الباحث القرآني

﴿قُلْ مَن كانَ في الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتّى إذا رَأوْا ما يُوعَدُونَ إمّا العَذابَ وإمّا السّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَن هو شَرٌّ مَكانًا وأضْعَفُ جُنْدًا﴾ ﴿ويَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى والباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وخَيْرٌ مَرَدًّا﴾ ﴿أفَرَأيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا ووَلَدًا﴾ ﴿أطَّلَعَ الغَيْبَ أمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ ﴿كَلّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ونَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذابِ مَدًّا﴾ ﴿ونَرِثُهُ ما يَقُولُ ويَأْتِينا فَرْدًا﴾ ﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهم عِزًّا﴾ ﴿كَلّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ويَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ . (p-٢١٢)(فَلْيَمْدُدْ) يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ عَلى مَعْناهُ مِنَ الطَّلَبِ ويَكُونُ دُعاءً، وكانَ المَعْنى: الأضَلُّ مِنّا ومِنكم مَدَّ اللَّهُ لَهُ، أيْ: أمْلى لَهُ حَتّى يَئُولَ إلى عَذابِهِ. وكان الدُّعاءُ عَلى صِيغَةِ الطَّلَبِ لِأنَّهُ الأصْلُ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا في المَعْنى وصُورَتُهُ صُورَةُ الأمْرِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: مَن كانَ ضالًّا مِنَ الأُمَمِ فَعادَةُ اللَّهِ لَهُ أنَّهُ يَمْدُدُ لَهُ ولا يُعاجِلُهُ حَتّى يُفْضِيَ ذَلِكَ إلى عَذابِهِ في الآخِرَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُخْرِجَ عَلى لَفْظِ الأمْرِ إيذانًا بِوُجُوبِ ذَلِكَ، وإنَّهُ مَفْعُولٌ لا مَحالَةَ كالمَأْمُورِ بِهِ المُمْتَثَلِ لِيَقْطَعَ مَعاذِيرَ الضّالِّ، ويُقالَ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ ﴿أوَلَمْ نُعَمِّرْكم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾ [فاطر: ٣٧] أوْ كَقَوْلِهِ ﴿إنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا﴾ [آل عمران: ١٧٨] والظّاهِرُ أنَّ (حَتّى) غايَةٌ لِقَوْلِهِ (فَلْيَمْدُدْ) والمَعْنى إنَّ الَّذِينَ في الضَّلالَةِ مَمْدُودٌ لَهم فِيها إلى أنْ يُعايِنُوا العَذابَ بِنُصْرَةِ اللَّهِ المُؤْمِنِينَ أوِ السّاعَةَ ومُقَدِّماتِها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: في هَذِهِ الآيَةِ وجْهانِ أحَدُهُما أنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِالآيَةِ الَّتِي هي رابِعَتُها، والآيَتانِ اعْتِراضٌ بَيْنَهُما، أيْ: قالُوا ﴿أيُّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقامًا وأحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣] ﴿حَتّى إذا رَأوْا ما يُوعَدُونَ﴾، أيْ: لا يَبْرَحُونَ يَقُولُونَ هَذا القَوْلَ ويَتَوَلَّعُونَ بِهِ لا يَتَكافُّونَ عَنْهُ إلى أنْ يُشاهِدُوا المَوْعُودَ رَأْيَ عَيْنٍ ﴿إمّا العَذابَ﴾ في الدُّنْيا وهو غَلَبَةُ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وتَعْذِيبُهم إيّاهم قَتْلًا وأسْرًا، وإظْهارُ اللَّهِ دِينَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ عَلى أيْدِيهِمْ وإمّا يَوْمَ القِيامَةِ وما يَنالُهم مِنَ الخِزْيِ والنَّكالِ؛ فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُونَ عِنْدَ المُعايَنَةِ أنَّ الأمْرَ عَلى عَكْسِ ما قَدَّرُوهُ، وأنَّهم ﴿شَرٌّ مَكانًا وأضْعَفُ جُنْدًا﴾ لا ﴿خَيْرٌ مَقامًا وأحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣] وأنَّ المُؤْمِنِينَ عَلى خِلافِ صِفَتِهِمُ. انْتَهى هَذا الوَجْهُ وهو في غايَةِ البُعْدِ لِطُولِ الفَصْلِ بَيْنَ قَوْلِهِ قالُوا: ﴿أيُّ الفَرِيقَيْنِ﴾ [مريم: ٧٣] وبَيْنَ الغايَةِ وفِيهِ الفَصْلُ بِجُمْلَتَيِ اعْتِراضٍ ولا يُجِيزُ ذَلِكَ أبُو عَلِيٍّ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والثّانِي أنْ يَتَّصِلَ بِما يَلِيها فَذَكَرَ نَحْوًا مِمّا قَدَّمْناهُ، وقابَلَ قَوْلَهم ﴿خَيْرٌ مَقامًا﴾ [مريم: ٧٣] بِقَوْلِهِ ﴿شَرٌّ مَكانًا﴾ وقَوْلَهم ﴿وأحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣] بِقَوْلِهِ ﴿وأضْعَفُ جُنْدًا﴾؛ لِأنَّ النَّدِيَّ هو المَجْلِسُ الجامِعُ لِوُجُوهِ القَوْمِ والأعْوانِ والأنْصارِ، والجُنْدُ هُمُ الأعْوانُ والأنْصارُ، و﴿إمّا العَذابَ وإمّا السّاعَةَ﴾ بَدَلٌ مِن (ما) المُفَعْوِلَةِ بِـ (رَأوْا) . و(مَن) مَوْصُولَةٌ مَفْعُولَةٌ بِقَوْلِهِ (فَسَيَعْلَمُونَ) وتَعَدّى إلى واحِدٍ، واسْتِفْهامِيَّةٌ والفِعْلُ قَبْلَها مُعَلَّق، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ. ولَمّا ذَكَرَ إمْدادَ الضّالِّ في ضَلالَتِهِ وارْتِباكَهُ في الِافْتِخارِ بِنِعَمِ الدُّنْيا عَقَّبَ ذَلِكَ بِزِيادَةِ هُدًى لِلْمُهْتَدِي وبِذِكْرِ (الباقِياتِ) الَّتِي هي بَدَلٌ مِن تَنَعُّمِهِمْ في الدُّنْيا الَّذِي يَضْمَحِلُّ ولا يَثْبُتُ. و(مَرَدًّا) مَعْناهُ مَرْجِعًا وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ﴿والباقِياتُ الصّالِحاتُ﴾ [الكهف: ٤٦] في الكَهْفِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (يَزِيدُ) مَعْطُوفٌ عَلى مَوْضِعِ (فَلْيَمْدُدْ)؛ لِأنَّهُ واقِعٌ مَوْقَعَ الخَبَرِ تَقْدِيرُهُ مَن كانَ في الضَّلالَةِ مَدًّا ويَمُدُّ لَهُ الرَّحْمَنُ (ويَزِيدُ)، أيْ: يَزِيدُ في ضَلالِ الضّالِّ بِخِذْلانِهِ، ويَزِيدُ المُهْتَدِينَ هِدايَةً بِتَوْفِيقِهِ انْتَهى. ولا يَصِحَّ أنْ يَكُونَ (ويَزِيدُ) مَعْطُوفًا عَلى مَوْضِعِ (فَلْيَمْدُدْ) سَواءٌ كانَ دُعاءً أمْ خَبَرًا بِصُورَةِ الأمْرِ لِأنَّهُ في مَوْضِعِ الخَبَرِ إنْ كانَتْ (مَن) مَوْصُولَةً أوْ في مَوْضِعِ الجَوابِ إنْ كانَتْ (مَن) شَرْطِيَّةً، وعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ فالجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ ﴿ويَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ عارِيَةٌ مِن ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلى مَن يَرْبِطُ جُمْلَةَ الخَبَرِ بِالمُبْتَدَأِ أوْ جُمْلَةَ الشَّرْطِ بِالجَزاءِ الَّذِي هو فَلْيَمْدُدْ وما عَطَفَ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ المَعْطُوفَ عَلى الخَبَرِ خَبَرٌ، والمَعْطُوفَ عَلى جُمْلَةِ الجَزاءِ جَزاءٌ، وإذا كانَتْ أداةُ الشَّرْطِ اسْمًا لا ظَرْفًا تَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ في جُمْلَةِ الجَزاءِ ضَمِيرُهُ أوْ ما يَقُومُ مَقامَهُ، وكَذا في الجُمْلَةِ المَعْطُوفَةِ عَلَيْها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هي (خَيْرٌ) (ثَوابًا) مِن مُفاخَراتِ الكُفّارِ ﴿وخَيْرٌ مَرَدًّا﴾، أيْ: وخَيْرٌ مَرْجِعًا وعاقِبَةً أوْ مَنفَعَةً مِن قَوْلِهِمْ لَيْسَ لِهَذا الأمْرِ مَرَدٌّ وهَلْ يَرِدُ مَكانِي زَيْدًا. فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ قِيلَ خَيْرٌ ثَوابًا، كانَ لِمُفاخَراتِهِمْ (p-٢١٣)ثَوابٌ حَتّى يُجْعَلَ ثَوابُ الصّالِحاتِ خَيْرًا مِنهُ ؟ قُلْتُ: كَأنَّهُ قِيلَ ثَوابُهُمُ النّارُ عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ. وقَوْلِهِ: ؎شَجْعاءَ جِرَّتُها الذَّمِيلُ تَلُوكُهُ أُصُلًا إذا راحَ المَطِيُّ غِراثا وقَوْلِهِ: ؎تَحِيَّةُ بَيْنَهم ضَرْبٌ وجِيعُ ثُمَّ بَنى عَلَيْهِ خَيْرٌ ثَوابًا وفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّهَكُّمِ الَّذِي هو أغْيَظُ لِلْمُتَهَدِّدِ مِن أنْ يُقالَ لَهُ عِقابُكَ النّارُ. فَإنْ قُلْتَ: فَما وجْهُ التَّفْضِيلِ في الخَبَرِ كانَ لِمَفاخِرِهِمْ شُرَكاءُ فِيهِ ؟ قُلْتُ: هَذا مِن وجِيزِ كَلامِهِمْ، يَقُولُونَ: الصَّيْفُ أحَرُّ مِنَ الشِّتاءِ، أيْ: أبْلَغُ في حَرِّهِ مِنَ الشِّتاءِ في بَرْدِهِ. انْتَهى. ﴿أفَرَأيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا﴾ نَزَلَتْ في العاصِي بْنِ وائِلٍ، عَمِلَ لَهُ خَبّابُ بْنُ الأرَتِّ عَمَلًا وكانَ قَيْنًا، فاجْتَمَعَ لَهُ عِنْدَهُ دَيْنٌ فَتَقاضاهُ، فَقالَ: لا أُنْصِفُكَ حَتّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقالَ خَبّابٌ: لا أكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ويَبْعَثَكَ. فَقالَ العاصِي: أوَمَبْعُوثٌ أنا بَعْدَ المَوْتِ ؟ فَقالَ خَبّابٌ: نَعَمْ، قالَ: فَأْتِ إذا كانَ ذَلِكَ فَسَيَكُونُ لِي مالٌ ووَلَدٌ وعِنْدَ ذَلِكَ أقْضِيكَ دَيْنَكَ. وقالَ الحَسَنُ: نَزَلَتْ في الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، وقَدْ كانَتْ لِلْوَلِيدِ أيْضًا أقْوالٌ تُشْبِهُ هَذا الغَرَضَ، ولَمّا كانَتْ رُؤْيَةُ الأشْياءِ سَبِيلًا إلى الإحاطَةِ بِها وصِحَّةِ الخَبَرِ عَنْها اسْتَعْمَلُوا أرَأيْتَ بِمَعْنى أخْبَرَ، والفاءُ لِلْعَطْفِ أفادَتِ التَّعْقِيبَ، كَأنَّهُ قِيلَ: أخْبَرَ أيْضًا بِقِصَّةِ هَذا الكافِرِ عَقِيبَ قِصَّةِ أُولَئِكَ، والآياتُ: القُرْآنُ والدَّلالاتُ عَلى البَعْثِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (ولَدًا) أرْبَعَتُهُنَّ هُنا، وفي الزُّخْرُفِ بِفَتْحِ اللّامِ والواوِ ويَأْتِي الخِلافُ في نُوحٍ. وقَرَأ الأعْمَشُ وطَلْحَةُ والكِسائِيُّ وابْنُ أبِي لَيْلى وابْنُ عِيسى الأصْبَهانِيُّ، بِضَمِّ الواوِ وإسْكانِ اللّامِ، فَعَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ يَكُونُ المَعْنى عَلى الجِنْسِ لا مَلْحُوظًا فِيهِ الإفْرادُ وإنْ كانَ مُفْرَدَ اللَّفْظِ، وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ فَقِيلَ هو جَمْعٌ كَأسَدٍ وأُسْدٍ، واحْتَجَّ قائِلُ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎ولَقَدْ رَأيْتُ مَعاشِرا ∗∗∗ قَدْ ثَمَّرُوا مالًا ووُلْدا وقِيلَ: هو مُرادِفٌ لِلْوَلَدِ بِالفَتْحَتَيْنِ، واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: ؎فَلَيْتَ فُلانًا كانَ في بَطْنِ أُمِّهِ ∗∗∗ ولَيْتَ فُلانًا كانَ ولَدَ حِمارِ وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ ويَحْيى بْنُ يَعْمُرَ بِكَسْرِ الواوِ وسُكُونِ اللّامِ، والهَمْزَةُ في (أطَّلَعَ) لِلِاسْتِفْهامِ، ولِذَلِكَ عادَلَتْها (أمْ) . وقُرِئَ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ في الِابْتِداءِ وحَذْفِها في الوَصْلِ، عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ لِدَلالَةِ (أمْ) عَلَيْها كَقَوْلِهِ: ؎بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أمْ بِثَمانِ يُرِيدُ أبِسَبْعٍ، وجاءَ التَّرْكِيبُ في (أرَأيْتَ) عَلى الوَضْعِ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ مِن أنَّها تَتَعَدّى لِواحِدٍ تَنْصِبُهُ، ويَكُونُ الثّانِي اسْتِفْهامًا، فَـ (أطَّلَعَ) وما بَعْدَهُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لِأرَأيْتَ، وما جاءَ مِن تَرْكِيبِ أرَأيْتَ بِمَعْنى أخْبِرْنِي عَلى خِلافِ هَذا في الظّاهِرِ يَنْبَغِي أنْ يُرَدَّ إلى هَذا بِالتَّأْوِيلِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿أطَّلَعَ الغَيْبَ﴾ مِن قَوْلِهِمْ: أطَّلَعَ الجَبَلَ إذا ارْتَقى إلى أعْلاهُ واطَّلَعَ الثَّنْيَةَ. قالَ جَرِيرٌ: ؎لاقَيْتُ مُطَّلَعَ الجِبالِ وُعُورًا وتَقُولُ: مُرْ مُطَّلِعًا لِذَلِكَ الأمْرِ، أيْ: عالِيًا لَهُ مالِكًا لَهُ، ولِاخْتِيارِ هَذِهِ الكَلِمَةِ شَأْنٌ تَقُولُ: أوَقَدْ بَلَغَ مِن عَظَمَةِ شَأْنِهِ أنِ ارْتَقى إلى عِلْمِ الغَيْبِ الَّذِي تَوَحَّدَ بِهِ الواحِدُ القَهّارُ، والمَعْنى أنَّ ما ادَّعى أنْ يُؤْتاهُ وتَألّى عَلَيْهِ لا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلّا بِأحَدِ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ، إمّا عِلْمِ الغَيْبِ، وإمّا عَهْدٍ مِن عالِمِ الغَيْبِ فَبِأيِّهِما تَوَصَّلَ إلى ذَلِكَ. والعَهْدُ. قِيلَ كَلِمَةُ الشَّهادَةِ. وقالَ قَتادَةُ: هَلْ لَهُ عَمَلٌ صالِحٌ قَدَّمَهُ فَهو يَرْجُو بِذَلِكَ ما يَقُولُ. وعَنِ الكَلْبِيِّ: هَلْ عَهِدَ اللَّهُ إلَيْهِ أنْ يُؤْتِيَهُ ذَلِكَ. و(كَلّا) رَدْعٌ وتَنْبِيهٌ عَلى الخَطَأِ الَّذِي هو مُخْطِئٌ فِيما تَصَوَّرَهُ لِنَفْسِهِ ويَتَمَنّاهُ فَلْيَرْتَدِعْ عَنْهُ. وقَرَأ أبُو نَهِيكٍ (كَلًّا) بِالتَّنْوِينِ فِيهِما هُنا وهو مَصْدَرٌ مِن كَلَّ السَّيْفُ كَلًّا إذا نَبا عَنِ الضَّرِيبَةِ، وانْتِصابُهُ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ مِن لَفْظِهِ وتَقْدِيرُهُ كَلُوا كَلّا عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ أوْ عَنِ الحَقِّ ونَحْوِ ذَلِكَ. (p-٢١٤)وكَنّى بِالكِتابَةِ عَنْ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْها مِنَ الجَزاءِ. فَلِذَلِكَ دَخَلَتِ السِّينُ الَّتِي لِلِاسْتِقْبالِ، أيْ: (سَنُجازِيهِ) عَلى ما يَقُولُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: سَيَظْهَرُ لَهُ ونُعْلِمُهُ أنّا كَتَبْنا قَوْلَهُ عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: ؎إذا ما انْتَسَبْنا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ أيْ تَبَيَّنَ وعَلِمَ بِالِانْتِسابِ أنِّي لَسْتُ ابْنَ لَئِيمَةٍ. والثّانِي: أنَّ المُتَوَعِّدَ يَقُولُ لِلْجانِي سَوْفَ أنْتَقِمُ مِنكَ يَعْنِي أنَّهُ لا يَبْخَلُ بِالِانْتِصارِ وإنْ تَطاوَلَ بِهِ الزَّمانُ، واسْتَأْخَرَ فَجَرَّدَها هُنا لِمَعْنى الوَعِيدِ انْتَهى. وقَرَأ الجُمْهُورُ (سَنَكْتُبُ) بِالنُّونِ، والأعْمَشُ بِياءٍ مَضْمُومَةٍ، والتّاءُ مَفْتُوحَةٌ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وذُكِرَتْ عَنْ عاصِمٍ. (ونَمُدُّ) أيْ: نُطَوِّلُ لَهُ (مِنَ العَذابِ) الَّذِي يُعَذَّبُ بِهِ المُسْتَهْزِئُونَ أوْ نَزِيدُهُ مِنَ العَذابِ ونُضاعِفُ لَهُ المَدَدَ. وقَرَأعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ ﴿ونَمُدُّ لَهُ﴾، يُقالُ مَدَّهُ وأمَدَّهُ بِمَعْنًى. ﴿ونَرِثُهُ ما يَقُولُ﴾، أيْ: نَسْلُبُهُ المالَ والوَلَدَ فَنَكُونُ كالوارِثِ لَهُ. وقالَ الكَلْبِيُّ: نَجْعَلُ ما يَتَمَنّى مِنَ الجَنَّةِ لِغَيْرِهِ. وقالَ أبُو سُهَيْلٍ: نَحْرِمُهُ ما يَتَمَنّاهُ مِنَ المالِ والوَلَدِ ونَجْعَلُهُ لِغَيْرِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَحْتَمِلُ أنَّهُ قَدْ تَمَنّى وطَمِعَ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ في الدُّنْيا مالًا ووَلَدًا، وبَلَغَتْ بِهِ أشْعَبِيَّتُهُ أنْ تَألّى عَلى اللَّهِ في قَوْلِهِ (لَأُوتَيَنَّ) لِأنَّهُ جَوابُ قَسَمٍ مُضْمَرٍ، ومَن يَتَألَّ عَلى اللَّهِ يُكَذِّبْهُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وعَلا: هَبْ أنّا أعْطَيْناهُ ما اشْتَهاهُ، إمّا نَرِثُهُ مِنهُ في العاقِبَةِ ﴿ويَأْتِينا فَرْدًا﴾ غَدًا، بِلا مالٍ ولا ولَدٍ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى﴾ [الأنعام: ٩٤] الآيَةَ فَما يُجْدِي عَلَيْهِ تَمَنِّيهِ وتَألِّيهِ. ويَحْتَمِلُ أنَّ هَذا القَوْلَ إنَّما يَقُولُهُ ما دامَ حَيًّا، فَإذا قَبَضْناهُ حُلْنا بَيْنَهُ وبَيْنَ أنْ يَقُولَهُ (ويَأْتِينا) رافِضًا لَهُ (مُنْفَرِدًا) عَنْهُ غَيْرَ قائِلٍ لَهُ. انْتَهى. وقالَ النَّحّاسُ: ﴿ونَرِثُهُ ما يَقُولُ﴾ مَعْناهُ نَحْفَظُهُ عَلَيْهِ لِلْعاقِبَةِ ومِنهُ: العُلَماءُ ورَثَةُ الأنْبِياءِ، أيْ: حَفَظَةُ ما قالُوهُ. انْتَهى. و(فَرْدًا) تَتَضَمَّنُ ذِلَّتَهُ وعَدَمَ أنْصارِهِ، و(يَقُولُ) صِلَةُ (ما)، مُضارِعٌ والمَعْنى عَلى الماضِي، أيْ: ما قالَ. والضَّمِيرُ في (واتَّخَذُوا) لِعِبادَةِ الأصْنامِ وقَدْ تَقَدَّمَ ما يَعُودُ عَلَيْهِ وهُمُ الظّالِمُونَ في قَوْلِهِ ﴿ونَذَرُ الظّالِمِينَ﴾ [مريم: ٧٢] فَكُلُّ ضَمِيرٍ جُمِعَ ما بَعْدَهُ عائِدٌ عَلَيْهِ إنْ كانَ مِمّا يُمْكِنُ عَوْدُهُ عَلَيْهِ، واللّامُ في (لِيَكُونُوا) لامُ كَيْ، أيْ: (لِيَكُونُوا)، أيِ: الآلِهَةُ ﴿لَهم عِزًّا﴾ يَتَعَزَّزُونَ بِها في النُّصْرَةِ والمَنفَعَةِ والإنْقاذِ مِنَ العَذابِ. (كَلّا) قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (كَلّا) رَدْعٌ لَهم وإنْكارٌ لِتَعَزُّزِهِمْ بِالآلِهَةِ. وقَرَأ ابْنُ نَهِيكٍ ﴿كَلّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ﴾، أيْ: سَيَجْحَدُونَ ﴿كَلّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ﴾ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ مَرَرْتُ بِغُلامِهِ، وفي مُحْتَسَبِ ابْنِ جِنِّي (كَلًّا) بِفَتْحِ الكافِ والتَّنْوِينِ، وزَعَمَ أنَّ مَعْناهُ كَلَّ هَذا الرَّأْيِ والِاعْتِقادِ كَلًّا، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ إنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوايَةُ فَهي (كَلّا) الَّتِي لِلرَّدْعِ، قَلَبَ الواقِفُ عَلَيْها ألِفَها نُونًا كَما في (قَوارِيرا) . انْتَهى. فَقَوْلُهُ وقَرَأ ابْنُ نَهِيكٍ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ خالَوَيْهِ وصاحِبُ اللَّوامِحِ وابْنُ عَطِيَّةَ وأبُو نَهِيكٍ بِالكُنْيَةِ وهو الَّذِي يُحْكى عَنْهُ القِراءَةُ في الشَّواذِّ وأنَّهُ قَرَأ (كَلًّا) بِفَتْحِ الكافِ والتَّنْوِينِ، وكَذا حَكاهُ عَنْهُ أبُو الفَتْحِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وهو يَعْنِي (كَلًّا) نَعْتٌ لِلْآلِهَةِ قالَ: وحَكى عَنْهُ - أيْ: عَنْ أبِي نَهِيكٍ - أبُو عَمْرٍو الدّانِيُّ (كُلًّا) بِضَمِّ الكافِ والتَّنْوِينِ وهو مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ (سَيَكْفُرُونَ) تَقْدِيرُهُ يَرْفُضُونَ أوْ يَتْرُكُونَ أوْ يَجْحَدُونَ أوْ نَحْوُهُ. وأمّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ إلى آخِرِهِ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّهُ قالَ: إنَّها الَّتِي لِلرَّدْعِ، والَّتِي لِلرَّدْعِ حَرْفٌ ولا وجْهَ لِقَلْبِ ألِفَها نُونًا، وتَشْبِيهُهُ (بِقَوارِيرا) لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّ (قَوارِيرا) اسْمٌ رَجَعَ بِهِ إلى أصْلِهِ، فالتَّنْوِينُ لَيْسَ بَدَلًا مِن ألِفٍ بَلْ هو تَنْوِينُ الصَّرْفِ. وهَذا الجَمْعُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ أيَتَحَتَّمُ مَنعُ صَرْفِهِ أمْ يَجُوزُ ؟ قَوْلانِ، ومَنقُولٌ أيْضًا أنَّ لُغَةً لِلْعَرَبِ يَصْرِفُونَ ما لا يَنْصَرِفُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، فَهَذا التَّنْوِينُ إمّا عَلى قَوْلِ مَن لا يَرى بِالتَّحَتُّمِ أوْ عَلى تِلْكَ اللُّغَةِ. وذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أبِي نَهِيكٍ أنَّهُ قَرَأ (كُلٌّ) بِضَمِّ الكافِ ورَفْعِ اللّامِ، ورَفْعُهُ عَلى الِابْتِداءِ، والجُمْلَةُ بَعْدَهُ الخَبَرُ، وتَقَدَّمَ ظاهِرٌ وهو الآلِهَةُ، وتَلاهُ ضَمِيرٌ في قَوْلِهِ لِيَكُونُوا فالأظْهَرُ أنَّ (p-٢١٥)الضَّمِيرَ في (سَيَكْفُرُونَ) عائِدٌ عَلى أقْرَبِ مَذْكُورٍ مُحْدَثٍ عَنْهُ. فالمَعْنى أنَّ الآلِهَةَ سَيَجْحَدُونَ عِبادَةَ هَؤُلاءِ إيّاهم كَما قالَ: ﴿وإذا رَأى الَّذِينَ أشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ﴾ [النحل: ٨٦] وفي آخِرِها ﴿فَألْقَوْا إلَيْهِمُ القَوْلَ إنَّكم لَكاذِبُونَ﴾ [النحل: ٨٦] وتَكُونُ (آلِهَةً) هُنا مَخْصُوصًا بِمَن يَعْقِلُ، أوْ يَجْعَلُ اللَّهُ لِلْآلِهَةِ غَيْرِ العاقِلَةِ إدْراكًا تُنْكِرُ بِهِ عِبادَةَ عابِدِيهِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْمُشْرِكِينَ يُنْكِرُونَ لِسُوءِ العاقِبَةِ أنْ يَكُونُوا كَما قالُوا ﴿واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] لَكِنَّ قَوْلَهُ (ويَكُونُونَ) يُرَجِّحُ القَوْلَ الأوَّلَ لِاتِّساقِ الضَّمائِرِ لِواحِدٍ، وعَلى القَوْلِ الآخَرِ يَخْتَلِفُ الضَّمائِرُ إذْ يَكُونُ في (سَيَكْفُرُونَ) لِلْمُشْرِكِينَ وفي (يَكُونُونَ) لِلْآلِهَةِ. ومَعْنى (ضِدًّا) أعْوانًا قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ الضَّحّاكُ: أعْداءً. وقالَ قَتادَةُ: قُرَناءَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَلاءً. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَعْناهُ يَجِيئُهم مِنهُ خِلافُ ما كانُوا أمَّلُوهُ فَيَئُولُ بِهِمْ ذَلِكَ إلى ذِلَّةٍ ضِدِّ ما أمَّلُوهُ مِنَ العِزِّ، فالضِّدُّ هُنا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ الجَمْعُ كَما يُوصَفُ بِهِ الواحِدُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والضِّدُّ العَوْنُ وُحِّدَ تَوْحِيدَ وهم عَلى مَن سِواهم لِاتِّفاقِ كَلِمَتِهِمْ وأنَّهم كَشَيْءٍ واحِدٍ لِفَرْطِ تَضامِّهِمْ وتَوافُقِهِمْ، ومَعْنى كَوْنِهِمْ عَوْنًا عَلَيْهِمْ أنَّهم وقُودُ النّارِ وحَصَبُ جَهَنَّمَ ولِأنَّهم عُذِّبُوا بِسَبَبِ عِبادَتِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب