الباحث القرآني

﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ أفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أوْلِياءَ مِن دُونِي وهم لَكم عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلًا﴾ ﴿ما أشْهَدْتُهم خَلْقَ السَّماواتِ والأرْضِ ولا خَلْقَ أنْفُسِهِمْ وما كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ ﴿ويَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهم وجَعَلْنا بَيْنَهم مَوْبِقًا﴾ ﴿ورَأى المُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنُّوا أنَّهم مُواقِعُوها ولَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفًا﴾ . ذَكَرُوا في ارْتِباطِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - بِمُجالَسَةِ الفُقَراءِ وكانَ أُولَئِكَ المُتَكَبِّرُونَ قَدْ تَأنَّفُوا عَنْ مُجالَسَتِهِمْ، وذَكَرُوا لِلرَّسُولِ ﷺ طَرْدَهم عَنْهُ وذَلِكَ لِما جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّكَبُّرِ والتَّكَثُّرِ بِالأمْوالِ والأوْلادِ وشَرَفِ الأصْلِ والنَّسَبِ، وكانَ أُولَئِكَ الفُقَراءُ بِخِلافِهِمْ في ذَلِكَ ناسَبَ ذِكْرُ قِصَّةِ إبْلِيسَ بِجامِعِ ما اشْتَرَكا فِيهِ مِنَ التَّكَبُّرِ والِافْتِخارِ بِالأصْلِ الَّذِي خُلِقَ مِنهُ وهَذا الَّذِي ذَكَرُوهُ في الِارْتِباطِ هو ظاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْآياتِ السّابِقَةِ قَبْلَ ضَرْبِ المَثَلَيْنِ، وإمّا أنَّهُ واضِحٌ بِالنِّسْبَةِ لِما بَعْدَ المَثَلَيْنِ فَلا، والَّذِي يَظْهَرُ في ارْتِباطِ هَذِهِ الآيَةِ بِالآيَةِ الَّتِي قَبْلَها هو أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ يَوْمَ القِيامَةِ والحَشْرَ وذَكَرَ خَوْفَ المُشْرِكِينَ مِمّا سُطِّرَ في ذَلِكَ الكِتابِ، وكانَ إبْلِيسُ هو الَّذِي حَمَلَ المُجْرِمِينَ عَلى مَعاصِيهِمْ، واتِّخاذِ شُرَكاءَ مَعَ اللَّهِ، ناسَبَ ذِكْرَ إبْلِيسَ والنَّهْيَ عَنِ اتِّخاذِ ذُرِّيَّتِهِ أوْلِياءَ مِن دُونِ اللَّهِ تَبْعِيدًا عَنِ المَعاصِي، وعَنِ امْتِثالِ ما يُوَسْوِسُ بِهِ. وتَقَدَّمَ (p-١٣٦)الكَلامُ في اسْتِثْناءِ إبْلِيسَ أهُوَ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ أمْ مُنْقَطِعٌ، وهَلْ هو مِنَ المَلائِكَةِ أمْ لَيْسَ مِنهم في أوائِلِ سُورَةِ البَقَرَةِ فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ، والظّاهِرُ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لَيْسَ مِنَ المَلائِكَةِ، وإنَّما هو مِنَ الجِنِّ. قالَ قَتادَةُ: الجِنُّ حَيٌّ مِنَ المَلائِكَةِ خُلِقُوا مِن نارِ السَّمُومِ. وقالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: هو مِنَ الجِنِّ الَّذِينَ ظَفِرَتْ بِهِمُ المَلائِكَةُ فَأسَرَهُ بَعْضُ المَلائِكَةِ فَذَهَبَ بِهِ إلى السَّماءِ. وقالَ الحَسَنُ وغَيْرُهُ: هو أوَّلُ الجِنِّ وبِداءَتُهم كَآدَمَ في الإنْسِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: كانَ إبْلِيسُ وقَبِيلُهُ جِنًّا لَكِنَّ الشَّياطِينَ اليَوْمَ مِن ذُرِّيَّتِهِ فَهو كَنُوحٍ في الإنْسِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كانَ مِنَ الجِنِّ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ جارٍ مَجْرى التَّعْلِيلِ بَعْدَ اسْتِثْناءِ إبْلِيسَ مِنَ السّاجِدِينَ كَأنَّ قائِلًا قالَ: ما لَهُ لَمْ يَسْجُدْ ؟ فَقِيلَ ﴿كانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ﴾ والفاءُ لِلتَّسْبِيبِ أيْضًا، جَعَلَ كَوْنَهُ مِنَ الجِنِّ سَبَبًا في فِسْقِهِ، يَعْنِي إنَّهُ لَوْ كانَ مَلَكًا كَسائِرِ مَن سَجَدَ لِآدَمَ لَمْ يَفْسُقْ عَنْ أمْرِ اللَّهِ؛ لِأنَّ المَلائِكَةَ مَعْصُومُونَ ألْبَتَّةَ لا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ ما يَجُوزُ عَلى الجِنِّ والإنْسِ كَما قالَ: ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وهم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٧] وهَذا الكَلامُ المُعْتَرَضُ تَعَمُّدٌ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وعَلا - لِصِيانَةِ المَلائِكَةِ عَنْ وُقُوعِ شُبْهَةٍ في عِصْمَتِهِمْ، فَما أبْعَدَ البَوْنُ بَيْنَ ما تَعَمَّدَهُ اللَّهُ وبَيْنَ قَوْلِ مَن ضادَّهُ؛ فَزَعَمَ أنَّهُ كانَ مَلَكًا ورَئِيسًا عَلى المَلائِكَةِ فَعَصى فَلُعِنَ ومُسِخَ شَيْطانًا، ثُمَّ ورَّكَهُ عَلى ابْنِ عَبّاسٍ انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ مَعْنى ﴿فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ﴾ فَخَرَجَ عَمّا أمَرَهُ رَبُّهُ بِهِ مِنَ السُّجُودِ. قالَ رُؤْبَةُ: ؎يَهْوِينَ في نَجْدٍ وغَوْرًا غائِرا فَواسِقًا عَنْ قَصْدِها حَوائِرا وقِيلَ: (فَفَسَقَ) صارَ فاسِقًا كافِرًا بِسَبَبِ أمْرِ رَبِّهِ الَّذِي هو قَوْلُهُ ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ حَيْثُ لَمْ يَمْتَثِلْهُ. قِيلَ: ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى ﴿فَفَسَقَ﴾ بِأمْرِ رَبِّهِ، أيْ: بِمَشِيئَتِهِ وقَضائِهِ لِأنَّ المَشِيئَةَ يُطْلَقُ عَلَيْها أمْرٌ كَما تَقُولُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ عَنْ أمْرِكَ، أيْ: بِحَسَبِ مُرادِكَ، والهَمْزَةُ في ﴿أفَتَتَّخِذُونَهُ﴾ لِلتَّوْبِيخِ والإنْكارِ والتَّعَجُّبِ، أيْ: أبَعْدَ ما ظَهَرَ مِنهُ مِنَ الفِسْقِ والعِصْيانِ تَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أوْلِياءَ مِن دُونِي مَعَ ثُبُوتِ عَداوَتِهِ لَكم تَتَّخِذُونَهُ ولِيًّا. وقَرَأ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيادٍ عَلى المِنبَرِ وهو يَخْطُبُ (أفَتَتَّخِذُونَهُ وذَرِّيَّتَهُ) بِفَتْحِ الذّالِ، والظّاهِرُ أنَّ لِإبْلِيسَ ذُرِّيَّةً، وقالَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنهم قَتادَةُ والشَّعْبِيُّ وابْنُ زَيْدٍ والضَّحّاكُ والأعْمَشُ. قالَ قَتادَةُ: يَنْكِحُ ويَنْسُلُ كَما يَنْسُلُ بَنُو آدَمَ، وقالَ الشَّعْبِيُّ: لا يَكُونُ ذُرِّيَّةٌ إلّا مِن زَوْجَةٍ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: إنَّ اللَّهَ قالَ لِإبْلِيسَ إنِّي لا أخْلُقُ لِآدَمَ ذُرِّيَّةً إلّا ذَرَأْتُ لَكَ مِثْلَها، فَلَيْسَ يُولَدُ لِوَلَدِ آدَمَ ولَدٌ إلّا وُلِدَ مَعَهُ شَيْطانٌ يُقْرَنُ بِهِ. «وقِيلَ لِلرَّسُولِ: ألَكَ شَيْطانٌ ؟ قالَ: ”نَعَمْ إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى أعانَنِي عَلَيْهِ فَأسْلَمَ“» . وسَمّى الضَّحّاكُ وغَيْرُهُ مِن ذُرِّيَّةِ إبْلِيسَ جَماعَةً، اللَّهُ أعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وكَذَلِكَ ذَكَرُوا كَيْفِيّاتٍ في وطْئِهِ وإنْسالِهِ اللَّهُ أعْلَمُ بِذَلِكَ، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ لَيْسَ لِإبْلِيسَ ولَدٌ وإنَّما الشَّياطِينُ هُمُ الَّذِينَ يُعِينُونَهُ عَلى بُلُوغِ مَقاصِدِهِ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أيْ: ﴿بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلًا﴾ مِنَ اللَّهِ إبْلِيسُ وذُرِّيَّتُهُ، وقالَ (لِلظّالِمِينَ) لِأنَّهُمُ اعْتاضُوا مِنَ الحَقِّ بِالباطِلِ وجَعَلُوا مَكانَ وِلايَتِهِمْ إبْلِيسَ وذُرِّيَّتَهُ، وهَذا نَفْسُ الظُّلْمِ، لِأنَّهُ وضْعُ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿ما أشْهَدْتُهُمْ﴾ بِتاءِ المُتَكَلِّمِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ والسَّخْتِيانِيُّ وعَوْنٌ العُقَيْلِيُّ وابْنُ مِقْسَمٍ: ما أشْهَدْناهم بِنُونِ العَظَمَةِ، والظّاهِرُ عَوْدُ ضَمِيرِ المَفْعُولِ في ﴿أشْهَدْتُهُمْ﴾ عَلى إبْلِيسَ وذُرِّيَّتِهِ، أيْ: لَمْ أُشاوِرْهم في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ ولا خَلْقِ أنْفُسِهِمْ، بَلْ خَلَقْتُهم عَلى ما أرَدْتُ؛ ولِهَذا قالَ ﴿وما كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي إنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ شُرَكاءَ لِي في العِبادَةِ وإنَّما كانُوا يَكُونُونَ شُرَكاءَ فِيها لَوْ كانُوا شُرَكاءَ في الإلَهِيَّةِ فَنَفى مُشارَكَتَهم في الإلَهِيَّةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ما أشْهَدْتُهم خَلْقَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ لا أعْتَضِدُ بِهِمْ في خَلْقِها ﴿ولا خَلْقَ أنْفُسِهِمْ﴾، أيْ: ولا أشْهَدْتُ بَعْضَهم خَلْقَ بَعْضٍ كَقَوْلِهِ ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] وما كُنْتُ مُتَّخِذَهم أعْوانًا فَوَضَعَ ﴿المُضِلِّينَ﴾ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ ذَمًّا لَهم (p-١٣٧)بِالإضْلالِ فَإذا لَمْ يَكُونُوا لِي ﴿عَضُدًا﴾ في الخَلْقِ فَما لَكم تَتَّخِذُونَهم شُرَكاءَ في العِبادَةِ انْتَهى. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى المَلائِكَةِ، والمَعْنى أنَّهُ ما أشْهَدَهم ذَلِكَ ولا اسْتَعانَ بِهِمْ في خَلْقِها بَلْ خَلَقْتُهم لِيُطِيعُونِي ويَعْبُدُونِي فَكَيْفَ يَعْبُدُونَهم. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الكُفّارِ. وقِيلَ: عَلى جَمِيعِ الخَلْقِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ في ﴿أشْهَدْتُهُمْ﴾ عائِدٌ عَلى الكُفّارِ وعَلى النّاسِ بِالجُمْلَةِ، فَتَتَضَمَّنُ الآيَةُ الرَّدَّ عَلى طَوائِفَ مِنَ المُنَجِّمِينَ وأهْلِ الطَّبائِعِ والمُتَحَكِّمِينَ والأطِبّاءِ، وسِواهم مِن كُلِّ مَن يَتَخَرَّصُ في هَذِهِ الأشْياءِ، وقالَهُ عَبْدُ الحَقِّ الصَّقَلِّيُّ وتَأوَّلَ هَذا التَّأْوِيلَ في هَذِهِ الآيَةِ وأنَّها رادَّةٌ عَلى هَذِهِ الطَّوائِفِ، وذَكَرَ هَذا بَعْضُ الأُصُولِيِّينَ انْتَهى. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ والجَحْدَرِيُّ والحَسَنُ وشَيْبَةُ (وما كُنْتَ) بِفَتْحِ التّاءِ خِطابًا لِلرَّسُولِ ﷺ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والمَعْنى وما صَحَّ لَكَ الِاعْتِضادُ بِهِمْ، وما يَنْبَغِي لَكَ أنْ تَعْتَزَّ بِهِمُ انْتَهى. والَّذِي أقُولُهُ أنَّ المَعْنى إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ نَبِيِّهِ، وخِطابٌ مِنهُ تَعالى لَهُ في انْتِفاءِ كَيْنُونَتِهِ مُتَّخِذَ عَضُدٍ مِنَ المُضِلِّينَ، بَلْ هو مُذْ كانَ ووُجِدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في غايَةِ التَّبَرِّي مِنهم والبُعْدِ عَنْهم لِتَعْلَمَ أُمَّتُهُ أنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَحْفُوظًا مِن أوَّلِ نَشْأتِهِ لَمْ يَعْتَضِدْ بِمُضِلٍّ ولا مالَ إلَيْهِ ﷺ . وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ مُتَّخِذًا المُضِلِّينَ، أعْمَلَ اسْمَ الفاعِلِ. وقَرَأ عِيسى (عَضْدًا) بِسُكُونِ الضّادِ خَفَّفَ فَعْلًا كَما قالُوا: رَجْلٌ وسَبْعٌ في رَجُلٍ وسَبُعٍ وهي لُغَةٌ عَنْ تَمِيمٍ، وعَنْهُ أيْضًا بِفَتْحَتَيْنِ. وقَرَأ شَيْبَةُ وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةِ هارُونَ وخارِجَةَ والخَفّافِ (عُضُدًا) بِضَمَّتَيْنِ، وعَنِ الحَسَنِ (عَضَدًا) بِفَتْحَتَيْنِ وعَنْهُ أيْضًا بِضَمَّتَيْنِ. وقَرَأ الضَّحّاكُ (عِضَدًا) بِكَسْرِ العَيْنِ وفَتْحِ الضّادِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (ويَوْمَ يَقُولُ) بِالياءِ، أيِ: اللَّهُ. وقَرَأ الأعْمَشُ وطَلْحَةُ ويَحْيى وابْنُ أبِي لَيْلى وحَمْزَةُ وابْنُ مِقْسَمٍ: (نَقُولُ) بِنُونِ العَظَمَةِ، أيْ: لِلَّذِينِ أشْرَكُوا بِهِ في الدُّنْيا ﴿نادُوا شُرَكائِيَ﴾ ولَيْسَ المَعْنى أنَّهُ تَعالى أخْبَرَ أنَّهم شُرَكاؤُهُ ولَكِنَّ ذَلِكَ عَلى زَعْمِكم، والإضافَةُ تَكُونُ بِأدْنى مُلابَسَةٍ ومَفْعُولا (زَعَمْتُمْ) مَحْذُوفانِ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِما إذِ التَّقْدِيرُ زَعَمْتُمُوهم شُرَكائِيَ والنِّداءُ بِمَعْنى الِاسْتِغاثَةِ، أيْ: اسْتَغِيثُوا بِشُرَكائِكم والمُرادُ نادُوهم لِدَفْعِ العَذابِ عَنْكم أوْ لِلشَّفاعَةِ لَكم، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (بَيْنَهم) عائِدٌ عَلى الدّاعِينَ والمَدْعُوِّينَ وهُمُ المُشْرِكُونَ والشُّرَكاءُ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى أهْلِ الهُدى وأهْلِ الضَّلالَةِ، والظّاهِرُ وُقُوعُ الدُّعاءِ حَقِيقَةً، وانْتِفاءُ الإجابَةِ. وقِيلَ: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ اسْتِعارَةً كَأنَّ فِكْرَةَ الكافِرِ ونَظَرَهُ في أنَّ تِلْكَ الجَماداتِ لا تُغْنِي شَيْئًا ولا تَنْفَعُ هي بِمَنزِلَةِ الدُّعاءِ وتَرْكِ الإجابَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (شُرَكائِيَ) مَمْدُودًا مُضافًا لِلْياءِ، وابْنُ كَثِيرٍ وأهْلُ مَكَّةَ مَقْصُورًا مُضافًا لَها أيْضًا، والظّاهِرُ انْتِصابُ (بَيْنَهم) عَلى الظَّرْفِ. وقالَ الفَرّاءُ: البَيْنُ هُنا الوَصْلُ، أيْ: (وجَعَلْنا) تَواصُلَهم في الدُّنْيا هَلاكًا يَوْمَ القِيامَةِ، فَعَلى هَذا يَكُونُ مَفْعُولًا أوَّلَ لِجَعَلْنا، وعَلى الظَّرْفِ يَكُونُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ والضَّحّاكُ: المَوْبِقُ المَهْلِكُ. وقالَ الزَّجّاجُ: جَعَلْنا بَيْنَهم مِنَ العَذابِ ما يُوبِقُهم. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وأنَسٌ ومُجاهِدٌ: وادٍ في جَهَنَّمَ يَجْرِي بِدَمٍ وصَدِيدٍ. وقالَ الحَسَنُ: عَداوَةً. وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: إنَّهُ المَجْلِسُ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: المَوْعِدُ. ﴿ورَأى المُجْرِمُونَ النّارَ﴾ هي رُؤْيَةُ عَيْنٍ، أيْ: عايَنُوها، والظَّنُّ هُنا قِيلَ: عَلى مَوْضُوعِهِ مِن كَوْنِهِ تَرْجِيحَ أحَدِ الجانِبَيْنِ. وكَوْنُهم لَمْ يَجْزِمُوا بِدُخُولِها رَجاءً وطَمَعًا في رَحْمَةِ اللَّهِ. وقِيلَ: مَعْنى ﴿فَظَنُّوا﴾ أيْقَنُوا قالَهُ أكْثَرُ النّاسِ، ومَعْنى ﴿مُواقِعُوها﴾ مُخالِطُوها واقِعُونَ فِيها كَقَوْلِهِ ﴿وظَنُّوا أنْ لا مَلْجَأ مِنَ اللَّهِ إلّا إلَيْهِ﴾ [التوبة: ١١٨] ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أطْلَقَ النّاسُ أنَّ الظَّنَّ هُنا بِمَعْنى التَّيَقُّنِ، ولَوْ قالَ بَدَلَ ظَنُّوا أيْقَنُوا لَكانَ الكَلامُ مُتَّسِقًا عَلى مُبالَغَةٍ فِيهِ، ولَكِنَّ العِبارَةَ بِالظَّنِّ لا تَجِيءُ أبَدًا في مَوْضِعِ يَقِينٍ تامٍّ قَدْ نالَهُ الحِسُّ بَلْ أعْظَمُ دَرَجاتِهِ أنْ يَجِيءَ في مَوْضِعِ عِلْمٍ مُتَحَقِّقٍ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ المَظْنُونُ وإلّا فَمَن يَقَعُ (p-١٣٨)ويُحَسُّ لا يَكادُ يُوجَدُ في كَلامِ العَرَبِ العِبارَةُ عَنْهُ بِالظَّنِّ. وتَأمَّلْ هَذِهِ الآيَةَ وتَأمَّلْ قَوْلَ دُرَيْدٍ: ؎فَقُلْتُ لَهم ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ انْتَهى. وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ مُلاقُوها مَكانَ ﴿مُواقِعُوها﴾ وقَرَأهُ كَذَلِكَ الأعْمَشُ وابْنُ غَزْوانَ عَنْ طَلْحَةَ، والأوْلى جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِمُخالَفَةِ سَوادِ المُصْحَفِ. وعَنْ عَلْقَمَةَ أنَّهُ قَرَأ مُلافُّوها بِالفاءِ مُشَدَّدَةً مِن لَفَفْتُ. وفي الحَدِيثِ: «إنَّ الكافِرَ لَيَرى جَهَنَّمَ ويَظُنُّ أنَّها مُواقِعَتُهُ مِن مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ سَنَةً» . ومَعْنى ﴿مَصْرِفًا﴾ مَعْدِلًا ومَراعًا. ومِنهُ قَوْلُ أبِي كَبِيرٍ الهُذَلِيِّ: ؎أزُهَيْرُ هَلْ عَنْ شَيْبَةَ مِن مَصْرِفِ ∗∗∗ أمْ لا خُلُودَ لِباذِلٍ مُتَكَلِّفِ وأجازَ أبُو مُعاذٍ (مَصْرَفًا) بِفَتْحِ الرّاءِ وهي قِراءَةُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ جَعَلَهُ مَصْدَرًا كالمَضْرَبِ لِأنَّ مُضارِعَهُ يَصْرِفُ عَلى يَفْعِلُ كَيَضْرِبُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب