الباحث القرآني

(p-٢)سُورَةُ (الإسْراءِ) مِائَةٌ وإحْدى عَشْرَةَ آيَةً مَكِّيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمِ ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا إنَّه هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ﴿وآتَيْنا مُوسى الكِتابَ وجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِي إسْرائِيلَ ألّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وكِيلًا﴾ ﴿ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ ﴿وقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرائِيلَ في الكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٤] ﴿فَإذا جاءَ وعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وكانَ وعْدًا مَفْعُولًا﴾ [الإسراء: ٥] ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وأمْدَدْناكم بِأمْوالٍ وبَنِينَ وجَعَلْناكم أكْثَرَ نَفِيرًا﴾ [الإسراء: ٦] ﴿إنْ أحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأنْفُسِكم وإنْ أسَأْتُمْ فَلَها فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكم ولِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ ولِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: ٧] ﴿عَسى رَبُّكم أنْ يَرْحَمَكم وإنْ عُدْتُمْ عُدْنا وجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٨] ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ ويُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أنَّ لَهم أجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٩] ﴿وأنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أعْتَدْنا لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ [الإسراء: ١٠] ﴿ويَدْعُ الإنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالخَيْرِ وكانَ الإنْسانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: ١١] ﴿وجَعَلْنا اللَّيْلَ والنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكم ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسابَ وكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا﴾ [الإسراء: ١٢] ﴿وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنشُورًا﴾ [الإسراء: ١٣] ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: ١٤] ﴿مَنِ اهْتَدى فَإنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] ﴿وإذا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: ١٦] ﴿وكَمْ أهْلَكْنا مِنَ القُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ [الإسراء: ١٧] ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء: ١٨] ﴿ومَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهم مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: ١٩] ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِن عَطاءِ رَبِّكَ وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: ٢٠] ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ ولَلْآخِرَةُ أكْبَرُ دَرَجاتٍ وأكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: ٢١] ﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾ [الإسراء: ٢٢] . (p-٣)جاسَ يَجُوسُ جَوْسًا وجَوَسانًا تَرَدَّدَ في الغارَةِ قالَهُ اللَّيْثُ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: جاسُوا: فَتَّشُوا هَلْ بَقِيَ مِمَّنْ لَمْ يُقْتَلْ. وقالَ الفَرّاءُ: قَتَلُوا. قالَ حَسّانُ: ؎ومِنّا الَّذِي لاقى لِسَيْفِ مُحَمَّدٍ فَجاسَ بِهِ الأعْداءُ عَرْضَ العَساكِرِ وقالَ قُطْرُبٌ: نَزَلُوا. قالَ الشّاعِرُ: ؎فَجُسْنا دِيارَهم عَنْوَةً ∗∗∗ وأبْناءُ ساداتِهِمْ مُوَثَّقِينا وقِيلَ: داسُوا، ومِنهُ: ؎إلَيْكَ جُسْنا اللَّيْلَ بِالمَطِيِّ وقالَ أبُو زَيْدٍ: الجَوْسُ والحَوْسُ والعَوْسُ والهَوْسُ الطَّوافُ بِاللَّيْلِ. فالجَوْسُ والحَوْسُ طَلَبُ الشَّيْءِ بِاسْتِقْصاءٍ. حَظَرْتُ الشَّيْءَ مَنَعْتُهُ. ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا إنَّهُ هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ﴿وآتَيْنا مُوسى الكِتابَ وجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِي إسْرائِيلَ ألّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي ‎وكِيلًا﴾ ﴿ذُرِّيَّةَ مَن حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كانَ عَبدًا شَكُورًا﴾ . سَبَبُ نُزُولِ ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِقُرَيْشٍ الإسْراءَ بِهِ، وتَكْذِيبُهم لَهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ، وهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. قالَ صاحِبُ الغُنْيانِ بِإجْماعٍ، وقِيلَ: إلّا آيَتَيْنِ ﴿وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ﴾ [الإسراء: ٧٣] ﴿وإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ﴾ [الإسراء: ٧٦] وقِيلَ: إلّا أرْبَعَ، هاتانِ، وقَوْلُهُ: ﴿وإذْ قُلْنا لَكَ إنَّ رَبَّكَ أحاطَ بِالنّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠] وقَوْلُهُ ﴿وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ [الإسراء: ٨٠] . (p-٤)وزادَ مُقاتِلٌ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ﴾ [الإسراء: ١٠٧] الآيَةَ. وقالَ قَتادَةُ إلّا ثَمانِيَ آياتٍ أُنْزِلَتْ بِالمَدِينَةِ، وهي مِن قَوْلِهِ: ﴿وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ﴾ [الإسراء: ٧٣] إلى آخِرِهِنَّ. ومُناسَبَةُ أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ ما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَهُ بِالصَّبْرِ، ونَهاهُ عَنِ الحُزْنِ عَلَيْهِمْ، وأنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ مِن مَكْرِهِمْ، وكانَ مِن مَكْرِهِمْ نِسْبَتُهُ إلى الكَذِبِ والسِّحْرِ والشِّعْرِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا رَمَوْهُ بِهِ، أعْقَبَ تَعالى ذَلِكَ بِذِكْرِ شَرَفِهِ وفَضْلِهِ واحْتِفائِهِ بِهِ وعُلُوِّ مَنزِلَتِهِ عِنْدَهُ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى سُبْحانَ في البَقَرَةِ. وزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّهُ عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ كَعُثْمانَ لِلرَّجُلِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَمْ يَنْصَرِفْ لِأنَّ في آخِرِهِ زائِدَتَيْنِ وهو مَعْرِفَةٌ بِالعَلَمِيَّةِ، وإضافَتُهُ لا تَزِيدُهُ تَعْرِيفًا. انْتَهى. ويَعْنِيانِ واللَّهُ أعْلَمُ أنَّهُ إذا لَمْ يُضَفْ، كَقَوْلِهِ: ؎سُبْحانَ مِن عَلْقَمَةَ الفاخِرِ وأمّا إذا أُضِيفَ فَلَوْ فَرَضْنا أنَّهُ عَلَمٌ لَنُوِيَ تَنْكِيرُهُ ثُمَّ يُضافُ وصارَ إذْ ذاكَ تَعْرِيفُهُ بِالإضافَةِ لا بِالعَلَمِيَّةِ. وأسْرى بِمَعْنى سَرى، ولَيْسَتِ الهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، وعُدِّيَ بِالباءِ ولا يَلْزَمُ مِن تَعْدِيَتِهِ بِالباءِ المُشارَكَةُ في الفِعْلِ، بَلِ المَعْنى: جَعَلَهُ يَسْرِي؛ لِأنَّ السُّرى يَدُلُّ عَلى الِانْتِقالِ، كَمَشى وجَرى وهو مُسْتَحِيلٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، فَهو كَقَوْلِهِ: ﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠] أيْ: لَأذْهَبَ سَمْعَهم، فَأسْرى وسَرى عَلى هَذا كَسَقى وأسْقى إذْ كانا بِمَعْنًى واحِدٍ، ولِذَلِكَ قالَ المُفَسِّرُونَ: مَعْناهُ سَرى بِعَبْدِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَظْهَرُ أنَّ (أسْرى) مُعَدّاةٌ بِالهَمْزَةِ إلى مَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أسْرى المَلائِكَةَ بِعَبْدِهِ؛ لِأنَّهُ يُقْلِقُ أنْ يُسْنَدَ أسْرى وهو بِمَعْنى سَرى إلى اللَّهِ تَعالى، إذْ هو فِعْلٌ يُعْطِي النُّقْلَةَ كَمَشى وجَرى وأحْضَرَ وانْتَقَلَ، فَلا يَحْسُنُ إسْنادُ شَيْءٍ مِن هَذا ونَحْنُ نَجِدُ مَندُوحَةً، فَإذا صَرَّحَتِ الشَّرِيعَةُ بِشَيْءٍ مِن هَذا النَّحْوِ كَقَوْلِهِ في الحَدِيثِ: «أتَيْتُهُ سَعْيًا وأتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» حُمِلَ ذَلِكَ بِالتَّأْوِيلِ عَلى الوَجْهِ المُخَلِّصِ مِن نَفْيِ (p-٥)الحَوادِثِ، و(أسْرى) في هَذِهِ الآيَةِ تَخْرُجُ فَصِيحَةً كَما ذَكَرْنا، ولا يُحْتاجُ إلى تَجَوُّزِ قَلَقٍ في مِثْلِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَإنَّهُ ألْزَمُ لِلنُّقْلَةِ مِن أتَيْتُهُ وأتى اللَّهُ بُنْيانَهُمُ. انْتَهى. وإنَّما احْتاجَ ابْنُ عَطِيَّةَ إلى هَذِهِ الدَّعْوى اعْتِقادَ أنَّهُ إذا كانَ أسْرى بِمَعْنى سَرى لَزِمَ مِن كَوْنِ الباءِ لِلتَّعْدِيَةِ مُشارَكَةُ الفاعِلِ لِلْمَفْعُولِ، وهَذا شَيْءٌ ذَهَبَ إلَيْهِ المُبَرِّدُ، فَإذا قُلْتَ: قُمْتُ بِزَيْدٍ لَزِمَ مِنهُ قِيامُكَ وقِيامُ زِيدٍ عِنْدَهُ، وهَذا لَيْسَ كَذَلِكَ، التَبَسَتْ عِنْدَهُ باءُ التَّعْدِيَةِ بِباءِ الحالِ، فَباءُ الحالِ يَلْزَمُ فِيهِ المُشارَكَةُ إذِ المَعْنى قُمْتُ مُلْتَبِسًا بِزَيْدٍ وباءُ التَّعْدِيَةِ مُرادِفَةٌ لِلْهَمْزَةِ، فَقُمْتُ بِزَيْدٍ والباءُ لِلتَّعْدِيَةِ، كَقَوْلِكَ أقَمْتُ زَيْدًا ولا يَلْزَمُ مِن إقامَتِكَهُ أنْ تَقُومَ أنْتَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أسْرى بِمَعْنى سَرى عَلى حَذْفِ مُضافٍ كَنَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧] يَعْنِي أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أسْرَتْ مَلائِكَتُهُ بِعَبْدِهِ، فَحُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ، وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى اعْتِقادِ أنَّهُ يَلْزَمُ المُشارَكَةَ والباءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وأيْضًا فَمَوارِدُ القُرْآنِ في فَأسْرِ بِقَطْعِ الهَمْزَةِ ووَصْلِها يَقْتَضِي أنَّهُما بِمَعْنًى واحِدٍ، ألا تَرى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَأسْرِ بِأهْلِكَ﴾ [هود: ٨١] و﴿أنْ أسْرِ بِعِبادِي﴾ [طه: ٧٧] قُرِئَ بِالقَطْعِ والوَصْلِ، ويَبْعُدُ مَعَ القَطْعِ تَقْدِيرُ مَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ إذْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ في مَوْضِعٍ، فَيُسْتَدَلُّ بِالمُصَرَّحِ عَلى المَحْذُوفِ. والظّاهِرُ أنَّ هَذا الإسْراءَ كانَ بِشَخْصِهِ، ولِذَلِكَ كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ بِهِ وشَنَّعَتْ عَلَيْهِ، وحِينَ قَصَّ ذَلِكَ عَلى أُمِّ هانِئٍ قالَتْ: لا تُحَدِّثِ النّاسَ بِها فَيُكَذِّبُوكَ ولَوْ كانَ مَنامًا اسْتُنْكِرَ ذَلِكَ، وهو قَوْلُ جُمْهُورِ أهْلِ العِلْمِ، وهو الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعْتَقَدَ. وحَدِيثُ الإسْراءِ مَرْوِيٌّ في المَسانِيدِ عَنِ الصَّحابَةِ في كُلِّ أقْطارِ الإسْلامِ، وذُكِرَ أنَّهُ رَواهُ عِشْرُونَ مِنَ الصَّحابَةِ. قِيلَ: وما رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ ومُعاوِيَةَ أنَّهُ كانَ مَنامًا فَلَعَلَّهُ لا يَصِحُّ عَنْهُما، ولَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ حُجَّةٌ لِأنَّهُما لَمْ يُشاهِدا ذَلِكَ لِصِغَرِ عائِشَةَ وكُفْرِ مُعاوِيَةَ إذْ ذاكَ؛ ولِأنَّهُما لَمْ يُسْنِدا ذَلِكَ إلى الرَّسُولِ ﷺ ولا حَدَّثا بِهِ عَنْهُ. وعَنِ الحَسَنِ كانَ في المَنامِ رُؤْيا رَآها وقَوْلُهُ: ﴿بِعَبْدِهِ﴾ هو مُحَمَّدٌ ﷺ . وقالَ أبُو القاسِمِ سُلَيْمانُ الأنْصارِيُّ: لَمّا وصَلَ مُحَمَّدٌ ﷺ إلى الدَّرَجاتِ العالِيَةِ والمَراتِبِ الرَّفِيعَةِ في المَعارِجِ أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ: يا مُحَمَّدُ أُشَرِّفُكَ ؟ قالَ: يا رَبِّ بِنِسْبَتِي إلَيْكَ بِالعُبُودِيَّةِ، فَأنْزَلَ فِيهِ ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ الآيَةَ. . انْتَهى. وعَنْهُ قالُوا: (عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ)، وعَنْهُ (إنَّما أنا عَبْدٌ) وهَذِهِ إضافَةُ تَشْرِيفٍ واخْتِصاصٍ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎لا تَدْعُنِي إلّا بِيا عَبْدَها ∗∗∗ لِأنَّهُ أشْرَفُ أسْمائِي وقالَ العُلَماءُ: لَوْ كانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ اسْمٌ أشْرَفُ مِنهُ لَسَمّاهُ بِهِ في تِلْكَ الحالَةِ. وانْتَصَبَ (لَيْلًا) عَلى الظَّرْفِ، ومَعْلُومٌ أنَّ السُّرى لا يَكُونُ في اللُّغَةِ إلّا بِاللَّيْلِ، ولَكِنَّهُ ذُكِرَ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. وقِيلَ: يَعْنِي في جَوْفِ اللَّيْلِ فَلَمْ يَكُنْ إدْلاجًا ولا ادِّلاجًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أرادَ بِقَوْلِهِ: (لَيْلًا) بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ تَقْلِيلَ مُدَّةِ الإسْراءِ، وأنَّهُ أسْرى بِهِ في بَعْضِ اللَّيْلِ مِن مَكَّةَ إلى الشّامِ مَسِيرَةَ أرْبَعِينَ لَيْلَةً، وذَلِكَ أنَّ التَّنْكِيرَ فِيهِ قَدْ دَلَّ عَلى مَعْنى البَعْضِيَّةِ، ويَشْهَدُ لِذَلِكَ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وحُذَيْفَةَ مِنَ اللَّيْلِ أيْ: بَعْضِ اللَّيْلِ كَقَوْلِهِ: ﴿ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ﴾ [الإسراء: ٧٩] عَلى الأمْرِ بِالقِيامِ في بَعْضِ اللَّيْلِ. انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ هو المَسْجِدُ المُحِيطُ بِالكَعْبَةِ بِعَيْنِهِ، وهو قَوْلُ أنَسٍ. وقِيلَ: مِنَ الحِجْرِ، وقِيلَ: مِن بَيْنِ زَمْزَمَ والمَقامِ، وقِيلَ: مِن شِعْبِ أبِي طالِبٍ، وقِيلَ: مِن بَيْتِ أُمِّ هانِئٍ، وقِيلَ: مِن سَقْفِ بَيْتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وعَلى هَذِهِ الأقْوالِ الثَّلاثَةِ يَكُونُ أطْلَقَ المَسْجِدَ الحَرامَ عَلى مَكَّةَ. وقالَ قَتادَةُ ومُقاتِلٌ: قَبْلَ الهِجْرَةِ بِعامٍ. وقالَتْ عائِشَةُ: بِعامٍ ونِصْفٍ في رَجَبٍ. وقِيلَ: في سَبْعَ عَشْرَةَ مِن رَبِيعِ الأوَّلِ والرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ابْنُ إحْدى وخَمْسِينَ سَنَةً وتِسْعَةِ أشْهُرٍ وثَمانِيَةٍ وعِشْرِينَ يَوْمًا. وعَنِ ابْنِ شِهابٍ بَعْدَ المَبْعَثِ بِسَبْعَةِ أعْوامٍ. وعَنِ الحَرْبِيِّ لَيْلَةَ سَبْعٍ وعِشْرِينَ مِن رَبِيعِ الآخَرِ قَبْلَ الهِجْرَةِ (p-٦)بِسَنَةٍ، والمُتَحَقِّقُ أنَّ ذَلِكَ كانَ بَعْدَ شَقِّ الصَّحِيفَةِ وقَبْلَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ، ووَقَعَ لِشَرِيكِ بْنِ أبِي نَمِرٍ في الصَّحِيحِ أنَّ ذَلِكَ كانَ قَبْلَ أنْ يُوحى إلَيْهِ، ولا خِلافَ بَيْنَ المُحَدِّثِينَ أنَّ ذَلِكَ وهْمٌ مِن شَرِيكٍ. وحَكى الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أنَسٍ والحَسَنِ أنَّهُ كانَ قَبْلَ المَبْعَثِ. وقالَ أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ القاسِمِ الرُّعَيْنِيُّ في تارِيخِهِ: أُسْرِيَ بِهِ مِن مَكَّةَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ وعُرِجَ بِهِ إلى السَّماءِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ بِثَمانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ويُرْوى أنَّهُ كانَ نائِمًا في بَيْتِ أُمِّ هانِئٍ بَعْدَ صَلاةِ العِشاءِ، فَأُسْرِيَ بِهِ ورَجَعَ مِن لَيْلَتِهِ وقَصَّ القِصَّةَ عَلى أُمِّ هانِئٍ وقالَ: ”مُثِّلَ لِيَ النَّبِيُّونَ فَصَلَّيْتُ بِهِمْ“ . وقامَ لِيَخْرُجَ إلى المَسْجِدِ فَتَشَبَّثَتْ أُمُّ هانِئٍ بِثَوْبِهِ فَقالَ: ”ما لَكِ“ ؟ قالَتْ: أخْشى أنْ يُكَذِّبَكَ قَوْمُكَ إنْ أخْبَرْتَهم، قالَ: ”وإنْ كَذَّبُونِي“ فَخَرَجَ فَجَلَسَ إلَيْهِ أبُو جَهْلٍ فَأخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِحَدِيثِ الإسْراءِ. فَقالَ أبُو جَهْلٍ: يا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ هَلُمَّ، فَحَدَّثَهم، فَمِن بَيْنِ مُصَفِّقٍ وواضِعٍ يَدَهُ عَلى رَأْسِهِ تَعَجُّبًا وإنْكارًا، وارْتَدَّ ناسٌ مِمَّنْ كانَ آمَنَ بِهِ وسَعى رِجالٌ إلى أبِي بَكْرٍ فَقالَ: إنْ كانَ قالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قالُوا: أتُصَدِّقُهُ عَلى ذَلِكَ ؟ قالَ: إنِّي لَأُصَدِّقُهُ عَلى أبْعَدَ مِن ذَلِكَ، فَسُمِّيَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ. ومِنهم مَن سافَرَ إلى المَسْجِدِ الأقْصى فاسْتَنْعَتُوهُ، فَجُلِّيَ لَهُ بَيْتُ المَقْدِسِ، فَطَفِقَ يَنْظُرُ إلَيْهِ ويَنْعَتُهُ لَهم، فَقالُوا: أمّا النَّعْتُ فَقَدْ أصابَ، فَقالُوا: أخْبِرْنا عَنْ عِيرِنا، فَأخْبَرَهم بِعَدَدِ جِمالِها وأحْوالِها، وقالَ: «تَقْدَمُ يَوْمَ كَذا مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَقْدُمُها جَمَلٌ أوْرَقُ» فَخَرَجُوا يَشْتَدُّونَ ذَلِكَ اليَوْمَ نَحْوَ الثَّنِيَّةِ. فَقالَ قائِلٌ مِنهم: واللَّهِ هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ شَرَقَتْ. وقالَ آخَرُ: وهَذِهِ واللَّهِ العِيرُ قَدْ أقْبَلَتْ يَقْدُمُها جَمَلٌ أوْرَقُ كَما قالَ مُحَمَّدٌ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا، وقالُوا: ما هَذا إلّا سِحْرٌ بَيِّنٌ، وقَدْ عُرِجَ بِهِ إلى السَّماءِ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وكانَ العُرُوجُ بِهِ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ، وأخْبَرَ قُرَيْشًا أيْضًا بِما رَأى في السَّماءِ مِنَ العَجائِبِ، وأنَّهُ لَقِيَ الأنْبِياءَ، وبَلَغَ البَيْتَ المَعْمُورَ وسِدْرَةَ المُنْتَهى. وهَذا عَلى قَوْلِ مَن قالَ: إنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ هي لَيْلَةُ المِعْراجِ، وهو قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وجَماعَةٍ. وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ لَيْلَةَ المِعْراجِ هي غَيْرُ لَيْلَةِ الإسْراءِ. (والمَسْجِدُ الأقْصى) مَسْجِدُ بَيْتِ المَقْدِسِ، وسُمِّيَ الأقْصى؛ لِأنَّهُ كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ أقْصى بُيُوتِ اللَّهِ الفاضِلَةِ مِنَ الكَعْبَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالأقْصى البَعِيدَ دُونَ مُفاضَلَةٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ سِواهُ، ويَكُونَ المَقْصِدُ إظْهارَ العَجَبِ في الإسْراءِ إلى هَذا البُعْدِ في لَيْلَةٍ. انْتَهى. ولَفْظَةُ (إلى) تَقْتَضِي أنَّهُ انْتَهى الإسْراءُ بِهِ إلى حَدِّ ذَلِكَ المَسْجِدِ ولا يَدُلُّ مِن حَيْثُ الوَضْعُ عَلى دُخُولِهِ. (والَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) صِفَةُ مَدْحٍ لِإزالَةِ اشْتِراطٍ عارِضٍ، وبَرَكَتُهُ بِما خُصَّ بِهِ مِنَ الخَيْراتِ الدِّينِيَّةِ كالنُّبُوَّةِ والشَّرائِعِ والرُّسُلِ الَّذِينَ كانُوا في ذَلِكَ القُطْرِ ونَواحِيهِ ونَوادِيهِ، والدُّنْياوِيَّةِ مِن كَثْرَةِ الأشْجارِ والأنْهارِ، وطِيبِ الأرْضِ. وفي الحَدِيثِ ”أنَّهُ تَعالى بارَكَ فِيما بَيْنَ العَرِيشِ إلى الفُراتِ، وخَصَّ فِلَسْطِينَ بِالتَّقْدِيسِ“ . « وقَرَأ الجُمْهُورُ (» ﴿لِنُرِيَهُ﴾) بِالنُّونِ، وهو التِفاتٌ مِن ضَمِيرِ الغائِبِ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ، وقِراءَةُ الحَسَنِ ”لِيُرِيَهُ“ بِالياءِ فَيَكُونُ الِالتِفاتُ في آياتِنا، وهَذِهِ رُؤْيا عَيْنٍ، والآياتُ الَّتِي أُرِيَها هي العَجائِبُ الَّتِي أخْبَرَ بِها النّاسَ، وإسْراؤُهُ مِن مَكَّةَ وعُرُوجُهُ إلى السَّماءِ، ووَصْفُهُ الأنْبِياءَ واحِدًا واحِدًا حَسْبَما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ لِيُرِيَ مُحَمَّدًا لِلنّاسِ آيَةً، أيْ: يَكُونُ النَّبِيُّ ﷺ آيَةً في أنْ يَصْنَعَ اللَّهُ بِبَشَرٍ هَذا الصُّنْعَ فَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ عَلى هَذا رُؤْيَةَ القَلْبِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿إنَّه هو السَّمِيعُ﴾ لِأقْوالِ مُحَمَّدٍ (البَصِيرُ) بِأفْعالِهِ، العالِمُ بِتَهْذِيبِها وخُلُوصِها فَيُكْرِمُهُ، ويُقَرِّبُهُ عَلى حَسَبِ ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْكُفّارِ عَلى تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا ﷺ في أمْرِ الإسْراءِ، فَهي إشارَةٌ لَطِيفَةٌ بَلِيغَةٌ إلى ذَلِكَ أيْ: هو السَّمِيعُ لِما تَقُولُونَ، البَصِيرُ بِأفْعالِكُمُ. انْتَهى. ولَمّا ذَكَرَ تَشْرِيفَ الرَّسُولِ ﷺ بِالإسْراءِ وإراءَتَهُ الآياتِ، ذَكَرَ تَشْرِيفَ مُوسى بِإيتائِهِ التَّوْراةَ (وآتَيْنا) مَعْطُوفٌ عَلى الجُمْلَةِ السّابِقَةِ مِن (p-٧)تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعالى وبَراءَتِهِ مِنَ السُّوءِ، ولا يَلْزَمُ مِن عَطْفِ الجُمَلِ المُشارَكَةُ في الخَبَرِ أوْ غَيْرِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفُ قَوْلِهِ وآتَيْنا عَلى ما في قَوْلِهِ أسْرى بِعَبْدِهِ مِن تَقْدِيرِ الخَبَرِ، كَأنَّهُ قالَ: أسْرَيْنا بِعَبْدِنا، وأرَيْناهُ آياتِنا وآتَيْنا. وقالَ العُكْبَرِيُّ: وآتَيْنا مَعْطُوفٌ عَلى أسْرى. انْتَهى. وفِيهِ بُعْدٌ، والكِتابُ هُنا التَّوْراةُ، والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ مِن وجَعَلْناهُ عَلى الكِتابِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى مُوسى، ويَجُوزَ أنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً ولا نَهْيَ، وأنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً تَعْلِيلًا أيْ: لِأنْ لا يَتَّخِذُوا ولا نَفْيَ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ أنْ زائِدَةً، ويَكُونَ لا تَتَّخِذُوا مَعْمُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ خِلافًا لِمُجَوِّزِ ذَلِكَ؛ إذْ لَيْسَ مِن مَواضِعِ زِيادَةِ أنْ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ وعِيسى وأبُو رَجاءٍ وأبُو عَمْرٍو مِنَ السَّبْعَةِ: (يَتَّخِذُوا) بِالياءِ عَلى الغَيْبَةِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِتاءِ الخِطابِ، والوَكِيلُ فَعِيلٌ مِنَ التَّوَكُّلِ أيْ: مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رَبًّا تَكِلُونَ إلَيْهِ أُمُورَكم. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَفِيظًا لَكم سِوايَ. وقالَ أبُو الفَرَجِ بْنُ الجَوْزِيِّ: قِيلَ لِلرَّبِّ: وكِيلٌ لِكِفايَتِهِ وقِيامِهِ بِشُئُونِ عِبادِهِ، لا عَلى مَعْنى ارْتِفاعِ مَنزِلَةِ المُوَكِّلِ وانْحِطاطِ أمْرِ الوَكِيلِ. انْتَهى. وانْتَصَبَ (ذُرِّيَّةَ) عَلى النِّداءِ أيْ: يا ذُرِّيَّةً أوْ عَلى البَدَلِ مِن وكِيلًا، أوْ عَلى المَفْعُولِ الثّانِي لِيَتَّخِذُوا وكِيلًا، وفي مَعْنى الجَمْعِ أيْ: لا يَتَّخِذُوا وُكَلاءَ ذُرِّيَّةً، أوْ عَلى إضْمارِ أعْنِي. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ ذُرِّيَّةُ بِالرَّفْعِ، وخُرِّجَ عَلى أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ في يَتَّخِذُوا عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ بِياءِ الغَيْبَةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولا يَجُوزُ في القِراءَةِ بِالتّاءِ؛ لِأنَّكَ لا تُبْدِلُ مِن ضَمِيرِ مُخاطَبٍ لَوْ قُلْتَ: ضَرَبْتُكَ زَيْدًا عَلى البَدَلِ لَمْ يَجُزِ. انْتَهى. وما ذَكَرَهُ مِن إطْلاقِ أنَّكَ لا تُبْدِلُ مِن ضَمِيرِ مُخاطَبٍ يَحْتاجُ إلى تَفْصِيلٍ، وذَلِكَ أنَّهُ إنْ كانَ في بَدَلِ بَعْضٍ مِن كُلٍّ وبَدَلِ اشْتِمالٍ جازَ بِلا خِلافٍ، وإنْ كانَ في بَدَلِ شَيْءٍ مِن شَيْءٍ، وهُما لِعَيْنٍ واحِدَةٍ وإنْ كانَ يُفِيدُ التَّوْكِيدَ جازَ بِلا خِلافٍ، نَحْوُ: مَرَرْتُ بِكم صَغِيرِكم وكَبِيرِكم وإنْ لَمْ يُفِدِ التَّوْكِيدَ، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ المَنعُ، ومَذْهَبُ الأخْفَشِ والكُوفِيِّينَ الجَوازُ وهو الصَّحِيحُ؛ لِوُجُودِ ذَلِكَ في كَلامِ العَرَبِ، وقَدِ اسْتَدْلَلْنا عَلى صِحَّةِ ذَلِكَ في شَرْحِ كِتابِ التَّسْهِيلِ، وذَكَرَ مَن حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ تَنْبِيهًا عَلى النِّعْمَةِ الَّتِي نَجّاهم بِها مِنَ الغَرَقِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، وأبانُ بْنُ عُثْمانَ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، ومُجاهِدٌ في رِوايَةٍ بِكَسْرِ ذالِ ذِرِّيَّةَ. وقَرَأ مُجاهِدٌ أيْضًا بِفَتْحِها. وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ ذَرِيَّةَ بِفَتْحِ الذّالِ، وتَخْفِيفِ الرّاءِ، وتَشْدِيدِ الياءِ عَلى وزْنِ فَعِلِيَّةٍ كَمَطِيَّةٍ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (إنَّهُ) عائِدٌ عَلى نُوحٍ. قالَ سَلْمانُ الفارِسِيُّ: كانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلى طَعامِهِ. وقالَ إبْراهِيمُ: شُكْرُهُ إذا أكَلَ قالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإذا فَرَغَ قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ. وقالَ قَتادَةُ: كانَ إذا لَبِسَ ثَوْبًا قالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وإذا نَزَعَهُ قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (إنَّهُ) عائِدٌ إلى مُوسى. انْتَهى. ونَبَّهَ عَلى الشُّكْرِ؛ لِأنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّوْحِيدَ؛ إذِ النِّعَمُ الَّتِي يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْها هي مِن عِنْدِهِ تَعالى، فَكَأنَّهُ قِيلَ: كُونُوا مُوَحِّدِينَ شاكِرِينَ لِنِعَمِ اللَّهِ مُقْتَدِينَ بِنُوحٍ الَّذِي أنْتُمْ ذُرِّيَّةُ مَن حُمِلَ مَعَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب