الباحث القرآني

﴿قُلْ كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدًا﴾ ﴿أوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ في صُدُورِكم فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكم أوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهم ويَقُولُونَ مَتى هو قُلْ عَسى أنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ ﴿يَوْمَ يَدْعُوكم فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وتَظُنُّونَ إنْ لَبِثْتُمْ إلّا قَلِيلًا﴾ ﴿وقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هي أحْسَنُ إنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهم إنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكم إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكم أوْ إنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكم وما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وكِيلًا﴾ ﴿ورَبُّكَ أعْلَمُ بِمَن في السَّماواتِ والأرْضِ ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا﴾ [الإسراء: ٥٥] ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكم ولا تَحْوِيلًا﴾ [الإسراء: ٥٦] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهم أقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ إنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: ٥٧] ﴿وإنْ مِن قَرْيَةٍ إلّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ أوْ مُعَذِّبُوها عَذابًا شَدِيدًا كانَ ذَلِكَ في الكِتابِ مَسْطُورًا﴾ [الإسراء: ٥٨] ﴿وما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إلّا أنْ كَذَّبَ بِها الأوَّلُونَ وآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وما نُرْسِلُ بِالآياتِ إلّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: ٥٩] ﴿وإذْ قُلْنا لَكَ إنَّ رَبَّكَ أحاطَ بِالنّاسِ وما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ والشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ في القُرْآنِ ونُخَوِّفُهم فَما يَزِيدُهم إلّا طُغْيانًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٦٠] ﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ قالَ أأسْجُدُ لِمَن خَلَقْتَ طِينًا﴾ [الإسراء: ٦١] ﴿قالَ أرَأيْتَكَ هَذا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أخَّرْتَنِي إلى يَوْمِ القِيامَةِ لَأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٦٢] ﴿قالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنهم فَإنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكم جَزاءً مَوْفُورًا﴾ [الإسراء: ٦٣] ﴿واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنهم بِصَوْتِكَ وأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ وشارِكْهم في الأمْوالِ والأولادِ وعِدْهم وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلّا غُرُورًا﴾ [الإسراء: ٦٤] ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وكَفى بِرَبِّكَ وكِيلًا﴾ [الإسراء: ٦٥] ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الفُلْكَ في البَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إنَّهُ كانَ بِكم رَحِيمًا﴾ [الإسراء: ٦٦] ﴿وإذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ في البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلّا إيّاهُ فَلَمّا نَجّاكم إلى البَرِّ أعْرَضْتُمْ وكانَ الإنْسانُ كَفُورًا﴾ [الإسراء: ٦٧] ﴿أفَأمِنتُمْ أنْ يَخْسِفَ بِكم جانِبَ البَرِّ أوْ يُرْسِلَ عَلَيْكم حاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكم وكِيلًا﴾ [الإسراء: ٦٨] ﴿أمْ أمِنتُمْ أنْ يُعِيدَكم فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكم قاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكم بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكم عَلَيْنا بِهِ تَبِيعًا﴾ [الإسراء: ٦٩] (p-٤٥) الحَدِيدُ مَعْرُوفٌ. نَغَضَتْ سِنُّهُ: تَحَرَّكَتْ قالَ. ونَغَضَتْ مِن هَرِمٍ أسْنانُها. تَنْغِضُ وتَنْغُضُ نَغْضًا ونُغُوضًا، وأنْغَضَ رَأْسَهُ حَرَّكَهُ بِرَفْعٍ وخَفْضٍ. قالَ: ؎لَمّا رَأتْنِي أنْغَضَتْ لِيَ الرَّأْسا وقالَ الآخَرُ: ؎أنْغَضَ نَحْوِي رَأسَهُ وأقْنَعا ∗∗∗ كَأنَّهُ يَطْلُبُ شَيْئًا أطْعَما وقالَ الفَرّاءُ: أنْغَضَ رَأْسَهُ حَرَّكَهُ إلى فَوْقَ وإلى أسْفَلَ. وقالَ أبُو الهَيْثَمِ: إذا أُخْبِرَ بِشَيْءٍ فَحَرَّكَ رَأْسَهُ إنْكارًا لَهُ فَقَدْ أنْغَضَ رَأْسَهُ. وقالَ ذُو الرُّمَّةِ: ؎ظَعائِنُ لَمْ يَسْكُنَّ أكْنافَ قَرْيَةٍ ∗∗∗ بِسَيْفٍ ولَمْ يَنْغُضْ بِهِنَّ القَناطِرُ حَنَّكَ الدّابَّةَ واحْتَنَكَها: جَعَلَ في حَنَكِها الأسْفَلِ حَبْلًا يَقُودُها بِهِ، واحْتَنَكَ الجَرادُ الأرْضَ أكَلَتْ نَباتَها. قالَ: ؎نَشْكُوا إلَيْكَ سَنَةً قَدْ أجْحَفَتْ ∗∗∗ جَهْدًا إلى جَهْدٍ بِنا فَأضْعَفَتْ واحْتَنَكَتْ أمْوالَنا وحَنَكْتَ، ومِنهُ ما ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ مِن قَوْلِهِمْ: أحْنَكُ الشّاتَيْنِ أيْ: آكِلُهُما. اسْتَفَزَّ الرَّجُلَ: اسْتَخَفَّهُ، والفَزُّ: الخَفِيفُ، وأصْلُهُ القَطْعُ، ومِنهُ تَفَزَّزَ الثَّوْبُ: انْقَطَعَ، واسْتَفَزَّنِي فُلانٌ: خَدَعَنِي حَتّى وقَعْتُ في أمْرٍ أرادَهُ. وقِيلَ لِوَلَدِ البَقَرَةِ: فَزٌّ؛ لِخِفَّتِهِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎كَما اسْتَغاثَ بِسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ ∗∗∗ خافَ العُيُونَ ولَمْ يُنَظَرْ بِهِ الحَشَكُ الجَلَبَةُ: الصِّياحُ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ والفَرّاءُ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: جَلَبَ وأجْلَبَ. وقالَ الزَّجّاجُ: أجْلَبَ عَلى العَدُوِّ، وجَمَعَ عَلَيْهِ الخَيْلَ. وقالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: جَلَبَ عَلَيْهِ: أعانَ عَلَيْهِ. وقالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: أجْلَبَ عَلى الرَّجُلِ: إذا تَوَعَّدَهُ الشَّرَّ، وجَمَعَ عَلَيْهِ الجَمْعَ. الصَّوْتُ مَعْرُوفٌ. الحاصِبُ: الرِّيحُ تَرْمِي بِالحَصْباءِ، قالَهُ الفَرّاءُ، والحَصَبُ: الرَّمْيُ بِالحَصْباءِ، وهي الحِجارَةُ الصِّغارُ. وقالَ الفَرَزْدَقُ: ؎مُسْتَقْبِلِينَ شَمالَ الشّامِ نَضْرِبُهم ∗∗∗ بِحاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنثُورِ والحاصِبُ: العارِضُ الرّامِي بِالبَرَدِ والحِجارَةِ. تارَةً مَرَّةً، وتُجْمَعُ عَلى تِيَرٍ وتاراتٍ. قالَ الشّاعِرُ: ؎وإنْسانُ عَيْنِي يَحْسِرُ الماءَ تارَةً ∗∗∗ فَيَبْدُو وتاراتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ القاصِفُ: الَّذِي يَكْسِرُ كُلَّ ما يَلْقى، ويُقالُ: قَصَفَ الشَّجَرَ يَقْصِفُهُ قَصْفًا كَسَرَهُ. وقالَ أبُو تَمّامٍ: ؎إنَّ الرِّياحَ إذا ما أعْصَفَتْ قَصَفَتْ ∗∗∗ عِيدانَ نَجْدٍ ولا يَعْبَأْنَ بِالرَّتَمِ، وقِيلَ: القاصِفُ: الرِّيحُ الَّتِي لَها قَصِيفٌ، وهو الصَّوْتُ الشَّدِيدُ، كَأنَّها تَتَقَصَّفُ أيْ: تَتَكَسَّرُ. (p-٤٦)﴿قُلْ كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدًا﴾ ﴿أوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ في صُدُورِكم فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكم أوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهم ويَقُولُونَ مَتى هو قُلْ عَسى أنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ ﴿يَوْمَ يَدْعُوكم فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وتَظُنُّونَ إنْ لَبِثْتُمْ إلّا قَلِيلًا﴾ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمّا قالُوا ﴿أئِذا كُنّا عِظامًا﴾ [الإسراء: ٤٩] قِيلَ: لَهم ﴿كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدًا﴾ فَرَدَّ قَوْلُهُ: ﴿كُونُوا﴾ عَلى قَوْلِهِمْ ﴿كُنّا﴾ [الإسراء: ٤٩] كَأنَّهُ قِيلَ: ﴿كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدًا﴾ ولا تَكُونُوا عِظامًا، فَإنَّهُ يَقْدِرُ عَلى إحْيائِكم، والمَعْنى: أنَّكم تَسْتَبْعِدُونَ أنْ يُجَدِّدَ اللَّهُ خَلْقَكم ويَرُدَّهُ إلى حالِ الحَياةِ، وإلى رُطُوبَةِ الحَيِّ وغَضاضَتِهِ بَعْدَما كُنْتُمْ عِظامًا يابِسَةً، مَعَ أنَّ العِظامَ بَعْضُ أجْزاءِ الحَيِّ، بَلْ هي عَمُودُ خَلْقِهِ الَّذِي يُبْنى عَلَيْهِ سائِرُهُ، فَلَيْسَ بِبْدَعٍ أنْ يَرُدَّها اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ إلى حالَتِها الأُولى، ولَكِنْ لَوْ كُنْتُمْ أبْعَدَ شَيْءٍ مِنَ الحَياةِ ورُطُوبَةِ الحَيِّ ومِن جِنْسِ ما رُكِّبَ بِهِ البَشَرُ، وهو أنْ تَكُونُوا ﴿حِجارَةً﴾ يابِسَةً ﴿أوْ حَدِيدًا﴾ مَعَ أنَّ طِباعَها القَساوَةُ والصَّلابَةُ لَكانَ قادِرًا عَلى أنْ يَرُدَّكم إلى حالِ الحَياةِ ﴿أوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ﴾ عِنْدَكم عَنْ قَبُولِ الحَياةِ، ويَعْظُمُ في زَعْمِكم عَلى الخالِقِ إحْياؤُهُ فَإنَّهُ يُحْيِيهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كُونُوا إنِ اسْتَطَعْتُمْ هَذِهِ الأشْياءَ الصَّعْبَةَ المُمْتَنِعَةَ التَّأتِّي، لا بُدَّ مِن بَعْثِكم. وقَوْلُهُ: ﴿كُونُوا﴾ هو الَّذِي يُسَمِّيهِ المُتَكَلِّمُونَ التَّعْجِيزَ مِن أنْواعِ أفْعَلَ، وبِهَذِهِ الآيَةِ مَثَّلَ بَعْضُهم، وفي هَذا عِنْدِي نَظَرٌ، وإنَّما التَّعْجِيزُ حَيْثُ يَقْتَضِي بِالأمْرِ فِعْلَ ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ المُخاطَبُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فادْرَءُوا عَنْ أنْفُسِكُمُ المَوْتَ﴾ [آل عمران: ١٦٨] ونَحْوِهِ. وأمّا هَذِهِ الآيَةُ فَمَعْناها كُونُوا بِالتَّوَهُّمِ، والتَّقْدِيرِ كَذا وكَذا ﴿الَّذِي فَطَرَكُمْ﴾ كَذَلِكَ هو يُعِيدُكُمُ. انْتَهى. وقالَ مُجاهِدٌ: المَعْنى ﴿كُونُوا﴾ ما شِئْتُمْ فَسَتُعادُونَ. وقالَ النَّحّاسُ: هَذا قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لِأنَّهم لا يَسْتَطِيعُونَ أنْ يَكُونُوا حِجارَةً، وإنَّما المَعْنى أنَّهم قَدْ أقَرُّوا بِخالِقِهِمْ وأنْكَرُوا البَعْثَ، فَقِيلَ لَهم: اسْتَشْعِرُوا أنْ تَكُونُوا ما شِئْتُمْ، فَلَوْ كُنْتُمْ ﴿حِجارَةً أوْ حَدِيدًا﴾ لَبُعِثْتُمْ كَما خُلِقْتُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ. انْتَهى. ﴿أوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ في صُدُورِكُمْ﴾ صَلابَتُهُ وزِيادَتُهُ عَلى قُوَّةِ الحَدِيدِ وصَلابَتِهِ، ولَمْ يُعَيِّنْهُ، تَرَكَ ذَلِكَ إلى أفْكارِهِمْ وجَوَلانِها فِيما هو أصْلَبُ مِنَ الحَدِيدِ، فَبَدَأ أوَّلًا بِالصُّلْبِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَلى سَبِيلِ التَّرَقِّي الأصْلَبَ مِنهُ، ثُمَّ الأصْلَبَ مِنَ الحَدِيدِ، أيِ: افْرِضُوا ذَواتِكم شَيْئًا مِن هَذِهِ، فَإنَّهُ لا بُدَّ لَكم مِنَ البَعْثِ عَلى أيِّ حالٍ كُنْتُمْ. وقالَ ابْنُ عُمَرَ وابْنُ عَبّاسٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ والحَسَنُ وابْنُ جُبَيْرٍ والضَّحّاكُ: الَّذِي يَكْبُرُ: المَوْتُ، أيْ: لَوْ كُنْتُمُ المَوْتَ لَأماتَكم ثُمَّ أحْياكم. وهَذا التَّفْسِيرُ لا يَتِمُّ إلّا إذا أُرِيدَ المُبالَغَةُ لا نَفْسُ الأمْرِ، لِأنَّ البَدَنَ جِسْمٌ والمَوْتَ عَرَضٌ، ولا يَنْقَلِبُ الجِسْمُ عَرَضًا، ولَوْ فُرِضَ انْقِلابُهُ عَرَضًا لَمْ يَكُنْ لِيَقْبَلَ الحَياةَ لِأجْلِ الضِّدِّيَّةِ. وقالَ مُجاهِدٌ: الَّذِي يَكْبُرُ: السَّماواتُ والأرْضُ والجِبالُ. ولَمّا ذَكَرَ أنَّهم لَوْ كانُوا أصْلَبَ شَيْءٍ وأبْعَدَهُ مِن حُلُولِ الحَياةِ بِهِ كانَ خَلْقُ الحَياةِ فِيهِ مُمْكِنًا، قالُوا: مَنِ الَّذِي هو قادِرٌ عَلى صَيْرُورَةِ الحَياةِ فِينا وإعادَتِنا، فَنَبَّهَهم عَلى ما يَقْتَضِي الإعادَةَ، وهو أنَّ الَّذِي أنْشَأكم واخْتَرَعَكم أوَّلَ مَرَّةٍ هو الَّذِي يُعِيدُكم، و(الَّذِي) مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ ﴿الَّذِي فَطَرَكم أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يُعِيدُكم فَيُطابِقُ الجَوابُ السُّؤالَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ فاعِلًا، أيْ: يُعِيدُكُمُ الَّذِي فَطَرَكم، ويَجُوزُ أنْ (p-٤٧)يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ، أيْ: مُعِيدُكُمُ الَّذِي فَطَرَكم، و﴿أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ ظَرْفٌ العامِلُ فِيهِ ﴿فَطَرَكُمْ﴾ قالَهُ الحَوْفِيُّ. ﴿فَسَيُنْغِضُونَ﴾ أيْ: يُحَرِّكُونَها عَلى سَبِيلِ التَّكْذِيبِ والِاسْتِبْعادِ، ويَقُولُونَ: مَتى هو ؟ أيْ: مَتى العَوْدُ ؟ ولَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّسْلِيمِ لِلْعَوْدِ ولَكِنْ حَيْدَةً وانْتِقالًا لِما لا يُسْألُ عَنْهُ؛ لِأنَّ ما يَثْبُتُ إمْكانُهُ بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ لا يُسْألُ عَنْ تَعْيِينِ وُقُوعِهِ، ولَكِنْ أجابَهم عَنْ سُؤالِهِمْ بِقُرْبِ وُقُوعِهِ لا بِتَعْيِينِ زَمانِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مِمّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعالى بِعِلْمِهِ، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ في ﴿عَسى﴾ إضْمارٌ، أيْ عَسى هو، أيِ العَوْدُ، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مَرْفُوعُها ﴿أنْ يَكُونَ﴾ فَتَكُونَ تامَّةً. و﴿قَرِيبًا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرَ كانَ عَلى أنَّهُ يَكُونُ العَوْدُ مُتَّصِفًا بِالقُرْبِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا، أيْ: زَمانًا قَرِيبًا، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ: يَوْمَ نَدْعُوكم بَدَلًا مِن قَرِيبًا. وقالَ أبُو البَقاءِ: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ﴾ ظَرْفٌ لِيَكُونَ، ولا يَجُوزَ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِاسْمِ كانَ، وإنْ كانَ ضَمِيرَ المَصْدَرِ؛ لِأنَّ الضَّمِيرَ لا يَعْمَلُ. انْتَهى. أمّا كَوْنُهُ ظَرْفًا لِيَكُونَ فَهَذا مَبْنِيٌّ عَلى جَوازِ عَمَلِ كانَ النّاقِصَةِ في الظَّرْفِ وفِيهِ خِلافٌ. وأمّا قَوْلُهُ: لِأنَّ الضَّمِيرَ لا يَعْمَلُ فَهو مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، وأمّا الكُوفِيُّونَ فَيُجِيزُونَ أنْ يَعْمَلَ نَحْوُ: مُرُورِي بِزَيْدٍ حَسَنٌ، وهو بِعَمْرٍو قَبِيحٌ، يُعَلِّقُونَ بِعَمْرٍو بِلَفْظِ هو أيْ: ومُرُورِي بِعَمْرٍو قَبِيحٌ. والظّاهِرُ أنَّ الدُّعاءَ حَقِيقَةٌ أيْ يَدْعُوكم بِالنِّداءِ الَّذِي يُسْمِعُكم وهو النَّفْخَةُ الأخِيرَةُ كَما قالَ: ﴿يَوْمَ يُنادِي المُنادِ مِن مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ [ق: ٤١] الآيَةَ. ويُقالُ: إنَّ إسْرافِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - يُنادِي: أيَّتُها الأجْسامُ البالِيَةُ والعِظامُ النَّخِرَةُ والأجْزاءُ المُتَفَرِّقَةُ عُودِي كَما كُنْتِ. ورُوِيَ في الحَدِيثِ أنَّهُ قالَ ﷺ: «إنَّكم تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ بِأسْمائِكم وأسْماءِ آبائِكم، فَأحْسِنُوا أسْماءَكم» . ومَعْنى ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ﴾ تُوافِقُونَ الدّاعِيَ فِيما دَعاكم إلَيْهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الدُّعاءُ والِاسْتِجابَةُ كِلاهُما مَجازٌ، والمَعْنى: يَوْمَ يَبْعَثُكم فَتَنْبَعِثُونَ مُطاوِعِينَ مُنْقادِينَ لا تَمْتَنِعُونَ. انْتَهى. والظّاهِرُ: أنَّ الخِطابَ لِلْكُفّارِ إذِ الكَلامُ قَبْلَ ذَلِكَ مَعَهم فالضَّمِيرُ لَهم، و﴿بِحَمْدِهِ﴾ حالٌ مِنهم. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهي مُبالَغَةٌ في انْقِيادِهِمْ لِلْبَعْثِ، كَقَوْلِكَ لِمَن تَأْمُرُهُ بِرُكُوبِ ما يَشُقُّ عَلَيْهِ فَيَتَأبّى، ويَمْتَنِعُ: سَتَرْكَبُهُ وأنْتَ حامِدٌ شاكِرٌ، يَعْنِي: أنَّكَ تُحْمَلُ عَلَيْهِ وتُقْسَرُ قَسْرًا حَتّى أنَّكَ تَلِينُ لِينَ المُسامِحِ الرّاغِبِ فِيهِ الحامِدِ عَلَيْهِ. وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يَنْفُضُونَ التُّرابَ عَنْ رُءُوسِهِمْ، ويَقُولُونَ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ. انْتَهى. وذَلِكَ لِما ظَهَرَ لَهم مِن قُدْرَتِهِ. وقِيلَ: مَعْنى ﴿بِحَمْدِهِ﴾ أنَّ الرَّسُولَ قائِلٌ ذَلِكَ، لا أنَّهم يَكُونُ (بِحَمْدِهِ) حالًا مِنهم، فَكَأنَّهُ قالَ: عَسى أنْ تَكُونَ السّاعَةُ قَرِيبَةً يَوْمَ يَدْعُوكم فَتَقُومُونَ بِخِلافِ ما تَعْتَقِدُونَ الآنَ، وذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلى صِدْقِ خَبَرِي، كَما تَقُولُ لِرَجُلٍ خَصَمْتَهُ أوْ حاوَرْتَهُ في عِلْمٍ: قَدْ أخْطَأْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ، فَبِحَمْدِ اللَّهِ لَيْسَ حالًا مِن فاعِلِ أخْطَأْتَ، بَلِ المَعْنى: أخْطَأْتَ والحَمْدُ لِلَّهِ. وهَذا مَعْنًى مُتَكَلَّفٌ نَحا إلَيْهِ الطَّبَرِيُّ، وكانَ ﴿بِحَمْدِهِ﴾ يَكُونُ اعْتِراضًا إذْ مَعْناهُ والحَمْدُ لِلَّهِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ ∗∗∗ لَبِسْتُ ولا مِن غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ . أيْ: فَإنِّي والحَمْدُ لِلَّهِ، فَهَذا اعْتِراضٌ بَيْنَ اسْمِ إنَّ وخَبَرِها، كَما أنَّ ﴿بِحَمْدِهِ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ المُتَعاطِفَيْنِ، ووَقَعَ في لَفْظِ ابْنِ عَطِيَّةَ حِينَ قَرَّرَ هَذا المَعْنى قَوْلُهُ: عَسى أنَّ السّاعَةَ قَرِيبَةٌ وهو تَرْكِيبٌ لا يَجُوزُ، لا تَقُولُ: عَسى أنَّ زَيْدًا قائِمٌ، بِخِلافِ: عَسى أنْ يَقُومَ زَيْدٌ، وعَلى أنْ يَكُونَ ﴿بِحَمْدِهِ﴾ حالًا مِن ضَمِيرِ ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ﴾ . قالَ المُفَسِّرُونَ: حَمِدُوا حِينَ لا يَنْفَعُهُمُ الحَمْدُ. وقالَ قَتادَةُ: مَعْناهُ بِمَعْرِفَتِهِ وطاعَتِهِ ﴿وتَظُنُّونَ إنْ لَبِثْتُمْ إلّا قَلِيلًا﴾ . قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ الأُولى والثّانِيَةِ فَإنَّهُ يُزالُ عَنْهُمُ العَذابُ في ذَلِكَ الوَقْتِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿مَن بَعَثَنا مِن مَرْقَدِنا هَذا﴾ [يس: ٥٢] فَهَذا عائِدٌ إلى لُبْثِهِمْ فِيما بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. وقالَ الحَسَنُ: تَقْرِيبُ وقْتِ البَعْثِ فَكَأنَّكَ بِالدُّنْيا ولَمْ تَكُنْ، وبِالآخِرَةِ لَمْ تَزَلْ، فَهَذا يَرْجِعُ إلى اسْتِقْلالِ مُدَّةِ اللُّبْثِ في الدُّنْيا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿وتَظُنُّونَ﴾ وتَرَوْنَ الهَوْلَ فَعِنْدَهُ تَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ لُبْثِكم في الدُّنْيا، وتَحْسَبُونَها (p-٤٨)يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وعَنْ قَتادَةَ: تَحاقَرَتِ الدُّنْيا في أنْفُسِهِمْ حِينَ عايَنُوا الآخِرَةَ. انْتَهى. وقِيلَ: اسْتَقَلُّوا لُبْثَهم في عَرْصَةِ القِيامَةِ؛ لِأنَّهُ لَمّا كانَتْ عاقِبَةُ أمْرِهِمُ الدُّخُولَ إلى النّارِ اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ في بَرْزَخِ القِيامَةِ. وقِيلَ: تَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ عَسى أنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ . و﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ﴾ خِطابٌ مَعَ المُؤْمِنِينَ لا مَعَ الكافِرِينَ؛ لِأنَّهم يَسْتَجِيبُونَ لِلَّهِ ﴿بِحَمْدِهِ﴾ يَحْمَدُونَهُ عَلى إحْسانِهِ إلَيْهِمْ، فَلا يَلِيقُ هَذا إلّا بِهِمْ. وقِيلَ: يَحْمَدُهُ المُؤْمِنُ اخْتِيارًا والكافِرُ اضْطِرارًا، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الخِطابَ لِلْكافِرِ والمُؤْمِنِ وهو الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وإذا كانَ الخِطابُ لِلْكُفّارِ، وهو الظّاهِرُ فَيُحْمَلُ أنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلى بابِهِ، فَيَكُونُ لَمّا رَجَعُوا إلى حالَةِ الحَياةِ وقَعَ لَهُمُ الظَّنُّ أنَّهم لَمْ يَنْفَصِلُوا عَنِ الدُّنْيا إلّا في زَمَنٍ قَلِيلٍ إذْ كانُوا في ظَنِّهِمْ نائِمِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى اليَقِينِ مِن حَيْثُ عَلِمُوا أنَّ ذَلِكَ مُنْقَضٍ مُتَصَرِّمٌ. والظّاهِرُ أنَّ ﴿وتَظُنُّونَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى تَسْتَجِيبُونَ، وقالَهُ الحَوْفِيُّ. وقالَ أبُو البَقاءِ: أيْ: وأنْتُمْ (تَظُنُّونَ) والجُمْلَةُ حالٌ. انْتَهى. وإنْ هُنا نافِيَةٌ، ﴿وتَظُنُّونَ﴾ مُعَلَّقٌ عَنِ العَمَلِ، فالجُمْلَةُ بَعْدَهُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وقَلَّما ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ في أدَواتِ التَّعْلِيقِ إنِ النّافِيَةَ، ويَظْهَرُ أنَّ انْتِصابَ ﴿قَلِيلًا﴾ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِزَمانٍ مَحْذُوفٍ أيْ: إلّا زَمانًا قَلِيلًا، كَقَوْلِهِ: ﴿قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [الكهف: ١٩] ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ: لُبْثًا قَلِيلًا، ودَلالَةُ الفِعْلِ عَلى مَصْدَرِهِ دَلالَةٌ قَوِيَّةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب