الباحث القرآني

﴿وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وإذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا﴾ ﴿ولَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ ﴿إذًا لَأذَقْناكَ ضِعْفَ الحَياةِ وضِعْفَ المَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا﴾ ﴿وإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنها وإذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلّا قَلِيلًا﴾ ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِن رُسُلِنا ولا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا﴾ . الضَّمِيرُ في ﴿وإنْ كادُوا﴾ قِيلَ: لِقُرَيْشٍ، وقِيلَ: لِثَقِيفٍ، وذَكَرُوا أسْبابَ نُزُولٍ مُخْتَلِفَةً، وفي بَعْضِها ما لا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إلى الرَّسُولِ ﷺ، ويُوقَفُ عَلى ذَلِكَ في تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ والزَّمَخْشَرِيِّ والتَّحْرِيرِ وغَيْرِ ذَلِكَ، ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلى بَنِي آدَمَ ثُمَّ ذَكَرَ حالَهم في الآخِرَةِ مِن إيتاءِ الكِتابِ بِاليَمِينِ لِأهْلِ السَّعادَةِ، ومِن عَمى أهْلِ الشَّقاوَةِ أتْبَعَ ذَلِكَ بِما يَهُمُّ بِهِ الأشْقِياءَ في الدُّنْيا مِنَ المَكْرِ والخِداعِ والتَّلْبِيسِ عَلى سَيِّدِ أهْلِ السَّعادَةِ المَقْطُوعِ لَهُ بِالعِصْمَةِ، ومَعْنى ﴿لَيَفْتِنُونَكَ﴾ لَيَخْدَعُونَكَ، وذَلِكَ في ظَنِّهِمْ لا أنَّهم قارَبُوا ذَلِكَ إذْ هو مَعْصُومٌ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يُقارِبُوا فِتْنَتَهُ عَمّا أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ، وتِلْكَ المُقارَبَةُ في زَعْمِهِمْ سَبَبُها رَجاؤُهم أنْ يَفْتَرِيَ عَلى اللَّهِ غَيْرَ ما أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ مِن تَبْدِيلِ الوَعْدِ وعِيدًا أوِ الوَعِيدِ وعْدًا، وما اقْتَرَحَتْهُ (p-٦٥)ثَقِيفٌ مِن أنْ يُضِيفَ إلى اللَّهِ ما لَمْ يُنْزِلْ عَلَيْهِ و(إنْ) هَذِهِ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، ولِيَتْها الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ وهي (كادُوا) لِأنَّها مِن أفْعالِ المُقارَبَةِ وإنَّما تَدْخُلُ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ مِنَ الأفْعالِ عَلى النَّواسِخِ الَّتِي لِلْإثْباتِ عَلى ما تَقَرَّرَ في عِلْمِ النَّحْوِ، واللّامُ في ﴿لَيَفْتِنُونَكَ﴾ هي الفارِقَةُ بَيْنَ إنْ هَذِهِ وإنِ النّافِيَةِ (وإذًا) حَرْفُ جَوابٍ وجَزاءٍ، ويُقَدَّرُ قَسَمٌ هُنا تَكُونُ ﴿لاتَّخَذُوكَ﴾ جَوابًا لَهُ، والتَّقْدِيرُ واللَّهِ (إذًا) أيْ: إنِ افْتُتِنْتَ وافْتَرَيْتَ ﴿لاتَّخَذُوكَ﴾ ولاتَّخَذُوكَ في مَعْنى لَيَتَّخِذُونَكَ كَقَوْلِهِ ﴿ولَئِنْ أرْسَلْنا رِيحًا فَرَأوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا﴾ [الروم: ٥١] أيْ: لَيَظَلُّنَّ لِأنَّ (إذًا) تَقْتَضِي الِاسْتِقْبالَ؛ لِأنَّها مِن حَيْثُ المَعْنى جَزاءٌ فَيُقَدَّرُ مَوْضِعُها بِأداةِ الشَّرْطِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿وإذًا لاتَّخَذُوكَ﴾ أيْ: ولَوِ اتَّبَعْتَ مُرادَهم ﴿لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا﴾ ولَكُنْتَ لَهم ولِيًّا، ولَخَرَجْتَ مِن وِلايَتِي. انْتَهى. وهو تَفْسِيرُ مَعْنًى لا إنَّ ﴿لاتَّخَذُوكَ﴾ جَوابُ لَوْ مَحْذُوفَةً. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿ولَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ﴾ ولَوْلا تَثْبِيتُنا لَكَ وعِصْمَتُنا لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ لَقارَبْتَ أنْ تَمِيلَ إلى خُدَعِهِمْ ومَكْرِهِمْ، وهَذا تَهْيِيجٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ وفَضْلُ تَثْبِيتٍ، وفي ذَلِكَ لُطْفٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إذَنْ لَوْ قارَبْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ أدْنى رَكْنَةٍ ﴿لَأذَقْناكَ ضِعْفَ الحَياةِ وضِعْفَ المَماتِ﴾ أيْ لَأذَقْناكَ عَذابَ الآخِرَةِ وعَذابَ القَبْرِ مُضاعَفَيْنِ. فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ حَقِيقَةُ هَذا الكَلامِ ؟ قُلْتُ: أصْلُهُ ﴿لَأذَقْناكَ﴾ عَذابَ الحَياةِ وعَذابَ المَماتِ؛ لِأنَّ العَذابَ عَذابانِ، عَذابٌ في المَماتِ وهو عَذابُ القَبْرِ، وعَذابٌ في حَياةِ الآخِرَةِ وهو عَذابُ النّارِ، والضِّعْفُ يُوصَفُ بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النّارِ﴾ [الأعراف: ٣٨] يَعْنِي مُضاعَفًا، فَكانَ أصْلُ الكَلامِ ﴿لَأذَقْناكَ﴾ عَذابًا ضِعْفًا في الحَياةِ، وعَذابًا ضِعْفًا في المَماتِ، ثُمَّ حُذِفَ المَوْصُوفُ وأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقامَهُ وهو الضِّعْفُ، ثُمَّ أُضِيفَتِ الصِّفَةُ إضافَةَ المَوْصُوفِ، فَقِيلَ: ﴿ضِعْفَ الحَياةِ وضِعْفَ المَماتِ﴾ كَما قِيلَ: ﴿لَأذَقْناكَ﴾ ألِيمَ الحَياةِ وألِيمَ المَماتِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِضِعْفِ الحَياةِ عَذابُ الحَياةِ الدُّنْيا، وبِضِعْفِ المَماتِ ما يَعْقُبُ المَوْتَ مِن عَذابِ القَبْرِ وعَذابِ النّارِ، والمَعْنى لَضاعَفْنا لَكَ العَذابَ المُعَجَّلَ لِلْعُصاةِ في الحَياةِ الدُّنْيا. وما نُؤَخِّرُهُ لِما بَعْدَ المَوْتِ. انْتَهى. وجَوابُ (لَوْلا) يَقْتَضِي إذا كانَ مُثْبَتًا امْتِناعَهُ لِوُجُودِ ما قَبْلَهُ، فَمُقارَبَةُ الرُّكُونِ لَمْ تَقَعْ مِنهُ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ، والمانِعُ مِن ذَلِكَ هو وُجُودُ تَثْبِيتِ اللَّهِ. وقَرَأ قَتادَةُ وابْنُ أبِي إسْحاقَ وابْنُ مُصَرِّفٍ: (تَرْكُنُ) بِضَمِّ الكافِ مُضارِعُ رَكَنَ بِفَتْحِها وانْتَصَبَ (شَيْئًا) عَلى المَصْدَرِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ والضَّحّاكُ: يُرِيدُ ضِعْفَ عَذابِ الحَياةِ وضِعْفَ عَذابِ المَماتِ عَلى مَعْنى أنَّ ما يَسْتَحِقُّهُ مَن أذْنَبَ مِن عُقُوبَتِنا في الدُّنْيا والآخِرَةِ كُنّا نُضَعِّفُهُ. وذَهَبَ ابْنُ الأنْبارِيِّ إلى أنَّ المَعْنى لَقَدْ كادَ أنْ يُخْبِرُوا عَنْكَ أنَّكَ رَكَنْتَ إلى قَوْلِهِمْ بِسَبَبِ فِعْلِهِمْ إلَيْهِ مَجازًا واتِّساعًا، كَما تَقُولُ لِلرَّجُلِ: كِدْتَ تَقْتُلُ نَفْسَكَ أيْ: كادَ النّاسُ يَقْتُلُونَكَ بِسَبَبِ ما فَعَلْتَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ الرَّسُولُ ﷺ مَعْصُومًا، ولَكِنَّ هَذا تَعْرِيفٌ لِلْأُمَّةِ لِئَلّا يَرْكَنَ أحَدٌ مِنهم إلى المُشْرِكِينَ في شَيْءٍ مِن أحْكامِ اللَّهِ تَعالى وشَرائِعِهِ. انْتَهى. واللّامُ في ﴿لَأذَقْناكَ﴾ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ قَبْلَ (إذًا) أيْ: واللَّهِ إنْ حَصَلَ رُكُونٌ لَيَكُونَنَّ كَذا، والقَوْلُ في ﴿لَأذَقْناكَ﴾ كالقَوْلِ في ﴿لاتَّخَذُوكَ﴾ مِن وُقُوعِ الماضِي مَوْضِعَ المُضارِعِ الدّاخِلِ عَلَيْهِ اللّامُ والنُّونُ، ومِمَّنْ نَصَّ عَلى أنَّ اللّامَ في ﴿لاتَّخَذُوكَ﴾ و﴿لَأذَقْناكَ﴾ هي لامُ القَسَمِ الحَوْفِيُّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفي ذِكْرِ الكَيْدُودَةِ وتَعْلِيلِها مَعَ إتْباعِها الوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِالعَذابِ المُضاعَفِ في الدّارَيْنِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلى أنَّ القَبِيحَ يَعْظُمُ قُبْحُهُ بِمِقْدارِ عِظَمِ شَأْنِ فاعِلِهِ وارْتِفاعِ مَنزِلَتِهِ. انْتَهى. ومِن ذَلِكَ ﴿يا نِساءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [الأحزاب: ٣٠] الآيَةَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفِيهِ أدْنى مُداهَنَةٍ لِلْغُواةِ مُضادَّةٌ لِلَّهِ وخُرُوجٌ عَنْ وِلايَتِهِ، وسَبَبٌ مُوجِبٌ لِغَضَبِهِ ونَكالِهِ. انْتَهى. ورُوِيَ أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ لا تَكِلْنِي إلى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» . قالَ حَضْرَمِيٌّ: الضَّمِيرُ في ﴿وإنْ كادُوا﴾ لِيَهُودِ المَدِينَةِ وناحِيَتِها كَحُيِّي بْنِ أخْطَبَ وغَيْرِهِ، (p-٦٦)وذَلِكَ أنَّهم ذَهَبُوا إلى المَكْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالُوا: إنَّ هَذِهِ الأرْضَ لَيْسَتْ بِأرْضِ الأنْبِياءِ، وإنَّما أرْضُ الأنْبِياءِ الشّامُ، ولَكِنَّكَ تَخافُ الرُّومَ فَإنْ كُنْتَ نَبِيًّا فاخْرُجْ إلَيْها؛ فَإنَّ اللَّهَ سَيَحْمِيكَ كَما حَمى غَيْرَكَ مِنَ الأنْبِياءِ فَنَزَلَتْ، وأخْبَرَ تَعالى أنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمْ يُلْبِثْهم بَعْدُ ﴿إلّا قَلِيلًا﴾ . وحَكى النَّقّاشُ أنَّهُ خَرَجَ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ وعَسْكَرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ، وأقامَ يَنْتَظِرُ أصْحابَهُ فَنَزَلَتْ ورَجَعَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا ضَعِيفٌ لَمْ يَقَعْ في سِيرَةٍ ولا في كِتابٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وذُو الحُلَيْفَةِ لَيْسَ في طَرِيقِ الشّامِ مِنَ المَدِينَةِ. انْتَهى. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الضَّمِيرُ لِقُرَيْشٍ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ، واسْتِفْزازُهم هو ما ذَهَبُوا إلَيْهِ مِن إخْراجِهِ مِن مَكَّةَ كَما ذَهَبُوا إلى حَصْرِهِ في الشِّعْبِ، ووَقَعَ اسْتِفْزازُهم هَذا بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ وضَيَّقُوا عَلَيْهِ حَتّى خَرَجَ، واتَّبَعُوهُ إلى الغارِ ونَفَذَ عَلَيْهِمُ الوَعِيدُ في أنْ لَمْ يَلْبَثُوا ﴿إلّا قَلِيلًا﴾ يَوْمَ بَدْرٍ. وقالَ الزَّجّاجُ حاكِيًا أنَّ اسْتِفْزازَهم ما أجْمَعُوا عَلَيْهِ في دارِ النَّدْوَةِ مِن قَتْلِهِ، والأرْضُ عَلى هَذا الدُّنْيا. وقالَ مُجاهِدٌ: ذَهَبَتْ قُرَيْشٌ إلى هَذا ولَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنها؛ لِأنَّهُ لَمّا أرادَ تَعالى اسْتِبْقاءَ قُرَيْشٍ وأنْ لا يَسْتَأْصِلَها أذِنَ لِرَسُولِهِ في الهِجْرَةِ فَخَرَجَ بِإذْنِهِ لا بِقَهْرِ قُرَيْشٍ، واسْتُبْقِيَتْ قُرَيْشٌ؛ لِيُسْلِمَ مِنها ومِن أعْقابِها مَن أسْلَمَ قالَ: ولَوْ أخْرَجَتْهُ قُرَيْشٌ لَعُذِّبُوا. ذَهَبَ مُجاهِدٌ إلى أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿يَلْبَثُونَ﴾ لِجَمِيعِهِمْ. وقالَ الحَسَنُ: ﴿لَيَسْتَفِزُّونَكَ﴾ لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ رَأْيِكَ. وقالَ ابْنُ عِيسى: لَيُزْعِجُونَكَ ويَسْتَخِفُّونَكَ. وأنْشَدَ: ؎يُطِيعُ سَفِيهَ القَوْمِ إذْ يَسْتَفِزُّهُ ويَعْصِي حَلِيمًا شَيَّبَتْهُ الهَزاهِزُ والظّاهِرُ أنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى مُقارَبَةِ اسْتِفْزازِهِ لِأنْ يُخْرِجُوهُ، فَما وقَعَ الِاسْتِفْزازُ ولا إخْراجُهم إيّاهُ المُعَلَّلُ بِهِ الِاسْتِفْزازُ، ثُمَّ جاءَ في القُرْآنِ ﴿وكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ هي أشَدُّ قُوَّةً مِن قَرْيَتِكَ الَّتِي أخْرَجَتْكَ﴾ [محمد: ١٣] أيْ: أخْرَجَكَ أهْلُها. وفي الحَدِيثِ: «يا لَيْتَنِي كُنْتُ فِيها جَذَعًا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ قالَ: أوَمُخْرِجِيَّ هم» الحَدِيثَ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهم أخْرَجُوهُ، لَكِنَّ الإخْراجَ الَّذِي هو عِلَّةُ لِلِاسْتِفْزازِ لَمْ يَقَعْ فَلا تَعارُضَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ والحَدِيثِ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: ما خَرَجَ بِسَبَبِ إخْراجِهِمْ، وإنَّما خَرَجَ بِأمْرِ اللَّهِ فَزالَ التَّناقُضُ. انْتَهى. (ولا يَلْبَثُونَ) جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ أيْ: واللَّهِ إنِ اسْتَفَزُّوكَ فَخَرَجْتَ ﴿لا يَلْبَثُونَ﴾ ولِذَلِكَ لَمْ تَعْمَلْ (إذًا) لِأنَّها تَوَسَّطَتْ بَيْنَ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ، والفِعْلِ فَلا يَلْبَثُونَ لَيْسَتْ مُنْصَبَّةً عَلَيْهِ مِن جِهَةِ الإعْرابِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ ﴿لا يَلْبَثُونَ﴾ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَعْنى تَقْدِيرُهُ، وهم ﴿وإذًا لا يَلْبَثُونَ﴾ فَوَقَعَتْ إذًا بَيْنَ المُبْتَدَأِ وخَبَرِهِ فَأُلْغِيَتْ. وقَرَأ أُبَيٌّ وإذًا لا يَلْبَثُوا بِحَذْفِ النُّونِ أعْمَلَ إذًا فَنَصَبَ بِها عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ، وبِأنْ مُضْمَرَةٍ بَعْدَها عَلى قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وكَذا هي في مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ مَحْذُوفَةُ النُّونِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما وجْهُ القِراءَتَيْنِ ؟ قُلْتُ: أمّا الشّائِعَةُ فَقَدْ عَطَفَ فِيها الفِعْلَ عَلى الفِعْلِ وهو مَرْفُوعٌ لِوُقُوعِهِ خَبَرَ كادَ، والفِعْلُ في خَبَرِ كادَ واقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْمِ. وأمّا قِراءَةُ أُبَيٍّ فَفِيها الجُمْلَةُ بِرَأْسِها الَّتِي هي وإذًا لا يَلْبَثُوا عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: ﴿وإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ﴾ . انْتَهى. وقَرَأ عَطاءٌ ﴿لا يُلَبَّثُونَ﴾ بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ اللّامِ والباءِ مُشَدَّدَةٍ. وقَرَأ يَعْقُوبُ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ كَسَرَ الباءَ. وقَرَأ الأخَوانِ وابْنُ عامِرٍ وحَفْصٌ ﴿خِلافَكَ﴾ وباقِي السَّبْعَةِ خَلْفَكَ، والمَعْنى واحِدٌ. قالَ الشّاعِرُ: ؎عَفَتِ الدِّيارُ خِلافَهم فَكَأنَّما ∗∗∗ بَسَطَ الشَّواطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرًا وهَذا كَقَوْلِهِ ﴿فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٨١] أيْ: خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ في أحَدِ التَّأْوِيلاتِ. وقَرَأ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ: بَعْدَكَ مَكانَ خَلْفِكَ، والأحْسَنُ أنْ يُجْعَلَ تَفْسِيرًا لِخَلْفِكَ لا قِراءَةً؛ لِأنَّها لا تُخالِفُ سَوادَ المُصْحَفِ، فَأرادَ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ خَلْفَكَ هُنا لَيْسَتْ ظَرْفَ مَكانٍ، وإنَّما تَجُوزُ فِيها فاسْتُعْمِلَتْ ظَرْفَ زَمانٍ بِمَعْنى بَعْدَكَ. وهَذِهِ الظُّرُوفُ الَّتِي هي قَبْلُ وبَعْدُ ونَحْوُهُما اطَّرَدَ إضافَتُها إلى أسْماءِ (p-٦٧)الأعْيانِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، في نَحْوِ خَلْفِكَ أيْ: خَلْفَ إخْراجِكَ، وجاءَ زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو، أيْ: قَبْلَ مَجِيءِ عَمْرٍو، وضَحِكَ بَكْرٌ بَعْدَ خالِدٍ أيْ: بَعْدَ ضَحِكِ خالِدٍ. وانْتَصَبَ (سُنَّةَ) عَلى المَصْدَرِ المُؤَكَّدِ أيْ: سَنَّ اللَّهُ سُنَّةً، والمَعْنى أنَّ كُلَّ قَوْمٍ أخْرَجُوا رَسُولَهم مِن بَيْنِ أظْهُرِهِمْ فَسُنَّةُ اللَّهِ أنْ يُهْلِكَهم بَعْدَ إخْراجِهِ ويَسْتَأْصِلَهم ولا يُقِيمُونَ بَعْدَهُ إلّا قَلِيلًا. وقالَ الفَرّاءُ: انْتَصَبَ (سُنَّةَ) عَلى إسْقاطِ الخافِضِ؛ لِأنَّ المَعْنى كَسُنَّةٍ فَنُصِبَ بَعْدَ حَذْفِ الكافِ، وعَلى هَذا لا يَقِفُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إلّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥] . وقالَ أبُو البَقاءِ: (سُنَّةَ) مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِ، أيْ: سَنَنّا بِكَ سُنَّةَ مَن تَقَدَّمَ مِنَ الأنْبِياءِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ، أيِ: اتَّبِعْ ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أرْسَلْنا﴾ كَما قالَ تَعالى: ﴿فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠] . انْتَهى. وهَذا مَعْنًى غَيْرُ الأوَّلِ، والمُفَسِّرُونَ عَلى الأوَّلِ وهو المُناسِبُ لِمَعْنى الآيَةِ قَبْلَها (ولَنْ تَجِدَ) لِما أجْرَيْنا بِهِ العادَةَ ﴿تَحْوِيلًا﴾ مِنهُ إلى غَيْرِهِ؛ إذْ كُلُّ حادِثٍ لَهُ وقْتٌ مُعَيَّنٌ وصِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ ونَفْيُ الوِجْدانِ هُنا وفِيما أشْبَهَهُ مَعْناهُ نَفْيُ الوُجُودِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب