِيلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ ورَهْطٍ مِن قُرَيْشٍ، قالُوا: يا مُحَمَّدُ اجْعَلِ الصَّفا ذَهَبًا، ووَسِّعْ لَنا أرْضَ مَكَّةَ، (p-٣٤٦)وفَجِّرِ الأنْهارَ خِلالَها تَفْجِيرًا، ونُؤْمِن لَكَ. وقِيلَ: تَمَنّى اليَهُودُ وغَيْرُهم مِنَ المُشْرِكِينَ، فَمِن قائِلٍ: ائْتِنا بِكِتابٍ مِنَ السَّماءِ جُمْلَةً، كَما أتى مُوسى بِالتَّوْراةِ. ومِن قائِلٍ: ائْتِنِي بِكِتابٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ مِن رَبِّ العالَمِينَ إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ، إنِّي قَدْ أرْسَلْتُ مُحَمَّدًا إلى النّاسِ. ومِن قائِلٍ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَأْتِيَ بِاللَّهِ والمَلائِكَةِ قَبِيلًا. وقِيلَ: إنَّ رافِعَ بْنَ خُزَيْمَةَ، ووَهْبَ بْنَ زَيْدٍ قالا لِلنَّبِيِّ ﷺ: ائْتِنا بِكِتابٍ مِنَ السَّماءِ، وفَجِّرْ لَنا أنْهارًا، نَتَّبِعْكَ. وقِيلَ: إنَّ جَماعَةً مِنَ الصَّحابَةِ قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: لَيْتَ ذُنُوبَنا جَرَتْ مَجْرى ذُنُوبِ بَنِي إسْرائِيلَ في تَعْجِيلِ العُقُوبَةِ في الدُّنْيا، فَقالَ: ”كانَتْ بَنُو إسْرائِيلَ إذا أصابَتْهم خَطِيئَةٌ وجَدُوها مَكْتُوبَةً عَلى بابِ الخاطِئِ، فَإنْ كَفَّرَها كانَتْ لَهُ خِزْيًا في الدُّنْيا، وإنْ لَمْ يُكَفِّرْها كانَتْ لَهُ خِزْيًا في الآخِرَةِ“ . وقِيلَ: اليَهُودُ وكُفّارُ قُرَيْشٍ سَألُوا رَدَّ الصَّفا ذَهَبًا، وقِيلَ لَهم: خُذُوهُ كالمائِدَةِ لِبَنِي إسْرائِيلَ، فَأبَوْا ونَكَصُوا. وقِيلَ: سَألَ قَوْمٌ أنْ يَجْعَلَ لَهم ذاتَ أنْواطٍ، كَما كانَتْ لِلْمُشْرِكِينَ، وهي شَجَرَةٌ كانُوا يَعْبُدُونَها ويُعَلِّقُونَ عَلَيْها الثَّمَرَةَ وغَيْرَها مِنَ المَأْكُولاتِ وأسْلِحَتَهم. كَما سَألَ بَنُو إسْرائِيلَ مُوسى فَقالُوا: اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ كُلُّها أسْبابًا في نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، وقَدْ طَوَّلْنا بِذِكْرِ هَذِهِ الأسْبابِ، وذَلِكَ بِخِلافِ مَقْصِدِنا في هَذا الكِتابِ. وأمْ: هُنا مُنْقَطِعَةٌ، وتَتَقَدَّرُ المُنْقَطِعَةُ بِبَلْ والهَمْزَةِ، فالمَعْنى: بَلْ أتُرِيدُونَ، فَبَلْ تُفِيدُ الإضْرابُ عَمّا قَبْلَهُ، ومَعْنى الإضْرابِ هُنا: هو الِانْتِقالُ مِن جُمْلَةٍ إلى جُمْلَةٍ، لا عَلى سَبِيلِ إبْطالِ الأُولى. وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَن جَعَلَ أمْ هُنا مُعادِلَةً لِلِاسْتِفْهامِ الأوَّلِ. وقَدْ بَيَّنّا ضَعْفَ ذَلِكَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: ”أمْ“ اسْتِفْهامٌ مَقْطُوعٌ مِنَ الأوَّلِ، كَأنَّهُ قالَ: أتُرِيدُونَ. وهَذانِ القَوْلانِ ضَعِيفانِ. والَّذِي تَقَرَّرَ أنَّ أمْ تَكُونُ مُتَّصِلَةً ومُنْفَصِلَةً. فالمُتَّصِلَةُ: شَرَطُها أنْ يَتَقَدَّمَها لَفْظُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، وأنْ يَكُونَ بَعْدَها مُفْرَدٌ، أوْ في تَقْدِيرِ المُفْرَدِ. والمُنْفَصِلَةُ: ما انْخَرَمَ الشَّرْطانِ فِيها أوْ أحَدُهُما، ويَتَقَدَّرُ إذْ ذاكَ بِبَلْ والهَمْزَةِ مَعًا، وأمّا مَجِيئُها مُرادِفَةً لِلْهَمْزَةِ فَقَطْ، أوْ مُرادِفَةً لِبَلْ فَقَطْ، أوْ زائِدَةً، فَأقْوالٌ: ضَعِيفَةٌ. وعَلى الخِلافِ في المُخاطَبِينَ، يَجِيءُ الكَلامُ في قَوْلِهِ: (رَسُولَكم) . فَإنْ كانَ الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وهو قَوْلُ الأصَمِّ والجِبائِيِّ وأبِي مُسْلِمٍ، فَيَكُونُ ”رَسُولَكم“ جاءَ عَلى ما في نَفْسِ الأمْرِ، وعَلى ما أقَرُّوا بِهِ مِن رِسالَتِهِ. وإنْ كانَ الخِطابُ لِلْكُفّارِ، كانَتْ إضافَةُ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ عَلى حَسَبِ الأمْرِ في نَفْسِهِ، لا عَلى إقْرارِهِمْ بِهِ. ورُجِّحَ كَوْنُ الخِطابِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإيمانِ﴾، وهَذا الكَلامُ لا يَصِحُّ إلّا في حَقِّ المُؤْمِنِ، وبِأنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿لا تَقُولُوا راعِنا﴾ [البقرة: ١٠٤]، أيْ هَلْ تَفْعَلُونَ ما أُمِرْتُمْ، أمْ تُرِيدُونَ ؟ ورُجِّحَ أنَّهُمُ اليَهُودُ؛ لِأنَّهُ سَبَقَ الكَلامُ في الحِكاياتِ عَنْهم ما قالُوا، ولِأنَّ المُؤْمِنَ بِالرَّسُولِ لا يَكادُ يَسْألُهُ ما يَكُونُ كُفْرًا. (كَما سُئِلَ): الكافُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، فَعَلى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ: عَلى الحالِ، وعَلى المَشْهُورِ مِن مَذاهِبِ المُعْرِبِينَ: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، فَيُقَدَّرُ عَلى قَوْلِهِمْ: سُؤالًا كَما سُئِلَ، ويُقَدَّرُ عَلى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ: أنْ تَسْألُوهُ، أيِ السُّؤالَ كَما سُئِلَ، وما مَصْدَرِيَّةٌ، التَّقْدِيرُ: كَسُؤالِ. وأجازَ الحَوْفِيُّ أنْ تَكُونَ ما مَوْصُولَةً بِمَعْنى الَّذِي، التَّقْدِيرُ: الَّذِي سُئِلَهُ مُوسى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: وسِيلَ. وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو السَّمّالِ: بِكَسْرِ السِّينِ وياءٍ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ والزُّهْرِيُّ: بِإشْمامِ السِّينِ وياءٍ. وقَرَأ بَعْضُ القُرّاءِ: بِتَسْهِيلِ الهَمْزَةِ بَيْنَ بَيْنَ وضَمِّ السِّينِ. وهَذِهِ القِراءاتُ مَبْنِيَّةٌ عَلى اللُّغَتَيْنِ في سَألَ، وهو أنْ تَكُونَ الهَمْزَةُ مُقَرَّةً مَفْتُوحَةً، فَتَقُولَ سَألَ. فَعَلى هَذِهِ اللُّغَةِ تَكُونُ قِراءَةُ الجُمْهُورِ وقِراءَةُ مَن سَهَّلَ الهَمْزَ بَيْنَ بَيْنَ. واللُّغَةُ الثّانِيَةُ أنْ تَكُونَ عَيْنُ الكَلِمَةِ واوًا، وتَكُونَ عَلى فَعِلَ بِكَسْرِ العَيْنِ فَتَقُولَ: سِلْتُ أسالُ، كَخِفْتُ أخافُ، أصْلُهُ: سُوِلْتُ. وعَلى هَذِهِ اللُّغَةِ تَكُونُ قِراءَةُ الحَسَنِ، وقِراءَةُ مَن أشَمَّ. وتَخْرِيجُ هاتَيْنِ القِراءَتَيْنِ عَلى هَذِهِ اللُّغَةِ أوْلى مِنَ التَّخْرِيجِ عَلى أنَّ أصْلَ الألِفِ الهَمْزُ، فَأُبْدِلَتِ الهَمْزَةُ ألِفًا، فَصارَ مِثْلَ: قالَ وباعَ، فَقِيلَ فِيهِ: سِيلَ بِالكَسْرِ المَحْضِ، أوِ الإشْمامِ؛ لِأنَّ هَذا الإبْدالَ (p-٣٤٧)شاذٌّ ولا يَنْقاسُ. وتِلْكَ لُغَةٌ ثانِيَةٌ، فَكانَ الحَمْلُ عَلى ما كانَ لُغَةً أوْلى مِنَ الحَمْلِ عَلى الشّاذِّ غَيْرِ المُطَّرِدِ. وحُذِفَ الفاعِلُ هُنا لِلْعِلْمِ بِهِ، التَّقْدِيرُ: كَما سَألَ قَوْمُ مُوسى مُوسى مِن قَبْلُ. ﴿مُوسى مِن قَبْلُ﴾: يَتَعَلَّقُ هَذا الجارُّ بِقَوْلِهِ: سُئِلَ، وقَبْلُ مَقْطُوعَةٌ عَنِ الإضافَةِ لَفْظًا، وذَلِكَ أنَّ المُضافَ إلَيْهِ مَعْرِفَةٌ مَحْذُوفٌ. فَلِذَلِكَ بُنِيَتْ قَبْلُ عَلى الضَّمِّ، والتَّقْدِيرُ: مِن قَبْلِ سُؤالِكم، وهَذا تَوْكِيدٌ؛ لِأنَّهُ قَدْ عُلِمَ أنَّ سُؤالَ بَنِي إسْرائِيلَ مُوسى - عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - مُتَقَدِّمٌ عَلى سُؤالِ هَؤُلاءِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وسُؤالُ قَوْمِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - هو قَوْلُهم: ﴿أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣]، ﴿اجْعَلْ لَنا إلَهًا﴾ [الأعراف: ١٣٨] . فَأرادَ تَعالى أنْ يُوَبِّخَهم عَلى تَعَلُّقِ إرادَتِهِمْ بِسُؤالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأنْ يَقْتَرِحُوا عَلَيْهِ، إذْ هم يَكْفِيهِمْ ما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ. وشَبَّهَ سُؤالَهم بِسُؤالِ ما اقْتَرَحَهُ آباءُ اليَهُودِ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي مَصِيرُها إلى الوَبالِ. وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ السُّؤالَ لَمْ يَقَعْ مِنهم. ألا تَرى أنَّهُ قالَ: ﴿أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسْألُوا﴾ ؟ فَوَبَّخَهم عَلى تَعَلُّقِ إرادَتِهِمْ بِالسُّؤالِ، إذْ لَوْ كانَ السُّؤالُ قَدْ وقَعَ، لَكانَ التَّوْبِيخُ عَلَيْهِ، لا عَلى إرادَتِهِ، وكانَ يَكُونُ اللَّفْظُ: أتَسْألُونَ رَسُولَكم ؟ أوْ ما أشْبَهَ ذَلِكَ مِمّا يُؤَدِّي مَعْنى وُقُوعِ السُّؤالِ، لَكِنْ تَظافَرَتْ نُقُولُهم في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، وإنِ اخْتَلَفُوا في التَّعْيِينِ عَلى أنَّ السُّؤالَ قَدْ وقَعَ. * * * ﴿ومَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإيمانِ﴾ ؟ تَقَدَّمَ الكَلامُ في التَّبْدِيلِ، أيْ: مَن يَأْخُذِ الكُفْرَ بَدَلَ الإيمانِ، وهَذِهِ كِنايَةٌ عَنِ الإعْراضِ عَنِ الإيمانِ والإقْبالِ عَلى الكُفْرِ، كَما جاءَ في قَوْلِهِ: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾ [البقرة: ١٦] . وفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذا بِأنْ قالَ: ومَن تَرَكَ الثِّقَةَ بِالآياتِ المُنَزَّلَةِ وشَكَّ فِيها واقْتَرَحَ غَيْرَها. وقالَ أبُو العالِيَةِ: الكُفْرُ هُنا: الشِّدَّةُ، والإيمانُ: الرَّخاءُ. وهَذا فِيهِ ضَعْفٌ، إلّا أنْ يُرِيدَ أنَّهُما مُسْتَعارانِ في الشِّدَّةِ عَلى نَفْسِهِ والرَّخاءِ لَها عَنِ العَذابِ والنَّعِيمِ. وأمّا المَعْرُوفُ مِن شِدَّةِ أُمُورِ الدُّنْيا ورَخائِها، فَلا تُفَسَّرُ الآيَةُ بِذَلِكَ، والظّاهِرُ حَمْلُ الكُفْرِ والإيمانِ عَلى حَقِيقَتِهِما الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأنَّ مَن سَألَ الرَّسُولَ ما سَألَ مَعَ ظُهُورِ المُعْجِزاتِ ووُضُوحِ الدَّلائِلِ عَلى صِدْقِهِ، كانَ سُؤالُهُ تَعَنُّتًا وإنْكارًا، وذَلِكَ كُفْرٌ. ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ﴾: هَذا جَوابُ الشَّرْطِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى الضَّلالِ في قَوْلِهِ: ﴿ولا الضّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧]، وعَلى ”سَواءَ“ في قَوْلِهِ: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٦]، وأنَّ ”سَواءٌ“ يَكُونُ بِمَعْنى مُسْتَوٍ. ولِذَلِكَ يَتَحَمَّلُ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَواءٍ هو والعَدَمُ، ويُوصَفُ بِهِ: ﴿تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ﴾ [آل عمران: ٦٤]، ويُفَسَّرُ بِمَعْنى العَدْلِ والنَّصَفَةِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مُسْتَوٍ، وقالَ زُهَيْرٌ: ؎أرُونا خُطَّةً لا عَيْبَ فِيها يُسَوِّي بَيْنَنا فِيها السَّواءُ ويُفَسَّرُ بِمَعْنى الوَسَطِ. قالَ تَعالى: ﴿فَرَآهُ في سَواءِ الجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٥٥]، أيْ في وسَطِها. وقالَ عِيسى بْنُ عُمَرَ: كَتَبْتُ حَتّى انْقَطَعَ سِوايَ، وقالَ حَسّانُ: ؎يا ويْحَ أنْصارِ النَّبِيِّ ورَهْطِهِ ∗∗∗ بَعْدَ المُغَيَّبِ في سَواءِ المُلْحَدِ وبِذَلِكَ فَسَّرَ السَّواءَ في الآيَةِ أبُو عُبَيْدَةَ، وفَسَّرَهُ الفَرّاءُ بِالقَصْدِ. ولَمّا كانَتِ الشَّرِيعَةُ تُوَصِّلُ سالِكَها إلى رِضْوانِ اللَّهِ تَعالى، كَنّى عَنْها بِالسَّبِيلِ، وجَعَلَ مَن حادَ عَنْها: كالضّالِّ عَنِ الطَّرِيقِ، وكَنّى عَنْ سُؤالِهِمْ نَبِيَّهم ما لَيْسَ لَهم أنْ يَسْألُوهُ بِتَبَدُّلِ الكُفْرِ بِالإيمانِ، وأخْرَجَ ذَلِكَ في صُورَةٍ شَرْطِيَّةٍ، وصُورَةُ الشَّرْطِ لَمْ تَقَعْ بَعْدُ تَنْفِيرًا عَنْ ذَلِكَ، وتَبْعِيدًا مِنهُ. فَوَبَّخَهم أوَّلًا عَلى تَعَلُّقِ إرادَتِهِمْ بِسُؤالِ ما لَيْسَ لَهم سُؤالُهُ، وخاطَبَهم بِذَلِكَ، ثُمَّ أدْرَجَهم في عُمُومِ الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ. وأنَّ مِثْلَ هَذا يَنْبَغِي أنْ لا يَقَعَ؛ لِأنَّهُ ضَلالٌ عَنِ المَنهَجِ القَوِيمِ، فَصارَ صَدْرُ الآيَةِ إنْكارًا وتَوْبِيخًا، وعَجُزُها تَكْفِيرًا وضَلالًا. وما أدّى إلى هَذا فَيَنْبَغِي أنْ لا يَتَعَلَّقَ بِهِ غَرَضٌ ولا طَلَبٌ ولا إرادَةٌ. وإدْغامُ الدّالِ في الضّادِ مِنَ الإدْغامِ الجائِزِ. وقَدْ قُرِئَ: (فَقَدْ ضَلَّ)، بِالإدْغامِ وبِالإظْهارِ في السَّبْعَةِ. ﴿ودَّ كَثِيرٌ مِن أهْلِ الكِتابِ﴾: المَعْنِيُّ بِكَثِيرٍ: كَعْبُ بْنُ الأشْرَفِ، أوْ حُيَّيُّ بْنُ (p-٣٤٨)أخْطَبَ وأخُوهُ أبُو ياسِرٍ، أوْ نَفَرٌ مِنَ اليَهُودِ حاوَلُوا المُسْلِمِينَ بَعْدَ وقْعَةِ أُحُدٍ أنْ يَرْجِعُوا إلى دِينِهِمْ، أوْ فِنْحاصُ بْنُ عاذُوراءَ وزَيْدُ بْنُ قَيْسٍ ونَفَرٌ مِنَ اليَهُودِ حاوَلُوا حُذَيْفَةَ وعَمّارًا في رُجُوعِهِما إلى دِينِهِمْ، أقْوالٌ. والقُرْآنُ لَمْ يُعَيِّنْ أحَدًا، إنَّما أخْبَرَ بِوِدادَةِ كَثِيرٍ مِن أهْلِ الكِتابِ. والخِلافُ في سَبَبِ النُّزُولِ مَبْنِيٌّ عَلى الخِلافِ في تَفْسِيرِ كَثِيرٍ مِن أهْلِ الكِتابِ، وتَخَصَّصَتِ الصِّفَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن أهْلِ الكِتابِ﴾، فَلِذَلِكَ حَسُنَ حَذْفُ المَوْصُوفِ وإقامَةُ الصِّفَةِ مُقامَهُ. والكِتابُ هُنا: التَّوْراةُ. ﴿لَوْ يَرُدُّونَكم مِن بَعْدِ إيمانِكم كُفّارًا﴾: الكَلامُ في لَوْ هُنا، كالكَلامِ عَلَيْها في قَوْلِهِ: ﴿يَوَدُّ أحَدُهم لَوْ يُعَمَّرُ ألْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] . فَمَن قالَ: إنَّها مَصْدَرِيَّةٌ، قالَ: لَوْ، والفِعْلُ في تَأْوِيلِ المَصْدَرِ، وهو مَفْعُولُ ودَّ: أيْ ودَّ رَدَّكم، ومَن جَعَلَها حَرْفًا لِما كانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، جَعَلَ الجَوابَ مَحْذُوفًا، وجَعَلَ مَفْعُولَ ودَّ مَحْذُوفًا، التَّقْدِيرُ: ودَّ رَدَّكم كُفّارًا، لَوْ يَرُدُّونَكم كُفّارًا لَسُرُّوا بِذَلِكَ. وقالَ بَعْضُ النّاسِ تَقْدِيرُهُ: لَوْ يَرُدُّونَكم كُفّارًا لَوَدُّوا ذَلِكَ. فَوَدَّ دالَّةٌ عَلى الجَوابِ، ولا يَجُوزُ لِوَدَّ الأُولى أنْ تَكُونَ هي الجَوابَ؛ لِأنَّ شَرْطَ لَوْ أنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلى الجَوابِ. انْتَهى. وهَذا الَّذِي قَدَّرَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّكَ إذا جَعَلْتَ جَوابَ لَوْ قَوْلَهُ: لَوَدُّوا ذَلِكَ، كانَ ذَلِكَ دالًّا عَلى أنَّ الوِدادَةَ لَمْ تَقَعْ؛ لِأنَّهُ جَوابٌ لِلَوْ، وهو لِما كانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، فامْتَنَعَ وُقُوعُ الوِدادَةِ، لِامْتِناعِ وُقُوعِ الرَّدِّ. والغَرَضُ أنَّ الوِدادَةَ قَدْ وقَعَتْ. ألا تَرى إلى أقْوالِ المُفَسِّرِينَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ ؟ وهي وإنِ اخْتَلَفَتْ فاتَّفَقُوا عَلى وُقُوعِ الوِدادَةِ، وإنِ اخْتَلَفَتْ أقْوالُهم بِمَن وقَعَتْ، وتَقْدِيرُ جَوابِ لَوْ لَوَدُّوا ذَلِكَ، يَدُلُّ عَلى أنَّ الوِدادَةَ لَمْ تَقَعْ، فَلِذَلِكَ كانَ تَقْدِيرُهُ لَسُرُّوا أوْ لَفَرِحُوا بِذَلِكَ هو المُتَعَيَّنُ، إذا جَعَلْتَ لَوْ تَقْتَضِي جَوابًا. ويَرُدُّ هُنا بِمَعْنى يُصَيِّرُ، فَيَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ: الأوَّلُ هو ضَمِيرُ الخِطابِ، والثّانِي كُفّارًا، وقَدْ أعْرَبَهُ بَعْضُهم حالًا، وهو ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ الحالَ مُسْتَغْنًى عَنْها في أكْثَرِ مَوارِدِها، وهَذا لا بُدَّ مِنهُ في هَذا المَكانِ. ومِن مُتَعَلِّقَةٌ بِيَرُدُّ، وهي لِابْتِداءِ الغايَةِ، وظاهِرُ الواوِ في يَرُدُّونَكم أنَّها لِلْجَمْعِ، ومَن فَسَّرَ كَثِيرًا بِواحِدٍ أوْ بِاثْنَيْنِ، فَجَعَلَ الواوَ لَهُ أوْ لَهُما، لَيْسَ عَلى الأصْلِ. ﴿حَسَدًا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ﴾: انْتِصابُ حَسَدًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، والعامِلُ فِيهِ ودَّ، أيِ الحامِلُ لَهم عَلى وِدادَةِ رَدِّكم كُفّارًا هو الحَسَدُ، وجَوَّزُوا فِيهِ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مَنصُوبًا عَلى الحالِ، أيْ حاسِدِينَ، ولَمْ يُجْمَعْ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ جَعْلَ المَصْدَرِ حالًا لا يَنْقاسُ. وجَوَّزُوا أيْضًا أنْ يَكُونَ نَصْبُهُ عَلى المَصْدَرِ، والعامِلُ فِيهِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَعْنى، التَّقْدِيرُ: حَسَدُوكم حَسَدًا. والأظْهَرُ القَوْلُ الأوَّلُ؛ لِأنَّهُ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شَرائِطُ المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ. ويَتَعَلَّقُ المَجْرُورُ الَّذِي هو: ﴿مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ﴾، إمّا بِمَلْفُوظٍ بِهِ وهو ودَّ، أيْ ودُّوا ذَلِكَ مِن قِبَلِ شَهْوَتِهِمْ، لا أنَّ وِدادَتَهم ذَلِكَ هي مِن جِهَةِ التَّدَيُّنِ واتِّباعِ الحَقِّ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ﴾ ؟ وإمّا بِمُقَدَّرٍ، فَيَكُونُ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، التَّقْدِيرُ: حَسَدًا كائِنًا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ. وعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ تَوْكِيدًا، أيْ وِدادَتُهم أوْ حَسَدُهم مِن تِلْقائِهِمْ. ألا تَرى أنَّ وِدادَةَ الكُفْرِ والحَسَدَ عَلى الإيمانِ لا يَكُونُ إلّا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ ؟ فَهو نَظِيرُ، ﴿ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] . وقِيلَ: يَتَعَلَّقُ الجارُّ والمَجْرُورُ بِقَوْلِهِ: يَرُدُّونَكم، ومِن سَبَبِيَّةٌ، أيْ يَكُونُ الرَّدُّ مِن تَلْقائِهِمْ وبِإغْوائِهِمْ وتَزْيِينِهِمْ. ﴿مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ﴾: تَتَعَلَّقُ مِن هَذِهِ بِقَوْلِهِ: ودَّ، أيْ وِدادَتُهم كُفْرَكم لِلْحَسَدِ المُنْبَعِثِ مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ. وتِلْكَ الوِدادَةُ ابْتَدَأتْ مِن زَمانِ وُضُوحِ الحَقِّ وتَبَيُّنِهِ لَهم، فَلَيْسُوا مِن أهْلِ الغَباوَةِ الَّذِينَ قَدْ يَعْزُبُ عَلَيْهِمْ وُضُوحُ الحَقِّ، بَلْ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الحَسَدِ والعِنادِ. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الكُفْرَ يَكُونُ عِنادًا. ألا تَرى إلى ظاهِرِ قَوْلِهِ: ﴿مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ﴾ ؟ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: واخْتَلَفَ أهْلُ السُّنَّةِ في جَوازِ ذَلِكَ. والصَّحِيحُ عِنْدِي جَوازُهُ عَقْلًا، وبُعْدُهُ وُقُوعًا، ويَتَرَتَّبُ في كُلِّ آيَةٍ تَقْتَضِيهِ أنَّ المَعْرِفَةَ تُسْلَبُ مِن ثانِي (p-٣٤٩)حالٍ مِنَ العِنادِ. انْتَهى كَلامُهُ، والألِفُ واللّامُ في الحَقِّ، إمّا لِلْعَهْدِ، ويُرادُ بِهِ الإيمانُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ جَرَيانُهُ قَبْلَ هَذا، أوِ الألِفُ واللّامُ لِلِاسْتِغْراقِ، أيْ مِن بَعْدِ ما اتَّضَحَتْ لَهم وُجُوهُ الحَقِّ وأنْواعُهُ. ﴿فاعْفُوا واصْفَحُوا﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هي مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة: ٢٩] . وقِيلَ: بِقَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥]، وقالَ قَوْمٌ: لَيْسَ هَذا حَدَّ المَنسُوخِ؛ لِأنَّ هَذا في نَفْسِ الأمْرِ كانَ لِلتَّوْقِيفِ عَلى مُدَّتِهِ. ﴿حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ﴾: غَيّا العَفْوَ والصَّفْحَ بِهَذِهِ الغايَةِ، وهَذِهِ مُوادَعَةٌ إلى أنْ أتى أمْرُ اللَّهُ بِقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وإجْلاءِ بَنِي النَّضِيرِ وإذْلالِهِمْ بِالجِزْيَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا أتى مِن أحْكامِ الشَّرْعِ فِيهِمْ وتَرْكِ العَفْوِ والصَّفْحِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: هو إسْلامُ بَعْضٍ واصْطِلامُ بَعْضٍ. وقِيلَ: آجالُ بَنِي آدَمَ. وقِيلَ: القِيامَةُ، وقِيلَ: المُجازاةُ يَوْمَ القِيامَةِ. وقِيلَ: قُوَّةُ الرِّسالَةِ وكَثْرَةُ الأُمَّةِ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ الأمْرُ بِالقِتالِ. وعَنِ الباقِرِ: أنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتالٍ حَتّى نَزَلَ ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ﴾ [الحج: ٣٩]، والأمْرُ بِالعَفْوِ والصَّفْحِ هو أنْ لا يُقاتِلُوا وأنْ يُعْرَضَ عَنْ جَوابِهِمْ فَيَكُونَ أدْعى لِتَسْكِينِ الثّائِرَةِ وإطْفاءِ الفِتْنَةِ وإسْلامِ بَعْضِهِمْ، لا أنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ عَلى وجْهِ الرِّضا؛ لِأنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ. ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: مَرَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ، وفِيهِ إشْعارٌ بِالِانْتِقامِ مِنَ الكُفّارِ، ووَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ والتَّمْكِينِ. ألا تَرى أنَّهُ أمَرَ بِالمُوادَعَةِ بِالعَفْوِ والصَّفْحِ، وغَيّا ذَلِكَ إلى أنْ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ، ثُمَّ أخْبَرَ بِأنَّهُ قادِرٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ؟ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب