الباحث القرآني
﴿وإذا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا﴾ ﴿وكَمْ أهْلَكْنا مِنَ القُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ ﴿ومَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهو مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهم مَشْكُورًا﴾ ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِن عَطاءِ رَبِّكَ وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ ولَلْآخِرَةُ أكْبَرُ دَرَجاتٍ وأكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ ﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾ .
(p-١٧)لَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ لا يُعَذِّبُ أحَدًا حَتّى يَبْعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا، بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ عِلَّةَ إهْلاكِهِمْ، وهي مُخالَفَةُ أمْرِ الرَّسُولِ ﷺ والتَّمادِي عَلى الفَسادِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿وإذا أرَدْنا﴾ وقْتَ إهْلاكِ قَوْمٍ ولَمْ يَبْقَ مِن زَمانِ إهْلاكِهِمْ إلّا قَلِيلٌ. انْتَهى. فَتُؤَوَّلُ (أرَدْنا) عَلى مَعْنى دَنا وقْتُ إهْلاكِهِمْ، وذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ الِاعْتِزالِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ أمَرْنا، وفي هَذِهِ القِراءَةِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: وهو الظّاهِرُ أنَّهُ مِنَ الأمْرِ الَّذِي هو ضِدُّ النَّهْيِ، واخْتُلِفَ في مُتَعَلَّقِهِ فَذَهَبَ الأكْثَرُونَ مِنهُمُ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ إلى أنَّ التَّقْدِيرَ أمَرْناهم بِالطّاعَةِ فَعَصَوْا وفَسَقُوا، وذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلى أنَّ التَّقْدِيرَ أمَرْناهم بِالفِسْقِ فَفَسَقُوا، ورَدَّ عَلى مَن قالَ أمَرْناهم بِالطّاعَةِ فَقالَ: أيْ: أمَرْناهم بِالفِسْقِ فَفَعَلُوا، والأمْرُ مَجازٌ؛ لِأنَّ حَقِيقَةَ أمْرِهِمْ بِالفِسْقِ أنْ يَقُولَ لَهم: افْسُقُوا، وهَذا لا يَكُونُ (p-١٨)فَبَقِيَ أنْ يَكُونَ مَجازًا، ووَجْهُ المَجازِ أنَّهُ صَبَّ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ صَبًّا، فَجَعَلُوها ذَرِيعَةً إلى المَعاصِي واتِّباعِ الشَّهَواتِ، فَكَأنَّهم مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ لِتَسَبُّبِ إيلاءِ النِّعْمَةِ فِيهِ، وإنَّما خَوَّلَهم إيّاها؛ لِيَشْكُرُوا ويَعْمَلُوا فِيها الخَيْرَ، ويَتَمَكَّنُوا مِنَ الإحْسانِ والبِرِّ كَما خَلَقَهم أصِحّاءَ أقْوِياءَ وأقْدَرَهم عَلى الخَيْرِ والشَّرِّ، وطَلَبَ مِنهم إيثارَ الطّاعَةِ عَلى المَعْصِيَةِ، وآثَرُوا الفُسُوقَ فَلَمّا فَسَقُوا حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ، وهي كَلِمَةُ العَذابِ فَدَمَّرَهم. فَإنْ قُلْتَ: هَلّا زَعَمْتَ أنَّ مَعْناهُ أمَرْناهم بِالطّاعَةِ فَفَسَقُوا ؟ قُلْتُ: لِأنَّ حَذْفَ ما لا دَلِيلَ عَلَيْهِ غَيْرُ جائِزٍ، فَكَيْفَ يُحْذَفُ ما الدَّلِيلُ قائِمٌ عَلى نَقِيضِهِ. وذَلِكَ أنَّ المَأْمُورَ بِهِ إنَّما حُذِفَ؛ لِأنَّ فَسَقُوا يَدُلُّ عَلَيْهِ وهو كَلامٌ مُسْتَفِيضٌ. يُقالُ: أمَرْتُهُ فَقامَ وأمَرْتُهُ فَقَرَأ، لا يُفْهَمُ مِنهُ إلّا أنَّ المَأْمُورَ بِهِ قِيامٌ أوْ قِراءَةٌ، ولَوْ ذَهَبْتَ تُقَدِّرُ غَيْرَهُ، فَقَدْ رُمْتَ مِن مُخاطِبِكَ عِلْمَ الغَيْبِ، ولا يَلْزَمُ هَذا قَوْلَهم أمَرْتُهُ فَعَصانِي أوْ فَلَمْ يَمْتَثِلْ أمْرِي؛ لِأنَّ ذَلِكَ مُنافٍ لِلْأمْرِ مُناقِضٌ لَهُ، ولا يَكُونُ ما يُناقِضُ الأمْرَ مَأْمُورًا بِهِ، فَكانَ مُحالًا أنْ يُقْصَدَ أصْلًا حَتّى يُجْعَلَ دالًّا عَلى المَأْمُورِ بِهِ، فَكانَ المَأْمُورُ بِهِ في هَذا الكَلامِ غَيْرَ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ ولا مَنوِيٍّ؛ لِأنَّ مَن يَتَكَلَّمُ بِهَذا الكَلامِ فَإنَّهُ لا يَنْوِي لِأمْرِهِ مَأْمُورًا بِهِ وكَأنَّهُ يَقُولُ: كانَ مِنِّي أمْرٌ فَلَمْ يَكُنْ مِنهُ طاعَةٌ، كَما أنَّ مَن يَقُولُ: فُلانٌ يُعْطِي ويَمْنَعُ ويَأْمُرُ ويَنْهى غَيْرُ قاصِدٍ إلى مَفْعُولٍ. فَإنْ قُلْتَ: هَلّا كانَ ثُبُوتُ العِلْمِ بِأنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ وإنَّما يَأْمُرُ بِالقِسْطِ، والخَيْرِ دَلِيلًا عَلى أنَّ المُرادَ أمَرْناهم بِالخَيْرِ (p-١٩)﴿فَفَسَقُوا﴾ قُلْتُ: لا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿فَفَسَقُوا﴾ يُدافِعُهُ فَكَأنَّكَ أظْهَرْتَ شَيْئًا وأنْتَ تَدَّعِي إضْمارَ خِلافِهِ، فَكانَ صَرْفُ الأمْرِ إلى المَجازِ هو الوَجْهَ. ونَظِيرُ أمَرَ شاءَ في أنَّ مَفْعُولَهُ اسْتَفاضَ فِيهِ الحَذْفُ لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ، تَقُولُ: لَوْ شاءَ لَأحْسَنَ إلَيْكَ، ولَوْ شاءَ لَأساءَ إلَيْكَ، تُرِيدُ لَوْ شاءَ الإحْسانَ ولَوْ شاءَ الإساءَةَ، فَلَوْ ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خِلافَ ما أظْهَرْتَ، وقُلْتَ: قَدْ دَلَّتْ حالُ مَن أسْنَدْتَ إلَيْهِ المَشِيئَةَ أنَّهُ مِن أهْلِ الإحْسانِ أوْ مِن أهْلِ الإساءَةِ فاتْرُكِ الظّاهِرَ المَنطُوقَ بِهِ وأضْمِرْ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ حالُ صاحِبِ المَشِيئَةِ لَمْ يَكُنْ عَلى سَدادٍ. انْتَهى.
أمّا ما ارْتَكَبَهُ مِنَ المَجازِ وهو أنَّ ﴿أمَرْنا مُتْرَفِيها﴾ صَبَبْنا عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ صَبًّا فَيَبْعُدُ جِدًّا. وأمّا قَوْلُهُ: وأقْدَرَهم عَلى الخَيْرِ والشَّرِّ إلى آخِرِهِ فَمَذْهَبُ الِاعْتِزالِ، وقَوْلُهُ: لِأنَّ حَذْفَ ما لا دَلِيلَ عَلَيْهِ غَيْرُ جائِزِ، تَعْلِيلٌ لا يَصِحُّ فِيما نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، بَلْ ثَمَّ ما يَدُلُّ عَلى حَذْفِهِ. وقَوْلُهُ فَكَيْفَ يُحْذَفُ ما الدَّلِيلُ قائِمٌ عَلى نَقِيضِهِ إلى قَوْلِهِ: عِلْمَ الغَيْبِ، فَنَقُولُ: حَذْفُ الشَّيْءِ تارَةً يَكُونُ لِدَلالَةٍ مُوافِقَةٍ عَلَيْهِ، ومِنهُ ما مَثَّلَ بِهِ في قَوْلِهِ: أمَرْتُهُ فَقامَ وأمَرْتُهُ فَقَرَأ، وتارَةً يَكُونُ لِدَلالَةِ خِلافِهِ أوْ ضِدِّهِ أوْ نَقِيضِهِ، فَمِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَهُ ما سَكَنَ في اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾ [الأنعام: ١٣] قالُوا: تَقْدِيرُهُ ما سَكَنَ وما تَحَرَّكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] قالُوا: الحَرَّ والبَرْدَ. وقَوْلُ الشّاعِرِ:
؎وما أدْرِي إذا يَمَّمْتُ أرْضًا أُرِيدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِينِي
؎أألْخَيْرُ الَّذِي أنا أبْتَغِيهِ ∗∗∗ أمِ الشَّرُّ الَّذِي هو يَبْتَغِينِي
تَقْدِيرُهُ: أُرِيدُ الخَيْرَ وأجْتَنِبُ الشَّرَّ، وتَقُولُ: أمَرْتُهُ فَلَمْ يُحْسِنْ فَلَيْسَ المَعْنى أمَرْتُهُ بِعَدَمِ الإحْسانِ فَلَمْ يُحْسِنْ، بَلِ المَعْنى أمَرْتُهُ بِالإحْسانِ فَلَمْ يُحْسِنْ، وهَذِهِ الآيَةُ مِن هَذا القَبِيلِ يُسْتَدَلُّ عَلى حَذْفِ النَّقِيضِ بِإثْباتِ نَقِيضِهِ، ودَلالَةُ النَّقِيضِ عَلى النَّقِيضِ كَدَلالَةِ النَّظِيرِ عَلى النَّظِيرِ، وكَذَلِكَ أمَرْتُهُ فَأساءَ إلَيَّ لَيْسَ المَعْنى أمَرْتُهُ بِالإساءَةِ فَأساءَ إلَيَّ، إنَّما يُفْهَمُ مِنهُ أمَرْتُهُ بِالإحْسانِ فَأساءَ إلَيَّ. وقَوْلُهُ ولا يَلْزَمُ هَذا قَوْلَهم أمَرْتُهُ فَعَصانِي. نَقُولُ: بَلْ يَلْزَمُ، وقَوْلُهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مُنافٍ أيْ: لِأنَّ العِصْيانَ مُنافٍ، وهو كَلامٌ صَحِيحٌ. وقَوْلُهُ: فَكانَ المَأْمُورُ بِهِ غَيْرَ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ ولا مَنوِيٍّ. هَذا لا يَسْلَمُ، بَلْ هو مَدْلُولٌ عَلَيْهِ ومَنوِيٌّ لا دَلالَةُ المُوافِقِ، بَلْ دَلالَةُ المُناقِضِ كَما بَيَّنّا. وأمّا قَوْلُهُ: لِأنَّ مَن يَتَكَلَّمُ بِهَذا الكَلامِ فَإنَّهُ لا يَنْوِي لِأمْرِهِ مَأْمُورًا بِهِ هَذا أيْضًا لا يَسْلَمُ. وقَوْلُهُ في جَوابِ السُّؤال لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿فَفَسَقُوا﴾ يُدافِعُهُ، فَكَأنَّكَ أظْهَرْتَ شَيْئًا وأنْتَ تَدَّعِي إضْمارَ خِلافِهِ. قُلْنا: نَعَمْ يَدَّعِي إضْمارَ خِلافِهِ، ودَلَّ عَلى ذَلِكَ نَقِيضُهُ. وقَوْلُهُ: ونَظِيرُ أمَرَ شاءَ في أنَّ مَفْعُولَهُ اسْتَفاضَ فِيهِ الحَذْفُ. قُلْتُ: لَيْسَ نَظِيرَهُ؛ لِأنَّ مَفْعُولَ أمَرَ لَمْ يَسْتَفِضْ فِيهِ الحَذْفُ لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ، بَلْ لا يَكادُ يُسْتَعْمَلُ مِثْلُ شاءَ مَحْذُوفًا مَفْعُولُهُ لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وأكْثَرُ اسْتِعْمالِهِ مُثْبَتَ المَفْعُولِ؛ لِانْتِفاءِ الدَّلالَةِ عَلى حَذْفِهِ. قالَ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ﴾ [الأعراف: ٢٨] ﴿لِلَّهِ أمَرَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [يوسف: ٤٠] ﴿أمْ تَأْمُرُهم أحْلامُهم بِهَذا﴾ [الطور: ٣٢] ﴿قُلْ أمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ﴾ [الأعراف: ٢٩] ﴿أنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا﴾ [الفرقان: ٦٠] أيْ: بِهِ ولا يَأْمُرُكم أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ. وقالَ الشّاعِرُ:
؎أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ بِهِ
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ كَما أنَّ قَوْلَهُ أمَرْتُهُ فَعَصانِي، يَدُلُّ عَلى أنَّ المَأْمُورَ بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الفِسْقِ؛ لِأنَّ الفِسْقَ عِبارَةٌ عَنِ الإتْيانِ بِضِدِّ المَأْمُورِ بِهِ، فَكَوْنُهُ فِسْقًا يُنافِي كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِهِ، كَما أنَّ كَوْنَهُ مَعْصِيَةً يُنافِي كَوْنَها مَأْمُورًا بِها، فَوَجَبَ أنْ يَدُلَّ هَذا اللَّفْظُ عَلى أنَّ المَأْمُورَ بِهِ لَيْسَ بِفِسْقٍ. هَذا الكَلامُ في غايَةِ الظُّهُورِ، فَلا أدْرِي لِما أصَرَّ صاحِبُ الكَشّافِ عَلى قَوْلِهِ مَعَ ظُهُورِ فَسادِهِ فَثَبَتَ أنَّ الحَقَّ ما ذَكَرُوهُ، وهو أنَّ المَعْنى أمَرْناهم بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ، وهي الإيمانُ والطّاعَةُ، والقَوْمُ خالَفُوا ذَلِكَ عِنادًا، وأقْدَمُوا عَلى الفِسْقِ. انْتَهى.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ مَعْنى (أمَرْنا) كَثَّرْنا، أيْ: كَثَّرْنا (مُتْرَفِيها) (p-٢٠)يُقالُ: أمِرَ اللَّهُ القَوْمَ أيْ: كَثَّرَهم. حَكاهُ أبُو حاتِمٍ عَنْ أبِي زَيْدٍ. وقالَ الواحِدِيُّ: العَرَبُ تَقُولُ: أمِرَ القَوْمُ إذا كَثُرُوا، وأمِرَهُمُ اللَّهُ إذا كَثَّرَهُمُ. انْتَهى. وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: الجَيِّدُ في أمَرْنا أنْ يَكُونَ بِمَعْنى كَثَّرْنا، واسْتَدَلَّ أبُو عُبَيْدَةَ عَلى صِحَّةِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِما جاءَ في الحَدِيثِ: «خَيْرُ المالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ ومُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ» أيْ: كَثِيرَةُ النَّسْلِ، يُقالُ: أمِرَ اللَّهُ المُهْرَةَ أيْ: كَثَّرَ ولَدَها، ومَن أنْكَرَ: أمِرَ اللَّهُ القَوْمَ بِمَعْنى كَثَّرَهم، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ لُغَةً، ويَكُونُ مِن بابِ ما لَزِمَ وعُدِّيَ بِالحَرَكَةِ المُخْتَلِفَةِ، إذْ يُقالُ: أمِرَ القَوْمُ: كَثُرُوا، وأمِرَهُمُ اللَّهُ: كَثَّرَهم، وهو مِن بابِ المُطاوَعَةِ أمِرَهُمُ اللَّهُ فَأمِرُوا كَقَوْلِكَ شَتَرَ اللَّهُ عَيْنَهُ فَشُتِرَتْ، وجَدَعَ أنْفَهُ وثَلَمَ سِنَّهُ فَثُلِمَتْ.
وقَرَأ الحَسَنُ ويَحْيى بْنُ يَعْمُرَ وعِكْرِمَةُ. (أمِرْنا) بِكَسْرِ المِيمِ، وحَكاها النَّحّاسُ وصاحِبُ اللَّوامِحِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ورَدَّ الفَرّاءُ هَذِهِ القِراءَةَ لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ إذْ نُقِلَ أنَّها لُغَةٌ كَفَتْحِ المِيمِ، ومَعْناها كَثَّرْنا. حَكى أبُو حاتِمٍ عَنْ أبِي زَيْدٍ يُقالُ: أمَرَ اللَّهُ مالَهُ وأمِرَهُ أيْ: كَثَّرَهُ بِكَسْرِ المِيمِ وفَتْحِها. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وأبُو رَجاءٍ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ، وسَلّامٌ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي يَزِيدَ، والكَلْبِيُّ: (آمَرْنا) بِالمَدِّ، وجاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والحَسَنِ، وقَتادَةَ، وأبِي العالِيَةِ، وابْنِ هُرْمُزَ، وعاصِمٍ، وابْنِ كَثِيرٍ، وأبِي عَمْرٍو، ونافِعٍ، وهو اخْتِيارُ يَعْقُوبَ، ومَعْناهُ كَثَّرْنا. يُقالُ أمِرَ اللَّهُ القَوْمَ وآمَرَهم فَتَعَدّى بِالهَمْزَةِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو عُثْمانَ النَّهْدِيُّ والسُّدِّيُّ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وأبُو العالِيَةِ: (أمَّرْنا) بِتَشْدِيدِ المِيمِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ والحَسَنِ والباقِرِ وعاصِمٍ وأبِي عُمَرَ وعُدِّيَ أمَرَ بِالتَّضْعِيفِ، والمَعْنى أيْضًا كَثَّرْنا، وقَدْ يَكُونُ أمَّرْنا بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنى ولَّيْناهم وصَيَّرْناهم أُمَراءَ، واللّازِمُ مِن ذَلِكَ أُمِّرَ فُلانٌ إذا صارَ أمِيرًا أيْ: ولِيَ الأمْرَ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: لا وجْهَ لِكَوْنِ (أمَرْنا) مِنَ الإمارَةِ؛ لِأنَّ رِياسَتَهم لا تَكُونُ إلّا لِواحِدٍ بَعْدَ واحِدٍ، والإهْلاكُ إنَّما يَكُونُ في مُدَّةِ واحِدٍ مِنهم، وما قالَهُ أبُو عَلِيٍّ لا يَلْزَمُ؛ لِأنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ الأمِيرَ هو المَلِكُ بَلْ كَوْنُهُ مِمَّنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ بِهِ، والعَرَبُ تُسَمِّي أمِيرًا مَن يُؤْتَمَرُ بِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا. ولَئِنْ سَلَّمْنا أنَّهُ أُرِيدَ بِهِ المَلِكَ فَلا يَلْزَمُ ما قالَ؛ لِأنَّ القَرْيَةَ إذا مُلِّكَ عَلَيْها مُتْرَفٌ ثُمَّ فَسَقَ، ثُمَّ آخَرُ فَفَسَقَ، ثُمَّ كَذَلِكَ كَثُرَ الفَسادُ وتَوالى الكُفْرُ، ونَزَلَ بِهِمْ عَلى الآخِرِ مِن مُلُوكِهِمْ، ورَأيْتُ في النَّوْمِ أنِّي قَرَأْتُ وقُرِئَ بِحَضْرَتِي ﴿وإذا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَّرْنا مُتْرَفِيها﴾ الآيَةَ بِتَشْدِيدِ المِيمِ. فَأقُولُ في النَّوْمِ: ما أفْصَحَ هَذِهِ القِراءَةَ، والقَوْلُ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ هو وعِيدُ اللَّهِ الَّذِي قالَهُ رَسُولُهم. وقِيلَ: (القَوْلُ) (لَأمْلَأنَّ)، (وهَؤُلاءِ في النّارِ ولا أُبالِي) .
والتَّدْمِيرُ الإهْلاكُ مَعَ طَمْسِ الأثَرِ وهَدْمِ البِناءِ. (وكَمْ) في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى المَفْعُولِ بِـ أهْلَكْنا أيْ: كَثِيرًا مِنَ القُرُونِ أهْلَكْنا، ومِنَ القُرُونِ بَيانٌ لِكَمْ وتَمْيِيزٌ لَهُ كَما يُمَيَّزُ العَدَدُ بِالجِنْسِ، والقُرُونُ عادٌ وثَمُودُ وغَيْرُهم، ويَعْنِي بِالإهْلاكِ هُنا الإهْلاكَ بِالعَذابِ، وفي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ ووَعِيدٌ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ، وقالَ: ﴿مِن بَعْدِ نُوحٍ﴾ ولَمْ يَقُلْ: مِن بَعْدِ آدَمَ؛ لِأنَّ نُوحًا أوَّلُ نَبِيٍّ بالَغَ قَوْمُهُ في تَكْذِيبِهِ، وقَوْمُهُ أوَّلُ مَن حَلَّتْ بِهِمُ العُقُوبَةُ بِالعُظْمى، وهي الِاسْتِئْصالُ بِالطُّوفانِ. وتَقَدَّمَ القَوْلُ في عُمُرِ القَرْنِ و(مِن) الأُولى لِلتَّبْيِينِ، والثّانِيَةُ لِابْتِداءِ الغايَةِ وتَعَلَّقا بِـ أهْلَكْنا لِاخْتِلافِ مَعْنَيَيْهِما. وقالَ الحَوْفِيُّ: ﴿مِن بَعْدِ نُوحٍ﴾ مِنَ الثّانِيَةُ بَدَلٌ مِنَ الأُولى. انْتَهى. وهَذا لَيْسَ بِجَيِّدٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الباءُ يَعْنِي في (وكَفى بِرَبِّكَ) إنَّما تَجِيءُ في الأغْلَبِ في مَدْحٍ أوْ ذَمٍّ. انْتَهى. و(بِذُنُوبِ عِبادِهِ) تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الذُّنُوبَ هي أسْبابُ الهَلَكَةِ، و(خَبِيرًا بَصِيرًا) تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ عالِمٌ بِها فَيُعاقِبُ عَلَيْها ويَتَعَلَّقُ (بِذُنُوبِ) بِخَبِيرًا أوْ بِبَصِيرًا. وقالَ الحَوْفِيُّ: تَتَعَلَّقُ بِكَفى. انْتَهى. وهَذا وهْمٌ و(العاجِلَةَ) هي الدُّنْيا، ومَعْنى إرادَتِها: إيثارُها عَلى الآخِرَةِ، ولابُدَّ مِن تَقْدِيرِ حَذْفٍ دَلَّ عَلَيْهِ المُقابِلُ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن أرادَ الآخِرَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهو مُؤْمِنٌ﴾ فالتَّقْدِيرُ: مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ وسَعى لَها سَعْيَها وهو كافِرٌ. وقِيلَ: المُرادُ ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ﴾ بِعَمَلِ الآخِرَةِ كالمُنافِقِ (p-٢١)والمُرائِي والمُهاجِرِ لِلدُّنْيا والمُجاهِدِ لِلْغَنِيمَةِ والذِّكْرِ كَما قالَ - عَلَيْهِ السَّلامُ: «ومَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها أوِ امْرَأةٍ يَنْكِحُها فَهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إلَيْهِ» . وقالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «مَن طَلَبَ الدُّنْيا بِعَمَلِ الآخِرَةِ فَما لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ» .
وقِيلَ: نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ، وكانُوا يَغْزُونَ مَعَ المُسْلِمِينَ لِلْغَنِيمَةِ لا لِلثَّوابِ، و(مِن) شَرْطٌ، وجَوابُهُ ﴿عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ﴾ فَقَيَّدَ المُعَجَّلَ بِمَشِيئَتِهِ أيْ: ما يَشاءُ تَعْجِيلَهُ. و﴿لِمَن نُرِيدُ﴾ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: (لَهُ) بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ؛ لِأنَّ الضَّمِيرَ في (لَهُ) عائِدٌ عَلى مَنِ الشَّرْطِيَّةِ، وهي في مَعْنى الجَمْعِ، ولَكِنْ جاءَتِ الضَّمائِرُ هُنا عَلى اللَّفْظِ لا عَلى المَعْنى، فَقَيَّدَ المُعَجَّلَ بِإرادَتِهِ فَلَيْسَ مَن يُرِيدُ العاجِلَةَ يَحْصُلُ لَهُ ما يُرِيدُهُ، ألا تَرى أنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يَخْتارُونَ الدُّنْيا، ولا يَحْصُلُ لَهم مِنها إلّا ما قَسَمَهُ اللَّهُ لَهم، وكَثِيرٌ مِنهم يَتَمَنَّوْنَ النَّزْرَ اليَسِيرَ فَلا يَحْصُلُ لَهم، ويَجْمَعُ لَهم شَقاوَةَ الدُّنْيا وشَقاوَةَ الآخِرَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (ما نَشاءُ) بِالنُّونِ، ورُوِيَ عَنْ نافِعٍ ما يَشاءُ بِالياءِ. فَقِيلَ: الضَّمِيرُ في يَشاءُ يَعُودُ عَلى اللَّهِ، وهو مِن بابِ الِالتِفاتِ فَقِراءَةُ النُّونِ والياءِ سَواءٌ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَعُودَ عَلى مَن العائِدِ عَلَيْها الضَّمِيرُ في (لَهُ) ولَيْسَ ذَلِكَ عامًّا، بَلْ لا يَكُونُ لَهُ ما يَشاءُ إلّا آحادًا أرادَ اللَّهُ لَهم ذَلِكَ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿لِمَن نُرِيدُ﴾ يُقَدَّرُ مَعَ تَقْدِيرِهِ مُضافٌ مَحْذُوفٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، أيْ: لِمَن نُرِيدُ تَعْجِيلَهُ لَهُ أيْ: تَعْجِيلَ ما نَشاءُ. وقالَ أبُو إسْحاقَ الفَزارِيُّ: المَعْنى: لِمَن نُرِيدُ هَلَكَتَهُ وما قالَهُ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظٌ في الآيَةِ.
* * *
و(جَعَلْنا) بِمَعْنى صَيَّرْنا، والمَفْعُولُ الأوَّلُ (جَهَنَّمَ) والثّانِي لَهُ؛ لِأنَّهُ يَنْعَقِدُ مِنهُما مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، فَنَقُولُ: جَهَنَّمُ لِلْكافِرِينَ كَما قالَ هَؤُلاءِ لِلنّارِ وهَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ و(يَصْلاها) حالٌ مِن جَهَنَّمَ. وقالَ أبُو البَقاءِ: أوْ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي في (لَهُ) . وقالَ صاحِبُ الغُنْيانِ: مَفْعُولُ (جَعَلْنا) الثّانِي مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ مَصِيرًا أوْ جَزاءً. انْتَهى. (مَذْمُومًا) إشارَةٌ إلى الإهانَةِ. (مَدْحُورًا) إشارَةٌ إلى البُعْدِ والطَّرْدِ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ ﴿ومَن أرادَ الآخِرَةَ﴾ أيْ: ثَوابَ الآخِرَةِ بِأنْ يُؤْثِرَها عَلى الدُّنْيا، ويَعْقِدَ إرادَتَهُ بِها (وسَعى) فِيما كُلِّفَ مِنَ الأعْمالِ والأقْوالِ (سَعْيَها) أيِ: السَّعْيَ المُعَدَّ لِلنَّجاةِ فِيها. (وهو مُؤْمِنٌ) هو الشَّرْطُ الأعْظَمُ في النَّجاةِ فَلا تَنْفَعُ إرادَةٌ ولا سَعْيٌ إلّا بِحُصُولِهِ. وفي الحَقِيقَةِ هو النّاشِئُ عَنْهُ إرادَةُ الآخِرَةِ والسَّعْيُ لِلنَّجاةِ فِيها وحُصُولُ الثَّوابِ، وعَنْ بَعْضِ المُتَقَدِّمِينَ مَن لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ثَلاثٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عَمَلُهُ: إيمانٌ ثابِتٌ، ونِيَّةٌ صادِقَةٌ، وعَمَلٌ مُصِيبٌ، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ (فَأُولَئِكَ) إشارَةٌ إلى مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الأوْصافِ، وراعى مَعْنى مَن؛ فَلِذَلِكَ كانَ بِلَفْظِ الجَمْعِ، واللَّهُ تَعالى يَشْكُرُهم عَلى طاعَتِهِمْ، وهو تَعالى المَشْكُورُ عَلى ما أعْطى مِنَ العَقْلِ وإنْزالِ الكُتُبِ وإيضاحِ الدَّلائِلِ، وهو المُسْتَحِقُّ لِلشُّكْرِ حَقِيقَةً، ومَعْنى شُكْرِهِ تَعالى المُطِيعَ الثَّناءُ عَلَيْهِ وثَوابُهُ عَلى طاعَتِهِ. وانْتَصَبَ (كُلًّا) بِـ نُمِدُّ، والإمْدادُ المُواصَلَةُ بِالشَّيْءِ، والمَعْنى: كُلُّ واحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ (نُمِدُّ) كَذا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وأعْرَبُوا (هَؤُلاءِ) بَدَلًا مِن (كُلًّا) ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن كُلٍّ عَلى تَقْدِيرِ: كُلُّ واحِدٍ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ إذْ ذاكَ بَدَلَ كُلٍّ مِن بَعْضٍ، فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: كُلُّ الفَرِيقَيْنِ فَيَكُونُ بَدَلَ كُلٍّ مِن كُلٍّ عَلى جِهَةِ التَّفْصِيلِ. والظّاهِرُ أنَّ هَذا الإمْدادَ هو في الرِّزْقِ في الدُّنْيا وهو تَأْوِيلُ الحَسَنِ وقَتادَةَ، أيْ: أنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ في الدُّنْيا مُرِيدِي العاجِلَةَ الكافِرِينَ، ومُرِيدِي الآخِرَةَ المُؤْمِنِينَ ويَمُدُّ الجَمِيعَ بِالرِّزْقِ، وإنَّما يَقَعُ التَّفاوُتُ في الآخِرَةِ ويَدُلُّ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ ﴿وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ أيْ: إنَّ رِزْقَهُ لا يَضِيقُ عَنْ مُؤْمِنٍ ولا كافِرٍ.
وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ مَعْنى ﴿مِن عَطاءِ رَبِّكَ﴾ مِنَ الطّاعاتِ لِمُرِيدِ الآخِرَةِ والمَعاصِي لِمُرِيدِ العاجِلَةِ، فَيَكُونُ العَطاءُ عِبارَةٌ عَمّا قَسَمَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، ويَنْبُو لَفْظُ العَطاءِ عَلى الإمْدادِ بِالمَعاصِي. والظّاهِرُ أنَّ (انْظُرْ) بَصَرِيَّةٌ؛ لِأنَّ التَّفاوُتَ في الدُّنْيا مُشاهَدٌ (وكَيْفَ) في مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ؛ لِأنَّ نَظَرَ يَتَعَدّى بِهِ، فانْظُرْ هُنا مُعَلَّقَةٌ. ولَمّا كانَ النَّظَرُ مُفْضِيًا وسَبَبًا إلى العِلْمِ جازَ أنْ يُعَلَّقَ، ويَجُوزَ أنْ يَكُونَ (انْظُرْ) مِن نَظَرِ الفِكْرِ فَلا كَلامَ في تَعْلِيقِهِ إذْ هو (p-٢٢)فِعْلٌ قَلْبِيٌّ. والتَّفْضِيلُ هُنا عِبارَةٌ عَنِ الطّاعاتِ المُؤَدِّيَةِ إلى الجَنَّةِ، والمُفَضَّلُ عَلَيْهِمُ الكُفّارُ كَأنَّهُ قِيلَ: انْظُرْ في تَفْضِيلِ فَرِيقٍ عَلى فَرِيقٍ، وعَلى التَّأْوِيلِ الأوَّلِ كَأنَّهُ قِيلَ في تَفْضِيلِ شَخْصٍ عَلى شَخْصٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ، والمَفْضُولُ في قَوْلِهِ: ﴿أكْبَرُ دَرَجاتٍ وأكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِن دَرَجاتِ الدُّنْيا ومِن تَفْضِيلِ الدُّنْيا.
ورُوِيَ أنَّ قَوْمًا مِنَ الأشْرافِ ومَن دُونَهُمُ اجْتَمَعُوا بِبابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَخَرَجَ الإذْنُ لِبِلالٍ وصُهَيْبٍ فَشَقَّ عَلى أبِي سُفْيانَ، فَقالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: وإنَّما أُتِينا مِن قِبَلِنا إنَّهم دُعُوا ودُعِينا - يَعْنِي إلى الإسْلامِ - فَأسْرَعُوا وأبْطَأْنا، وهَذا بابُ عُمَرَ فَكَيْفَ التَّفاوُتُ في الآخِرَةِ، ولَئِنْ حَسَدْتُمُوهم عَلى بابِ عُمَرَ لَما أعَدَّ اللَّهُ لَهم في الجَنَّةِ أكْثَرُ. وقُرِئَ ”أكْثَرُ“ بِالثّاءِ المُثَلَّثَةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُهُ: ﴿أكْبَرُ دَرَجاتٍ﴾ لَيْسَ في اللَّفْظِ مِن أيِّ شَيْءٍ لَكِنَّهُ في المَعْنى، ولابُدَّ ﴿أكْبَرُ دَرَجاتٍ﴾ مِن كُلِّ ما يُضافُ بِالوُجُودِ أوْ بِالفَرْضِ، ورَأى بَعْضُ العُلَماءِ أنَّ هَذِهِ الدَّرَجاتِ والتَّفْضِيلَ إنَّما هو فِيما بَيْنَ المُؤْمِنِينَ. وأسْنَدَ الطَّبَرِيُّ في ذَلِكَ حَدِيثًا نَصُّهُ: «إنَّ أنْزَلَ أهْلِ الجَنَّةِ وأسْفَلَهم دَرَجَةً كالنَّجْمِ يُرى في مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها وقَدْ أرْضى اللَّهُ الجَمِيعَ فَما يَغْبِطُ أحَدٌ أحَدًا» . والخِطابُ في (لا تَجْعَلْ) لِلسّامِعِ غَيْرِ الرَّسُولِ. وقالَ الطَّبَرِيُّ وغَيْرُهُ: الخِطابُ لِ مُحَمَّدٍ ﷺ، والمُرادُ لِجَمِيعِ الخَلْقِ. (فَتَقْعُدَ) قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِن قَوْلِهِمْ: شَحَذَ الشَّفْرَةَ حَتّى قَعَدَتْ كَأنَّها حَرْبَةٌ، بِمَعْنى صارَتْ. يَعْنِي فَتَصِيرُ جامِعًا عَلى نَفْسِكَ الذَّمَّ وما يَتْبَعُهُ مِنَ الهَلاكِ مِنَ الذُّلِّ والخِذْلانِ والعَجْزِ عَنِ النُّصْرَةِ مِمَّنْ جَعَلْتَهُ شَرِيكًا لَهُ. انْتَهى. وما ذَهَبَ إلَيْهِ مِنِ اسْتِعْمالِ (فَتَقْعُدَ) بِمَعْنى فَتَصِيرَ لا يَجُوزُ عِنْدَ أصْحابِنا، وقَعَدَ عِنْدَهم بِمَعْنى صارَ مَقْصُورَةٌ عَلى المَثَلِ، وذَهَبَ الفَرّاءُ إلى أنَّهُ يَطَّرِدُ جَعْلُ قَعَدَ بِمَعْنى صارَ، وجَعَلَ مِن ذَلِكَ قَوْلَ الرّاجِزِ:
؎لا يُقْنِعُ الجارِيَةَ الخِضابُ ولا الوِشاحانِ ولا الجِلْبابُ
؎مِن دُونِ أنْ تَلْتَقِي الأرْكابُ ∗∗∗ ويَقْعُدَ الأيْرُ لَهُ لُعابُ
وحَكى الكِسائِيُّ: قَعَدَ لا يُسْألُ حاجَةً إلّا قَضاها بِمَعْنى صارَ، فَ الزَّمَخْشَرِيُّ أخَذَ في الآيَةِ بِقَوْلِ الفَرّاءِ، والقُعُودُ هُنا عِبارَةٌ عَنِ المُكْثِ أيْ: فَيَمْكُثُ في النّاسِ ﴿مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾ كَما تَقُولُ لِمَن سَألَ عَنْ حالِ شَخْصٍ هو قاعِدٌ في أسْوَأِ حالٍ، ومَعْناهُ ماكِثٌ ومُقِيمٌ، وسَواءٌ كانَ قائِمًا أمْ جالِسًا، وقَدْ يُرادُ القُعُودُ حَقِيقَةً؛ لِأنَّ مِن شَأْنِ المَذْمُومِ المَخْذُولِ أنْ يَقْعُدَ حائِرًا مُتَفَكِّرًا، وعَبَّرَ بِغالِبِ حالِهِ وهي القُعُودُ. وقِيلَ: مَعْنى ﴿فَتَقْعُدَ﴾ فَتَعْجِزَ، والعَرَبُ تَقُولُ: ما أقْعَدَكَ عَنِ المَكارِمِ، والذَّمُّ هُنا لاحِقٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، ومِن ذَوِي العُقُولِ في أنْ يَكُونَ الإنْسانُ يَجْعَلُ عُودًا أوْ حَجَرًا أفْضَلَ مِن نَفْسِهِ، ويَخُصُّهُ بِالكَرامَةِ، ويَنْسُبُ إلَيْهِ الأُلُوهِيَّةَ، ويُشْرِكُهُ مَعَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُ ورَزَقَهُ وأنْعَمَ عَلَيْهِ، والخِذْلانُ في هَذا يَكُونُ بِإسْلامِ اللَّهِ ولا يَكْفُلُ لَهُ بِنَصْرٍ، والمَخْذُولُ الَّذِي لا يَنْصُرُهُ مَن يُحِبُّ أنْ يَنْصُرَهُ. وانْتَصَبَ ﴿مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾ عَلى الحالِ، وعِنْدَ الفَرّاءِ والزَّمَخْشَرِيِّ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِتَقْعُدَ (كُلًّا) لِمُذَكَّرَيْنِ مُثَنًّى مَعْنًى اتِّفاقًا مُفْرَدًا لَفْظًا عِنْدَ البَصْرِيِّينَ عَلى وزْنِ فَعْلٍ كَمَعْيٍ فَلامُهُ ألِفٌ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ واوٍ عِنْدَ الأكْثَرِ، مُثَنًّى لَفْظًا عِنْدَ الكُوفِيِّينَ، وتَبِعَهُمُ السُّهَيْلِيُّ فَألِفُهُ لِلتَّثْنِيَةِ لا أصْلٌ ولامُهُ لامٌ مَحْذُوفَةٌ عِنْدَ السُّهَيْلِيِّ ولا نَصَّ عَنِ الكُوفِيِّينَ فِيها، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً عَلى حَرْفَيْنِ عَلى أصْلِ مَذْهَبِهِمْ، ولا تَنْفَكُّ عَنِ الإضافَةِ وإنْ أُضِيفَ إلى مُظْهَرٍ فَألِفُهُ ثابِتَةٌ مُطْلَقًا في مَشْهُورِ اللُّغاتِ، وكِنانَةُ تَجْعَلُهُ كَمَشْهُورِ المُثَنّى أوْ إلى مُضْمَرٍ، فالمَشْهُورُ قَلْبُ ألِفِهِ ياءً نَصْبًا وجَرًّا، والَّذِي يُضافُ إلَيْهِ مُثَنًّى أوْ ما في مَعْناهُ. وجاءَ التَّفْرِيقُ في الشِّعْرِ مُضافًا لِظاهِرٍ، وحَفِظَ الكُوفِيُّونَ كِلايَ وكِلاكَ قاما ويُسْتَعْمَلُ تابِعًا تَوْكِيدًا ومُبْتَدَأً ومَنصُوبًا ومَجْرُورًا، ويُخْبَرُ عَنْهُ إخْبارَ المُفْرَدِ فَصِيحًا، ورُبَّما وجَبَ، وإخْبارَ المُثَنّى قَلِيلًا ورُبَّما وجَبَ.
{"ayahs_start":16,"ayahs":["وَإِذَاۤ أَرَدۡنَاۤ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡیَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِیهَا فَفَسَقُوا۟ فِیهَا فَحَقَّ عَلَیۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَـٰهَا تَدۡمِیرࣰا","وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِنۢ بَعۡدِ نُوحࣲۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِیرَۢا بَصِیرࣰا","مَّن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِیهَا مَا نَشَاۤءُ لِمَن نُّرِیدُ ثُمَّ جَعَلۡنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ یَصۡلَىٰهَا مَذۡمُومࣰا مَّدۡحُورࣰا","وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡیَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَانَ سَعۡیُهُم مَّشۡكُورࣰا","كُلࣰّا نُّمِدُّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ وَهَـٰۤؤُلَاۤءِ مِنۡ عَطَاۤءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَاۤءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا","ٱنظُرۡ كَیۡفَ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۚ وَلَلۡـَٔاخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَـٰتࣲ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِیلࣰا","لَّا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ فَتَقۡعُدَ مَذۡمُومࣰا مَّخۡذُولࣰا"],"ayah":"ٱنظُرۡ كَیۡفَ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۚ وَلَلۡـَٔاخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَـٰتࣲ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق