الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ كانَتْ لَهم جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾ ﴿خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا﴾ ﴿قُلْ لَوْ كانَ البَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ولَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ ﴿قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكم يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ فَمَن كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾ . (p-١٦٨)لَمّا ذَكَرَ تَعالى ما أعَدَّ لِلْكافِرِينَ ذَكَرَ ما أعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ وفي الصَّحِيحِ ﴿جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ﴾ أرْبَعٌ: ثِنْتانِ مِن ذَهَبٍ حِلْيَتُهُما وآنِيَتُهُما وما فِيهِما، وثِنْتانِ مِن فِضَّةٍ حِلْيَتُهُما وآنِيَتُهُما وما فِيهِما. وفي حَدِيثِ عُبادَةَ: الفِرْدَوْسُ أعْلاها يَعْنِي أعَلى الجَنَّةِ. قالَ قَتادَةُ ورَبْوَتُها ومِنها تَفَجَّرُ أنْهارُ الجَنَّةِ. وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ جَبَلٌ تَتَفَجَّرُ مِنهُ أنْهارُ الجَنَّةِ. وفي حَدِيثِ أبِي أُمامَةَ: الفِرْدَوْسُ سُرَّةُ الجَنَّةِ. وقالَ مُجاهِدٌ: الفِرْدَوْسُ البُسْتانُ بِالرُّومِيَّةِ. وقالَ كَعْبٌ والضَّحّاكُ ﴿جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ﴾ الأعْنابُ. وقالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحارِثِ بْنِ كَعْبٍ إنَّهُ جَنّاتُ الكُرُومِ والأعْنابِ خاصَّةً مِنَ الثِّمارِ. وقالَ المُبَرِّدُ: (الفِرْدَوْسُ) فِيما سَمِعْتُ مِن كَلامِ العَرَبِ الشَّجَرُ المُلْتَفُّ والأغْلَبُ عَلَيْهِ العِنَبُ. وحَكى الزَّجّاجُ أنَّهُ الأوْدِيَةُ الَّتِي تُنْبِتُ ضُرُوبًا مِنَ النَّباتِ، وهَلْ هو عَرَبِيٌّ أوْ أعْجَمِيٌّ ؟ قَوْلانِ وإذا قُلْنا أعْجَمِيٌّ فَهَلْ هو فارِسِيٌّ أوْ رُومِيٌّ أوْ سُرْيانِيٌّ ؟ أقْوالٌ. وقالَ حَسّانُ: ؎وإنَّ ثَوابَ اللَّهِ كُلَّ مُوَحِّدٍ جِنانٌ مِنَ الفِرْدَوْسِ فِيها يُخَلَّدُ قِيلَ: ولَمْ يُسْمَعْ بِالفِرْدَوْسِ في كَلامِ العَرَبِ إلّا في هَذا البَيْتِ بَيْتِ حَسّانَ، وهَذا لا يَصِحُّ فَقَدْ قالَ أُمَيَّةُ بْنُ أبِي الصَّلْتِ: ؎كانَتْ مَنازِلُهم إذْ ذاكَ ظاهِرَةً فِيها ∗∗∗ الفَرادِيسُ ثُمَّ الفُومُ والبَصَلُ الفَرادِيسُ جَمْعُ فِرْدَوْسٍ. والظّاهِرُ أنَّ مَعْنى ﴿جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ﴾ بَساتِينُ حَوْلَ الفِرْدَوْسِ ولِذَلِكَ أضافَ الجَنّاتِ إلَيْهِ. ويُقالُ: كَرْمٌ مُفَرْدَسٌ، أيْ: مُعَرَّشٌ، وكَذَلِكَ سُمِّيَتِ الرَّوْضَةُ الَّتِي دُونَ اليَمامَةِ فِرْدَوْسًا لِاجْتِماعِ نَخْلِها وتَعْرِيشِها عَلى أرْضِها. وفي دِمَشْقَ بابُ الفَرادِيسِ يُخْرَجُ مِنهُ إلى البَساتِينِ. و(نُزُلًا) يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ ما احْتَمَلَ قَوْلُهُ (نُزُلًا) المُتَقَدِّمُ. ومَعْنى ﴿حِوَلًا﴾، أيْ: مُحَوَّلًا إلى غَيْرِها. قالَ ابْنُ عِيسى: هو مَصْدَرٌ كالعِوَجِ والصِّغَرِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:، يُقالُ حالَ عَنْ مَكانِهِ حِوَلًا كَقَوْلِهِ. ؎عادَنِي حُبُّها عِوَدًا يَعْنِي لا مَزِيدَ عَلَيْها حَتّى تُنازِعَهم أنْفُسُهم إلى أجْمَعَ لِأغْراضِهِمْ وأمانِيهِمْ، وهَذِهِ غايَةُ الوَصْفِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ في الدُّنْيا في أيِّ نَعِيمٍ كانَ فَهو طامِحُ الطَّرْفِ إلى أرْفَعَ مِنهُ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ نَفْيُ التَّحَوُّلِ وتَأْكِيدُ الخُلُودِ انْتَهى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والحِوَلُ بِمَعْنى التَّحَوُّلِ. قالَ مُجاهِدٌ مُتَحَوَّلًا. وقالَ الشّاعِرُ: ؎لِكُلِّ دَوْلَةٍ أجَلْ ثُمَّ يُتاحُ لَها حِوَلْ وكَأنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ وكانَ واحِدُهُ حِوالَةُ وفي هَذا نَظَرٌ. وقالَ الزَّجّاجُ عَنْ قَوْمٍ: هي بِمَعْنى الحِيلَةِ في التَّنَقُّلِ وهَذا ضَعِيفٌ مُتَكَلَّفٌ. ”﴿قُلْ لَوْ كانَ البَحْرُ﴾“ قِيلَ سَبَبُ نُزُولِها أنَّ اليَهُودَ قالُوا لِلرَّسُولِ ﷺ: كَيْفَ تَزْعُمُ أنَّكَ نَبِيُّ الأُمَمِ كُلِّها ومَبْعُوثٌ إلَيْها، وأنَّكَ أُعْطِيتَ ما يَحْتاجُهُ النّاسُ مِنَ العِلْمِ وأنْتَ مُقَصِّرٌ ؟ قَدْ سُئِلْتَ عَنِ الرُّوحِ فَلَمْ تُجِبْ فِيهِ ؟ فَنَزَلَتْ مُعْلِمَةً بِاتِّساعِ مَعْلُوماتِ اللَّهِ وأنَّها غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ وأنَّ الوُقُوفَ دُونَها لَيْسَ بِبِدْعٍ ولا نُكْرٍ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذا بِتَمْثِيلِ ما يَسْتَكْثِرُونَهُ وهو قَوْلُهُ ”﴿قُلْ لَوْ كانَ البَحْرُ﴾“ . وقِيلَ قالَ حُيَيُّ بْنُ أخْطَبَ في كِتابِكم ”﴿ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩]“ ثُمَّ تَقْرَءُونَ ”﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥]“ فَنَزَلَتْ يَعْنِي إنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ ولَكِنَّهُ قَطْرَةٌ مِن بَحْرِ كَلِماتِ اللَّهِ ”﴿قُلْ لَوْ كانَ البَحْرُ﴾“، أيْ: ماءُ البَحْرِ ”﴿مِدادًا﴾“ وهو ما يُمَدُّ بِهِ الدَّواةُ مِنَ الحِبْرِ، وما يُمَدُّ بِهِ السِّراجُ مِنَ السَّلِيطِ. ويُقالُ: السَّماءُ مِدادُ الأرْضِ ”﴿لِكَلِماتِ رَبِّي﴾“، أيْ: مَعَدُّ الكُتُبِ كَلِماتُ رَبِّي وهو عِلْمُهُ وحِكْمَتُهُ، وكُتِبَ بِذَلِكَ المِدادِ ”﴿لَنَفِدَ البَحْرُ﴾“، أيْ: فَنِيَ ماؤُهُ الَّذِي هو المِدادُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ الكَلِماتُ؛ لِأنَّ كَلِماتِهِ تَعالى لا يُمْكِنُ نَفادُها لِأنَّها لا تَتَناهى والبَحْرُ يَنْفَدُ لِأنَّهُ مُتَناهٍ ضَرُورَةً، ولَيْسَ بِبِدْعٍ أنْ أجْهَلَ شَيْئًا مِن مَعْلُوماتِهِ ”﴿وإنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾“ لَمْ أعْلَمْ إلّا ما أُوحِيَ إلَيَّ بِهِ وأُعْلِمْتُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ”﴿مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي﴾“ . وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وابْنُ عَبّاسٍ والأعْمَشُ (p-١٦٩)ومُجاهِدٌ والأعْرَجُ والحَسَنُ والمِنقَرِيُّ عَنْ أبِي عَمْرٍو (مَدَدا لِكَلِماتِ رَبِّي) . وقَرَأ الجُمْهُورُ ”﴿تَنْفَدَ﴾“ بِالتّاءِ مِن فَوْقُ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ والأعْمَشُ وطَلْحَةُ وابْنُ أبِي لَيْلى بِالياءِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ ”﴿أنْ تَنَفَّدَ﴾“ بِالتَّشْدِيدِ عَلى تَفَعَّلَ عَلى المُضِيِّ، وجاءَ كَذَلِكَ عَنْ عاصِمٍ وأبِي عَمْرٍو فَهو مُطاوِعٌ مِن نَفَّدَ مُشَدَّدًا نَحْوَ كَسَّرْتُهُ فَتَكَسَّرَ وفي قِراءَةِ الجَماعَةِ مُطاوِعٌ لَأنْفَدَ، وجَوابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ لَنَفِدَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ بِفَتْحِ المِيمِ والدّالِ بِغَيْرِ ألِفٍ، والأعْرَجُ بِكَسْرِ المِيمِ. وانْتَصَبَ ”﴿مَدَدًا﴾“ عَلى التَّمْيِيزِ عَنْ (مِثْلِ)، كَقَوْلِهِ: ؎فَإنَّ الهَوى يَكْفِيكَهُ مِثْلُهُ صَبْرًا وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ والأعْمَشُ بِخِلافٍ، والتَّيْمِيُّ وابْنُ مُحَيْصِنٍ وحُمَيْدٌ والحَسَنُ في رِوايَةٍ، وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةٍ وحَفْصٌ في رِوايَةٍ (بِمِثْلِهِ مِدادًا) بِألِفٍ بَيْنِ الدّالَيْنِ وكَسْرِ المِيمِ. قالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَصْبُهُ عَلى المَصْدَرِ بِمَعْنى ولَوْ أمْدَدْناهُ بِمِثْلِهِ إمْدادًا ثُمَّ نابَ المَدَدُ مَنابَ الإمْدادِ مِثْلُ أنْبَتَكم نَباتًا. وفي قَوْلِهِ ”﴿بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾“ إعْلامٌ بِالبَشَرِيَّةِ والمُماثَلَةِ في ذَلِكَ لا أدَّعِي أنِّي مَلَكٌ ”﴿يُوحى إلَيَّ﴾“، أيْ: عَلَيَّ إنَّما هو مُسْتَنَدٌ إلى وحْيِ رَبِّي، ونَبَّهَ عَلى الوَحْدانِيَّةِ لِأنَّهم كانُوا كُفّارًا بِعِبادَةِ الأصْنامِ، ثُمَّ حَضَّ عَلى ما فِيهِ النَّجاةُ و”يَرْجُو“ بِمَعْنى يَطْمَعُ و”﴿لِقاءَ رَبِّهِ﴾“ عَلى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، أيْ: حُسْنَ لِقاءِ رَبِّهِ. وقِيلَ ”يَرْجُو“، أيْ: يَخافُ سُوءَ لِقاءِ رَبِّهِ، أيْ: لِقاءَ جَزاءِ رَبِّهِ، وحَمْلُ الرَّجاءِ عَلى بابِهِ أجْوَدُ لِبَسْطِ النَّفْسِ إلى إحْسانِ اللَّهِ تَعالى. ونَهى عَنِ الإشْراكِ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: لا يُرائِي في عَمَلِهِ فَلا يَبْتَغِي إلّا وجْهَ رَبِّهِ خالِصًا لا يَخْلِطُ بِهِ غَيْرَهُ. قِيلَ نَزَلَتْ في جُنْدُبِ بْنِ زُهَيْرٍ قالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «إنِّي أعْمَلُ العَمَلَ لِلَّهِ فَإذا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي فَقالَ: ”إنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ ما شُورِكَ فِيهِ“» . ورُوِيَ أنَّهُ قالَ: ”لَكَ أجْرانِ أجْرُ السِّرِّ وأجْرُ العَلانِيَةِ“ وذَلِكَ إذا قَصَدَ أنْ يُقْتَدى بِهِ. وقالَ مُعاوِيَةُ بْنُ أبِي سُفْيانَ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ القُرْآنِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ”﴿ولا يُشْرِكْ﴾“ بِياءِ الغائِبِ كالأمْرِ في قَوْلِهِ ”فَلْيَعْمَلْ“ . وقَرَأ أبُو عَمْرٍو في رِوايَةِ الجُعْفَيِّ عَنْهُ: ولا تُشْرِكُ بِالتّاءِ خِطابًا لِلسّامِعِ والتِفاتًا مِن ضَمِيرِ الغائِبِ إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِ، وهو المَأْمُورُ بِالعَمَلِ الصّالِحِ ثُمَّ عادَ إلى الِالتِفاتِ مِنَ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ في قَوْلِهِ بِرَبِّهِ، ولَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ بِرَبِّكَ إيذانًا بِأنَّ الضَّمِيرَيْنِ لِمَدْلُولٍ واحِدٍ وهو مَن في قَوْلِهِ ”فَمَن كانَ يَرْجُو“ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب