الباحث القرآني
﴿أمّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ في البَحْرِ فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها وكانَ وراءَهم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ ﴿وأمّا الغُلامُ فَكانَ أبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانًا وكُفْرًا﴾ ﴿فَأرَدْنا أنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْرًا مِنهُ زَكاةً وأقْرَبَ رُحْمًا﴾ ﴿وأمّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المَدِينَةِ وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وكانَ أبُوهُما صالِحًا فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما ويَسْتَخْرِجا كَنْزَهُما رَحْمَةً مِن رَبِّكَ وما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ .
رُوِيَ أنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا عَزَمَ الخَضِرُ عَلى مُفارَقَتِهِ أخَذَ بِثِيابِهِ، وقالَ: لا أُفارِقُكَ حَتّى تُخْبِرَنِي بِما أباحَ لَكَ فِعْلَ ما فَعَلْتَ، فَلَمّا التَمَسَ ذَلِكَ مِنهُ أخَذَ في البَيانِ والتَّفْصِيلِ، فَقالَ: ﴿أمّا السَّفِينَةُ﴾ فَبَدَأ بِقِصَّةِ ما وقَعَ لَهُ أوَّلًا. قِيلَ: كانَتْ لِعَشَرَةِ إخْوَةٍ: خَمْسَةٌ زَمْنى وخَمْسَةٌ يَعْمَلُونَ في البَحْرِ. وقِيلَ: كانُوا أُجَراءَ فَنُسِبَتْ إلَيْهِمْ لِلِاخْتِصاصِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (مَساكِينَ) بِتَخْفِيفِ السِّينِ جَمْعُ مِسْكِينٍ. وقَرَأ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ - بِتَشْدِيدِ السِّينِ جَمْعُ مَسّاكٍ جَمْعُ تَصْحِيحٍ. فَقِيلَ: المَعْنى مَلّاحِينَ، والمَسّاكُ الَّذِي يُمْسِكُ رَجُلَ السَّفِينَةِ وكُلٌّ مِنهم يَصْلُحُ لِذَلِكَ. وقِيلَ: المَسّاكُونَ دَبَغَةُ المُسُوكِ وهي الجُلُودُ واحِدُها مَسْكٌ، والقِراءَةُ الأُولى تَدُلُّ عَلى أنَّ السَّفِينَةَ كانَتْ لِقَوْمٍ ضُعَفاءَ يَنْبَغِي أنْ يُشْفِقَ عَلَيْهِمْ، واحْتُجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ المِسْكِينَ هو الَّذِي لَهُ بُلْغَةٌ مِنَ العَيْشِ كالسَّفِينَةِ لِهَؤُلاءِ، وأنَّهُ (p-١٥٤)أصْلَحُ حالًا مِنَ الفَقِيرِ. وقَوْلُهُ ﴿فَأرَدْتُ﴾ فِيهِ إسْنادُ إرادَةِ العَيْبِ إلَيْهِ. وفي قَوْلِهِ: (فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا) لِما في ذِكْرِ العَيْبِ ما فِيهِ فَلَمْ يُسْنِدْهُ إلى اللَّهِ، ولِما في ذَلِكَ مِن فِعْلِ الخَيْرِ أسْنَدَهُ إلى اللَّهِ تَعالى.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: قَوْلُهُ ﴿فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها﴾ مُسَبَّبٌ عَنْ خَوْفِ الغَصْبِ عَلَيْها، فَكانَ حَقُّهُ أنْ يَتَأخَّرَ عَنِ السَّبَبِ فَلِمَ قُدِّمَ عَلَيْهِ ؟ قُلْتُ: النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ، وإنَّما قُدِّمَ لِلْعِنايَةِ ولِأنَّ خَوْفَ الغَصْبِ لَيْسَ هو السَّبَبَ وحْدَهُ، ولَكِنْ مَعَ كَوْنِها لِمَساكِينَ، فَكانَ بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ: زَيْدٌ ظَنِّي مُقِيمٌ.
وقِيلَ في قِراءَةِ أُبَيٍّ وعَبْدِ اللَّهِ (كُلَّ سَفِينَةٍ صالِحَةٍ) انْتَهى. ومَعْنى ﴿أنْ أعِيبَها﴾ بِخَرْقِها. وقَرَأ الجُمْهُورُ (وراءَهم) وهو لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلى الخَلْفِ وعَلى الأمامِ، ومَعْناهُ هُنا أمامَهم. وكَذا قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ. وكَوْنُ (وراءَهم) بِمَعْنى ”أمامَهم“ قَوْلُ قَتادَةَ وأبِي عُبَيْدٍ وابْنِ السِّكِّيتِ والزَّجّاجِ، ولا خِلافَ عِنْدِ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّ (وراءَ) يَجُوزُ بِمَعْنى ”قُدّامَ“، وجاءَ في التَّنْزِيلِ والشِّعْرِ قالَ تَعالى ﴿مِن ورائِهِ جَهَنَّمُ﴾ [إبراهيم: ١٦] وقالَ ﴿ومِن ورائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ﴾ [إبراهيم: ١٧] وقالَ ﴿ومِن ورائِهِمْ بَرْزَخٌ﴾ [المؤمنون: ١٠٠] . وقالَ لَبِيدٌ:
؎ألَيْسَ ورائِي إنْ تَراخَتْ مَنِيَّتِي لُزُومُ العَصا يُحْنى عَلَيْها الأصابِعُ
وقالَ سَوّارُ بْنُ المُضَرِّبِ السَّعْدِيُّ:
؎أيَرْجُو بَنُو مَرْوانَ سَمْعِي وطاعَتِي ∗∗∗ وقَوْمِي تَمِيمٌ والفَلاةُ ورائِيا
وقالَ آخَرُ:
؎ألَيْسَ ورائِي أنْ أدُبَّ عَلى العَصا ∗∗∗ فَتَأْمَنَ أعْداءٌ وتَسْأمُنِي أهْلِي
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُهُ (وراءَهم) عِنْدِي هو عَلى بابِهِ، وذَلِكَ أنَّ هَذِهِ الألْفاظَ إنَّما تَجِيءُ يُراعى بِها الزَّمَنُ، والَّذِي يَأْتِي بَعْدُ هو الوَراءُ وهو ما خُلِّفَ، وذَلِكَ بِخِلافِ ما يَظْهَرُ بادِيَ الرَّأْيِ، وتَأمَّلْ هَذِهِ الألْفاظَ في مَواضِعِها حَيْثُ ورَدَتْ تَجِدُها تَطَّرِدُ، فَهَذِهِ الآيَةُ مَعْناها أنَّ هَؤُلاءِ وعَمَلَهم وسَعْيَهم يَأْتِي بَعْدَهُ في الزَّمَنِ غَصْبُ هَذا المَلِكِ، ومَن قَرَأ (أمامَهم) أرادَ في المَكانِ، أيْ: أنَّهم كانُوا يَسِيرُونَ إلى بَلَدِهِ، وقَوْلُهُ تَعالى في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ. إنَّها بَيْنَ يَدَيِ القُرْآنِ، مُطَّرِدٌ عَلى ما قُلْناهُ في الزَّمَنِ. وقَوْلُهُ ﴿مِن ورائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ [الجاثية: ١٠] مُطَّرِدٌ كَما قُلْنا مِن مُراعاةِ الزَّمَنِ. وقَوْلُ النَّبِيِّ: ”الصَّلاةُ أمامَكَ“ يُرِيدُ في المَكانِ، وإلّا فَكَوْنُهم في ذَلِكَ الوَقْتِ كانَ أمامَ الصَّلاةِ في الزَّمَنِ. وتَأمَّلْ هَذِهِ المَقالَةَ فَإنَّها مُرِيحَةٌ مِن شَغَبِ الألْفاظِ ووَقَعَ لِقَتادَةَ في كُتُبِ الطَّبَرِيِّ ﴿وكانَ وراءَهم مَلِكٌ﴾ . قالَ قَتادَةُ: أمامَهم ألا تَرى أنَّهُ يَقُولُ ﴿مِن ورائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ [الجاثية: ١٠] وهي مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ، وهَذا القَوْلُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وهَذِهِ هي العُجْمَةُ الَّتِي كانَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ يَضِجُّ مِنها، قالَهُ الزَّجّاجُ. ويَجُوزُ إنْ كانَ رُجُوعُهم في طَرِيقِهِمْ عَلى الغاصِبِ فَكانَ وراءَهم حَقِيقَةً انْتَهى. وهو كَلامٌ فِيهِ تَكْثِيرٌ وكَأنَّهُ يَنْظُرُ إلى ما قالَهُ الفَرّاءُ. قالَ الفَرّاءُ: لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ لِلرَّجُلِ بَيْنَ يَدَيْكَ هو وراءَكَ، إنَّما يَجُوزُ ذَلِكَ في المَواقِيتِ مِنَ اللَّيالِي والأيّامِ والدَّهْرِ، تَقُولُ: وراءَكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وبَيْنَ يَدَيْكَ بَرْدٌ شَدِيدٌ، جازَ الوَجْهانِ؛ لِأنَّ البَرْدَ إذا لَحِقَكَ صارَ مِن ورائِكَ، وكَأنَّكَ إذا بَلَغْتَهُ صارَ بَيْنَ يَدَيْكَ. قالَ: إنَّما جازَ هَذا في اللُّغَةِ؛ لِأنَّ ما بَيْنَ يَدَيْكَ وما قُدّامَكَ إذا تَوارى عَنْكَ فَقَدْ صارَ وراءَكَ.
وقالَ أبُو عَلِيٍّ: إنَّما جازَ اسْتِعْمالُ (وراءَ) بِمَعْنى (أمامَ) عَلى الِاتِّساعِ لِأنَّها جِهَةٌ مُقابِلَةٌ لِجِهَةٍ، فَكانَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنَ الجِهَتَيْنِ وراءَ الأُخْرى إذا لَمْ يَرِدْ مَعْنى المُواجَهَةِ، ويَجُوزُ ذَلِكَ في الأجْرامِ الَّتِي لا وجْهَ لَها مِثْلُ حَجَرَيْنِ مُتَقابِلَيْنِ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما وراءَ الآخَرِ، وأكْثَرُ أهْلِ اللُّغَةِ عَلى أنَّ وراءَ مِنَ الأضْدادِ انْتَهى.
قِيلَ: واسْمُ هَذا المَلِكِ هُدَدُ بْنُ بُدَدَ وكانَ كافِرًا. وقِيلَ: الجُلَنْدى مَلِكُ غَسّانَ، وقَوْلُهُ ﴿فَكانَ أبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ في هَذا حَذْفٌ وهو أنَّ المَعْنى وكانَ كافِرًا وكَذا وُجِدَ في مُصْحَفِ أُبَيٍّ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: (وأمّا الغُلامُ فَكانَ كافِرًا وكانَ أبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) (p-١٥٥)ونَصَّ في الحَدِيثِ عَلى أنَّهُ كانَ كافِرًا مَطْبُوعًا عَلى الكُفْرِ، ويُرادُ بِأبَوَيْهِ أبُوهُ وأُمُّهُ ثُنِّيَ تَغْلِيبًا مِن بابِ القَمَرَيْنِ في القَمَرِ والشَّمْسِ، وهي تَثْنِيَةٌ لا تَنْقاسُ. وقَرَأ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ والجَحْدَرِيُّ: (فَكانَ أبَواهُ مُؤْمِنانِ) فَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ وأبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ عَلى أنَّ في (كانَ) ضَمِيرَ الشَّأْنِ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ خَبَرٍ لِكانَ، وأجازَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ أنْ يَكُونَ (مُؤْمِنانِ) عَلى لُغَةِ بَنِي الحارِثِ بْنِ كَعْبٍ، فَيَكُونَ مَنصُوبًا، وأجازَ أيْضًا أنْ يَكُونَ في (كانَ) ضَمِيرُ الغُلامِ، والجُمْلَةُ خَبَرُ كانَ.
”﴿فَخَشِينا﴾“، أيْ: خِفْنا أنْ يُغْشِي الوالِدَيْنِ المُؤْمِنَيْنِ ”طُغْيانًا“ عَلَيْهِما ”وكُفْرًا“ لِنِعْمَتِهِما بِعُقُوقِهِ وسُوءِ صَنِيعِهِ، ويُلْحِقَ بِهِما شَرًّا وبَلاءً، أوْ يُقْرَنَ بِإيمانِهِما طُغْيانُهُ وكُفْرُهُ، فَيَجْتَمِعَ في بَيْتٍ واحِدٍ مُؤْمِنانِ، وطاغٍ كافِرٌ أوْ يُعْدِيَهُما بِدائِهِ ويَضِلَّهُما بِضَلالِهِ فَيَرْتَدّا بِسَبَبِهِ ويَطْغَيا ويَكْفُرا بَعْدَ الإيمانِ. وإنَّما خَشِيَ الخَضِرُ مِنهُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ اللَّهَ - عَزَّ وعَلا - أعْلَمَهُ بِحالِهِ وأطْلَعَهُ عَلى سَرائِرِ أمْرِهِ وأمَرَهُ بِقَتْلِهِ كاخْتِرامِهِ لِمَفْسَدَةٍ عَرَفَها في حَياتِهِ. وفي قِراءَةِ أُبَيٍّ (فَخافَ رَبُّكَ)، والمَعْنى فَكَرِهَ رَبُّكَ كَراهَةَ مَن خافَ سُوءَ عاقِبَةِ الأمْرِ فَغَيَّرَهُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ”﴿فَخَشِينا﴾“ حِكايَةً لِقَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - بِمَعْنى فَكَرِهْنا كَقَوْلِهِ ”﴿لِأهَبَ لَكِ﴾ [مريم: ١٩]“ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وفي قَوْلِهِ كاخْتِرامِهِ لِمَفْسَدَةٍ عَرَفَها في حَياتِهِ مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ في قَوْلِهِمْ بِالأجَلَيْنِ، والظّاهِرُ إسْنادُ فِعْلِ الخَشْيَةِ في خَشِينا إلى ضَمِيرِ الخَضِرِ وأصْحابِهِ الصّالِحِينَ الَّذِينَ أهَمَّهُمُ الأمْرُ وتَكَلَّمُوا. وقِيلَ: هو في جِهَةِ اللَّهِ وعَنْهُ عَبَّرَ الخَضِرُ وهو الَّذِي قالَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ: ”ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ“ إلى آخِرِ كَلامِهِ. قالَ الطَّبَرِيُّ: ومَعْناهُ: فَعَلِمْنا، وقالَ: مَعْناهُ فَكَرِهْنا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والأظْهَرُ عِنْدِي في تَوْجِيهِ هَذا التَّأْوِيلِ وإنْ كانَ اللَّفْظُ يُدافِعُهُ أنَّها اسْتِعارَةٌ، أيْ: عَلى ظَنِّ المَخْلُوقِينَ، والمُخاطَبُ لَوْ عَلِمُوا حالَهُ لَوَقَعَتْ مِنهم خَشْيَةُ الرَّهَقِ لِلْوالِدَيْنِ.
وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ فَخافَ رَبُّكَ، وهَذا بَيِّنُ الِاسْتِعارَةِ في القُرْآنِ في جِهَةِ اللَّهِ تَعالى مِن لَعَلَّ وعَسى فَإنَّ جَمِيعَ ما في هَذا كُلِّهِ مِن تَرَجٍّ وتَوَقُّعٍ وخَوْفٍ وخَشْيَةٍ إنَّما هو بِحَسْبِكم أيُّها المُخاطَبُونَ. و”﴿يُرْهِقَهُما﴾“ مَعْناهُ يُجَشِّمُهُما ويُكَلِّفُهُما بِشِدَّةٍ، والمَعْنى أنْ يُلْقِيَهُما حُبُّهُ في اتِّباعِهِ. وقَرَأ نافِعٌ وأبُو عَمْرٍو وأبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ وحُمَيْدٌ والأعْمَشُ وابْنُ جَرِيرٍ ”﴿أنْ يُبَدِّلَهُما﴾“ بِالتَّشْدِيدِ هُنا وفي التَّحْرِيمِ والقَلَمِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ والحَسَنُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالتَّخْفِيفِ، والزَّكاةُ هُنا الطَّهارَةُ والنَّقاءُ مِنَ الذُّنُوبِ وما يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِن شَرَفِ الخُلُقِ والسَّكِينَةِ، والرُّحْمُ والرَّحْمَةُ العَطْفُ مَصْدَرانِ كالكُثْرِ والكَثْرَةِ، وأفْعَلُ هُنا لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ الغُلامَ لا زَكاةَ فِيهِ ولا رَحْمَةَ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ ”﴿وأقْرَبُ رُحْمًا﴾“، أيْ: رَحْمَةَ والِدَيْهِ وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَرْحَمانِهِ. وقالَ رُؤْبَةُ بْنُ العَجّاجِ:
؎يا مُنْزِلَ الرُّحْمِ عَلى إدْرِيسا ∗∗∗ ومُنْزِلَ اللَّعْنِ عَلى إبْلِيسا
وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وأبُو جَعْفَرٍ في رِوايَةٍ ويَعْقُوبُ وأبُو حاتِمٍ ”﴿رُحُمًا﴾“ بِضَمِّ الحاءِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ”﴿رَحِمًا﴾“ بِفَتْحِ الرّاءِ وكَسْرِ الحاءِ. وقِيلَ الرُّحْمُ مِنَ الرَّحِمِ والقَرابَةِ، أيْ: أوْصَلُ لِلرَّحِمِ. قِيلَ: ولَدَتْ غُلامًا مُسْلِمًا. وقِيلَ: جارِيَةً تَزَوَّجَها نَبِيٌّ فَوَلَدَتْ نَبِيًّا هَدى اللَّهُ عَلى يَدَيْهِ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ. وقِيلَ: ولَدَتْ سَبْعِينَ نَبِيًّا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا بَعِيدٌ ولا تُعْرَفُ كَثْرَةُ الأنْبِياءِ إلّا في بَنِي إسْرائِيلَ، ولَمْ تَكُنْ هَذِهِ المَرْأةُ مِنهُمُ انْتَهى. ووَصْفُ الغُلامَيْنِ بِاليُتْمِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُما كانا صَغِيرَيْنِ. وفي الحَدِيثِ: «لا يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغٍ»، أيْ: كانا ”﴿يَتِيمَيْنِ﴾“ عَلى مَعْنى الشَّفَقَةِ عَلَيْهِما. قِيلَ: واسْمُهُما أصْرَمُ وصُرَيْمٌ، واسْمُ أبِيهِما كاشِحٌ واسْمُ أُمِّهِما دَهْنا، والظّاهِرُ في الكَنْزِ أنَّهُ مالٌ مَدْفُونٌ جَسِيمٌ، ذَهَبٌ وفِضَّةٌ، قالَهُ عِكْرِمَةُ وقَتادَةُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ: كانَ عِلْمًا في صُحُفٍ مَدْفُونَةٍ. وقِيلَ: لَوْحٌ مِن ذَهَبٍ فِيهِ كَلِماتُ حِكْمَةٍ وذِكْرٍ، وقَدْ (p-١٥٦)ذَكَرَها المُفَسِّرُونَ في كُتُبِهِمْ ولا نُطَوِّلُ بِذِكْرِها، والظّاهِرُ أنَّ أباهُما هو الأقْرَبُ إلَيْهِما الَّذِي ولَدَهُما دَنِيَّةً. وقِيلَ: السّابِعُ. وقِيلَ: العاشِرُ وحِفْظُ هَذانِ الغُلامانِ بِصَلاحِ أبِيهِما. وفي الحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ الرَّجُلَ الصّالِحَ في ذُرِّيَّتِهِ» . وانْتَصَبَ ”رَحْمَةً“ عَلى المَفْعُولِ لَهُ وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يُنْصَبَ عَلى المَصْدَرِ بِأرادَ قالَ: لِأنَّهُ في مَعْنى رَحِمَهُما، وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ يَنْتَصِبَ عَلى الحالِ وكِلاهُما مُتَكَلَّفٌ.
”﴿وما فَعَلْتُهُ﴾“، أيْ: وما فَعَلْتُ ما رَأيْتَ مِن خَرْقِ السَّفِينَةِ وقَتْلِ الغُلامِ وإقامَةِ الجِدارِ عَنِ اجْتِهادٍ مِنِّي ورَأْيٍ، وإنَّما فَعَلْتُهُ بِأمْرِ اللَّهِ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ نَبِيٌّ أُوحِيَ إلَيْهِ. و”﴿تَسْطِعْ﴾“ مُضارِعُ اسْطاعَ بِهَمْزَةِ الوَصْلِ. قالَ ابْنُ السِّكِّيتِ يُقالُ ما أسْتَطِيعُ وما أسْطِيعُ وما أسْتَتِيعُ وأسْتِيعُ أرْبَعُ لُغاتٍ، وأصْلُ اسْطاعَ اسْتَطاعَ عَلى وزْنِ اسْتَفْعَلَ، فالمَحْذُوفُ في اسْطاعَ تاءُ الِافْتِعالِ لِوُجُودِ الطّاءِ الَّتِي هي أصْلٌ ولا حاجَةَ تَدْعُو إلى أنَّ المَحْذُوفَ هي الطّاءُ الَّتِي هي فاءُ الفِعْلِ، ثُمَّ أبْدَلُوا مِن تاءِ الِافْتِعالِ طاءً، وأمّا أسْتَتِيعُ فَفِيهِ أنَّهم أبْدَلُوا مِنَ الطّاءِ تاءً، ويَنْبَغِي في تَسْتِيعُ أنْ يَكُونَ المَحْذُوفُ تاءَ الِافْتِعالِ كَما في تَسْطِيعُ.
وفِي كِتابِ التَّحْرِيرِ والتَّحْبِيرِ ما نَصُّهُ: تَعَلَّقَ بَعْضُ الجُهّالِ بِما جَرى لِمُوسى مَعَ الخَضِرِ - عَلَيْهِما السَّلامُ - عَلى أنَّ الخَضِرَ أفْضَلُ مِن مُوسى وطَرَدُوا الحُكْمَ، وقالُوا: قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الأوْلِياءِ أفْضَلَ مِن آحادِ الأنْبِياءِ، واسْتَدَلُّوا أيْضًا بِقَوْلِ أبِي يَزِيدَ خُضْتُ بَحْرًا وقَفَ الأنْبِياءُ عَلى ساحِلِهِ، وهَذا كُلُّهُ مِن ثَمَراتِ الرُّعُونَةِ والظِّنَّةِ بِالنَّفْسِ انْتَهى. وهَكَذا سَمِعْنا مَن يَحْكِي هَذِهِ المَقالَةَ عَنْ بَعْضِ الضّالِّينَ المُضِلِّينَ وهو ابْنُ العَرَبِيِّ الطّائِيُّ الحاتِمِيُّ صاحِبُ الفُتُوحِ المَكِّيَّةِ، فَكانَ يَنْبَغِي أنْ يُسَمّى بِالقُبُوحِ الهَلَكِيَّةِ وأنَّهُ كانَ يَزْعُمُ أنَّ الوَلِيَّ خَيْرٌ مِنَ النَّبِيِّ قالَ: لِأنَّ الوَلِيَّ يَأْخُذُ عَنِ اللَّهِ بِغَيْرِ واسِطَةٍ، والنَّبِيُّ يَأْخُذُ بِواسِطَةٍ عَنِ اللَّهِ؛ ولِأنَّ الوَلِيَّ قاعِدٌ في الحَضْرَةِ الإلَهِيَّةِ والنَّبِيُّ مُرْسَلٌ إلى قَوْمٍ، ومَن كانَ في الحَضْرَةِ أفْضَلُ مِمَّنْ يُرْسِلُهُ صاحِبُ الحَضْرَةِ إلى أشْياءَ مِن هَذِهِ الكُفْرِيّاتِ والزَّنْدَقَةِ، وقَدْ كَثُرَ مُعَظِّمُو هَذا الرَّجُلِ في هَذا الزَّمانِ مِن غُلاةِ الزَّنادِقَةِ القائِلَةِ بِالوَحْدَةِ نَسْألُ اللَّهَ السَّلامَ في أدْيانِنا وأبْدانِنا.
{"ayahs_start":79,"ayahs":["أَمَّا ٱلسَّفِینَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَـٰكِینَ یَعۡمَلُونَ فِی ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِیبَهَا وَكَانَ وَرَاۤءَهُم مَّلِكࣱ یَأۡخُذُ كُلَّ سَفِینَةٍ غَصۡبࣰا","وَأَمَّا ٱلۡغُلَـٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَیۡنِ فَخَشِینَاۤ أَن یُرۡهِقَهُمَا طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰا","فَأَرَدۡنَاۤ أَن یُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَیۡرࣰا مِّنۡهُ زَكَوٰةࣰ وَأَقۡرَبَ رُحۡمࣰا","وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـٰمَیۡنِ یَتِیمَیۡنِ فِی ٱلۡمَدِینَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزࣱ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحࣰا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن یَبۡلُغَاۤ أَشُدَّهُمَا وَیَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةࣰ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِیۚ ذَ ٰلِكَ تَأۡوِیلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرࣰا"],"ayah":"أَمَّا ٱلسَّفِینَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَـٰكِینَ یَعۡمَلُونَ فِی ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِیبَهَا وَكَانَ وَرَاۤءَهُم مَّلِكࣱ یَأۡخُذُ كُلَّ سَفِینَةٍ غَصۡبࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق