﴿وَلَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلزِّنَىٰۤۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَـٰحِشَةࣰ وَسَاۤءَ سَبِیلࣰا ٣٢ وَلَا تَقۡتُلُوا۟ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومࣰا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِیِّهِۦ سُلۡطَـٰنࣰا فَلَا یُسۡرِف فِّی ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورࣰا ٣٣ وَلَا تَقۡرَبُوا۟ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُوا۟ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولࣰا ٣٤ وَأَوۡفُوا۟ ٱلۡكَیۡلَ إِذَا كِلۡتُمۡ وَزِنُوا۟ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِیمِۚ ذَ ٰلِكَ خَیۡرࣱ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِیلࣰا ٣٥ وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولࣰا ٣٦ وَلَا تَمۡشِ فِی ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّكَ لَن تَخۡرِقَ ٱلۡأَرۡضَ وَلَن تَبۡلُغَ ٱلۡجِبَالَ طُولࣰا ٣٧ كُلُّ ذَ ٰلِكَ كَانَ سَیِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكۡرُوهࣰا ٣٨ ذَ ٰلِكَ مِمَّاۤ أَوۡحَىٰۤ إِلَیۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِۗ وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتُلۡقَىٰ فِی جَهَنَّمَ مَلُومࣰا مَّدۡحُورًا ٣٩ أَفَأَصۡفَىٰكُمۡ رَبُّكُم بِٱلۡبَنِینَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنَـٰثًاۚ إِنَّكُمۡ لَتَقُولُونَ قَوۡلًا عَظِیمࣰا ٤٠ وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِی هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِیَذَّكَّرُوا۟ وَمَا یَزِیدُهُمۡ إِلَّا نُفُورࣰا ٤١ قُل لَّوۡ كَانَ مَعَهُۥۤ ءَالِهَةࣱ كَمَا یَقُولُونَ إِذࣰا لَّٱبۡتَغَوۡا۟ إِلَىٰ ذِی ٱلۡعَرۡشِ سَبِیلࣰا ٤٢ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یَقُولُونَ عُلُوࣰّا كَبِیرࣰا ٤٣ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِیهِنَّۚ وَإِن مِّن شَیۡءٍ إِلَّا یُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَـٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِیحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِیمًا غَفُورࣰا ٤٤﴾ [الإسراء ٣٢-٤٤]
﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا﴾ ﴿ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ إنَّهُ كانَ مَنصُورًا﴾ ﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ وأوْفُوا بِالعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كانَ مَسْئُولًا﴾ ﴿وأوْفُوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ وزِنُوا بِالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ .
لَمّا نَهى تَعالى عَنْ قَتْلِ الأوْلادِ نَهى عَنِ التَّسَبُّبِ في إيجادِهِ مِنَ الطَّرِيقِ غَيْرِ المَشْرُوعَةِ، فَنَهى عَنْ قُرْبانِ الزِّنا واسْتَلْزَمَ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الزِّنا، والزِّنا الأكْثَرُ فِيهِ القَصْرُ ويُمَدُّ لُغَةً لا ضَرُورَةً، هَكَذا نَقَلَ اللُّغَوِيُّونَ. ومِنَ المَدِّ قَوْلُ الشّاعِرِ - وهو الفَرَزْدَقُ:
أبا حاضِرٍ مَن يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤُهُ ومَن يَشْرَبِ الخُرْطُومَ يُصْبِحْ مُسَكَّرا
ويُرْوى: أبا خالِدٍ. وقالَ آخَرُ:
كانَتْ فَرِيضَةَ ما تَقُولُ كَما ∗∗∗ كانَ الزِّناءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ
وكانَ المَعْنى لَمْ يَزَلْ أيْ: لَمْ يَزَلْ فاحِشَةً أيْ: مَعْصِيَةً فاحِشَةً أيْ: قَبِيحَةً زائِدَةً في القُبْحِ
﴿وساءَ سَبِيلًا﴾ أيْ: وبِئْسَ طَرِيقًا طَرِيقُهُ؛ لِأنَّها سَبِيلٌ تُؤَدِّي إلى النّارِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: و(سَبِيلًا) نُصِبَ عَلى التَّمْيِيزِ، التَّقْدِيرُ: وساءَ سَبِيلُهُ. انْتَهى. وإذا كانَ (سَبِيلًا) نَصْبًا عَلى التَّمْيِيزِ فَإنَّما هو تَمْيِيزٌ لِلْمُضْمَرِ المُسَّتكِنِّ في (ساءَ) وهو مِنَ المُضْمَرِ الَّذِي يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلا يَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وساءَ سَبِيلُهُ سَبِيلًا؛ لِأنَّهُ إذْ ذاكَ لا يَكُونُ فاعِلُهُ ضَمِيرًا يُرادُ بِهِ الجِنْسُ مُفَسَّرًا بِالتَّمْيِيزِ، ويَبْقى التَّقْدِيرُ أيْضًا عارِيًا عَنِ المَخْصُوصِ بِالذَّمِّ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ في أواخِرِ الأنْعامِ. قالَ الضَّحّاكُ: هَذِهِ أوَّلُ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ في شَأْنِ القَتْلِ. انْتَهى.
ولَمّا نَهى عَنْ قَتْلِ الأوْلادِ وعَنْ إيجادِهِمْ مِنَ الطَّرِيقِ غَيْرِ المَشْرُوعَةِ نَهى عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ فانْتَقَلَ مِنَ الخاصِّ إلى العامِّ، والظّاهِرُ أنَّ هَذِهِ كُلَّها مَنهِيّاتٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَيْسَتْ مُنْدَرِجَةً تَحْتَ قَوْلِهِ:
﴿وقَضى رَبُّكَ﴾ [الإسراء: ٢٣] كانْدِراجِ (أنْ لا تَعْبُدُوا) وانْتَصَبَ
﴿مَظْلُومًا﴾ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في (قُتِلَ) والمَعْنى: أنَّهُ قُتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ
﴿فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ﴾ وهو الطّالِبُ بِدَمِهِ شَرْعًا، وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ انْدِراجُ مَن يَرِثُ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والصِّبْيانِ في الوَلِيِّ عَلى قَدْرِ مَوارِيثِهِمْ؛ لِأنَّ الوَلِيَّ عِنْدَهم هو الوارِثُ هُنا. وقالَ مالِكٌ: لَيْسَ لِلنِّساءِ شَيْءٌ مِنَ القِصاصِ، وإنَّما القِصاصُ لِلرِّجالِ. وعَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ والحَسَنِ وقَتادَةَ والحَكَمِ: لَيْسَ إلى النِّساءِ شَيْءٌ مِنَ العَفْوِ والدَّمِ، ولِلسُّلْطانِ التَّسَلُّطُ عَلى القاتِلِ في الِاقْتِصاصِ مِنهُ أوْ حُجَّةٌ يُثْبِتُ بِها عَلَيْهِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والسُّلْطانُ: الحُجَّةُ والمَلِكُ الَّذِي جَعَلَ إلَيْهِ مِنَ التَّخْيِيرِ في قَبُولِ الدَّمِ أوِ العَفْوِ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والضَّحّاكُ، وقالَ قَتادَةُ: السُّلْطانُ: القَوَدُ، وفي كِتابِ التَّحْرِيرِ: السُّلْطانُ: القُوَّةُ والوِلايَةُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: البَيِّنَةُ في طَلَبِ القَوَدِ، وقالَ الحَسَنُ: القَوَدُ، وقالَ مُجاهِدٌ: الحُجَّةُ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الوالِي أيْ: والِيًا يُنْصِفُهُ في حَقِّهِ، والظّاهِرُ: عَوْدُ الضَّمِيرِ في (فَلا يُسْرِفْ) عَلى الوَلِيِّ، والإسْرافُ المَنهِيُّ عَنْهُ: أنْ يَقْتُلَ غَيْرَ القاتِلِ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ، أوْ يَقْتُلَ اثْنَيْنِ بِواحِدٍ، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، أوْ أشْرَفَ مِنَ الَّذِي قُتِلَ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، أوْ يُمَثِّلَ، قالَهُ قَتادَةُ، أوْ يَتَوَلّى القاتِلُ دُونَ السُّلْطانِ، ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ.
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: السَّلْطَنَةُ مُجْمَلَةٌ يُفَسِّرُها
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ﴾ [البقرة: ١٧٨] الآيَةَ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ القِصاصِ والدِّيَةِ، وقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - يَوْمَ الفَتْحِ:
«مَن قَتَلَ قَتِيلًا فَأهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ إنْ أحَبُّوا قَتَلُوا وإنْ أحَبُّوا أخَذُوا الدِّيَةَ» . فَمَعْنى
﴿فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ﴾ لا يُقْدِمْ عَلى اسْتِيفاءِ القَتْلِ، ويَكْتَفِي بِأخْذِ الدِّيَةِ أوْ يَمِيلُ إلى العَفْوِ، ولَفْظَةُ في مَحْمُولَةٌ عَلى الباءِ، أيْ: فَلا يَصِيرُ مُسْرِفًا بِسَبَبِ إقْدامِهِ عَلى القَتْلِ، ويَكُونُ مَعْناهُ التَّرْغِيبَ في العَفْوِ كَما قالَ:
﴿وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [البقرة: ٢٣٧] . انْتَهى مُلَخَّصًا. ولَوْ سُلِّمَ أنَّ (في) بِمَعْنى الباءِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحَ المَعْنى؛ لِأنَّ مَن قَتَلَ بِحَقٍّ قاتِلَ مُوَلِّيهِ لا يَصِيرُ مُسْرِفًا بِقَتْلِهِ، وإنَّما الظّاهِرُ - واللَّهُ أعْلَمُ - النَّهْيُ عَمّا كانَتِ الجاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ مِن قَتْلِ الجَماعَةِ بِالواحِدِ، وقَتْلِ غَيْرِ القاتِلِ والمُثْلَةِ ومُكافَأةِ الَّذِي يَقْتُلُ مَن قَتَلَهُ. وقالَ مُهَلْهَلٌ حِينَ قَتَلَ بُجَيْرَ بْنَ الحارِثِ بْنِ عَبّادٍ: بُؤْ بِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ.
وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ الضَّمِيرَ في
﴿فَلا يُسْرِفْ﴾ لَيْسَ عائِدًا عَلى الوَلِيِّ، وإنَّما يَعُودُ عَلى العامِلِ الدّالِّ عَلَيْهِ
﴿ومَن قُتِلَ﴾ أيْ لا يُسْرِفْ في القَتْلِ تَعَدِّيًا وظُلْمًا فَيَقْتُلُ مَن لَيْسَ لَهُ قَتْلُهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ
﴿فَلا يُسْرِفْ﴾ بِياءِ الغَيْبَةِ. وقَرَأ الأخَوانِ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وحُذَيْفَةُ وابْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ ومُجاهِدٌ بِخِلافٍ وجَماعَةٍ، وفي نُسْخَةٍ مِن تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ وابْنِ عامِرٍ وهو وهْمٌ بِتاءِ الخِطابِ، والظّاهِرُ أنَّهُ عَلى خِطابِ الوَلِيِّ فالضَّمِيرُ لَهُ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: الخِطابُ لِلرَّسُولِ ﷺ والأئِمَّةِ مِن بَعْدِهِ أيْ: فَلا تَقْتُلُوا غَيْرَ القاتِلِ. انْتَهى. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَرَأ أبُو مُسْلِمٍ السَّرّاجُ صاحِبُ الدَّعْوَةِ العَبّاسِيَّةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَرَأ أبُو مُسْلِمٍ صاحِبُ الدَّوْلَةِ. وقالَ صاحِبُ كِتابِ اللَّوامِحِ أوْ مُسْلِمٌ العِجْلِيُّ مَوْلى صاحِبِ الدَّوْلَةِ:
﴿فَلا يُسْرِفْ﴾ بِضَمِّ الفاءِ عَلى الخَبَرِ، ومَعْناهُ النَّهْيُ، وقَدْ يَأْتِي الأمْرُ والنَّهْيُ بِلَفْظِ الخَبَرِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ في الِاحْتِجاجِ بِأبِي مُسْلِمٍ: في القِراءَةِ نَظَرٌ، وفي قِراءَةِ أُبَيٍّ ”فَلا تُسْرِفُوا في القَتْلِ“ إنَّ ولِيَّ المَقْتُولِ كانَ مَنصُورًا. انْتَهى. رَدَّهُ عَلى ولا تَقْتُلُوا، والأوْلى حَمْلُ قَوْلِهِ إنَّ ولِيَّ المَقْتُولِ عَلى التَّفْسِيرِ لا عَلى القِراءَةِ لِمُخالَفَتِهِ السَّوادَ، ولِأنَّ المُسْتَفِيضَ عَنْهُ
﴿إنَّهُ كانَ مَنصُورًا﴾ كَقِراءَةِ الجَماعَةِ، والضَّمِيرُ في (إنَّهُ) عائِدٌ عَلى الوَلِيِّ لِتَناسُقِ الضَّمائِرِ، ونَصْرُهُ إيّاهُ بِأنْ أوْجَبَ لَهُ القِصاصَ، فَلا يُسْتَزادُ عَلى ذَلِكَ، أوْ نَصْرُهُ بِمَعُونَةِ السُّلْطانِ وبِإظْهارِ المُؤْمِنِينَ عَلى اسْتِيفاءِ الحَقِّ، وقِيلَ: يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلى المَقْتُولِ نَصَرَهُ اللَّهُ حَيْثُ أوْجَبَ القِصاصَ بِقَتْلِهِ في الدُّنْيا، ونَصَرَهُ بِالثَّوابِ في الآخِرَةِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو أرْجَحُ؛ لِأنَّهُ المَظْلُومُ، ولَفْظَةُ النَّصْرِ تُقارِنُ الظُّلْمَ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ:
«ونَصْرِ المَظْلُومِ وإبْرارِ القَسَمِ» وكَقَوْلِهِ:
«انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا» إلى كَثِيرٍ مِنَ الأمْثِلَةِ. وقِيلَ: عَلى القَتْلِ. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: عَلى القاتِلِ؛ لِأنَّهُ إذا قُتِلَ في الدُّنْيا وخَلَصَ بِذَلِكَ مِن عَذابِ الآخِرَةِ فَقَدْ نُصِرَ، وهَذا ضَعِيفٌ بَعِيدُ القَصْدِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنَّما يَعْنِي أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في أنَّهُ الَّذِي يَقْتُلُهُ الوَلِيِّ بِغَيْرِ حَقٍّ ويُسْرِفُ في قَتْلِهِ، فَإنَّهُ مَنصُورٌ بِإيجابِ القِصاصِ عَلى المُسْرِفِ. انْتَهى. وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا.
﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ﴾ لَمّا نَهى عَنْ إتْلافِ النُّفُوسِ نَهى عَنْ أخْذِ الأمْوالِ، كَما قالَ:
«فَإنَّ دِماءَكم وأمْوالَكم وأعْراضَكم حَرامٌ عَلَيْكم» . ولَمّا كانَ اليَتِيمُ ضَعِيفًا عَنْ أنْ يَدْفَعَ عَنْ مالِهِ لِصِغَرِهِ نَصَّ عَلى النَّهْيِ عَنْ قُرْبانِ مالِهِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في أواخِرِ الأنْعامِ.
﴿وأوْفُوا بِالعَهْدِ﴾ عامٌّ فِيما عَقَدَهُ الإنْسانُ بَيْنَهُ وبَيْنَ رَبِّهِ، أوْ بَيْنَهُ وبَيْنَ آدَمِيٍّ في طاعَةٍ
﴿إنَّ العَهْدَ كانَ مَسْئُولًا﴾ ظاهِرُهُ أنَّ العَهْدَ هو المَسْئُولُ مِنَ المُعاهِدِ أنْ يَفِيَ بِهِ ولا يَنْكُثَ ولا يُضَيِّعَهُ، أوْ يَكُونُ مِن بابِ التَّخْيِيلِ، كَأنَّهُ يُقالُ: لِلْعَهْدِ لِمَ نُكِثْتَ، فَمُثِّلَ كَأنَّهُ ذاتٌ مِنَ الذَّواتِ تُسْألُ لِمَ نُكِثَتْ دَلالَةً عَلى المُطاوَعَةِ بِنَكْثِهِ وإلْزامِ ما يَتَرَتَّبُ عَلى نَكْثِهِ، كَما جاءَ
﴿وإذا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: ٨] فِيمَن قَرَأ بِسُكُونِ اللّامِ وكَسْرِ التّاءِ الَّتِي لِلْخِطابِ. وقِيلَ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: إنَّ ذا العَهْدِ كانَ مَسْئُولًا عَنْهُ إنْ لَمْ يَفِ بِهِ.
ثُمَّ أمَرَ تَعالى بِإيفاءِ الكَيْلِ وبِالوَزْنِ المُسْتَقِيمِ، وذَلِكَ مِمّا يَرْجِعُ إلى المُعامَلَةِ بِالأمْوالِ. وفي قَوْلِهِ:
﴿وأوْفُوا الكَيْلَ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الكَيْلَ هو عَلى البائِعِ؛ لِأنَّهُ لا يُقالُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي. وقالَ الحَسَنُ: (القِسْطاسُ) القَبّانُ وهو الفِلَسْطُونُ، ويُقالُ: القَرَسْطُونُ. وقالَ مُجاهِدٌ: (القِسْطاسُ) العَدْلُ لا أنَّهُ آلَةٌ. وقَرَأ الأخَوانِ وحَفْصٌ بِكَسْرِ القافِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّها وهُما لُغَتانِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ بِالإبْدالِ مِنَ السِّينِ الأُولى صادًا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: واللَّفْظِيَّةُ لِلْمُبالَغَةِ مِنَ القِسْطِ. انْتَهى. ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِنَ القِسْطِ لِاخْتِلافِ المادَّتَيْنِ؛ لِأنَّ القِسْطَ مادَّتُهُ (ق س ط)، وذَلِكَ مادَّتُهُ (ق س ط س) إلّا أنِ اعْتُقِدَ زِيادَةُ السِّينِ آخِرًا كَسِينِ قُدْمُوسَ وضُغْبُوسَ وعُرْفاسَ، فَيُمْكِنُ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِن مَواضِعِ زِيادَةِ السِّينِ المَقِيسَةِ، والتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ:
﴿إذا كِلْتُمْ﴾ أيْ: وقْتَ كَيْلِكم عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وأنْ لا يَتَأخَّرَ الإيفاءُ بِأنْ يَكِيلَ بِهِ بِنُقْصانٍ ما ثُمَّ يُوَفِّيهِ بَعْدُ فَلا يَتَأخَّرُ الإيفاءُ عَنْ وقْتِ الكَيْلِ.
﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ أيِ: الإيفاءُ والوَزْنُ؛ لِأنَّ فِيهِ تَطْيِيبَ النُّفُوسِ بِالِاتِّسامِ بِالعَدْلِ والإيصالِ لِلْحَقِّ
﴿وأحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ أيْ: عاقِبَةً، إذْ لا يَبْقى عَلى المُوفِي والوازِنِ تَبِعَةٌ لا في الدُّنْيا ولا في الآخِرَةِ، وهو مِنَ المَآلِ وهو المَرْجِعُ كَما قالَ: خَيْرٌ مَرَدًّا، خَيْرٌ عُقْبًا، خَيْرٌ أمَلًا وإنَّما كانَتْ عاقِبَتُهُ أحْسُنُ؛ لِأنَّهُ اشْتُهِرَ بِالِاحْتِرازِ عَنِ التَّطْفِيفِ، فَعُوِّلَ عَلَيْهِ في المُعامَلاتِ ومالَتِ القُلُوبُ إلَيْهِ.
﴿ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ ﴿ولا تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحًا إنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ ولَنْ تَبْلُغَ الجِبالَ طُولًا﴾ ﴿كُلُّ ذَلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ذَلِكَ مِمّا أوْحى إلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ ولا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقى في جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ .
لَمّا أمَرَ تَعالى بِثَلاثَةِ أشْياءَ: الإيفاءِ بِالعَهْدِ، والإيفاءِ بِالكَيْلِ، والوَزْنِ بِالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ، أتْبَعَ ذَلِكَ بِثَلاثَةِ مَناهٍ: (ولا تَقْفُ) (ولا تَمْشِ) (ولا تَجْعَلْ) . ومَعْنى (ولا تَقْفُ) لا تَتَّبِعْ ما لا عِلْمَ لَكَ بِهِ مِن قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ، نَهى أنْ نَقُولَ ما لا نَعْلَمُ وأنْ نَعْمَلَ بِما لا نَعْلَمُ، ويَدْخُلُ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ اتِّباعِ التَّقْلِيدِ؛ لِأنَّهُ اتِّباعٌ بِما لا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَعْناهُ لا تَرْمِ أحَدًا بِما لا تَعْلَمُ. وقالَ قَتادَةُ: لا تَقُلْ: رَأيْتُ ولَمْ تَرَهْ، وسَمِعْتُ ولَمْ تَسْمَعْهُ، وعَلِمْتُ ولَمْ تَعْلَمْهُ. وقالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الحَنَفِيَّةِ: لا تَشْهَدْ بِالزُّورِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولا تَقُلْ: لَكِنَّها كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ في القَذْفِ والعَضْهِ. انْتَهى. وفي الحَدِيثِ:
«مَن قَفا مُؤْمِنًا بِما لَيْسَ فِيهِ حَبَسَهُ اللَّهُ في رَدْغَةِ الخَبالِ حَتّى يَأْتِيَ بِالمَخْرَجِ» . وقالَ في الحَدِيثِ أيْضًا:
«نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنُ كِنانَةَ لا تَقْفُو مِنّا ولا نَنْتَفِي مِن أبِينا» . ومِنهُ قَوْلُ النّابِغَةِ الجَعْدِيِّ:
ومِثْلُ الدُّمى شُمُّ العِرانِينَ ساكِنٌ ∗∗∗ بِهِنَّ الحَيا لا يَتَّبِعْنَ التَّقافِيا
وقالَ الكُمَيْتُ:
فَلا أرْمِي البَرِيءَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ∗∗∗ ولا أقْفُو الحَواضِنَ إنْ قُفِينا
وحاصِلُ هَذا أنَّهُ نَهى عَنِ اتِّباعِ ما لا يَكُونُ مَعْلُومًا، وهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ تَنْدَرِجُ تَحْتَها أنْواعٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ مُبْطِلُ الِاجْتِهادِ ولَمْ يَصِحَّ؛ لِأنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ العِلْمِ، وقَدْ أقامَ الشَّرْعُ غالِبَ الظَّنِّ مَقامَ العِلْمِ وأمَرَ بِالعَمَلِ بِهِ. انْتَهى. وقَرَأ الجُمْهُورُ:
﴿ولا تَقْفُ﴾ بِحَذْفِ الواوِ لِلْجَزْمِ مُضارِعُ قَفا. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ”ولا تَقْفُو“ بِإثْباتِ الواوِ. كَما قالَ الشّاعِرُ:
هَجَوْتَ زَبّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِرًا ∗∗∗ مِن هَجْوِ زَبّانَ لَمْ تَهْجُو ولَمْ تَدَعِ
وإثْباتُ الواوِ والياءِ والألِفِ مَعَ الجازِمِ لُغَةٌ لِبَعْضِ العَرَبِ وضَرُورَةٌ لِغَيْرِهِمْ. وقَرَأ مُعاذٌ القارِئُ:
﴿ولا تَقْفُ﴾ مِثْلَ تَقُلْ، مِن قافَ يَقُوفُ، تَقُولُ العَرَبُ: قُفْتُ أثَرَهُ وقَفَوْتُ أثَرَهُ، وهُما لُغَتانِ لِوُجُودِ التَّصارِيفِ فِيهِما كَجَبَذَ وجَذَبَ، وقاعَ الجَمَلُ النّاقَةَ وقَعاها إذا رَكِبَها، ولَيْسَ قافَ مَقْلُوبًا مِن قَفا كَما جَوَّزَهُ صاحِبُ اللَّوامِحِ. وقَرَأ الجَرّاحُ العُقَيْلِيُّ:
﴿والفُؤادَ﴾ بِفَتْحِ الفاءِ والواوِ قُلِبَتِ الهَمْزَةُ واوًا بَعْدَ الضَّمَّةِ في الفُؤادِ ثُمَّ اسْتُصْحِبَ القَلْبُ مَعَ الفَتْحِ وهي لُغَةٌ في
﴿الفُؤادُ﴾ [النجم: ١١] وأنْكَرَها أبُو حاتِمٍ وغَيْرُهُ وبِهِ لا تَتَعَلَّقُ بِعَلَمٍ؛ لِأنَّهُ يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ عَلَيْهِ. قالَ الحَوْفِيُّ: يَتَعَلَّقُ بِما تَعَلَّقَ بِهِ (لَكَ) وهو الِاسْتِقْرارُ وهو لا يَظْهَرُ، وفي قَوْلِهِ:
﴿إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ العُلُومَ مُسْتَفادَةٌ مِنَ الحَواسِّ ومِنَ العُقُولِ، وجاءَ هَذا عَلى التَّرْتِيبِ القُرْآنِيِّ في البَداءَةِ بِالسَّمْعِ، ثُمَّ يَلِيهِ البَصَرُ، ثُمَّ يَلِيهِ الفُؤادُ. و(أُولَئِكَ) إشارَةٌ إلى
﴿السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ﴾ وهو اسْمُ إشارَةٍ لِلْجَمْعِ المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ العاقِلِ وغَيْرِهِ. وتَخَيَّلَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنَّهُ يَخْتَصُّ بِالعاقِلِ، فَقالَ: وعَبَّرَ عَنِ
﴿السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ﴾ بِأُولَئِكَ؛ لِأنَّها حَواسٌّ لَها إدْراكٌ، وجَعَلَها في هَذِهِ الآيَةِ مَسْئُولَةً فَهي حالَةُ مَن يَعْقِلُ، ولِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْها بِأُولَئِكَ. وقَدْ قالَ سِيبَوَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] إنَّما قالَ: رَأيْتُهم في نُجُومٍ؛ لِأنَّهُ إنَّما وصَفَها بِالسُّجُودِ وهو مِن فِعْلِ مَن يَعْقِلُ عَبَّرَ عَنْها بِكِنايَةِ مَن يَعْقِلُ. وحَكى الزَّجّاجُ أنَّ العَرَبَ تُعَبِّرُ عَمَّنْ يَعْقِلُ وعَمّا لا يَعْقِلُ بِأُولَئِكَ، وأنْشَدَ هو والطَّبَرِيُّ:
ذُمَّ المَنازِلَ بَعْدَ مَنزِلَةِ اللِّوى ∗∗∗ والعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأيّامِ
وأمّا حِكايَةُ أبِي إسْحاقَ عَنِ اللُّغَةِ فَأمْرٌ يُوقَفُ عِنْدَهُ، وأمّا البَيْتُ فالرِّوايَةُ فِيهِ: الأقْوامُ. انْتَهى. ولَيْسَ ما تَخَيَّلَهُ صَحِيحًا، والنُّحاةُ يُنْشِدُونَهُ بَعْدَ أُولَئِكَ الأيّامِ ولَمْ يَكُونُوا لِيُنْشِدُوا إلّا ما رُوِيَ، وإطْلاقُ أُولاءِ وأُولاكَ وأُولَئِكَ وأُولالِكَ عَلى ما لا يَعْقِلُ لا نَعْلَمُ خِلافًا فِيهِ، و(كُلُّ) مُبْتَدَأٌ والجُمْلَةُ خَبَرُهُ، واسْمُ (كانَ) عائِدٌ عَلى (كُلُّ) وكَذا الضَّمِيرُ في
﴿مَسْئُولًا﴾ . والضَّمِيرُ في (عَنْهُ) عائِدٌ عَلى ما مِن قَوْلِهِ
﴿ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ فَيَكُونُ المَعْنى أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ
﴿السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ﴾ يُسْألُ عَمّا لا عِلْمَ لَهُ بِهِ أيْ: عَنِ انْتِفاءِ ما لا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وهَذا الظّاهِرُ. وقالَ الزَّجّاجُ: يُسْتَشْهَدُ بِها كَما قالَ:
﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألْسِنَتُهم وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ﴾ [النور: ٢٤] . وقالَ القُرْطُبِيُّ في أحْكامِهِ: يُسْألُ الفُؤادُ عَمّا اعْتَقَدَهُ، والسَّمْعُ عَمّا سَمِعَ، والبَصَرُ عَمّا رَأى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى يَسْألُ سَمْعَ الإنْسانِ وبَصَرَهُ وفُؤادَهُ عَمّا قالَ مِمّا لا عِلْمَ لَهُ بِهِ، فَيَقَعُ تَكْذِيبُهُ مِن جَوارِحِهِ وتِلْكَ غايَةُ الخِزْيِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (كانَ) و
﴿مَسْئُولًا﴾ عائِدانِ عَلى القائِفِ ما لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، والضَّمِيرُ في (عَنْهُ) عائِدٌ عَلى (كُلُّ) فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِالتِفاتِ إذْ لَوْ كانَ عَلى الخِطابِ لَكانَ التَّرْكِيبُ كُلُّ أُولَئِكَ كُنْتَ عَنْهُ مَسْئُولًا.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: و(عَنْهُ) في مَوْضِعِ الرَّفْعِ بِالفاعِلِيَّةِ، أيْ: كُلُّ واحِدٍ مِنها كانَ مَسْئُولًا عَنْهُ، فَمَسْئُولٌ مُسْنَدٌ إلى الجارِّ والمَجْرُورِ كالمَغْضُوبِ في قَوْلِهِ:
﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: ٧] يُقالُ لِلْإنْسانِ: لِمَ سَمِعْتَ ما لا يَحِلُّ لَكَ سَماعُهُ ؟ ولِمَ نَظَرْتَ ما لَمْ يَحِلَّ لَكَ النَّظَرُ إلَيْهِ ؟ ولِمَ عَزَمْتَ عَلى ما لَمْ يَحِلَّ لَكَ العَزْمُ عَلَيْهِ ؟ . انْتَهى. وهَذا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مِن أنَّ (عَنْهُ) في مَوْضِعِ الرَّفْعِ بِالفاعِلِيَّةِ، ويَعْنِي بِهِ أنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ الجارَّ والمَجْرُورَ وما يُقامُ مَقامَ الفاعِلِ مِن مَفْعُولٍ بِهِ ومَصْدَرٍ وظَرْفٍ بِشُرُوطِهِما جارٍ مَجْرى الفاعِلِ، فَكَما أنَّ الفاعِلَ لا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ، فَكَذَلِكَ ما جَرى مَجْراهُ وأُقِيمُ مَقامَهُ، فَإذا قُلْتَ: غَضِبَ عَلى زَيْدٍ، فَلا يَجُوزُ: عَلى زَيْدٍ غَضِبَ، بِخِلافِ: غَضِبْتُ عَلى زَيْدٍ، فَيَجُوزُ: عَلى زَيْدٍ غَضِبْتُ، وقَدْ حَكى الِاتِّفاقَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ الَّذِي يُقامُ مَقامَ الفاعِلِ عَلى الفِعْلِ أبُو جَعْفَرٍ النَّحّاسُ ذَكَرَ ذَلِكَ في المُقْنِعِ مِن تَأْلِيفِهِ، فَلَيْسَ
﴿عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ كالمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ لِتَقَدُّمِ الجارِّ والمَجْرُورِ في
﴿عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ وتَأْخِيرِهِ في
﴿المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: ٧] وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: ولِمَ نَظَرْتَ ما لَمْ يَحِلَّ لَكَ أسْقَطَ إلى، وهو لا يَجُوزُ إلّا إنْ جاءَ في ضَرُورَةِ شِعْرٍ؛ لِأنَّ نَظَرَ يَتَعَدّى بِإلى فَكانَ التَّرْكِيبُ، ولِمَ نَظَرْتَ إلى ما لَمْ يَحِلَّ لَكَ كَما قالَ: النَّظَرُ إلَيْهِ فَعَدّاهُ بِإلى.
وانْتَصَبَ (مَرَحًا) عَلى الحالِ أيْ: مَرِحًا، كَما تَقُولُ: جاءَ زَيْدٌ رَكْضًا أيْ: راكِضًا، أوْ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: ذا مَرَحٍ، وأجازَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِن أجْلِهِ أيْ ولا تَمْشِ في الأرْضِ لِلْمَرَحِ ولا يَظْهَرُ ذَلِكَ، وتَقَدَّمَ أنَّ المَرَحَ هو السُّرُورُ والِاغْتِباطُ بِالرّاحَةِ والفَرَحِ وكَأنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنى الِاخْتِيالِ؛ لِأنَّ غَلَبَةَ السُّرُورِ والفَرَحِ يَصْحَبُها التَّكَبُّرُ والِاخْتِيالُ، ولِذَلِكَ عُلِّلَ بِقَوْلِهِ
﴿إنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ﴾ .
وقَرَأتْ فِرْقَةٌ فِيما حَكى يَعْقُوبُ: ”مَرِحًا“ بِكَسْرِ الرّاءِ وهو حالٌ، أيْ: لا تَمْشِ مُتَكَبِّرًا مُخْتالًا. قالَ مُجاهِدٌ: لَنْ تَخْرِقَ بِمَشْيِكَ عَلى عَقِبَيْكَ كِبْرًا وتَنَعُّمًا
﴿ولَنْ تَبْلُغَ الجِبالَ﴾ بِالمَشْيِ عَلى صُدُورِ قَدَمَيْكَ تَفاخُرًا، و(طُولًا) والتَّأْوِيلُ: أنَّ قُدْرَتَكَ لا تَبْلُغُ هَذا المَبْلَغَ فَيَكُونُ ذَلِكَ وصْلَةً إلى الِاخْتِيالِ. وقالَ الزَّجّاجُ:
﴿لا تَمْشِ في الأرْضِ﴾ مُخْتالًا فَخُورًا، ونَظِيرُهُ:
﴿وعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: ٦٣] و
﴿اقْصِدْ في مَشْيِكَ﴾ [لقمان: ١٩]،
﴿ولا تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: ١٨] . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
﴿لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ﴾ لَنْ تَجْعَلَ فِيها خَرْقًا بِدَوْسِكَ لَها وشِدَّةِ وطْئِكَ
﴿ولَنْ تَبْلُغَ الجِبالَ طُولًا﴾ بِتَطاوُلِكَ، وهو تَهَكُّمٌ بِالمُخْتالِ. وقَرَأ الجَرّاحُ الأعْرابِيُّ: ”
﴿لَنْ تَخْرِقَ﴾“ بِضَمِّ الرّاءِ. قالَ أبُو حاتِمٍ: لا تُعْرَفُ هَذِهِ اللُّغَةُ. وقِيلَ: أُشِيرَ بِذَلِكَ إلى أنَّ الإنْسانَ مَحْصُورٌ بَيْنَ جَمادَيْنِ، ضَعِيفٌ عَنِ التَّأْثِيرِ فِيهِما بِالخَرْقِ وبُلُوغِ الطُّولِ ومَن كانَ بِهَذِهِ المَثابَةِ لا يَلِيقُ بِهِ التَّكَبُّرُ. وقالَ الشّاعِرُ:
ولا تَمْشِ فَوْقَ الأرْضِ إلّا تَواضُعًا ∗∗∗ فَكَمْ تَحْتَها قَوْمٌ هم مِنكَ أرْفَعُ، والأجْوَدُ انْتِصابُ قَوْلِهِ: ﴿طُولًا﴾ عَلى التَّمْيِيزِ، أيْ: لَنْ يَبْلُغَ طُولُكَ الجِبالَ، وقالَ الحَوْفِيُّ: ﴿طُولًا﴾ نُصِبَ عَلى الحالِ، والعامِلُ في الحالِ (تَبْلُغَ) ويَجُوزَ أنْ يَكُونَ العامِلُ تَخْرِقَ، و﴿طُولًا﴾ بِمَعْنى مُتَطاوِلٍ. انْتَهى. وقالَ أبُو البَقاءِ: ﴿طُولًا﴾ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الفاعِلِ أوِ المَفْعُولِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا ومَفْعُولًا لَهُ ومَصْدَرًا مِن مَعْنى تَبْلُغَ. انْتَهى. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو وأبُو جَعْفَرٍ والأعْرَجُ ”سَيِّئَةً“ بِالنَّصْبِ والتَّأْنِيثِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ والحَسَنُ ومَسْرُوقٌ ﴿سَيِّئُهُ﴾ بِضَمِّ الهَمْزَةِ مُضافًا لِهاءِ المُذَكَّرِ الغائِبِ، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ ”سَيِّئاتُهُ“ بِالجَمْعِ مُضافًا لِلْهاءِ، وعَنْهُ أيْضًا ”سَيِّئاتٌ“ بِغَيْرِها، وعَنْهُ أيْضًا ”كانَ خَبِيثُهُ“ . فَأمّا القِراءَةُ الأُولى فالظّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى مَصْدَرَيِ النَّهْيَيْنِ السّابِقَيْنِ، وهُما: قَفْوُ ما لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، والمَشْيُ في الأرْضِ مَرَحًا. وقِيلَ: إشارَةٌ إلى جَمِيعِ المَناهِي المَذْكُورَةِ فِيما تَقَدَّمَ في هَذِهِ السُّورَةِ، وسَيِّئَةٌ خَبَرُ كانَ وأُنِّثَ، ثُمَّ قالَ: مَكْرُوهًا فَذُكِّرَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: السَّيِّئَةُ في حُكْمِ الأسْماءِ بِمَنزِلَةِ الذَّنْبِ، والِاسْمُ زالَ عَنْهُ حُكْمُ الصِّفاتِ فَلا اعْتِبارَ بِتَأْنِيثِهِ، ولا فَرْقَ بَيْنَ مَن قَرَأ سَيِّئَةً ومَن قَرَأ سَيِّئًا، ألا تَراكَ تَقُولُ: الزِّنا سَيِّئَةٌ كَما تَقُولُ السَّرِقَةُ سَيِّئَةٌ، فَلا تُفَرِّقُ بَيْنَ إسْنادِها إلى مُذَكَّرٍ ومُؤَنَّثٍ. انْتَهى. وهو تَخْرِيجٌ حَسَنٌ.
وقِيلَ: ذَكَرَ
﴿مَكْرُوهًا﴾ عَلى لَفْظِ (كُلُّ) وجَوَّزُوا في (مَكْرُوهًا) أنْ يَكُونَ خَبَرًا ثانِيًا لِكانَ عَلى مَذْهَبِ مَن يُجِيزُ تَعْدادَ الأخْبارِ لِكانَ، وأنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن سَيِّئَةٍ والبَدَلُ بِالمُشْتَقِّ ضَعِيفٌ، وأنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في الظَّرْفِ قَبْلَهُ، والظَّرْفُ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ. قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَعْتًا لِسَيِّئَةٍ لَمّا كانَ تَأْنِيثُها مَجازِيًّا جازَ أنْ تُوصَفَ بِمُذَكَّرٍ، وضُعِّفَ هَذا بِأنَّ جَوازَ ذَلِكَ إنَّما هو في الإسْنادِ إلى المُؤَنَّثِ المَجازِيِّ إذا تَقَدَّمَ، أمّا إذا تَأخَّرَ وأُسْنِدَ إلى ضَمِيرِها فَهو قَبِيحٌ، تَقُولُ: أبْقَلَ الأرْضُ إبْقالَها فَصِيحًا، والأرْضُ أبْقَلَ قَبِيحٌ، وأمّا مَن قَرَأ (سَيِّئُهُ) بِالتَّذْكِيرِ والإضافَةِ فَسَيِّئُهُ اسْمُ (كانَ) و(مَكْرُوهًا) الخَبَرُ، ولَمّا تَقَدَّمَ مِنَ الخِصالِ ما هو سَيِّئٌ وما هو حَسَنٌ أُشِيرَ بِذَلِكَ إلى المَجْمُوعِ، وأُفْرِدَ سَيِّئَةٌ وهو المَنهِيُّ عَنْهُ، فالحُكْمُ عَلَيْهِ بِالكَراهَةِ مِن قَوْلِهِ: لا تَجْعَلْ إلى آخِرِ المَنهِيّاتِ. وأمّا قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ فَتَتَخَرَّجُ عَلى أنْ يَكُونَ مِمّا أُخْبِرَ فِيهِ عَنِ الجَمْعِ إخْبارَ الواحِدِ المُذَكَّرِ وهو قَلِيلٌ نَحْوُ قَوْلِهِ:
فَإنَّ الحَوادِثَ أوْدى بِها
لِصَلاحِيَةِ الحِدْثانِ مَكانَ الحَوادِثِ، وكَذَلِكَ هَذا أيْضًا كانَ ما يَسُوءُ مَكانَ سَيِّئاتِهِ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى جَمِيعِ أنْواعِ التَّكالِيفِ مِن قَوْلِهِ:
﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ [الإسراء: ٢٢] إلى قَوْلِهِ
﴿ولا تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحًا﴾ وهي أرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ نَوْعًا مِنَ التَّكالِيفِ بَعْضُها أمْرٌ وبَعْضُها نَهْيٌ بَدَأها بِقَوْلِهِ:
﴿لا تَجْعَلْ﴾ [الإسراء: ٢٢] . واخْتَتَمَ الآياتِ بِقَوْلِهِ:
﴿ولا تَجْعَلْ﴾ وقالَ: مِمّا أوْحى؛ لِأنَّ ذَلِكَ بَعْضٌ مِمّا أوْحى إلَيْهِ إذْ أوْحى إلَيْهِ بِتَكالِيفَ أُخَرَ، و
﴿مِمّا أوْحى﴾ خَبَرٌ عَنْ ذَلِكَ، و
﴿مِنَ الحِكْمَةِ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأوْحى، وأنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن ما، وأنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ المَحْذُوفِ العائِدِ عَلى ما وكانَتْ هَذِهِ التَّكالِيفُ حِكْمَةً؛ لِأنَّ حاصِلَها يَرْجِعُ إلى الأمْرِ بِالتَّوْحِيدِ، وأنْواعِ الطّاعاتِ والإعْراضِ عَنِ الدُّنْيا والإقْبالِ عَلى الآخِرَةِ، والعُقُولُ تَدُلُّ عَلى صِحَّتِها، وهي شَرائِعُ في جَمِيعِ الأدْيانِ لا تَقْبَلُ النَّسْخَ.
وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ هَذِهِ الآياتِ كانَتْ في ألْواحِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ، أوَّلُها
﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ [الإسراء: ٢٢] قالَ تَعالى:
﴿وكَتَبْنا لَهُ في الألْواحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٤٥] وكَرَّرَ تَعالى النَّهْيَ عَنِ الشِّرْكِ، فَفي النَّهْيِ الأوَّلِ.
﴿فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾ [الإسراء: ٢٢] وفي الثّانِي
﴿فَتُلْقى في جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ والفَرْقُ بَيْنَ مَذْمُومٍ ومَلُومٍ: أنَّ كَوْنَهُ مَذْمُومًا أنْ يَذْكُرَ أنَّ الفِعْلَ الَّذِي أقْدَمَ عَلَيْهِ قَبِيحٌ مُنْكَرٌ، وكَوْنَهُ مَلُومًا أنْ يُقالَ لَهُ بَعْدَ الفِعْلِ وذَمِّهِ: لِمَ فَعَلْتَ كَذا ؟ وما حَمَلَكَ عَلَيْهِ ؟ وما اسْتَفَدْتَ مِنهُ إلّا إلْحاقَ الضَّرَرِ بِنَفْسِكَ، فَأوَّلُ الأمْرِ الذَّمُّ وآخِرُهُ اللَّوْمُ، والفَرْقُ بَيْنَ مَخْذُولٍ ومَدْحُورٍ: أنَّ المَخْذُولَ هو المَتْرُوكُ إعانَتُهُ ونَصْرُهُ والمُفَوَّضُ إلى نَفْسِهِ، والمَدْحُورُ المَطْرُودُ المُبْعَدُ عَلى سَبِيلِ الإهانَةِ لَهُ والِاسْتِخْفافِ بِهِ، فَأوَّلُ الأمْرِ الخِذْلانُ وآخِرُهُ الطَّرْدُ مُهانًا. وكانَ وصْفُ الذَّمِّ والخِذْلانِ يَكُونُ في الدُّنْيا، ووَصْفُ اللَّوْمِ والدُّحُورِ يَكُونُ في الآخِرَةِ، ولِذَلِكَ جاءَ
﴿فَتُلْقى في جَهَنَّمَ﴾ والخِطابُ بِالنَّهْيِ في هَذِهِ الآياتِ لِلسّامِعِ غَيْرِ الرَّسُولِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ - عَزَّ وعَلا - فاتِحَتَها وخاتِمَتَها النَّهْيَ عَنِ الشِّرْكِ؛ لِأنَّ التَّوْحِيدَ هو رَأْسُ كُلِّ حِكْمَةٍ ومِلاكُها، ومَن عَدِمَهُ لَمْ تَنْفَعْهُ حِكَمُهُ وعُلُومُهُ وإنْ بَذَّ فِيها الحُكَماءَ وحَكَّ بِيافُوخِهِ السَّماءَ، وما أغْنَتْ عَنِ الفَلاسِفَةِ أسْفارُ الحِكَمِ وهم عَنْ دِينِ اللَّهِ أضَلُّ مِنَ النَّعَمِ.
﴿أفَأصْفاكم رَبُّكم بِالبَنِينَ واتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إناثًا إنَّكم لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا﴾ ﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا في هَذا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وما يَزِيدُهم إلّا نُفُورًا﴾ ﴿قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا﴾ ﴿سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهم إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ .
لَمّا نَبَّهَ تَعالى عَلى فَسادِ مَن أثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا ونَظِيرًا أتْبَعَهُ بِفَسادِ طَرِيقَةِ مَن أثْبَتَ لِلَّهِ ولَدًا، والِاسْتِفْهامُ مَعْناهُ الإنْكارُ والتَّوْبِيخُ والخِطابُ لِمَنِ اعْتَقَدَ أنَّ المَلائِكَةَ بَناتُ اللَّهِ ومَعْنى
﴿أفَأصْفاكُمْ﴾ آثَرَكم وخَصَّكم، وهَذا كَما قالَ:
﴿ألَهُ البَناتُ ولَكُمُ البَنُونَ﴾ [الطور: ٣٩] ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى﴾ [النجم: ٢١] وهَذا خِلافُ الحِكْمَةِ وما عَلَيْهِ مَعْقُولُكم وعادَتُكم، فَإنَّ العَبِيدَ لا يُؤْثَرُونَ بِأجْوَدِ الأشْياءِ وأصْفاها مِنَ الشَّوْبِ ويَكُونُ أرْدَؤُها وأدْوَنُها لِلسّاداتِ. ومَعْنى (عَظِيمًا) مُبالَغًا في المُنْكَرِ والقُبْحِ حَيْثُ أضَفْتُمْ إلَيْهِ الأوْلادَ، ثُمَّ حَيْثُ فَضَّلْتُمْ عَلَيْهِ تَعالى أنْفُسَكم فَجَعَلْتُمْ لَهُ ما تَكْرَهُونَ، ثُمَّ نِسْبَةُ المَلائِكَةِ الَّذِينَ هم مِن شَرِيفِ ما خَلَقَ إلى الأُنُوثَةِ. ومَعْنى
﴿صَرَّفْنا﴾ نَوَّعْنا مِن جِهَةٍ إلى جِهَةٍ ومِن مِثالٍ إلى مِثالٍ، والتَّصْرِيفُ لُغَةً: صَرْفُ الشَّيْءِ مِن جِهَةٍ إلى جِهَةٍ ثُمَّ صارَ كِنايَةً عَنِ التَّبْيِينِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ
﴿صَرَّفْنا﴾ بِتَشْدِيدِ الرّاءِ. فَقالَ: لَمْ نَجْعَلْهُ نَوْعًا واحِدًا بَلْ وعْدًا ووَعِيدًا، ومُحْكَمًا ومُتَشابِهًا، وأمْرًا ونَهْيًا، وناسِخًا ومَنسُوخًا، وأخْبارًا وأمْثالًا مِثْلَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ مِن صَبًا ودَبُورٍ وجَنُوبٍ وشَمالٍ، ومَفْعُولُ
﴿صَرَّفْنا﴾ عَلى هَذا المَعْنى مَحْذُوفٌ، وهي هَذِهِ الأشْياءُ أيْ: صَرَّفْنا الأمْثالَ والعِبَرَ والحِكَمَ والأحْكامَ والأعْلامَ، وقِيلَ: المَعْنى: لَمْ نُنْزِلْهُ مَرَّةً واحِدَةً بَلْ نُجُومًا، ومَعْناهُ: أكْثَرْنا صَرْفَ جِبْرِيلَ إلَيْكَ، والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أيْ صَرَّفْنا جِبْرِيلَ.
وقِيلَ: (في) زائِدَةٌ، أيْ صَرَّفْنا هَذا القُرْآنَ كَما قالَ:
﴿وأصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي﴾ [الأحقاف: ١٥] وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ ”في“ لا تُزادُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِهَذا القُرْآنِ إبْطالَ إضافَتِهِمْ إلى اللَّهِ البَناتِ؛ لِأنَّهُ مِمّا صَرَّفَهُ وكَرَّرَ ذِكْرَهُ، والمَعْنى: ولَقَدْ صَرَّفْنا القَوْلَ في هَذا المَعْنى، وأوْقَعْنا التَّصْرِيفَ فِيهِ وجَعَلْناهُ مَكانًا لِلتَّكْرِيرِ، ويَجُوزُ أنْ يُشِيرَ بِهَذا (القُرْآنِ) إلى التَّنْزِيلِ، ويُرِيدُ ولَقَدْ صَرَّفْناهُ يَعْنِي هَذا المَعْنى في مَواضِعَ مِنَ التَّنْزِيلِ، فَتَرَكَ الضَّمِيرَ؛ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ. انْتَهى. فَجَعَلَ التَّصْرِيفَ خاصًّا بِما دَلَّتْ عَلَيْهِ الآيَةُ قَبْلَهُ وجَعَلَ مَفْعُولَ
﴿صَرَّفْنا﴾ إمّا القَوْلُ في هَذا المَعْنى أوِ المَعْنى وهو الضَّمِيرُ الَّذِي قَدَّرَهُ في صَرَّفْناهُ، وغَيْرُهُ جَعَلَ التَّصْرِيفَ عامًّا في أشْياءَ فَقَدَّرَ ما يَشْمَلُ ما سِيقَ لَهُ ما قَبْلَهُ وغَيْرَهُ. وقَرَأ الحَسَنُ بِتَخْفِيفِ الرّاءِ. فَقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: هو بِمَعْنى العامَّةِ، يَعْنِي بِالعامَّةِ: قِراءَةَ الجُمْهُورِ، قالَ: لِأنَّ فَعَلَ وفَعَّلَ رُبَّما تَعاقَبا عَلى مَعْنًى واحِدٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلى مَعْنى صَرَفْنا فِيهِ النّاسَ إلى الهُدى بِالدُّعاءِ إلى اللَّهِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ
﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾ أيْ: لِيَتَذَكَّرُوا مِنَ التَّذْكِيرِ، أُدْغِمَتِ التّاءُ في الذّالِ، وقَرَأ الأخَوانِ وطَلْحَةُ وابْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ ”لِيَذْكُرُوا“ بِسُكُونِ الذّالِ وضَمِّ الكافِ مِنَ الذِّكْرِ أوِ الذُّكْرِ، أيْ: لِيَتَّعِظُوا ويَعْتَبِرُوا ويَنْظُرُوا فِيما يُحْتَجُّ بِهِ عَلَيْهِمْ ويَطْمَئِنُّوا إلَيْهِ
﴿وما يَزِيدُهُمْ﴾ أيِ: التَّصْرِيفُ
﴿إلّا نُفُورًا﴾ أيْ: بُعْدًا وفِرارًا عَنِ الحَقِّ كَما قالَ:
﴿فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥] وقالَ:
﴿فَما لَهم عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩] ﴿كَأنَّهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ﴾ [المدثر: ٥٠] والنُّفُورُ مِن أوْصافِ الدَّوابِّ الشَّدِيدَةِ الشِّماسِ، ولَمّا ذَكَرَ تَعالى نِسْبَةَ الوَلَدِ إلَيْهِمْ ورَدَّ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ ذَكَرَ قَوْلَهم أنَّهُ تَعالى مَعَهُ آلِهَةٌ ورَدَّ عَلَيْهِمْ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحَفْصٌ
﴿كَما يَقُولُونَ﴾ بِالياءِ مِن تَحْتَ، والجُمْهُورُ بِالتّاءِ. ومَعْنى
﴿لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا﴾ إلى مُغالَبَتِهِ وإفْسادِ مُلْكِهِ؛ لِأنَّهم شُرَكاؤُهُ كَما يَفْعَلُ المُلُوكُ بَعْضُهم مَعَ بَعْضٍ، وقالَ هَذا المَعْنى أوْ مِثْلَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وأبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ والنَّقّاشُ والمُتَكَلِّمُونَ أبُو مَنصُورٍ وغَيْرُهُ، وعَلى هَذا تَكُونُ الآيَةُ بَيانًا لِلتَّمانُعِ، كَما في قَوْلِهِ:
﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: ٢٢] ويَأْتِي تَفْسِيرُها إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
وقالَ قَتادَةُ ما مَعْناهُ: لابْتَغَوْا إلى التَّقَرُّبِ إلى ذِي العَرْشِ والزُّلْفى لَدَيْهِ، وكانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الأصْنامَ تُقَرِّبُهم إلى اللَّهِ، فَإذا عَلِمُوا أنَّها تَحْتاجُ إلى اللَّهِ فَقَدْ بَطَلَ كَوْنُها آلِهَةً، ويَكُونُ كَقَوْلِهِ:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهم أقْرَبُ﴾ [الإسراء: ٥٧]، والكافُ مِن (كَما) في مَوْضِعِ نَصْبٍ.
وقالَ الحَوْفِيُّ: مُتَعَلِّقَةٌ بِما تَعَلَّقَتْ بِهِ (مَعَ) وهو الِاسْتِقْرارُ، و(مَعَهُ) خَبَرُ كانَ.
وقالَ أبُو البَقاءِ: كَوْنًا لِقَوْلِكم.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: و(إذًا) دالَّةٌ عَلى أنَّ ما بَعْدَها وهو (لابْتَغَوْا) جَوابٌ عَنْ مَقالَةِ المُشْرِكِينَ وجَزاءٌ لِـ لَوْ. انْتَهى. وعُطِفَ (وتَعالى) عَلى قَوْلِهِ: (سُبْحانَهُ) لِأنَّهُ اسْمٌ قامَ مَقامَ المَصْدَرِ الَّذِي هو في مَعْنى الفِعْلِ، أيْ: بَراءَةُ اللَّهِ وقُدِّرَ تَنَزَّهَ، وتَعالى يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلى سَبِيلِ الإعْمالِ إذْ يَصِحُّ لِسُبْحانَ أنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ (عَنْ) كَما في قَوْلِهِ:
﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: ١٨٠] والتَّعالِي في حَقِّهِ تَعالى هو بِالمَكانَةِ لا بِالمَكانِ. وقَرَأ الأخَوانِ: ”عَمّا تَقُولُونَ“ بِالتّاءِ مِن فَوْقُ، وباقِي السَّبْعَةِ بِالياءِ. وانْتَصَبَ (عُلُوًّا) عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ عَلى غَيْرِ الصَّدْرِ أيْ: تَعالِيًا، ووُصِفَ تَكْبِيرًا مُبالَغَةً في مَعْنى البَراءَةِ والبُعْدِ عَمّا وصَفُوهُ بِهِ؛ لِأنَّ المُنافاةَ بَيْنَ الواجِبِ لِذاتِهِ والمُمْكِنِ لِذاتِهِ، وبَيْنَ القَدِيمِ والمُحْدَثِ، وبَيْنَ الغَنِيِّ والمُحْتاجِ مُنافاةٌ لا تَقْبَلُ الزِّيادَةَ، ونِسْبَةُ التَّسْبِيحِ لِلسَّماواتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ مِن مَلَكٍ وإنْسٍ وجِنٍّ حَمَلَهُ بَعْضُهم عَلى النُّطْقِ بِالتَّسْبِيحِ حَقِيقَةً، وأنَّ ما لا حَياةَ فِيهِ ولا نُمُوَّ يُحْدِثُ اللَّهُ لَهُ نُطْقًا وهَذا هو ظاهِرُ اللَّفْظِ، ولِذَلِكَ جاءَ
﴿ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ . وقالَ بَعْضُهم: ما كانَ مِن نامٍ حَيَوانٍ وغَيْرِهِ يُسَبِّحُ حَقِيقَةً، وبِهِ قالَ عِكْرِمَةُ قالَ: الشَّجَرَةُ تُسَبِّحُ والأُسْطُوانَةُ لا تُسَبِّحُ.
وسُئِلَ الحَسَنُ عَنِ الخِوانِ: أيُسَبِّحُ ؟ فَقالَ: قَدْ كانَ يُسَبِّحُ مَرَّةً يُشِيرُ إلى أنَّهُ حِينَ كانَ شَجَرَةً كانَ يُسَبِّحُ، وحِينَ صارَ خُوانًا مَدْهُونًا صارَ جَمادًا لا يُسَبِّحُ. وقِيلَ: التَّسْبِيحُ المَنسُوبُ لِما لا يَعْقِلُ مَجازٌ، ومَعْناهُ: أنَّها تُسَبِّحُ بِلِسانِ الحالِ حَيْثُ يَدُلُّ عَلى الصّانِعِ وعَلى قُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ وكَمالِهِ، فَكَأنَّها تَنْطِقُ بِذَلِكَ وكَأنَّها تُنَزِّهُ اللَّهَ عَمّا لا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّرَكاءِ وغَيْرِها. ويَكُونُ قَوْلُهُ:
﴿ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ خِطابًا لِلْمُشْرِكِينَ، وهم وإنْ كانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالخالِقِ أنَّهُ اللَّهُ، لَكِنَّهم لَمّا جَعَلُوا مَعَهُ آلِهَةً لَمْ يَنْظُرُوا ولَمْ يُقِرُّوا؛ لِأنَّ نَتِيجَةَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ والإقْرارِ الثّابِتِ خِلافُ ما كانُوا عَلَيْهِ، فَإذا لَمْ يَفْقَهُوا التَّسْبِيحَ ولَمْ يَسْتَوْضِحُوا الدَّلالَةَ عَلى الخالِقِ فَيَكُونُ التَّسْبِيحُ المُسْنَدُ إلى السَّماواتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ عَلى سَبِيلِ المَجازِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الجَمِيعِ، وإنْ كانَ يَصْدُرُ التَّسْبِيحُ حَقِيقَةً مِمَّنْ فِيهِنَّ مِن مَلَكٍ وإنْسٍ وجانٍّ، ولا يُحْمَلُ نِسْبَتُهُ إلى السَّماواتِ والأرْضِ عَلى المَجازِ، ونِسْبَتُهُ إلى المَلائِكَةِ والثَّقَلَيْنِ عَلى الحَقِيقَةِ؛ لِئَلّا يَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ المَجازِ والحَقِيقَةِ بِلَفْظٍ واحِدٍ.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ثُمَّ أعادَ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ ضَمِيرَ مَن يَعْقِلُ لَمّا أسْنَدَ إلَيْها فِعْلَ العاقِلِ وهو التَّسْبِيحُ. انْتَهى. ويُعْنى بِالضَّمِيرِ في قَوْلِهِ:
﴿ومَن فِيهِنَّ﴾ وكَأنَّهُ تُخُيِّلَ أنَّ (هُنَّ) لا يَكُونُ إلّا لِمَن يَعْقِلُ مِنَ المُؤَنَّثاتِ، ولَيْسَ كَما تُخُيِّلَ بَلْ (هُنَّ) يَكُونُ ضَمِيرَ الجَمْعِ المُؤَنَّثِ مُطْلَقًا. وقَرَأ النَّحْوِيّانِ وحَمْزَةُ وحَفْصٌ: تُسَبِّحُ بِالتّاءِ مِن فَوْقُ وباقِي السَّبْعَةِ بِالياءِ، وفي بَعْضِ المَصاحِفِ ”سَبَّحَتْ“ لَهُ السَّماواتُ بِلَفْظِ الماضِي وتاءِ التَّأْنِيثِ، وهي قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ والأعْمَشِ وطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ.
﴿إنَّهُ كانَ حَلِيمًا﴾ حَيْثُ لا يُعاجِلُكم بِالعُقُوبَةِ عَلى سُوءِ نَظَرِكم
﴿غَفُورًا﴾ إنْ رَجَعْتُمْ ووَحَّدْتُمُ اللَّهَ تَعالى.