الباحث القرآني

﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ ﴿المالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنْيا والباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وخَيْرٌ أمَلًا﴾ ﴿ويَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبالَ وتَرى الأرْضَ بارِزَةً وحَشَرْناهم فَلَمْ نُغادِرْ مِنهم أحَدًا﴾ ﴿وعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكم أوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ ألَّنْ نَجْعَلَ لَكم مَوْعِدًا﴾ [الكهف: ٤٨] ﴿ووُضِعَ الكِتابُ فَتَرى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ ويَقُولُونَ ياوَيْلَتَنا مالِ هَذا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً إلّا أحْصاها ووَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحَدًا﴾ [الكهف: ٤٩] ﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ أفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أوْلِياءَ مِن دُونِي وهم لَكم عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٠] ﴿ما أشْهَدْتُهم خَلْقَ السَّماواتِ والأرْضِ ولا خَلْقَ أنْفُسِهِمْ وما كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ [الكهف: ٥١] ﴿ويَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهم وجَعَلْنا بَيْنَهم مَوْبِقًا﴾ [الكهف: ٥٢] ﴿ورَأى المُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنُّوا أنَّهم مُواقِعُوها ولَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفًا﴾ [الكهف: ٥٣] ﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا في هَذا القُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٤] ﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جاءَهُمُ الهُدى ويَسْتَغْفِرُوا رَبَّهم إلّا أنْ تَأْتِيَهم سُنَّةُ الأوَّلِينَ أوْ يَأْتِيَهُمُ العَذابُ قُبُلًا﴾ [الكهف: ٥٥] ﴿وما نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إلّا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ ويُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ واتَّخَذُوا آياتِي وما أُنْذِرُوا هُزُوًا﴾ [الكهف: ٥٦] ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأعْرَضَ عَنْها ونَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا وإنْ تَدْعُهم إلى الهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إذًا أبَدًا﴾ [الكهف: ٥٧] ﴿ورَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهم بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذابَ بَلْ لَهم مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا﴾ [الكهف: ٥٨] الهَشِيمُ اليابِسُ قالَهُ الفَرّاءُ، واحِدُهُ هَشِيمَةٌ. وقالَ الزَّجّاجُ وابْنُ قُتَيْبَةَ: كُلُّ شَيْءٍ كانَ رَطْبًا ويَبِسَ، ومِنهُ كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ وهَشِيمِ الثَّرِيدِ، وأصْلُ الهَشِيمِ المُتَفَتِّتُ مِن يابِسِ العُشْبِ. ذَرى وأذْرى لُغَتانِ فَرَّقَ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: تَذْرُوهُ تَجِيءُ بِهِ وتَذْهَبُ. وقالَ الأخْفَشُ: تَرْفَعُهُ. غادَرَ تَرَكَ مِنَ الغَدْرِ وهو تَرْكُ الوَفاءِ، ومِنهُ الغَدِيرُ، وهو ما تَرَكَهُ السَّيْلُ. الصَّفُّ الشَّخْصُ بِإزاءِ الآخَرِ (p-١٣٢)إلى نِهايَتِهِمْ وُقُوفًا أوْ جُلُوسًا أوْ عَلى غَيْرِ هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ طُولًا أوْ تَحْلِيقًا، يُقالُ مِنهُ: صَفَّ يَصُفُّ، والجَمْعُ صُفُوفٌ. العَضُدُ العُضْوُ مِنَ الإنْسانِ وغَيْرِهِ مَعْرُوفٌ وفِيهِ لُغَتانِ، فَتْحُ العَيْنِ وضَمُّ الضّادِ وإسْكانُها وفَتْحُها وضَمُّ العَيْنِ والضّادِ وإسْكانُ الضّادِ، ويُسْتَعْمَلُ في العَوْنِ والنَّصِيرِ. قالَ الزَّجّاجُ: والإعْضادُ التَّقَوِّي وطَلَبُ المَعُونَةِ، يُقالُ: اعْتَضَدْتُ بِفُلانٍ اسْتَعَنْتُ بِهِ. المَوْبِقُ: المَهْلِكُ، يُقالُ: وبِقَ يَوْبَقُ وبَقًا، ووَبَقَ يَبِقُ وُبُوقًا إذا هَلَكَ فَهو وابِقٌ، وأوْبَقَتْهُ ذُنُوبُهُ أهْلَكَتْهُ. أدْحَضَ الحَقُّ أرْهَقَهُ، قالَهُ ثَعْلَبٌ، وأصْلُهُ مِن إدْحاضِ القَدَمِ وهو إزْلاقُها، قالَ الشّاعِرُ: ؎ورَدْتُ ونَجّى اليَشْكُرِيَّ حِذارُهُ وحادَ كَما حادَ البَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ وقالَ آخَرُ: ؎أبا مُنْذِرٍ رُمْتَ الوَفاءَ وهِبْتَهُ ∗∗∗ وحِدْتَ كَما حادَ البَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ والدَّحْضُ الطِّينُ الَّذِي يُزْلَقُ فِيهِ. المَوْئِلُ قالَ الفَرّاءُ: المَنجى، يُقالُ والَتْ نَفْسُ فُلانٍ نَجَتْ. وقالَ الأعْشى: ؎وقَدْ أُخالِسُ رَبَّ البَيْتِ غَفْلَتَهُ ∗∗∗ وقَدْ يُحاذِرُ مِنِّي ثَمَّ ما يَئِلُ أيْ: ما يَنْجُو. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: المَلْجَأُ، يُقالُ: وألَ فُلانٌ إلى كَذا لَجَأ، يَئِلُ وألًا ووُءُولًا. ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ ﴿المالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنْيا والباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وخَيْرٌ أمَلًا﴾ ﴿ويَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبالَ وتَرى الأرْضَ بارِزَةً وحَشَرْناهم فَلَمْ نُغادِرْ مِنهم أحَدًا﴾ . (p-١٣٣)لَمّا بَيَّنَ تَعالى في المَثَلِ الأوَّلِ حالَ الكافِرِ والمُؤْمِنِ وما آلَ إلَيْهِ ما افْتَخَرَ بِهِ الكافِرُ مِنَ الهَلاكِ، بَيَّنَ في هَذا المَثَلِ حالَ ﴿الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [الكهف: ٢٨] واضْمِحْلالَها ومَصِيرَ ما فِيها مِنَ النَّعِيمِ والتَّرَفُّهِ إلى الهَلاكِ و(كَماءٍ) قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: هي، أيِ: الحَياةُ الدُّنْيا كَماءٍ. وقالَ الحَوْفِيُّ: الكافُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنى المَصْدَرِ، أيْ: ضَرْبًا ﴿كَماءٍ أنْزَلْناهُ﴾ وأقُولُ إنَّ (كَماءٍ) في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لِقَوْلِهِ (واضْرِبْ)، أيْ: وصَيِّرْ ﴿لَهم مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾، أيْ: صِفَتُها شِبْهُ ماءٍ وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى تَفْسِيرِ نَظِيرِ هَذِهِ الجُمَلِ في قَوْلِهِ ﴿إنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ والأنْعامُ﴾ [يونس: ٢٤] في يُونُسَ (فَأصْبَحَ)، أيْ: صارَ ولا يُرادُ تَقْيِيدُ الخَبَرِ بِالصَّباحِ فَهو كَقَوْلِهِ: ؎أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا ∗∗∗ أمْلِكُ رَأْسَ البَعِيرِ إنْ نَفَرا وقِيلَ: هي دالَّةٌ عَلى التَّقْيِيدِ بِالصَّباحِ لِأنَّ الآفاتِ السَّماوِيَّةَ أكْثَرُ ما تَطْرُقُ لَيْلًا فَهي كَقَوْلِهِ ﴿فَأصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ [الكهف: ٤٢] . وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: تُذْرِيهِ مِن أذْرى رُباعِيًّا. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ والحَسَنُ والنَّخَعِيُّ والأعْمَشُ وطَلْحَةُ وابْنُ أبِي لَيْلى وابْنُ مُحَيْصِنٍ وخَلَفٌ وابْنُ عِيسى وابْنُ جَرِيرٍ: الرِّيحُ عَلى الإفْرادِ. والجُمْهُورُ ﴿تَذْرُوهُ الرِّياحُ﴾ . ولَمّا ذَكَرَ تَعالى قُدْرَتَهُ الباهِرَةَ في صَيْرُورَةِ ما كانَ في غايَةِ النَّضْرَةِ والبَهْجَةِ إلى حالَةِ التَّفَتُّتِ والتَّلاشِي إلى أنْ فَرَّقَتْهُ الرِّياحُ ولَعِبَتْ بِهِ ذاهِبَةً وجائِيَةً، أخْبَرَ تَعالى عَنِ اقْتِدارِهِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الإنْشاءِ والإفْناءِ وغَيْرِهِما مِمّا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَتُهُ تَعالى. ولَمّا حَقَّرَ تَعالى حالَ الدُّنْيا بِما ضَرَبَهُ مِن ذَلِكَ المَثَلِ ذَكَرَ أنَّ ما افْتَخَرَ بِهِ عُيَيْنَةُ وأضْرابُهُ مِنَ المالِ والبَنِينَ إنَّما ذَلِكَ (زِينَةُ) هَذِهِ ﴿الحَياةِ الدُّنْيا﴾ المُحَقَّرَةِ، وأنَّ مَصِيرَ ذَلِكَ إنَّما هو إلى النَّفادِ، فَيَنْبَغِي أنْ لا يُكْتَرَثَ بِهِ، وأخْبَرَ تَعالى بِزِينَةِ المالِ والبَنِينَ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفٍ مُضافٍ، أيْ: مَقَرُّ زِينَةِ، أوْ وضَعَ المالَ والبَنِينَ مَنزِلَةَ المَعْنى والكَثْرَةِ، فَأخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (زِينَةُ) ولَمّا ذَكَرَ مَآلَ ما في الحَياةِ الدُّنْيا إلى الفَناءِ، انْدَرَجَ فِيهِ هَذا الجُزْئِيُّ مِن كَوْنِ المالِ والبَنِينَ زِينَةً، وأنْتَجَ أنَّ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا فانٍ؛ إذْ ذاكَ فَرْدٌ مِن أفْرادِ ما في الحَياةِ الدُّنْيا، وتَرْتِيبُ هَذا الإنْتاجِ أنْ يُقالَ ﴿المالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ وكُلُّ ما كانَ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا فَهو سَرِيعُ الِانْقِضاءِ، فالمالُ والبَنُونَ سَرِيعُ الِانْقِضاءِ، ومِن بَدِيهَةِ العَقْلِ أنَّ ما كانَ كَذَلِكَ يَقْبُحُ بِالعاقِلِ أنْ يَفْتَخِرَ بِهِ أوْ يَفْرَحَ بِسَبَبِهِ، وهَذا بُرْهانٌ عَلى فَسادِ قَوْلِ أُولَئِكَ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ افْتَخَرُوا عَلى فُقَراءِ المُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ الأمْوالِ والأوْلادِ. ﴿والباقِياتُ الصّالِحاتُ﴾ قالَ الجُمْهُورُ هي الكَلِماتُ المَأْثُورُ فَضْلُها: سُبْحانَ اللَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إلَهَ إلّا اللَّهُ، واللَّهُ أكْبَرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ وأبُو مَيْسَرَةَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ هي الصَّلَواتُ الخَمْسُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كُلُّ عَمَلٍ صالِحٍ مِن قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ يَبْقى لِلْآخِرَةِ، ورَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، وقَوْلُ الجُمْهُورِ مَرْوِيٌّ عَنِ الرَّسُولِ مِن طَرِيقِ أبِي هُرَيْرَةَ وغَيْرِهِ. وعَنْ قَتادَةَ: كُلُّ ما أُرِيدَ بِهِ وجْهُ اللَّهِ. وعَنِ الحَسَنِ وابْنِ عَطاءٍ: أنَّها النِّيّاتُ الصّالِحَةُ فَإنَّ بِها تُتَقَبَّلُ الأعْمالُ وتُرْفَعُ، ومَعْنى ﴿خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا﴾ أنَّها دائِمَةٌ باقِيَةٌ وخَيْراتُ الدُّنْيا مُنْقَرِضَةٌ فانِيَةٌ، والدّائِمُ الباقِي خَيْرٌ مِنَ المُنْقَرِضِ المُنْقَضِي. ﴿وخَيْرٌ أمَلًا﴾، أيْ: وخَيْرٌ رَجاءً لِأنَّ صاحِبَها يَأْمُلُ في الدُّنْيا ثَوابَ اللَّهِ ونَصِيبَهُ في الآخِرَةِ دُونَ ذِي المالِ والبَنِينَ العارِي مِنَ الباقِياتِ الصّالِحاتِ فَإنَّهُ لا يَرْجُو ثَوابًا. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى ما يَئُولُ إلَيْهِ حالُ الدُّنْيا مِنَ النَّفادِ أعْقَبَ ذَلِكَ بِأوائِلِ أحْوالِ يَوْمِ القِيامَةِ فَقالَ ﴿ويَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبالَ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْرًا وتَسِيرُ الجِبالُ سَيْرًا﴾ [الطور: ٩] . وقالَ: (p-١٣٤)﴿وتَرى الجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ﴾ [النمل: ٨٨] . وقالَ ﴿فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُها قاعًا صَفْصَفًا﴾ [طه: ١٠٥] . وقالَ ﴿وإذا الجِبالُ سُيِّرَتْ﴾ [التكوير: ٣] والمَعْنى أنَّهُ يَنْفَكُّ نِظامُ هَذا العالَمِ الدُّنْيَوِيِّ ويُؤْتى بِالعالَمِ الأُخْرَوِيِّ، وانْتَصَبَ (ويَوْمَ) عَلى إضْمارِ اذْكُرْ أوْ بِالفِعْلِ المُضْمَرِ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿لَقَدْ جِئْتُمُونا﴾ [الكهف: ٤٨]، أيْ: قُلْنا يَوْمَ كَذا لَقَدْ. وقَرَأ نافِعٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ والأعْرَجُ وشَيْبَةُ وعاصِمٌ وابْنُ مُصَرِّفٍ وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ﴿نُسَيِّرُ﴾ بِنُونِ العَظَمَةِ (الجِبالَ) بِالنَّصْبِ، وابْنُ عامِرٍ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو والحَسَنُ وشِبْلٌ وقَتادَةُ وعِيسى والزُّهْرِيُّ وحُمَيْدٌ وطَلْحَةُ واليَزِيدِيُّ والزُّبَيْرِيُّ عَنْ رِجالِهِ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ التّاءِ وفَتْحِ الياءِ المُشَدَّدَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، (الجِبالُ) بِالرَّفْعِ وعَنِ الحَسَنِ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ بِضَمِّ الياءِ بِاثْنَتَيْنِ مِن تَحْتِها، وابْنُ مُحَيْصِنٍ ومَحْبُوبٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو (تَسِيرُ) مِن سارَتِ الجِبالُ. وقَرَأ أُبَيٌّ (سُيِّرَتِ الجِبالُ) ﴿وتَرى الأرْضَ بارِزَةً﴾، أيْ: مُنْكَشِفَةً ظاهِرَةً لِذَهابِ الجِبالِ والظِّرابِ والشَّجَرِ والعِمارَةِ، أوْ تَرى أهْلَ الأرْضِ بارِزِينَ مِن بَطْنِها. وقَرَأ عِيسى (وتُرى الأرْضُ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ ﴿وحَشَرْناهُمْ﴾، أيْ: أقَمْناهم مِن قُبُورِهِمْ وجَمَعْناهم لِعَرْصَةِ القِيامَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: لِمَ جِيءَ بِحَشَرْناهم ماضِيًا بَعْدَ تَسِيرُ وتَرى ؟ قُلْتُ: لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ حَشْرَهم قَبْلَ التَّسْيِيرِ وقَبْلَ البُرُوزِ لِيُعايِنُوا تِلْكَ الأهْوالَ والعَظائِمَ، كَأنَّهُ قِيلَ: ﴿وحَشَرْناهُمْ﴾ قَبْلَ ذَلِكَ انْتَهى. والأوْلى أنْ تَكُونَ الواوُ واوَ الحالِ لا واوَ العَطْفِ، والمَعْنى وقَدْ (حَشَرْناهم)، أيْ: يُوقَعُ التَّسْيِيرُ في حالَةِ حَشْرِهِمْ. وقِيلَ: ﴿وحَشَرْناهُمْ﴾ ﴿وعُرِضُوا﴾ [الكهف: ٤٨] ﴿ووُضِعَ الكِتابُ﴾ [الكهف: ٤٩] مِمّا وُضِعَ فِيهِ الماضِي مَوْضِعَ المُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿نُغادِرُ﴾ بَنُونِ العَظَمَةِ وقَتادَةُ (تُغادِرُ) عَلى الإسْنادِ إلى القُدْرَةِ أوِ الأرْضِ، وأبانُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عاصِمٍ كَذَلِكَ أوْ بِفَتْحِ الدّالِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ واحِدٍ بِالرَّفْعِ وعِصْمَةُ كَذَلِكَ، والضَّحّاكُ (نُغْدِرُ) بِضَمِّ النُّونِ وإسْكانِ الغَيْنِ وكَسْرِ الدّالِ، وانْتَصَبَ (صَفًّا) عَلى الحالِ وهو مُفْرَدٌ تَنَزَّلَ مَنزِلَةَ الجَمْعِ، أيْ: صُفُوفًا. وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَجْمَعُ اللَّهُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ واحِدٍ صُفُوفًا يُسْمِعُهُمُ الدّاعِي ويَنْفُذُهُمُ البَصَرُ» . الحَدِيثُ بِطُولِهِ وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «أهْلُ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيامَةِ مِائَةٌ وعِشْرُونَ صَفًّا أنْتُمْ مِنها ثَمانُونَ صَفًّا» . أوِ انْتَصَبَ عَلى المَصْدَرِ المَوْضُوعِ مَوْضِعَ الحالِ، أيْ: مُصْطَفِّينَ. وقِيلَ: المَعْنى صَفًّا صَفًّا فَحُذِفَ صَفًّا وهو مُرادٌ، وهَذا التَّكْرارُ مُنْبِئٌ عَنِ اسْتِيفاءِ الصُّفُوفِ إلى آخِرِها، شَبَّهَ حالَهم بِحالِ الجُنْدِ المَعْرُوضِينَ عَلى السُّلْطانِ مُصْطَفِّينَ ظاهِرِينَ يَرى جَماعَتَهم كَما يَرى كُلَّ واحِدٍ لا يَحْجُبُ أحَدٌ أحَدًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب