الباحث القرآني

﴿ألَمْ تَرَ أنّا أرْسَلْنا الشَّياطِينَ عَلى الكافِرِينَ تَؤُزُّهم أزًّا﴾ ﴿فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إنَّما نَعُدُّ لَهم عَدًّا﴾ ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إلى الرَّحْمَنِ وفْدًا﴾ ﴿ونَسُوقُ المُجْرِمِينَ إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ ﴿لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إلّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ ﴿وقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا﴾ ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا﴾ ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا﴾ ﴿أنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَدًا﴾ ﴿وما يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا﴾ ﴿إنْ كُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ ﴿لَقَدْ أحْصاهم وعَدَّهم عَدًّا﴾ ﴿وكُلُّهم آتِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَرْدًا﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ ﴿فَإنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ ﴿وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنهم مِن أحَدٍ أوْ تَسْمَعُ لَهم رِكْزًا﴾ . (p-٢١٦)(أرْسَلْنا) مَعْناهُ سَلَّطْنا أوْ لَمْ نَحُلْ بَيْنَهم وبَيْنَهم مِثْلُ قَوْلِهِ ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا﴾ [الزخرف: ٣٦] وتَعْدِيَتُهُ بِعَلى دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ تَسْلِيطٌ و(تَؤُزُّهم) تُحَرِّكُهم إلى الكُفْرِ. وقالَ قَتادَةُ: تُزْعِجُهم. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: تُشْلِيهِمْ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تُغْرِيهِمْ عَلى المَعاصِي وتُهَيِّجُهم لَها بِالوَساوِسِ والتَّسْوِيلاتِ، والمَعْنى خَلَّيْنا بَيْنَهم وبَيْنَهم ولَمْ نَمْنَعْهم ولَوْ شاءَ لَمَنَعَهم، والمُرادُ تَعْجِيبُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ الآياتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيها العُتاةُ مِنَ الكُفّارِ وأقاوِيلُهم. عَجِلْتُ عَلَيْهِ بِكَذا إذا اسْتَعْجَلْتُهُ مِنهُ، أيْ: لا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بِأنْ يُهْلَكُوا فَلَيْسَ بَيْنَكَ وبَيْنَ ما تَطْلُبُ مِن هَلاكِهِمْ إلّا أيّامٌ مَحْصُورَةٌ وأنْفاسٌ مَعْدُودَةٌ كَأنَّها في سُرْعَةٍ تَقَضِّيها السّاعَةُ الَّتِي تُعَدُّ فِيها لَوْ عُدَّتْ، ونَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولا تَسْتَعْجِلْ لَهم كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِن نَهارٍ﴾ [الأحقاف: ٣٥] انْتَهى. وقِيلَ (نَعُدُّ) أعْمالَهم لِنُجازِيَهم. وقِيلَ: آجالَهم فَإذا جاءَ أحْلَلْنا العُقُوبَةَ بِهِمْ. وقِيلَ: أيّامَهُمُ الَّتِي سَبَقَ قَضاؤُنا أنْ نُمْهِلَهم إلَيْها. وقِيلَ: أنْفاسَهم، وانْتَصَبَ (يَوْمَ) بِاذْكُرْ أوِ احْذَرْ مُضْمَرَةً أوْ عَلى تَقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ جَوابًا لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ مَتى يَكُونُ ذَلِكَ، أوْ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أوْ بِيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أوْ مَعْنى بُعْدًا، وتَضَمَّنَ العَدُّ والإحْصاءُ مَعْنى المُجازاةِ، أوْ ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ﴾ ونَسُوقُ نَفْعَلُ بِالفَرِيقَيْنِ ما لا يُحِيطُ بِهِ الوَصْفُ أوْ بِلا يَمْلِكُونَ، وكُلُّها مَقُولٌ في نَصْبِ (يَوْمَ) والأوْجَهُ الأخِيرُ. وعُدِّيَ (نَحْشُرُ) بِـ ﴿إلى الرَّحْمَنِ﴾ تَعْظِيمًا لَهم وتَشْرِيفًا. وذَكَرَ صِفَةَ الرَّحْمانِيَّةِ الَّتِي خَصَّهم بِها كَرامَةً إذْ لَفْظُ الحَشْرِ فِيهِ جَمْعٌ مِن أماكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ وأقْطارٍ شاسِعَةٍ عَلى سَبِيلِ القَهْرِ، فَجاءَتْ لَفْظَةُ (الرَّحْمَنِ) مُؤْذِنَةً بِأنَّهم يُحْشَرُونَ إلى مَن يَرْحَمُهم، ولَفْظُ السَّوْقِ فِيهِ إزْعاجٌ وهو إنْ عُدِّيَ بِـ (إلى جَهَنَّمَ) تَفْظِيعًا لَهم وتَبْشِيعًا لِحالِ مُقِرِّهِمْ، ولَفْظَةُ الوَفْدِ مُشْعِرَةٌ بِالإكْرامِ والتَّبْجِيلِ كَما يَفِدُ الوُفّادُ عَلى المُلُوكِ مُنْتَظِرِينَ لِلْكَرامَةِ عِنْدَهُ. وعَنْ عَلِيٍّ: عَلى نُوقٍ رِحالُها ذَهَبٌ، وعَلى نَجائِبَ سَرْجُها ياقُوتٌ، وعَنْهُ أيْضًا أنَّهم (p-٢١٧)يَجِيئُونَ رُكْبانًا عَلى النُّوقِ المُحَلّاةِ بِحِلْيَةِ الجَنَّةِ، خَطْمُها مِن ياقُوتٍ وزَبَرْجَدٍ. ورَوى عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ المُلائِيُّ: أنَّهم يَرْكَبُونَ عَلى تَماثِيلَ مِن أعْمالِهِمُ الصّالِحَةِ في غايَةِ الحُسْنِ، رُوِيَ أنَّهُ يَرْكَبُ كُلُّ أحَدٍ مِنهم ما أحَبَّ مِن إبِلٍ أوْ خَيْلٍ أوْ سُفُنٍ تَجِيءُ عائِمَةً بِهِمْ. والظّاهِرُ أنَّ هَذِهِ الوِفادَةَ بَعْدَ انْقِضاءِ الحِسابِ وأنَّها النُّهُوضُ إلى الجَنَّةِ كَما قالَ ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: ٥٥] وشَبَّهُوا بِالوُفُودِ لِأنَّهم سَراةُ النّاسِ وأحْسَنُهم شَكْلًا ولَيْسَتْ وِفادَةً حَقِيقِيَّةً؛ لِأنَّها تَتَضَمَّنُ الِانْصِرافَ مِنَ المَوْفُودِ عَلَيْهِ، وهَؤُلاءِ مُقِيمُونَ أبَدًا في ثَوابِ رَبِّهِمْ وهو الجَنَّةُ، والوِرْدُ العِطاشُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو هُرَيْرَةَ والحَسَنُ، والوِرْدُ مَصْدَرُ ورَدَ، أيْ: سارَ إلى الماءِ. قالَ الرّاجِزُ: ؎رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطاةٍ صَمّا كُدْرِيَّةٍ أعْجَبَها بَرْدُ الماءِ ولَمّا كانَ مَن يَرِدُ الماءَ لا يَرِدُهُ إلّا لِعَطَشٍ، أُطْلِقَ الوِرْدُ عَلى العِطاشِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِسَبَبِهِ. وقَرَأ الحَسَنُ والجَحْدَرِيُّ: يُحْشَرُ المُتَّقُونَ، ويُساقُ المُجْرِمُونَ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، والضَّمِيرُ في (لا يَمْلِكُونَ) عائِدٌ عَلى الخَلْقِ الدّالِّ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ المُتَّقِينَ والمُجْرِمِينَ إذْ هم قِسْماهُ، والِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلٌ و(مَن) بَدَلٌ مِن ذَلِكَ الضَّمِيرِ أوْ نُصِبَ عَلى الِاسْتِثْناءِ (ولا يَمْلِكُونَ) اسْتِئْنافُ إخْبارٍ. وقِيلَ: مَوْضِعُهُ نَصْبٌ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ في (لا يَمْلِكُونَ) ويَكُونُ عائِدًا عَلى المُجْرِمِينَ. والمَعْنى غَيْرَ مالِكِينَ أنْ يُشْفَعَ لَهم، ويَكُونُ عَلى هَذا الِاسْتِثْناءِ مُنْقَطِعًا. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (لا يَمْلِكُونَ) عائِدٌ عَلى المُتَّقِينَ والمُجْرِمِينَ، والِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلٌ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى المُتَّقِينَ، واتِّخاذُ العَهْدِ هو العَمَلُ الصّالِحُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ في حَيِّزِ مَن يَشْفَعُ. وتَظافَرَتِ الأحادِيثُ عَلى أنَّ أهْلَ العِلْمِ والصَّلاحِ يَشْفَعُونَ فَيُشَفَّعُونَ. وفي الحَدِيثِ: «إنَّ في أُمَّتِي رَجُلًا يُدْخِلُ اللَّهُ بِشَفاعَتِهِ أكْثَرَ مِن بَنِي تَمِيمٍ» . وقالَ قَتادَةُ: كُنّا نُحَدَّثُ أنَّ الشَّهِيدَ يَشْفَعُ في سَبْعِينَ. وقالَ بَعْضُ مَن جَعَلَ الضَّمِيرَ لِلْمُتَّقِينَ: المَعْنى لا يَمْلِكُ المُتَّقُونَ (الشَّفاعَةَ) إلّا لِهَذا الصِّنْفِ، فَعَلى هَذا يَكُونُ مَنِ اتَّخَذَ المَشْفُوعَ فِيهِمْ، وعَلى التَّأْوِيلِ الأوَّلِ يَكُونُ مَنِ اتَّخَذَ الشّافِعِينَ فالتَّقْدِيرُ عَلى التَّقْدِيرِ الثّانِي (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ لِأحَدٍ إلّا مَنِ اتَّخَذَ) فَيَكُونُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ كَما قالَ: ؎فَلَمْ يَنْجُ إلّا جَفْنَ سَيْفٍ ومِئْزَرا أيْ لَمْ يَنْجُ شَيْءٌ إلّا جَفْنَ سَيْفٍ. وعَلى هَذِهِ الأقْوالِ الواوُ ضَمِيرٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ يَعْنِي الواوَ في (لا يَمْلِكُونَ) عَلامَةً لِلْجَمْعِ كالَّتِي في أكَلُونِي البَراغِيثُ، والفاعِلُ مَنِ (اتَّخَذَ) لِأنَّهُ في مَعْنى الجَمْعِ. انْتَهى. ولا يَنْبَغِي حَمْلُ القُرْآنِ عَلى هَذِهِ اللُّغَةِ القَلِيلَةِ مَعَ وُضُوحِ جَعْلِ الواوِ ضَمِيرًا. وذَكَرَ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ أنَّها لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ. وأيْضًا قالُوا: والألِفُ والنُّونُ الَّتِي تَكُونُ عَلاماتٍ لا ضَمائِرَ لا يُحْفَظُ ما يَجِيءُ بَعْدَها فاعِلًا إلّا بِصَرِيحِ الجَمْعِ وصَرِيحِ التَّثْنِيَةِ أوِ العَطْفِ، إمّا أنْ تَأْتِيَ بِلَفْظٍ مُفْرَدٍ يُطْلَقُ عَلى جَمْعٍ أوْ عَلى مُثَنًّى فَيَحْتاجُ في إثْباتِ ذَلِكَ إلى نَقْلٍ، وإمّا عَوْدُ الضَّمائِرِ مُثَنّاةً ومَجْمُوعَةً عَلى مُفْرَدٍ في اللَّفْظِ يُرادُ بِهِ المُثَنّى والمَجْمُوعُ فَمَسْمُوعٌ مَعْرُوفٌ في لِسانِ العَرَبِ، عَلى أنَّهُ يُمْكِنُ قِياسُ هَذِهِ العَلاماتِ عَلى تِلْكَ الضَّمائِرِ، ولَكِنَّ الأحْفَظَ أنْ لا يُقالَ ذَلِكَ إلّا بِسَماعٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ يَعْنِي (مَنِ) عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ المُضافِ، أيْ: إلّا شَفاعَةَ مَنِ (اتَّخَذَ) . والعَهْدُ هُنا. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وفي الحَدِيثِ «مَن قالَ: ”لا إلَهَ إلّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ“» . وقالَ السُّدِّيُّ: العَهْدُ الطّاعَةُ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: العَمَلُ الصّالِحُ. وقالَ اللَّيْثُ: حَفِظَ كِتابَ اللَّهِ. وقِيلَ: عَهْدُ اللَّهِ إذْنُهُ لِمَن شاءَ في الشَّفاعَةِ، مِن عَهِدَ الأمِيرُ إلى فُلانٍ بِكَذا، أيْ: أمَرَهُ بِهِ، أيْ: لا يَشْفَعُ إلّا المَأْمُورُ بِالشَّفاعَةِ المَأْذُونُ لَهُ فِيها. ويُؤَيِّدُهُ ﴿ولا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إلّا لِمَن أذِنَ لَهُ﴾ [سبإ: ٢٣] ﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ [طه: ١٠٩] . ﴿لا تُغْنِي شَفاعَتُهم شَيْئًا إلّا مِن بَعْدِ أنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشاءُ ويَرْضى﴾ [النجم: ٢٦] . (p-٢١٨)وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المُجْرِمُونَ يَعُمُّ الكَفَرَةَ والعُصاةَ، ثُمَّ أخْبَرَ أنَّهم ﴿لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ﴾ إلّا العُصاةُ المُؤْمِنُونَ فَإنَّهم سَيُشْفَعُ فِيهِمْ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا. وفي الحَدِيثِ: «لا أزالُ أشْفَعُ حَتّى أقُولَ يا رَبِّ شَفَّعْنِي فِيمَن قالَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَيَقُولُ: يا مُحَمَّدُ إنَّها لَيْسَتْ لَكَ ولَكِنَّها لِي» انْتَهى. وحَمْلُ المُجْرِمِينَ عَلى الكُفّارِ والعُصاةِ بَعِيدٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أيْضًا: ويَحْتَمِلُ أنْ يُرادَ بِـ (مَنِ اتَّخَذَ) مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبِالشَّفاعَةِ الخاصَّةِ لِمُحَمَّدٍ العامَّةَ لِلنّاسِ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: ٧٩] والضَّمِيرُ في (لا يَمْلِكُونَ) لِأهْلِ المَوْقِفِ. انْتَهى. وفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. ﴿وقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا﴾ الضَّمِيرُ في (قالُوا) عائِدٌ عَلى بَعْضِ اليَهُودِ حَيْثُ قالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وبَعْضِ النَّصارى حَيْثُ قالُوا المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وبَعْضُ مُشْرِكِي العَرَبِ حَيْثُ قالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ﴾، أيْ: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ﴾ أوْ يَكُونُ التِفاتًا خَرَجَ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ، زِيادَةُ تَسْجِيلٍ عَلَيْهِمْ بِالجُرْأةِ عَلى اللَّهِ والتَّعَرُّضِ لِسُخْطِهِ وتَنْبِيهٌ عَلى عَظِيمِ ما قالُوا. وقَرَأ الجُمْهُورُ (إدًّا) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِفَتْحِها، أيْ: شَيْئًا إدًّا، حُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المَصْدَرُ مَقامَهُ. وقَرَأ نافِعٌ والكِسائِيُّ (يَكادُ) بِالياءِ مِن تَحْتُ، وكَذا في الشُّورى وهي قِراءَةُ أبِي حَيْوَةَ والأعْمَشِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِالتّاءِ. وقَرَأ (يَنْفَطِرْنَ) مُضارِعُ انْفَطَرَ أبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ وابْنُ عامِرٍ هُنا، وهي قِراءَةُ أبِي بَحْرِيَّةَ والزُّهْرِيِّ وطَلْحَةَ وحُمَيْدٍ واليَزِيدِيِّ ويَعْقُوبَ وأبِي عُبَيْدٍ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ (يَتَفَطَّرْنَ) مُضارِعُ تَفَطَّرَ والَّتِي في الشُّورى قَرَأها أبُو عَمْرٍو وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِالياءِ والنُّونِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِالياءِ والتّاءِ والتَّشْدِيدِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ يَتَصَدَّعْنَ ويَنْبَغِي أنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا لِمُخالَفَتِها سَوادَ المُصْحَفِ المُجْمَعِ عَلَيْهِ، ولِرِوايَةِ الثِّقاةِ عَنْهُ كَقِراءَةِ الجُمْهُورِ. وقالَ الأخْفَشُ (تَكادُ) تُرِيدُ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿أكادُ أُخْفِيها﴾ [طه: ١٥] وأنْشَدَ شاهِدًا عَلى ذَلِكَ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎وكادَتْ وكِدْتُ وتِلْكَ خَيْرُ إرادَةٍ ∗∗∗ لَوْ عادَ مِن زَمَنِ الصَّبابَةِ ما مَضى ولا حُجَّةَ في هَذا البَيْتِ، والمَعْرُوفُ أنَّ الكَيْدُودَةَ مُقارَبَةُ الشَّيْءِ، وهَذِهِ الجُمَلُ عِنْدَ الجُمْهُورِ مِن بابِ الِاسْتِعارَةِ لِبَشاعَةِ هَذا القَوْلِ، أيْ: هَذا حَقُّهُ لَوْ فَهِمَتِ الجَماداتُ قَدْرَهُ وهَذا مَهْيَعٌ لِلْعَرَبِ. قالَ جَرِيرٌ: ؎لَمّا أتى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ ∗∗∗ سُورُ المَدِينَةِ والجِبالُ الخُشَّعُ وقالَ آخَرُ ؎ألَمْ تَرَ صَدْعًا في السَّماءِ مُبَيَّنًا ∗∗∗ عَلى ابْنٍ لِبَنِي الحارِثِ بْنِ هِشامِ وقالَ آخَرُ: ؎فَأصْبَحَ بَطْنُ مَكَّةَ مُقْشَعِرًّا ∗∗∗ كَأنَّ الأرْضَ لَيْسَ بِها هِشامُ وقالَ آخَرُ ؎بَكى حارِثُ الجَوْلانِ مِن فَقْدِ رَبِّهِ ∗∗∗ وحَوْرانُ مِنهُ خاشِعٌ مُتَضائِلُ حارِثُ الجَوْلانِ مَوْضِعٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى انْفِطارِ السَّماواتِ وانْشِقاقِ الأرْضِ وخُرُورِ الجِبالِ، ومِن أيْنَ تُؤْثَرُ هَذِهِ الكَلِمَةُ في الجَماداتِ ؟ قُلْتُ: فِيهِ وجْهانِ أحَدُهُما أنَّ اللَّهَ يَقُولُ: كِدْتُ أفْعَلُ هَذِهِ بِالسَّمَواتِ والأرْضِ والجِبالِ عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الكَلِمَةِ غَضَبًا مِنِّي عَلى مَن تَفَوَّهَ بِها لَوْلا حِلْمِي ووَقارِي، وإنِّي لا أُعَجِّلُ بِالعُقُوبَةِ كَما قالَ ﴿إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [فاطر: ٤١] الآيَةَ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ اسْتِعْظامًا لِلْكَلِمَةِ، وتَهْوِيلًا مِن فَظاعَتِها، وتَصْوِيرًا لِأثَرِها في الدِّينِ وهَدْمِها لِأرْكانِهِ وقَواعِدِهِ، وأنَّ مِثالَ ذَلِكَ الأثَرِ في المَحْسُوساتِ أنْ يُصِيبَ هَذِهِ الأجْرامَ العَظِيمَةَ الَّتِي هي قِوامُ العالَمِ ما تَنْفَطِرُ مِنهُ وتَنْشَقُّ وتَخِرُّ. انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ إنَّ هَذا الكَلامَ فَزِعَتْ مِنهُ السَّماواتُ والأرْضُ والجِبالُ (p-٢١٩)وجَمِيعُ الخَلائِقِ إلّا الثَّقَلَيْنِ وكِدْنَ أنْ يَزُلْنَ مِنهُ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعالى. وقِيلَ: المَعْنى كادَتِ القِيامَةُ أنْ تَقُومَ فَإنَّ هَذِهِ الأشْياءَ تَكُونُ حَقِيقَةً يَوْمَ القِيامَةِ. وقِيلَ: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ﴾، أيْ: تَسْقُطُ عَلَيْهِمْ ﴿وتَنْشَقُّ الأرْضُ﴾، أيْ: تُخْسَفُ بِهِمْ ﴿وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا﴾، أيْ: تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: تَكادُ تَفْعَلُ ذَلِكَ لَوْ كانَتْ تَعْقِلُ مِن غِلَظِ هَذا القَوْلِ، وانْتَصَبَ (هَدًّا) عِنْدَ النَّحّاسِ عَلى المَصْدَرِ قالَ: لِأنَّ مَعْنى (تَخِرُّ) تَنْهَدُّ. انْتَهى. وهَذا عَلى أنْ يَكُونَ (هَدًّا) مَصْدَرًا لِهَدَّ الحائِطُ يَهِدُّ بِالكَسْرِ هَدِيدًا وهَدًّا وهو فِعْلٌ لازِمٌ. وقِيلَ (هَدًّا) مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: مَهْدُودَةً، وهَذا عَلى أنْ يَكُونَ (هَدًّا) مَصْدَرُ هَدَّ الحائِطَ إذا هَدَمَهُ وهو فِعْلٌ مُتَعَدٍّ، وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ، أيْ: لِأنَّها تُهَدُّ، وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ في ﴿أنْ دَعَوْا﴾ ثَلاثَةَ أوْجُهٍ. قالَ: أنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بَدَلًا مِنَ الهاءِ في مِنهُ كَقَوْلِهِ: ؎عَلى حالَةٍ لَوْ أنَّ في القَوْمِ حاتِمًا ∗∗∗ عَلى جُودِهِ لَضَنَّ بِالماءِ حاتِمُ وهَذا فِيهِ بُعْدٌ لِكَثْرَةِ الفَصْلِ بَيْنَ البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ لِجُمْلَتَيْنِ، قالَ: ومَنصُوبًا بِتَقْدِيرِ سُقُوطِ اللّامِ وإفْضاءِ الفِعْلِ، أيْ: (هَدًّا)؛ لِأنَّ دَعَوْا عَلَّلَ الخُرُورَ بِالهَدِّ، والهَدُّ بِدُعاءِ الوَلَدِ لِلرَّحْمَنِ، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ؛ لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ (هَدًّا) لا يَكُونُ مَفْعُولًا بَلْ مَصْدَرٌ مِن مَعْنى (وتَخِرُّ) أوْ في مَوْضِعِ الحالِ، قالَ: ومَرْفُوعًا بِأنَّهُ فاعِلُ (هَدًّا)، أيْ: هَدَّها دُعاءُ الوَلَدِ لِلرَّحْمَنِ، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ؛ لِأنَّ ظاهِرَ (هَدًّا) أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا تَوْكِيدِيًّا، والمَصْدَرُ التَّوْكِيدِيُّ لا يَعْمَلُ ولَوْ فَرَضْناهُ غَيْرَ تَوْكِيدٍ لَمْ يَعْمَلْ بِقِياسٍ، إلّا إنْ كانَ أمْرًا أوْ مُسْتَفْهَمًا عَنْهُ، نَحْوَ ضَرْبًا زَيْدًا، واضْرِبا زَيْدًا عَلى خِلافٍ فِيهِ. وأمّا إنْ كانَ خَبَرًا كَما قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أيْ: هَدَّها دُعاءُ الرَّحْمَنِ فَلا يَنْقاسُ بَلْ ما جاءَ مِن ذَلِكَ هو نادِرٌ كَقَوْلِهِ: ؎وُقُوفًا بِها صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيُّهُمْ أيْ وقَفَ صَحْبِي. وقالَ الحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ ﴿أنْ دَعَوْا﴾ في مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ لَهُ، ولَمْ يُبَيِّنا العامِلَ فِيهِ. وقالَ أبُو البَقاءِ أيْضًا: هو في مَوْضِعِ جَرٍّ عَلى تَقْدِيرِ اللّامِ، قالَ: وفي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أيْ: المُوجِبُ لِذَلِكَ دُعاؤُهم، ومَعْنى (دَعَوْا) سَمَّوْا وهي تَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ حُذِفَ الأوَّلُ مِنهُما، والتَّقْدِيرُ سَمَّوْا مَعْبُودَهم ولَدًا لِلرَّحْمَنِ، أيْ: بِوَلَدٍ لِأنَّ دَعا هَذِهِ تَتَعَدّى لِاثْنَيْنِ، ويَجُوزُ دُخُولُ الباءِ عَلى الثّانِي تَقُولُ: دَعَوْتُ ولَدِي بِزَيْدٍ، أوْ دَعَوْتُ ولَدِي زَيْدًا. وقالَ الشّاعِرُ: ؎دَعَتْنِي أخاها أُمُّ عَمْرٍو ولَمْ أكُنْ ∗∗∗ أخاها ولَمْ أرْضَعْ لَها بِلِبانِ وقالَ آخَرُ: ؎ألا رُبَّ مَن يَدَّعِي نَصِيحًا وإنْ يَغِبْ ∗∗∗ تَجِدْهُ بِغَيْبٍ مِنكَ غَيْرَ نَصِيحِ وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اقْتَصَرَ عَلى أحَدِهِما الَّذِي هو الثّانِي طَلَبًا لِلْعُمُومِ والإحاطَةِ بِكُلِّ ما دَعا لَهُ ولَدًا، قالَ أوْ مِن دَعا بِمَعْنى نَسَبَ الَّذِي مُطاوِعُهُ ما في قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «مَنِ ادَّعى إلى غَيْرِ مَوالِيهِ» . وقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎إنّا بَنِي نَهْشَلٍ لا نَدَّعِي لِأبٍ أيْ لا نَنْتَسِبُ إلَيْهِ. انْتَهى. وكَوْنُ (دَعَوْا) هُنا بِمَعْنى سَمَّوْا هو قَوْلُ الأكْثَرِينَ. وقِيلَ: (دَعَوْا) بِمَعْنى جَعَلُوا. و(يَنْبَغِي) مُطاوِعٌ لِبَغى بِمَعْنى طَلَبَ، أيْ: وما يَتَأتّى لَهُ اتِّخاذُ الوَلَدِ؛ لِأنَّ التَّوالُدَ مُسْتَحِيلٌ والتَّبَنِّي لا يَكُونُ إلّا فِيما هو مِن جِنْسِ المُتَبَنّى، ولَيْسَ لَهُ تَعالى جِنْسٌ و(يَنْبَغِي) لَيْسَ مِنَ الأفْعالِ الَّتِي لا تَتَصَرَّفُ بَلْ سُمِعَ لَها الماضِي قالُوا: انْبَغى وقَدْ عَدَّها ابْنُ مالِكٍ في التَّسْهِيلِ مِنَ الأفْعالِ الَّتِي لا تَتَصَرَّفُ وهو غَلَطٌ و(مَن) مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى الَّذِي، أيْ: ما كُلُّ الَّذِي في السَّماواتِ و(كُلُّ) تَدْخُلُ عَلى الَّذِي لِأنَّها تَأْتِي لِلْجِنْسِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ﴾ [الزمر: ٣٣] ونَحْوُ: وكُلُّ الَّذِي حَمَّلْتَنِي أتَحَمَّلُ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (مَن) مَوْصُوفَةٌ لِأنَّها وقَعَتْ بَعْدَ (كُلُّ) نَكِرَةً (p-٢٢٠)وُقُوعَها بَعْدَ رُبَّ في قوله: ؎رُبَّ مَن أنْضَجْتُ غَيْظًا صَدْرَهُ انْتَهى. والأوْلى جَعْلُها مَوْصُولَةً؛ لِأنَّ كَوْنَها مَوْصُوفَةً بِالنِّسْبَةِ إلى المَوْصُولَةِ قَلِيلٌ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وابْنُ الزُّبَيْرِ وأبُو حَيْوَةَ وطَلْحَةُ وأبُو بَحْرِيَّةَ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ ويَعْقُوبُ (إلّا آتٍ) بِالتَّنْوِينِ ”الرَّحْمَنَ“ بِالنَّصْبِ والجُمْهُورُ بِالإضافَةِ و”آتِي“ خَبَرُ ”كُلُّ“ وانْتَصَبَ ”عَبْدًا“ عَلى الحالِ. وتَكَرَّرَ لَفْظُ ”الرَّحْمَنِ“ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ هَذا الِاسْمَ غَيْرُهُ؛ إذْ أُصُولُ النِّعَمِ وفُرُوعُها مِنهُ، ومَن في السَّماواتِ والأرْضِ يَشْمَلُ مَنِ اتَّخَذُوهُ مَعْبُودًا مِنَ المَلائِكَةِ وعِيسى وعُزَيْرًا بِحُكْمِ ادِّعائِهِمْ صِحَّةَ التَّوالُدِ أوْ بِحُكْمِ زَعْمِهِمْ ذَلِكَ فَأشْرَكُوهم في العِبادَةِ؛ إذْ خِدْمَةُ الأبْناءِ خِدْمَةُ الآباءِ، فَأخْبَرَ تَعالى أنَّهُ ما مِن مَعْبُودٍ لَهم في السَّماواتِ أوْ في الأرْضِ إلّا يَأْتِي الرَّحْمَنَ عَبْدًا مُنْقادًا لا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِمّا نَسَبُوهُ إلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ ”أحْصاهم“ وأحاطَ بِهِمْ وحَصَرَهم بِالعَدَدِ، فَلَمْ يَفُتْهُ أحَدٌ مِنهم وانْتَصَبَ ”فَرْدًا“ عَلى الحالِ، أيْ: مُنْفَرِدًا لَيْسَ مَعَهُ أحَدٌ مِمَّنْ جَعَلُوهُ شَرِيكًا لَهُ، وخَبَرُ ”كُلُّهم آتِيهِ“ ”فَرْدًا“ وكُلُّ إذا أُضِيفَ إلى مَعْرِفَةٍ مَلْفُوظٍ بِها نَحْوِ كُلِّهِمْ وكُلِّ النّاسِ فالمَنقُولُ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا عَلى لَفْظِ كُلِّ، فَتَقُولُ: كُلُّكم ذاهِبٌ، ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ جَمْعًا مُراعاةً لِلْمَعْنى فَتَقُولُ: كُلُّكم ذاهِبُونَ. وحَكى إبْراهِيمُ بْنُ أصْبَغَ في كِتابِ رُءُوسِ المَسائِلِ الِاتِّفاقَ عَلى جَوازِ الوَجْهَيْنِ، وعَلى الجَمْعِ جاءَ لَفْظُ الزَّمَخْشَرِيِّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ في الكَشّافِ ”وكُلُّهم“ مُتَقَلِّبُونَ في مَلَكُوتِهِ مَقْهُورُونَ بِقَهْرِهِ، وقَدْ خَدَشَ في ذَلِكَ أبُو زَيْدٍ السُّهَيْلِيُّ فَقالَ: كُلٌّ إذا ابْتُدِئَتْ وكانَتْ مُضافَةً لَفْظًا يَعْنِي إلى مَعْرِفَةٍ فَلا يَحْسُنُ إلّا إفْرادُ الخَبَرِ حَمْلًا عَلى المَعْنى، تَقُولُ: كُلُّكم ذاهِبٌ، أيْ: كُلُّ واحِدٍ مِنكم ذاهِبٌ، هَكَذا هَذِهِ المَسْألَةُ في القُرْآنِ والحَدِيثِ والكَلامِ الفَصِيحِ فَإنْ قُلْتَ: في قَوْلِهِ ”﴿وكُلُّهم آتِيهِ﴾“ إنَّما هو حَمْلٌ عَلى اللَّفْظِ لِأنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ قُلْنا: بَلْ هو اسْمٌ لِلْجَمْعِ واسْمُ الجَمْعِ لا يُخْبَرُ عَنْهُ بِإفْرادٍ، تَقُولُ: القَوْمُ ذاهِبُونَ، ولا تَقُولُ: القَوْمُ ذاهِبٌ وإنْ كانَ لَفْظُ القَوْمِ كَلَفْظِ المُفْرَدِ، وإنَّما حَسُنَ كُلُّكم ذاهِبٌ لِأنَّهم يَقُولُونَ كُلُّ واحِدٍ مِنكم ذاهِبٌ فَكانَ الإفْرادُ مُراعاةً لِهَذا المَعْنى انْتَهى. ويَحْتاجُ في إثْباتِ كُلُّكم ذاهِبُونَ بِالجَمْعِ ونَحْوِهِ إلى سَماعٍ ونَقْلٍ عَنِ العَرَبِ، أمّا إنْ حُذِفَ المُضافُ المَعْرِفَةُ فالمَسْمُوعُ مِنَ العَرَبِ الوَجْهانِ. والسِّينُ في ”سَيَجْعَلُ“ لِلِاسْتِقْبالِ فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ هَذا الجَعْلُ في الدُّنْيا، وجِيءَ بِأداةِ الِاسْتِقْبالِ؛ لِأنَّ المُؤْمِنِينَ كانُوا بِ مَكَّةَ حالَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وكانُوا مَمْقُوتِينَ مِنَ الكَفَرَةِ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ إذا ظَهَرَ الإسْلامُ وفَشا. واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ في الدُّنْيا عَلى الإطْلاقِ كَما في التِّرْمِذِيِّ. قالَ: ”«إذا أحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نادى جِبْرِيلَ إنِّي قَدْ أحْبَبْتُ فُلانًا فَأحِبَّهُ، قالَ: فَيُنادِي في السَّماءِ ثُمَّ تَنْزِلُ لَهُ المَحَبَّةُ في الأرْضِ“ قالَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ”﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾“» إلى آخِرِ الحَدِيثِ وقالَ: هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ الآيَةُ مُتَّصِلَةً بِما قَبْلَها في المَعْنى، أيْ: أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أخْبَرَ عَنْ إتْيانِ كُلِّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ في حالِ العُبُودِيَّةِ والِانْفِرادِ، أنَّسَ المُؤْمِنِينَ بِأنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهم في ذَلِكَ اليَوْمِ ”وُدًّا“ وهو ما يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِن كَرامَتِهِ؛ لِأنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ إنَّما هي ما يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِن نِعَمِهِ وأماراتِ غُفْرانِهِ. انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإمّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ يُحَبِّبُهم إلى خَلْقِهِ بِما يَعْرِضُ مِن حَسَناتِهِمْ ويَنْشُرُ مِن دِيوانِ أعْمالِهِمْ. وقالَ أيْضًا: والمَعْنى سَيُحْدِثُ لَهم في القُلُوبِ مَوَدَّةً ويَزْرَعُها لَهم فِيها مِن غَيْرِ تَوَدُّدٍ مِنهم ولا تَعَرُّضٍ لِلْأسْبابِ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِها النّاسُ مَوَدّاتِ القُلُوبِ مِن قُرابَةٍ أوْ صَداقَةٍ أوِ اصْطِناعِ مَبَرَّةٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وإنَّما هو اخْتِراعٌ مِنهُ ابْتِداءً اخْتِصاصًا مِنهُ لِأوْلِيائِهِ بِكَرامَةٍ خاصَّةٍ، كَما قَذَفَ في قُلُوبِ أعْدائِهِمُ الرُّعْبَ والهَيْبَةَ إعْظامًا وإجْلالًا لِمَكانِهِمْ. انْتَهى. وقِيلَ: في الكَلامِ حَذْفٌ والتَّقْدِيرُ سَيُدْخِلُهم دارَ كَرامَتِهِ (p-٢٢١)ويَجْعَلُ لَهم ”وُدًّا“ بِسَبَبِ نَزْعِ الغِلِّ مِن صُدُورِهِمْ بِخِلافِ الكُفّارِ، فَإنَّهم يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُهم بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُهم بَعْضًا، وفي النّارِ أيْضًا يَتَبَرَّأُ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ”وُدًّا“ بِضَمِّ الواوِ. وقَرَأ أبُو الحارِثِ الحَنَفِيُّ بِفَتْحِها. وقَرَأ جَناحُ بْنُ حُبَيْشٍ ”وِدًّا“ بِكَسْرِ الواوِ. قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، كانَ اليَهُودُ والنَّصارى والمُنافِقُونَ يُحِبُّونَهُ، وكانَ لَمّا هاجَرَ مِن مَكَّةَ اسْتَوْحَشَ بِالمَدِينَةِ فَشَكا ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في المُهاجِرِينَ إلى الحَبَشَةِ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أبِي طالِبٍ ألْقى اللَّهُ لَهم وُدًّا في قَلْبِ النَّجاشِيِّ، وذَكَرَ النَّقّاشُ أنَّها نَزَلَتْ في عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ. وقالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الحَنَفَيَّةِ: لا تَجِدُ مُؤْمِنًا إلّا وهو يُحِبُّ عَلِيًّا وأهْلَ بَيْتِهِ. انْتَهى. ومِن غَرِيبِ هَذا ما أنْشَدَنا الإمامُ اللُّغَوِيُّ رَضِيُّ الدِّينِ أبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ الأنْصارِيُّ الشّاطِبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى - لِزَيْنَبَ بِنْتِ إسْحاقَ النَّصْرانِيِّ الرَّسْعَنِيِّ: ؎عَدِيٌّ وتَيْمٌ لا أُحاوِلُ ذِكْرَهم ∗∗∗ بِسُوءٍ ولَكِنِّي مُحِبٌّ لِهاشِمِ ؎وما تَعْتَرِينِي في عَلِيٍّ ورَهْطِهِ ∗∗∗ إذا ذُكِرُوا في اللَّهِ لَوْمَةُ لائِمِ ؎يَقُولُونَ ما بالُ النَّصارى تُحِبُّهم ∗∗∗ وأهْلُ النُّهى مِن أعْرُبٍ وأعاجِمِ ؎فَقُلْتُ لَهم إنِّي لَأحْسَبُ حُبَّهم ∗∗∗ سَرى في قُلُوبِ الخَلْقِ حَتّى البَهائِمِ وذَكَرَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ أنَّ بُغْضَ عَلِيٍّ مِنَ الكَبائِرِ. والضَّمِيرُ في ”يَسَّرْناهُ“ عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، أيْ: أنْزَلْناهُ عَلَيْكَ مُيَسَّرًا سَهْلًا ”بِلِسانِكَ“، أيْ: بِلُغَتِكَ وهو اللِّسانُ العَرَبِيُّ المُبِينُ. ”﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ﴾“، أيْ: تُخْبِرُهم بِما يَسُرُّهم وبِما يَكُونُ لَهم مِنَ الثَّوابِ عَلى تَقْواهم واللُّدُّ جَمْعٌ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ”لُدًّا“ ظُلْمَةً، ومُجاهِدٌ: فُجّارًا، والحَسَنُ: صُمًّا، وأبُو صالِحٍ: عِوَجًا عَنِ الحَقِّ، وقَتادَةُ: ذَوِي جَدَلٍ بِالباطِلِ آخِذِينَ في كُلِّ لَدِيدٍ بِالمِراءِ، أيْ: في كُلِّ جانِبٍ لِفَرْطِ لُجاجِهِمْ يُرِيدُ أهْلَ مَكَّةَ. ”﴿وكَمْ أهْلَكْنا﴾“ تَخْوِيفٌ لَهم وإنْذارٌ بِالإهْلاكِ بِالعَذابِ والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ ”قَبْلَهم“ عائِدٌ عَلى ”﴿قَوْمًا لُدًّا﴾“ و”﴿هَلْ تُحِسُّ﴾“ اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ النَّفْيُ، أيْ: لا تُحِسُّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”﴿هَلْ تُحِسُّ﴾“ مُضارِعُ أحَسَّ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ وأبُو بَحْرِيَّةَ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ وأبُو جَعْفَرٍ المَدَنِيُّ ”تَحُسُّ“ بِفَتْحِ التّاءِ وضَمِّ الحاءِ. وقُرِئَ ”تَحِسُّ“ مِن حَسَّهُ إذا شَعَرَ بِهِ ومِنهُ الحَواسُّ والمَحْسُوساتُ. وقَرَأ حَنْظَلَةُ ”أوْ تُسْمَعُ“ مُضارِعُ أُسْمِعَتْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الرِّكْزُ الصَّوْتُ الخَفِيُّ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ الحِسُّ. وقالَ الحَسَنُ: لَمّا أتاهم عَذابُنا لَمْ يَبْقَ مِنهم شَخْصٌ يُرى ولا صَوْتٌ يُسْمَعُ. وقِيلَ: المَعْنى ماتُوا ونُسِيَ ذِكْرُهم فَلا يُخْبِرُ عَنْهم مُخْبِرٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب