الباحث القرآني
﴿وإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا﴾ ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا وإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القُرْآنِ وحْدَهُ ولَّوْا عَلى أدْبارِهِمْ نُفُورًا﴾ ﴿نَحْنُ أعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إذْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ وإذْ هم نَجْوى إذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ ﴿وقالُوا أئِذا كُنّا عِظامًا ورُفاتًا أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ .
نَزَلَتْ ﴿وإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ﴾ في أبِي سُفْيانَ والنَّضْرِ وأبِي جَهْلٍ وأُمِّ جَمِيلٍ امْرَأةِ أبِي (p-٤٢)لَهَبٍ، كانُوا يُؤْذُونَ الرَّسُولَ إذا قَرَأ القُرْآنَ، فَحَجَبَ اللَّهُ أبْصارَهم إذا قَرَأ فَكانُوا يَمُرُّونَ بِهِ ولا يَرَوْنَهُ، قالَهُ الكَلْبِيُّ: وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «نَزَلَتْ في امْرَأةِ أبِي لَهَبٍ، دَخَلَتْ مَنزِلَ أبِي بَكْرٍ وبِيَدِها فِهْرٌ والرَّسُولُ ﷺ عِنْدَهُ، فَقالَتْ: هَجانِي صاحِبُكَ، قالَ: ما هو بِشاعِرٍ، قالَتْ: قالَ: ﴿فِي جِيدِها حَبْلٌ مِن مَسَدٍ﴾ [المسد: ٥] وما يُدْرِيهِ ما في جِيدِي ؟ فَقالَ لِأبِي بَكْرٍ: ”سَلْها هَلْ تَرى غَيْرَكَ ؟ فَإنَّ مَلَكًا لَمْ يَزَلْ يَسْتُرُنِي عَنْها“ فَسَألَها، فَقالَتْ: أتَهْزَأُ بِي ما أرى غَيْرَكَ، فانْصَرَفَتْ ولَمْ تَرَ الرَّسُولَ ﷺ» . وقِيلَ: نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِن بَنِي عَبْدِ الدّارِ كانُوا يُؤْذُونَهُ في اللَّيْلِ إذا صَلّى وجَهَرَ بِالقِراءَةِ، فَحالَ اللَّهُ بَيْنَهم وبَيْنَ أذاهُ.
ولَمّا تَقَدَّمَ الكَلامُ في تَقْرِيرِ الإلَهِيَّةِ جاءَ بَعْدَهُ تَقْرِيرُ النُّبُوَّةِ وذِكْرُ شَيْءٍ مِن أحْوالِ الكَفَرَةِ في إنْكارِها وإنْكارِ المَعادِ، والمَعْنى: وإذا شَرَعْتَ في القِراءَةِ، ولَيْسَ المَعْنى عَلى الفَراغِ مِنَ القِراءَةِ بَلِ المَعْنى عَلى أنَّكَ إذا التَبَسْتَ بِقِراءَةِ القُرْآنِ، ولا يُرادُ بِالقُرْآنِ جَمِيعُهُ بَلْ ما يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، فَإنَّكَ تَقُولُ لِمَن يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ: هَذا يَقْرَأُ القُرْآنَ، والظّاهِرُ أنَّ القُرْآنَ هُنا هو ما قُرِئَ مِنَ القُرْآنِ أيَّ شَيْءٍ كانَ مِنهُ، وقِيلَ: ثَلاثُ آياتٍ مِنهُ مُعَيَّنَةٌ، وهي في النَّحْلِ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ﴾ [النحل: ١٠٨] - إلى - ﴿الغافِلُونَ﴾ [النحل: ١٠٨] وفي الكَهْفِ ﴿ومَن أظْلَمُ﴾ [الكهف: ٥٧] - إلى - ﴿إذًا أبَدًا﴾ [الكهف: ٥٧] وفي الجاثِيَةِ ﴿أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ﴾ [الجاثية: ٢٣] - إلى - ﴿أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: ٢٣] وعَنْ كَعْبٍ أنَّ الرَّسُولَ كانَ يَسْتَتِرُ بِهَذِهِ الآياتِ، وعَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أنَّهُ عَيَّنَها لَهُ هاتِفٌ مِن جانِبِ البَيْتِ، وعَنْ بَعْضِهِمْ: أنَّهُ أسَرَّ زَمانًا ثُمَّ اهْتَدى قِراءَتَها فَخَرَجَ لا يُبْصِرُهُ الكُفّارُ وهم يَتَطَلَّبُونَهُ تَمَسُّ ثِيابُهم ثِيابَهُ. قالَ القُرْطُبِيُّ: ويُزادُ إلى هَذِهِ الآيِ أوَّلُ يس إلى ﴿فَهم لا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ٩] فَفي السِّيرَةِ «أنَّ الرَّسُولَ ﷺ حِينَ نامَ عَلى فِراشِهِ خَرَجَ يَنْثُرُ التُّرابَ عَلى رُءُوسِ الكُفّارِ فَلا يَرَوْنَهُ، وهو يَتْلُو هَذِهِ الآياتِ مِن يس، ولَمْ يُبْقِ أحَدًا مِنهم إلّا وضَعَ عَلى رَأْسِهِ تُرابًا»، والظّاهِرُ أنَّ المَعْنى: جَعَلْنا بَيْنَ رُؤْيَتِكَ وبَيْنَ أبْصارِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ كَما ورَدَ في سَبَبِ النُّزُولِ.
وقالَ قَتادَةُ والزَّجّاجُ وجَماعَةٌ ما مَعْناهُ: جَعَلْنا بَيْنَ فَهْمِ ما تَقْرَأُ وبَيْنَهم ﴿حِجابًا﴾ فَلا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّتِكَ ولا بِالبَعْثِ، فالمَعْنى قَرِيبٌ مِنَ الآيَةِ بَعْدَها، والظّاهِرُ إقْرارُ ﴿مَسْتُورًا﴾ عَلى مَوْضُوعِهِ مِن كَوْنِهِ اسْمَ مَفْعُولٍ أيْ مَسْتُورًا عَنْ أعْيُنِ الكُفّارِ فَلا يَرَوْنَهُ، أوْ ﴿مَسْتُورًا﴾ بِهِ الرَّسُولُ عَنْ رُؤْيَتِهِمْ. ونُسِبَ السَّتْرُ إلَيْهِ لَمّا كانَ مَسْتُورًا بِهِ، قالَهُ المُبَرِّدُ، ويُؤَوَّلُ مَعْناهُ إلى أنَّهُ ذُو سَتْرٍ كَما جاءَ في صِيغَةِ لابِنٍ وتامِرٍ أيْ: ذُو لَبَنٍ، وذُو تَمْرٍ. وقالُوا: رَجُلٌ مَرْطُوبٌ أيْ: ذُو رَطْبَةٍ، ولا يُقالُ رَطَّبْتُهُ، ومَكانٌ مَهُولٌ أيْ: ذُو هَوْلٍ، وجارِيَةٌ مَغْنُوجَةٌ، ولا يُقالُ: هُلْتُ المَكانَ، ولا غَنِجَتِ الجارِيَةُ. وقالَ الأخْفَشُ وجَماعَةٌ: ﴿مَسْتُورًا﴾ ساتِرًا واسْمُ الفاعِلِ قَدْ يَجِيءُ بِلَفْظِ المَفْعُولِ، كَما قالُوا: مَشْئُومٌ ومَيْمُونٌ يُرِيدُونَ شائِمٌ ويامِنٌ. وقِيلَ: مَسْتُورٌ: وصْفٌ عَلى جِهَةِ المُبالَغَةِ، كَما قالُوا: شِعْرٌ شاعِرٌ، ورُدَّ بِأنَّ المُبالَغَةَ إنَّما تَكُونُ بِاسْمِ الفاعِلِ ومِن لَفْظِ الأوَّلِ ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في أوائِلِ الأنْعامِ ﴿وإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القُرْآنِ وحْدَهُ﴾ . قِيلَ: «دَخَلَ مَلَأُ قُرَيْشٍ عَلى أبِي طالِبٍ يَزُورُونَهُ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَرَأ ومَرَّ بِالتَّوْحِيدِ، ثُمَّ قالَ: ”يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قُولُوا لا إلَهَ إلّا اللَّهُ تَمْلِكُونَ بِها العَرَبَ وتَدِينُ لَكُمُ العَجَمُ“ فَوَلَّوْا ونَفَرُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» . والظّاهِرُ أنَّ الآيَةَ في حالِ الفارِّينَ عِنْدَ وقْتِ قِراءَتِهِ ومُرُورِهِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، والمَعْنى: إذا جاءَتْ مَواضِعُ التَّوْحِيدِ فَرَّ الكُفّارُ إنْكارًا لَهُ واسْتِبْشاعًا لِرَفْضِ آلِهَتِهِمْ واطِّراحِها.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وحَدَ يَحِدُ وحْدًا وحِدَةً نَحْوُ وعَدَ يَعِدُ (p-٤٣)وعْدًا وعِدَةً و(وحْدَهُ) مِن بابِ رَجَعَ عَوْدُهُ عَلى بَدْئِهِ، وافْعَلْهُ جُهْدَكَ وطاقَتَكَ في أنَّهُ مَصْدَرٌ سادٌّ مَسَدَّ الحالِ، أصْلُهُ يَحِدُ وحْدَهُ بِمَعْنى واحِدًا. انْتَهى. وما ذُهِبَ إلَيْهِ مِن أنَّ (وحْدَهُ) مَصْدَرٌ سادٌّ مَسَدَّ الحالِ، خِلافُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، و(وحْدَهُ) عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لَيْسَ مَصْدَرًا بَلْ هو اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَرِ المَوْضُوعِ مَوْضِعَ الحالِ، فَـ وحْدَهُ عِنْدَهُ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ إيحادٍ، وإيحادٌ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ مُوَحِّدٍ. وذَهَبَ يُونُسُ إلى أنَّ (وحْدَهُ) مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِ، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ مَصْدَرٌ لا فِعْلَ لَهُ، وقَوْمٌ إلى أنَّهُ مَصْدَرٌ لِأوْحَدَ عَلى حَذْفِ الزِّيادَةِ، وقَوْمٌ إلى أنَّهُ مَصْدَرٌ لِوَحْدٍ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وحُجَجُ هَذِهِ الأقْوالِ مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ النَّحْوِ. وإذا ذَكَرْتَ (وحْدَهُ) بَعْدَ فاعِلٍ ومَفْعُولٍ نَحْوُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّهُ حالٌ مِنَ الفاعِلِ، أيْ: مُوَحِّدًا لَهُ بِالضَّرْبِ، ومَذْهَبُ المُبَرِّدِ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ المَفْعُولِ فَعَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ ﴿وإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ﴾ مُوَحِّدًا لَهُ بِالذِّكْرِ، وعَلى مَذْهَبِ أبِي العَبّاسِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مُوَحِّدًا بِالذِّكْرِ.
و(نُفُورًا) حالٌ جَمْعُ نافِرٍ كَقاعِدٍ وقُعُودٍ، أوْ مَصْدَرٌ عَلى غَيْرِ الصَّدْرِ؛ لِأنَّ مَعْنى ﴿ولَّوْا﴾ نَفَرُوا، والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ في ﴿ولَّوْا﴾ عَلى الكُفّارِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهم. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو ضَمِيرُ الشَّياطِينِ؛ لِأنَّهم يَفِرُّونَ مِنَ القُرْآنِ دَلَّ عَلى ذَلِكَ المَعْنى، وإنْ لَمْ يَجْرِ لَهم ذِكْرٌ. وقالَ أبُو الحَوْراءِ أوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ شَيْءٌ أطْرَدَ لِلشَّيْطانِ مِنَ القَلْبِ مِن لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، ثُمَّ تَلا ﴿وإذا ذَكَرْتَ﴾ الآيَةَ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ: هو البَسْمَلَةُ ﴿نَحْنُ أعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ﴾ أيْ: بِالِاسْتِخْفافِ الَّذِي يَسْتَمِعُونَ بِهِ والهُزْءِ بِكَ واللَّغْوِ، كانَ إذا قَرَأ ﷺ قامَ رَجُلانِ مِن بَنِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يَمِينِهِ ورَجُلانِ مِنهم عَنْ يَسارِهِ، فَيُصَفِّقُونَ ويُصَفِّرُونَ ويُخَلِّطُونَ عَلَيْهِ بِالأشْعارِ. وبِما مُتَعَلِّقٌ بِأعْلَمَ، وما كانَ في مَعْنى العِلْمِ والجَهْلِ، وإنْ كانَ مُتَعَدِّيًا لِمَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ فَإنَّهُ إذا كانَ في بابِ أفْعَلَ في التَّعَجُّبِ، وفي أفْعَلِ التَّفْضِيلِ تَعَدّى بِالباءِ، تَقُولُ: ما أعْلَمَ زَيْدًا بِكَذا وما أجْهَلَهُ بِكَذا، وهو أعْلَمُ بِكَذا وأجْهَلُ بِكَذا بِخِلافِ سائِرِ الأفْعالِ المُتَعَدِّيَةِ لِمَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ، فَإنَّهُ يَتَعَدّى في أفْعَلَ في التَّعَجُّبِ وأفْعَلَ التَّفْضِيلِ بِاللّامِ، تَقُولُ: ما أضْرَبَ زَيْدًا لِعَمْرٍو، وزَيْدٌ أضْرَبُ لِعَمْرٍو مِن بَكْرٍ، وبِهِ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في مَوْضِعِ الحالِ كَما تَقُولُ: يَسْتَمِعُونَ بِالهُزْءِ أيْ: هازِئِينَ (وإذْ يَسْتَمِعُونَ) نُصِبَ بِأعْلَمَ أيْ: أعْلَمُ وقْتَ اسْتِماعِهِمْ بِما بِهِ يَسْتَمِعُونَ وبِما بِهِ يَتَناجَوْنَ، إذْ هم ذَوُو نَجْوى ﴿إذْ يَقُولُ﴾ بَدَلٌ مِن (إذْ هم) . انْتَهى.
وقالَ الحَوْفِيُّ: لَمْ يَقُلْ: يَسْتَمِعُونَهُ ولا يَسْتَمِعُونَكَ، لَمّا كانَ الغَرَضُ لَيْسَ الإخْبارَ عَنِ الِاسْتِماعِ فَقَطْ، وكانَ مُضَمَّنًا أنَّ الِاسْتِماعَ كانَ عَلى طَرِيقِ الهُزْءِ بِأنْ يَقُولُوا: مَجْنُونٌ أوْ مَسْحُورٌ، جاءَ الِاسْتِماعُ بِالباءِ وإلى؛ لِيُعْلَمَ أنَّ الِاسْتِماعَ لَيْسَ المُرادُ بِهِ تَفَهُّمَ المَسْمُوعِ دُونَ هَذا المَقْصِدِ ﴿إذْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ وإذْ هم نَجْوى﴾ فَإذِ الأُولى تَتَعَلَّقُ بِـ ﴿يَسْتَمِعُونَ﴾ بِهِ وكَذا ﴿وإذْ هم نَجْوى﴾ لِأنَّ المَعْنى نَحْنُ أعْلَمُ بِالَّذِي يَسْتَمِعُونَ بِهِ إلَيْكَ وإلى قِراءَتِكَ وكَلامِكَ، إنَّما يَسْتَمِعُونَ لِسَقَطِكَ وتَتَبُّعِ عَيْبِكَ والتِماسِ ما يَطْعَنُونَ بِهِ عَلَيْكَ، يَعْنِي في زَعْمِهِمْ، ولِهَذا ذُكِرَ تَعْدِيَتُهُ بِالباءِ وإلى. انْتَهى. وقالَ أبُو البَقاءِ: يَسْتَمِعُونَ بِهِ. قِيلَ: الباءُ بِمَعْنى اللّامِ، وإذْ ظَرْفٌ لِيَسْتَمِعُونَ الأُولى، والنَّجْوى مَصْدَرٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ جَمْعُ نَجِيٍّ كَقَتِيلٍ وقَتْلى، وإذْ بَدَلٌ مِن (إذْ) الأُولى. وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: اذْكُرْ إذْ تَقُولُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الضَّمِيرُ في بِهِ عائِدٌ عَلى ما هو بِمَعْنى الَّذِي، والمُرادُ الِاسْتِخْفافُ والإعْراضُ، فَكَأنَّهُ قالَ: نَحْنُ أعْلَمُ بِالِاسْتِخْفافِ والِاسْتِهْزاءِ الَّذِي يَسْتَمِعُونَ بِهِ، أيْ: هو مُلازِمُهم، فَفَضَحَ اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ سِرَّهم، والعامِلُ في (إذْ) الأُولى، وفي المَعْطُوفِ ﴿يَسْتَمِعُونَ﴾ الأُولى. انْتَهى. تَناجَوْا، فَقالَ النَّضْرُ: ما أفْهَمُ ما تَقُولُ، وقالَ أبُو سُفْيانَ: أرى بَعْضَهُ حَقًّا، وقالَ أبُو جَهْلٍ: مَجْنُونٌ، وقالَ أبُو لَهَبٍ: كاهِنٌ، وقالَ حُوَيْطِبٌ: شاعِرٌ، وقالَ بَعْضُهم: أساطِيرُ الأوَّلِينَ، وبَعْضُهم: إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، ورُوِيَ أنَّ تَناجِيَهم كانَ عِنْدَ عُتْبَةَ دَعا أشْرافَ قُرَيْشٍ إلى (p-٤٤)طَعامٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ وقَرَأ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ ودَعاهم إلى اللَّهِ. فَتَناجَوْا، يَقُولُونَ: ساحِرٌ مَجْنُونٌ، والظّاهِرُ أنَّ ﴿مَسْحُورًا﴾ مِنَ السِّحْرِ أيْ: خَبِلَ عَقْلَهُ السِّحْرُ. وقالَ مُجاهِدٌ: مَخْدُوعًا نَحْوُ ﴿فَأنّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٩] أيْ: تُخْدَعُونَ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: ﴿مَسْحُورًا﴾ مَعْناهُ: أنَّ لَهُ سَحْرًا أيْ: رِئَةً فَهو لا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعامِ والشَّرابِ، فَهو مِثْلُكم ولَيْسَ بِمَلَكٍ، وتَقُولُ العَرَبُ لِلْجَبانِ: قَدِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ، ولِكُلِّ مَن أكَلَ أوْ شَرِبَ مِن آدَمِيٍّ وغَيْرِهِ مَسْحُورٌ. قالَ:
؎أرانا مُوضَعِينَ لِأمْرِ غَيْبٍ ونُسْحَرُ بِالطَّعامِ وبِالشَّرابِ
أيْ: نُغَذّى ونُعَلَّلُ ونُسْحَرُ. قالَ لَبِيدٌ:
؎فَإنْ تَسْألِينا فِيمَ نَحْنُ فَإنَّنا ∗∗∗ عَصافِيرُ مِن هَذا الأنامِ المُسَحَّرِ
قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لا أدْرِي ما الَّذِي حَمَلَ أبا عُبَيْدَةَ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ المُسْتَكْرَهِ مَعَ أنَّ السَّلَفَ فَسَّرُوهُ بِالوُجُوهِ الواضِحَةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الآيَةُ الَّتِي بَعْدَ هَذا تُقَوِّي أنَّ اللَّفْظَةَ مِنَ السِّحْرِ بِكَسْرِ السِّينِ؛ لِأنَّ في قَوْلِهِمْ ضَرْبَ مَثَلٍ، وأمّا عَلى أنَّها مِنَ السَّحْرِ الَّذِي هو الرِّئَةُ، ومِنَ التَّغَذِّي وأنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى أنَّهُ بَشَرٌ فَلَمْ يُضْرَبْ لَهُ في ذَلِكَ مَثَلٌ بَلْ هي صِفَةٌ حَقِيقَةٌ لَهُ، و﴿الأمْثالَ﴾ تَقَدَّمَ ما قالُوهُ في تَناجِيهِمْ، وكانَ ذَلِكَ مِنهم عَلى جِهَةِ التَّسْلِيَةِ والتَّلْبِيسِ، ثُمَّ رَأى الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ: أنَّ أقْرَبَها لِتَخْيِيلِ الطّارِئِينَ عَلَيْهِمْ هو أنَّهُ ساحِرٌ فَضَلُّوا في جَمِيعِ ذَلِكَ ضَلالَ مَن يَطْلُبُ فِيهِ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ، فَلا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَهو مُتَحَيِّرٌ في أمْرِهِ عَلَيْهِمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهُدى والنَّظَرِ المُؤَدِّي إلى الإيمانِ، أوْ سَبِيلًا إلى إفْسادِ أمْرِكَ وإطْفاءِ نُورِ اللَّهِ بِضَرْبِهِمُ الأمْثالَ، واتِّباعِهِمْ كُلَّ حِيلَةٍ في جِهَتِكَ.
وحَكى الطَّبَرِيُّ أنَّها نَزَلَتْ في الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ وأصْحابِهِ ﴿وقالُوا أئِذا كُنّا﴾ هَذا اسْتِفْهامُ تَعَجُّبٍ وإنْكارٍ واسْتِبْعادٍ، لَمّا ضَرَبُوا لَهُ الأمْثالَ، وقالُوا عَنْهُ: إنَّهُ مَسْحُورٌ، ذَكَرُوا ما اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلى زَعْمِهِمْ عَلى اتِّصافِهِ بِما نَسَبُوا إلَيْهِ، واسْتَبْعَدُوا أنَّهُ بَعْدَ ما يَصِيرُ الإنْسانُ رُفاتًا يُحْيِيهِ اللَّهُ ويُعِيدُهُ، وقَدْ رُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأنَّهُ تَعالى هو الَّذِي فَطَرَهم بَعْدَ العَدَمِ الصِّرْفِ عَلى ما يَأْتِي شَرْحُهُ في الآيَةِ بَعْدَ هَذا، ومَن قَرَأ مِنَ القُرّاءِ إذا وإنّا مَعًا أوْ إحْداهُما عَلى صُورَةِ الخَبَرِ فَلا يُرِيدُ الخَبَرَ حَقِيقَةً؛ لِأنَّ ذَلِكَ كانَ يَكُونُ تَصْدِيقًا بِالبَعْثِ والنَّشْأةِ الآخِرَةِ، ولَكِنَّهُ حَذَفَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهامِ لِدَلالَةِ المَعْنى. وفي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: إذا كُنّا تُرابًا وعِظامًا نُبْعَثُ أوْ نُعادُ، وحُذِفَ لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وهَذا المَحْذُوفُ هو جَوابُ الشَّرْطِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ والَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الِاسْتِفْهامُ وانْصَبَّ عَلَيْهِ عِنْدَ يُونُسَ، و﴿خَلْقًا﴾ حالٌ، وهو في الأصْلِ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلى المَفْعُولِ أيْ: مَخْلُوقًا.
{"ayahs_start":45,"ayahs":["وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَیۡنَكَ وَبَیۡنَ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ حِجَابࣰا مَّسۡتُورࣰا","وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن یَفۡقَهُوهُ وَفِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرࣰاۚ وَإِذَا ذَكَرۡتَ رَبَّكَ فِی ٱلۡقُرۡءَانِ وَحۡدَهُۥ وَلَّوۡا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَـٰرِهِمۡ نُفُورࣰا","نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا یَسۡتَمِعُونَ بِهِۦۤ إِذۡ یَسۡتَمِعُونَ إِلَیۡكَ وَإِذۡ هُمۡ نَجۡوَىٰۤ إِذۡ یَقُولُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلࣰا مَّسۡحُورًا","ٱنظُرۡ كَیۡفَ ضَرَبُوا۟ لَكَ ٱلۡأَمۡثَالَ فَضَلُّوا۟ فَلَا یَسۡتَطِیعُونَ سَبِیلࣰا","وَقَالُوۤا۟ أَءِذَا كُنَّا عِظَـٰمࣰا وَرُفَـٰتًا أَءِنَّا لَمَبۡعُوثُونَ خَلۡقࣰا جَدِیدࣰا"],"ayah":"وَجَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن یَفۡقَهُوهُ وَفِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرࣰاۚ وَإِذَا ذَكَرۡتَ رَبَّكَ فِی ٱلۡقُرۡءَانِ وَحۡدَهُۥ وَلَّوۡا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَـٰرِهِمۡ نُفُورࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق