الباحث القرآني

﴿وبِالحَقِّ أنْزَلْناهُ وبِالحَقِّ نَزَلَ وما أرْسَلْناكَ إلّا مُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ ﴿وقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْثٍ ونَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا﴾ ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأذْقانِ سُجَّدًا ويَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إنْ كانَ وعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا﴾ ﴿ويَخِرُّونَ لِلْأذْقانِ يَبْكُونَ ويَزِيدُهم خُشُوعًا﴾ . (p-٨٧)﴿وبِالحَقِّ أنْزَلْناهُ﴾ هو مَرْدُودٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ﴾ [الإسراء: ٨٨] الآيَةَ. وهَكَذا طَرِيقَةُ كَلامِ العَرَبِ وأُسْلُوبُها تَأْخُذُ في شَيْءٍ وتَسْتَطْرِدُ مِنهُ إلى شَيْءٍ آخَرَ، ثُمَّ إلى آخَرَ ثُمَّ تَعُودُ إلى ما ذَكَرَتْهُ أوَّلًا، وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ الضَّمِيرَ في (أنْزَلْناهُ) عائِدٌ عَلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وجَعَلَ مُنْزَلًا كَما قالَ: ﴿وأنْزَلْنا الحَدِيدَ﴾ [الحديد: ٢٥] أوْ عائِدٌ عَلى الآياتِ التِّسْعِ، وذُكِرَ عَلى المَعْنى أوْ عائِدٌ عَلى الوَعْدِ المَذْكُورِ قَبْلَهُ. وقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: ﴿وبِالحَقِّ أنْزَلْناهُ﴾ أيْ: بِالتَّوْحِيدِ ﴿وبِالحَقِّ نَزَلَ﴾ أيْ: بِالوَعْدِ والوَعِيدِ والأمْرِ والنَّهْيِ. وقالَ الزَّهْراوِيُّ: بِالواجِبِ الَّذِي هو المَصْلَحَةُ والسَّدادُ لِلنّاسِ، ﴿وبِالحَقِّ نَزَلَ﴾ أيْ: بِالحَقِّ في أوامِرِهِ ونَواهِيهِ وأخْبارِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وما أنْزَلْنا القُرْآنَ إلّا بِالحِكْمَةِ المُقْتَضِيَةِ لِإنْزالِهِ وما نَزَلَ إلّا مُلْتَبِسًا بِالحَقِّ والحِكْمَةِ؛ لِاشْتِمالِهِ عَلى الهِدايَةِ إلى كُلِّ خَيْرٍ، وما أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ إلّا بِالحَقِّ مَحْفُوظًا بِالرَّصَدِ مِنَ المَلائِكَةِ، وما نَزَلَ عَلى الرَّسُولِ إلّا مَحْفُوظًا بِهِمْ مِن تَخْلِيطِ الشَّياطِينِ. انْتَهى. وقَدْ يَكُونُ ﴿وبِالحَقِّ نَزَلَ﴾ تَوْكِيدًا مِن حَيْثُ المَعْنى لِما كانَ يُقالُ أنْزَلْتُهُ فَنَزَلَ، وأنْزَلْتُهُ فَلَمْ يَنْزِلْ إذا عَرَضَ لَهُ مانِعٌ مِن نُزُولِهِ، وجاءَ ﴿وبِالحَقِّ نَزَلَ﴾ مُزِيلًا لِهَذا الِاحْتِمالِ، ومُؤَكِّدًا حَقِيقَةَ ﴿وبِالحَقِّ أنْزَلْناهُ﴾ وإلى مَعْنى التَّأْكِيدِ نَحا الطَّبَرِيُّ. وانْتَصَبَ (مُبَشِّرًا ونَذِيرًا) عَلى الحالِ أيْ مُبَشِّرًا لَهم بِالجَنَّةِ ومُنْذِرًا مِنَ النّارِ لَيْسَ لَكَ شَيْءٌ مِن إكْراهِهِمْ عَلى الدِّينِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿فَرَقْناهُ﴾ بِتَخْفِيفِ الرّاءِ أيْ: بَيَّنّا حَلالَهُ وحَرامَهُ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وعَنِ الحَسَنِ: فَرَّقْنا فِيهِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ. وقالَ الفَرّاءُ: أحْكَمْناهُ وفَصَّلْناهُ كَقَوْلِهِ: ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤] . وقَرَأ أُبَيٌّ وعَبْدُ اللَّهِ وعَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ وأبُو رَجاءٍ وقَتادَةُ والشَّعْبِيُّ وحُمَيْدٌ وعَمْرُو بْنُ قائِدٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وعَمْرُو بْنُ ذَرٍّ وعِكْرِمَةُ والحَسَنُ، بِخِلافٍ عَنْهُ بِشَدِّ الرّاءِ أيْ أنْزَلْناهُ نَجْمًا بَعْدَ نَجْمٍ. وفَصَّلْناهُ في النُّجُومِ. وقالَ بَعْضُ مَنِ اخْتارَ ذَلِكَ: لَمْ يَنْزِلْ في يَوْمٍ ولا يَوْمَيْنِ، ولا شَهْرٍ ولا شَهْرَيْنِ، ولا سَنَةٍ ولا سَنَتَيْنِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ بَيْنَ أوَّلِهِ وآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً، هَكَذا قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في ثَلاثٍ وعِشْرِينَ سَنَةً. وقِيلَ: في خَمْسٍ وعِشْرِينَ، وهَذا الِاخْتِلافُ مَبْنِيٌّ عَلى الِاخْتِلافِ في سِنِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وعَنِ الحَسَنِ نَزَلَ في ثَمانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا قَوْلٌ مُخْتَلٌّ لا يَصِحُّ عَنِ الحَسَنِ. وقِيلَ مَعْنى: ﴿فَرَّقْناهُ﴾ بِالتَّشْدِيدِ فَرَّقْنا آياتِهِ بَيْنَ أمْرٍ ونَهْيٍ، وحِكَمٍ وأحْكامٍ، ومَواعِظَ وأمْثالٍ، وقِصَصٍ وأخْبارٍ مُغَيَّباتٍ أتَتْ وتَأْتِي. وانْتَصَبَ (قُرْآنًا) عَلى إضْمارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ ﴿فَرَقْناهُ﴾ أيْ: وفَرَّقَنا قُرْآنًا فَرَّقْناهُ، فَهو مِن بابِ الِاشْتِغالِ وحَسُنَ النَّصْبُ، ورَجَّحَهُ عَلى الرَّفْعِ كَوْنُهُ عَطْفًا عَلى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، وهي قَوْلُهُ: ﴿وما أرْسَلْناكَ﴾ . ولا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ صِفَةٍ لِقَوْلِهِ: ﴿وقُرْآنًا﴾ حَتّى يَصِحَّ كَوْنُهُ كانَ يَجُوزُ فِيهِ الِابْتِداءُ؛ لِأنَّهُ نَكِرَةٌ لا مُسَوِّغَ لَها في الظّاهِرِ لِلِابْتِداءِ بِها، والتَّقْدِيرُ ﴿وقُرْآنًا﴾ أيَّ قُرْآنٍ أيْ: عَظِيمًا جَلِيلًا، وعَلى أنَّهُ مَنصُوبٌ بِإضْمارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ الظّاهِرُ بَعْدَهُ خَرَّجَهُ الحَوْفِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وهو مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وقالَ الفَرّاءُ: هو مَنصُوبٌ بِأرْسَلْناكَ أيْ وما أرْسَلْناكَ إلّا مُبَشِّرًا ونَذِيرًا وقُرْآنًا كَما تَقُولُ رَحْمَةً؛ لِأنَّ القُرْآنَ رَحْمَةٌ وهَذا إعْرابٌ مُتَكَلَّفٌ وأكْثَرُ تَكَلُّفًا مِنهُ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى الكافِ في (أرْسَلْناكَ) مِن حَيْثُ كانَ إرْسالُ هَذا وإنْزالُ هَذا المَعْنى واحِدًا. وقَرَأ أُبَيٌّ وعَبْدُ اللَّهِ ﴿فَرَقْناهُ﴾ عَلَيْكَ بِزِيادَةِ عَلَيْكَ و﴿لِتَقْرَأهُ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِفَرَقْناهُ، والظّاهِرُ تَعَلَّقَ عَلى مُكْثٍ بِقَوْلِهِ: ﴿لِتَقْرَأهُ﴾ ولا يُبالى بِكَوْنِ الفِعْلِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَرْفا جَرٍّ مِن جِنْسٍ واحِدٍ؛ لِأنَّهُ اخْتَلَفَ مَعْنى الحَرْفَيْنِ الأوَّلِ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ بِهِ، والثّانِي في مَوْضِعِ الحالِ أيْ: مُتَمَهِّلًا مُتَرَسِّلًا. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وابْنُ جُرَيْجٍ: ﴿عَلى مُكْثٍ﴾ عَلى تَرَسُّلٍ في التِّلاوَةِ. وقِيلَ: ﴿عَلى مُكْثٍ﴾ (p-٨٨)أيْ: تَطاوُلٍ في المُدَّةِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وقالَ الحَوْفِيُّ: ﴿عَلى مُكْثٍ﴾ بَدَلٌ مِن (عَلى النّاسِ) وهَذا لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿عَلى مُكْثٍ﴾ هو مِن صِفَةِ الرَّسُولِ ﷺ وهو القارِئُ، أوْ صِفاتُ المَقْرُوءِ في المَعْنى، ولَيْسَ مِن صِفاتِ النّاسِ فَيَكُونُ بَدَلًا مِنهم. وقِيلَ: يَتَعَلَّقُ ﴿عَلى مُكْثٍ﴾ بِقَوْلِهِ: ﴿فَرَقْناهُ﴾ ويُقالُ: مُكْثٌ بِضَمِّ المِيمِ وفَتْحِها وكَسْرِها. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأجْمَعَ القُرّاءُ عَلى ضَمِّ المِيمِ مِن ﴿مُكْثٍ﴾ . وقالَ الحَوْفِيُّ: والمُكْثُ بِالضَّمِّ والفَتْحِ لُغَتانِ، وقَدْ قُرِئَ بِهِما، وفِيهِ لُغَةٌ أُخْرى كَسْرُ المِيمِ. ﴿ونَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا﴾ عَلى حَسَبِ الحَوادِثِ مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ. ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أوْ لا تُؤْمِنُوا﴾ يَتَضَمَّنُ الإعْراضَ عَنْهم والِاحْتِقارَ لَهم والِازْدِراءَ بِهِمْ وعَدَمَ الِاكْتِراثِ بِهِمْ وبِإيمانِهِمْ وبِامْتِناعِهِمْ مِنهُ، وأنَّهم لَمْ يَدْخُلُوا في الإيمانِ ولَمْ يُصَدِّقُوا بِالقُرْآنِ، وهم أهْلُ جاهِلِيَّةٍ وشِرْكٍ، فَإنَّ خَيْرًا مِنهم وأفْضَلَ هُمُ العُلَماءُ الَّذِي قَرَءُوا الكِتابَ، وعَلِمُوا ما الوَحْيُ وما الشَّرائِعُ، قَدْ آمَنُوا بِهِ وصَدَّقُوهُ وثَبَتَ عِنْدَهم أنَّهُ النَّبِيُّ العَرَبِيُّ المَوْعُودُ في كُتُبِهِمْ، فَإذا تُلِيَ عَلَيْهِمْ خَرُّوا (سُجَّدًا) وسَبَّحُوا اللَّهَ تَعْظِيمًا لِوَعْدِهِ ولِإنْجازِهِ ما وعَدَ في الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ، وبَشَّرَ بِهِ مِن بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وإنْزالِ القُرْآنِ عَلَيْهِ، وهو المُرادُ بِالوَعْدِ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ كانَ وعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا﴾ . و﴿إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ: ﴿آمِنُوا بِهِ أوْ لا تُؤْمِنُوا﴾ أيْ: إنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَدْ آمَنَ بِهِ مَن هو خَيْرٌ مِنكم، وأنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِقُلْ عَلى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: (قُلْ) عَنْ إيمانِ الجاهِلِيَّةِ بِإيمانِ العُلَماءِ. انْتَهى مِن كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وقالَ غَيْرُهُ: ﴿قُلْ آمِنُوا﴾ الآيَةَ تَحْقِيرٌ لِلْكَفّارِ، وفي ضِمْنِهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّوَعُّدِ والمَعْنى أنَّكم لَسْتُمْ بِحُجَّةٍ فَسَواءٌ عَلَيْنا أآمَنتُمْ أمْ كَفَرْتُمْ وإنَّما ضَرَرُ ذَلِكَ عَلى أنْفُسِكم، وإنَّما الحُجَّةُ أهْلُ العِلْمِ. انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ﴾ عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، و(الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ) هم مُؤْمِنُو أهْلِ الكِتابِ. وقِيلَ: ورَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وزَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ومَن جَرى مَجْراهُما، فَإنَّهُما كانا مِمَّنْ أُوتِيَ العِلْمَ واطَّلَعا عَلى التَّوْراةِ والإنْجِيلِ ووَجَدا فِيهِما صِفَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقِيلَ: هم جَماعَةٌ مِن أهْلِ الكِتابِ جَلَسُوا وهم عَلى دِينِهِمْ، فَتَذَكَّرُوا أمْرَ النَّبِيِّ ﷺ وما أُنْزِلَ عَلَيْهِ. وقُرِئَ عَلَيْهِمْ مِنهُ شَيْءٌ فَخَشَعُوا وسَجَدُوا لِلَّهِ، وقالُوا: هَذا وقْتُ نُبُوَّةِ المَذْكُورِ في التَّوْراةِ وهَذِهِ صِفَتُهُ، ووَعْدُ اللَّهِ بِهِ واقِعٌ لا مَحالَةَ، وجَنَحُوا إلى الإسْلامِ هَذا الجُنُوحَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيهِمْ. وقِيلَ: المُرادُ بِالَّذِينَ ﴿أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ﴾ هو مُحَمَّدٌ ﷺ والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (بِهِ) وفي (مِن قَبْلِهِ) عائِدانِ عَلى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. واسْتَأْنَفَ ذِكْرَ القُرْآنِ في قَوْلِهِ: ﴿إذا يُتْلى عَلَيْهِمْ﴾ والظّاهِرُ في قَوْلِهِ: ﴿إذا يُتْلى عَلَيْهِمْ﴾ أنَّ الضَّمِيرَ في (يُتْلى) عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، وقِيلَ: هو عائِدٌ عَلى التَّوْراةِ وما فِيها مِن تَصْدِيقِ القُرْآنِ ومَعْرِفَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والخُرُورُ هو السُّقُوطُ بِسُرْعَةٍ، ومِنهُ ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ﴾ [النحل: ٢٦] وانْتَصَبَ (سُجَّدًا) عَلى الحالِ، والسُّجُودُ وهو وضْعُ الجَبْهَةِ عَلى الأرْضِ هو غايَةُ الخُرُورِ ونِهايَةُ الخُضُوعِ، وأوَّلُ ما يَلْقى الأرْضَ حالَةَ السُّجُودِ الذَّقَنُ، أوْ عَبَّرَ عَنِ الوُجُوهِ بِالأذْقانِ كَما يُعَبَّرُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِبَعْضِ ما يُلاقِيهِ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎فَخَرُّوا لِأذْقانِ الوُجُوهِ تَنُوشُهم سِباعٌ مِنَ الطَّيْرِ العَوادِي وتَنْتِفُ وقِيلَ: أُرِيدَ حَقِيقَةُ الأذْقانِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ غايَةُ التَّواضُعِ وكانَ سُجُودُهم كَذَلِكَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المَعْنى لِلْوُجُوهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: حَرْفُ الِاسْتِعْلاءِ ظاهِرُ المَعْنى إذا قُلْتَ خَرَّ عَلى وجْهِهِ وعَلى ذَقْنِهِ فَما مَعْنى اللّامِ في خَرَّ لِذَقْنِهِ ؟ قالَ: ؎فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ ولِلْفَمِ قُلْتُ: مَعْناهُ جَعَلَ ذَقْنَهُ (p-٨٩)ووَجْهَهُ لِلْخُرُورِ، واخْتَصَّهُ بِهِ؛ لِأنَّ اللّامَ لِلِاخْتِصاصِ. انْتَهى. وقِيلَ: اللّامُ بِمَعْنى عَلى و(سُبْحانَ رَبِّنا) نَزَّهُوا اللَّهَ عَمّا نَسَبَتْهُ إلَيْهِ كَفارُ قُرَيْشٍ وغَيْرُهم مِن أنَّهُ لا يُرْسِلُ البَشَرَ رُسُلًا وأنَّهُ لا يُعِيدُهم لِلْجَزاءِ، وإنْ هُنا المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ المَعْنى إنَّ ما وعَدَ بِهِ مِن إرْسالِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وإنْزالِ القُرْآنِ عَلَيْهِ قَدْ فَعَلَهُ وأنْجَزَهُ، ونُكِّرَ الخُرُورُ؛ لِاخْتِلافِ حالَيِ السُّجُودِ والبُكاءِ، وجاءَ التَّعْبِيرُ عَنِ الحالَةِ الأوْلى بِالِاسْمِ، وعَنِ الحالَةِ الثّانِيَةِ بِالفِعْلِ؛ لِأنَّ الفِعْلَ مُشْعِرٌ بِالتَّجَدُّدِ، وذَلِكَ أنَّ البُكاءَ ناشِئٌ عَنِ التَّفَكُّرِ، فَهم دائِمًا في فِكْرَةٍ وتَذَكُّرٍ، فَناسَبَ ذِكْرُ الفِعْلِ إذْ هو مُشْعِرٌ بِالتَّجَدُّدِ، ولَمّا كانَتْ حالَةُ السُّجُودِ لَيْسَتْ تَتَجَدَّدُ في كُلِّ وقْتٍ عَبَّرَ فِيها بِالِاسْمِ. (ويَزِيدُهم) أيْ: ما تُلِيَ عَلَيْهِمْ ﴿خُشُوعًا﴾ أيْ: تَواضُعًا. وقالَ عَبْدُ الأعْلى التَّيْمِيُّ: مَن أُوتِيَ مِنَ العِلْمِ ما لا يُبْكِيهِ خَلِيقٌ أنْ لا يَكُونَ أُوتِيَ عِلْمًا يَنْفَعُهُ: لِأنَّهُ تَعالى نَعَتَ العُلَماءَ، فَقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ﴾ الآيَةَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَتَوَجَّهُ في هَذِهِ الآيَةِ مَعْنًى آخَرَ، وهو أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أوْ لا تُؤْمِنُوا﴾ مُخَلِّصًا لِلْوَعِيدِ دُونَ التَّحْقِيرِ، المَعْنى فَسَتَرَوْنَ ما تُجازَوْنَ بِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمُ المَثَلَ عَلى جِهَةِ التَّقْرِيعِ بِمَن تَقَدَّمَ مِن أهْلِ الكِتابِ أيْ: إنَّ النّاسَ لَمْ يَكُونُوا كَما أنْتُمْ في الكُفْرِ، بَلْ كانَ الَّذِينَ أُوتُوا التَّوْراةَ والإنْجِيلَ والزَّبُورَ والكُتُبَ المُنَزَّلَةَ في الجُمْلَةِ إذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ما نَزَلَ عَلَيْهِمْ خَشَعُوا وآمَنُوا. انْتَهى. وقَدْ تَقَدَّمَتِ الإشارَةُ إلى طَرَفٍ مِن هَذا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب