الباحث القرآني

﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكم أُمَّةً واحِدَةً ولَكِنْ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ ولَتُسْألُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿ولا تَتَّخِذُوا أيْمانَكم دَخَلًا بَيْنَكم فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ولَكم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿ولا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إنَّما عِنْدَ اللَّهِ هو خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿ما عِنْدَكم يَنْفَدُ وما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ ولَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾: هَذِهِ المَشِيئَةُ مَشِيئَةُ اخْتِيارٍ عَلى مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ، ابْتَلى النّاسَ بِالأمْرِ والنَّهْيِ لِيَذْهَبَ كُلٌّ (p-٥٣٢)إلى ما يُسِّرَ لَهُ، وذَلِكَ لِحَقِّ المَلِكِ لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ. ولَوْ شاءَ لَكانُوا كُلُّهم عَلى طَرِيقٍ واحِدَةٍ، إمّا هُدًى، وإمّا ضَلالَةٌ، ولَكِنَّهُ فَرَّقَ، فَناسٌ لِلسَّعادَةِ، وناسٌ لِلشَّقاوَةِ. فَخَلَقَ الهُدى والضَّلالَ، وتَوَعَّدَ بِالسُّؤالِ عَنِ العَمَلِ، وهو سُؤالُ تَوْبِيخٍ لا سُؤالُ تَفَهُّمٍ، وسُؤالُ التَّفَهُّمِ هو المَنفِيُّ في آياتٍ. ومَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ أنَّ هَذِهِ المَشِيئَةَ مَشِيئَةُ قَهْرٍ. قالَ العَسْكَرِيُّ: المُرادُ أنَّهُ قادِرٌ عَلى أنْ يَجْمَعَكم عَلى الإسْلامِ قَهْرًا، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وخَلَقَكم لِيُعَذِّبَ مَن يَشاءُ عَلى مَعْصِيَتِهِ، ويُثِيبَ مَن يَشاءُ عَلى طاعَتِهِ، ولا يَشاءُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ إلّا أنْ يَسْتَحِقَّهُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: أنَّهُ لَوْ شاءَ خَلَقَكم في الجَنَّةِ، ولَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لِيُثِيبَ المُطِيعِينَ مِنكم، ويُعَذِّبَ العُصاةَ. ثُمَّ قالَ: ولَتُسْألُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؛ يَعْنِي: سُؤالَ المُحاسَبَةِ والمُجازاةِ. وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الإضْلالَ في الآيَةِ: العِقابُ، ولَوْ كانَ الإضْلالُ عَنِ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ لِسُؤالِهِ إيّاهم مَعْنًى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُمَّةٌ واحِدَةٌ حَنِيفَةٌ مُسْلِمَةٌ عَلى طَرِيقِ الإلْجاءِ والِاضْطِرارِ، وهو قادِرٌ عَلى ذَلِكَ، ولَكِنَّ الحِكْمَةَ اقْتَضَتْ أنْ يُضِلَّ مَن يَشاءُ، وهو أنْ يَخْذُلَ مَن عَلِمَ أنَّهُ يَخْتارُ الكُفْرَ ويُصَمِّمَ عَلَيْهِ، ويَهْدِي مَن يَشاءُ وهو أنْ يَلْطُفَ بِمَن عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ يَخْتارُ الإيمانَ، يَعْنِي: أنَّهُ بَنى الأمْرَ عَلى الِاخْتِيارِ، وعَلى ما يَسْتَحِقُّ بِهِ اللُّطْفَ والخِذْلانَ والثَّوابَ والعِقابَ، ولَمْ يُنَبَّهْ عَلى الإجْبارِ الَّذِي لا يُسْتَحَقُّ بِهِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ، وحَقَّقَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَتُسْألُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ . ولَوْ كانَ هَذا المُضْطَرَّ إلى الضَّلالِ والِاهْتِداءِ، لَما أثْبَتَ لَهم عَمَلًا يُسْألُونَ عَنْهُ؛ انْتَهى. قالُوا: كَرَّرَ النَّهْيَ عَنِ اتِّخاذِ الأيْمانِ دَخَلًا تَهَمُّمًا بِذَلِكَ، ومُبالَغَةً في النَّهْيِ عَنْهُ لِعِظَمِ مَوْقِعِهِ في الدِّينِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وتَرَدُّدِهِ في مُعامَلاتِ النّاسِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَأْكِيدًا عَلَيْهِمْ، وإظْهارًا لْعِظَمِ ما يَرْتَكِبُ مِنهُ؛ انْتَهى. وقِيلَ: إنَّما كَرَّرَ لِاخْتِلافِ المَعْنَيَيْنِ: لِأنَّ الأوَّلَ: نَهى فِيهِ عَنِ الدُّخُولِ في الحَلِفِ ونَقْضِ العَهْدِ بِالقِلَّةِ والكَثْرَةِ، وهُنا نُهِيَ عَنِ الدَّخَلِ في الأيْمانِ الَّتِي يُرادُ بِها اقْتِطاعُ حُقُوقٍ، فَكَأنَّهُ قالَ: دَخَلًا بَيْنَكم لِتَتَوَصَّلُوا بِها إلى قَطْعِ أمْوالِ المُسْلِمِينَ، وأقُولُ: لَمْ يَتَكَرَّرِ النَّهْيُ عَنِ اتِّخاذِ الأيْمانِ دَخَلًا، وإنَّما سَبَقَ إخْبارٌ بِأنَّهُمُ اتَّخَذُوا أيْمانَهم دَخَلًا مُعَلَّلًا بِشَيْءٍ خاصٍّ، وهو: أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هي أرْبى مِن أُمَّةٍ. وجاءَ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ: ولا تَتَّخِذُوا، اسْتِئْنافُ إنْشاءٍ عَنِ اتِّخاذِ الأيْمانِ دَخَلًا عَلى العُمُومِ، فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الصُّوَرِ مِنَ الحِلْفِ في المُبايَعَةِ، وقَطْعِ الحُقُوقِ المالِيَّةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ. وانْتَصَبَ ﴿فَتَزِلَّ﴾ عَلى جَوابِ النَّهْيِ، وهو اسْتِعارَةٌ لِمَن كانَ مُسْتَقِيمًا ووَقَعَ في أمْرٍ عَظِيمٍ وسَقَطَ، لِأنَّ القَدَمَ إذا زَلَّتْ تَقَلَّبَ الإنْسانُ مِن حالِ خَيْرٍ إلى حالِ شَرٍّ. وقالَ كُثَيِّرٌ: فَلَمّا تَوافَيْنا ثَبَتُّ وزَلَّتِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَتَزِلَّ أقْدامُكم عَنْ مَحَجَّةِ الإسْلامِ بَعْدَ ثُبُوتِها عَلَيْها (فَإنْ قُلْتَ): لِمَ وحَّدْتَ القَدَمَ ونَكَّرْتَ ؟ (قُلْتُ): لِاسْتِعْظامِ أنْ تَزِلَّ قَدَمٌ واحِدَةٌ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ بَعْدَ أنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِأقْدامٍ كَثِيرَةٍ ؟ انْتَهى. ونَقُولُ: الجَمْعُ تارَةً يُلْحَظُ فِيهِ المَجْمُوعُ مِن حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ، وتارَةً يُلْحَظُ فِيهِ اعْتِبارُ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَإذا لُوحِظَ فِيهِ المَجْمُوعُ كانَ الإسْنادُ مُعْتَبَرًا (p-٥٣٣)فِيهِ الجَمْعِيَّةُ، وإذا لُوحِظَ كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ كانَ الإسْنادُ مُطابِقًا لِلَفْظِ الجَمْعِ كَثِيرًا، فَيَجْمَعُ ما أُسْنِدَ إلَيْهِ، ومُطابِقًا لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ فَيُفْرَدُ كَقَوْلِهِ: ﴿وأعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾ [يوسف: ٣١] أفْرَدَ مُتَّكَئًا لِما كانَ لُوحِظَ في قَوْلِهِ (لَهُنَّ) مَعْنًى لِكُلِّ واحِدَةٍ، ولَوْ جاءَ مُرادًا بِهِ الجَمْعِيَّةُ أوْ عَلى الكَثِيرِ في الوَجْهِ الثّانِي لِجَمْعِ المُتَّكَأِ، وعَلى هَذا المَعْنى يَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَإنِّي وجَدْتُ الضّامِرَيْنِ مَتاعُهم يَمُوتُ ويَفْنى فارْضَخِي مِن وعائِيا أيْ: رَأيْتُ كُلَّ ضامِرٍ. ولِذَلِكَ أفْرَدَ الضَّمِيرَ في يَمُوتُ ويَفْنى. ولَمّا كانَ المَعْنى هُنا: لا يَتَّخِذُ كُلُّ واحِدٍ مِنكم، جاءَ ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ﴾ مُراعاةً لِهَذا المَعْنى، ثُمَّ قالَ: ﴿وتَذُوقُوا﴾، مُراعاةً لِلْمَجْمُوعِ، أوْ لِلَفْظِ الجَمْعِ عَلى الوَجْهِ الكَثِيرِ. إذا قُلْنا: إنَّ الإسْنادَ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، فَتَكُونُ الآيَةُ قَدْ تَعَرَّضَتْ لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّخاذِ الأيْمانِ دَخَلًا بِاعْتِبارِ المَجْمُوعِ وبِاعْتِبارِ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ، ودَلَّ عَلى ذَلِكَ بِإفْرادِ قَدَمٍ وبِجَمْعِ الضَّمِيرِ في: ﴿وتَذُوقُوا﴾ . و(ما) مَصْدَرِيَّةٌ في ﴿بِما صَدَدْتُمْ﴾، أيْ: بِصُدُودِكم أوْ بِصَدِّكم غَيْرَكم، لِأنَّهم لَوْ نَقَضُوا الأيْمانَ وارْتَدُّوا لاتُّخِذَ نَقْضُها سُنَّةً لِغَيْرِهِمْ فَيُسَبُّونَ بِها، وذَوْقُ السُّوءِ في الدُّنْيا. ﴿ولَكم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾، أيْ: في الآخِرَةِ. والسُّوءُ: ما يَسُوءُهم مِن قَتْلٍ، ونَهْبٍ، وأسْرٍ، وجَلاءٍ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَسُوءُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُهُ ﴿صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، يَدُلُّ عَلى أنَّ الآيَةَ فِيمَن بايَعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وعَلى هَذا فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ؛ قالَ: لِأنَّهم قَدْ نَقَضُوا أيْمانَ البَيْعَةِ. ولا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ لِخُصُوصِهِ، بَلْ نَقْضُ الأيْمانِ في البَيْعَةِ مُنْدَرِجٌ في العُمُومِ. ﴿ولا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾: هَذا نَهْيٌ عَنْ نَقْضِ ما بَيْنَ اللَّهِ تَعالى والعَبْدِ لِأخْذِ حُطامٍ مِن عَرَضِ الدُّنْيا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كانَ قَوْمٌ مِمَّنْ أسْلَمَ بِمَكَّةَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ لِجَزَعِهِمْ مِمّا رَأوْا مِن غَلَبَةِ قُرَيْشٍ واسْتِضْعافِهِمُ المُسْلِمِينَ وإيذائِهِمْ لَهم، ولَمّا كانُوا يَعِدُونَهم إنْ رَجَعُوا مِنَ المَواعِيدِ أنْ يَنْقُضُوا ما بايَعُوا عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَثَبَّتَهُمُ اللَّهُ. ولا تَشْتَرُوا: ولا تَسْتَبْدِلُوا بِعَهْدِ اللَّهِ وبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا عَرَضًا مِنَ الدُّنْيا يَسِيرًا، وهو ما كانَتْ قُرَيْشُ يَعِدُونَهم ويُمَنُّونَهم إنْ رَجَعُوا أنَّ ما عِنْدَ اللَّهِ مِن إظْهارِكم وتَغْنِيمِكم ومِن ثَوابِ الآخِرَةِ خَيْرٌ لَكم. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ آيَةُ نَهْيٍ عَنِ الرِّشا وأخْذِ الأمْوالِ عَلى تَرْكِ ما يَجِبُ عَلى الآخِذِ فِعْلُهُ، أوْ فِعْلُ ما يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ، فَإنَّ هَذِهِ هي الَّتِي عَهِدَ اللَّهُ إلى عِبادِهِ فِيها، وبَيَّنَ تَعالى الفَرْقَ بَيْنَ حالِ الدُّنْيا وحالِ الآخِرَةِ، بِأنَّ هَذِهِ تَنْفَدُ وتَنْقَضِي عَنِ الإنْسانِ، ويَنْقَضِي عَنْها، والَّتِي في الآخِرَةِ باقِيَةٌ دائِمَةٌ. ودَلَّ قَوْلُهُ: ﴿وما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ﴾، عَلى أنَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ لا يَنْقَطِعُ، وفي ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلى جَهْمِ بْنِ صَفْوانَ إذْ زَعَمَ أنَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ مُنْقَطِعٌ. وقَرَأ عاصِمٌ، وابْنُ كَثِيرٍ: ولَنَجْزِيَّنَ، بِالنُّونِ، وباقِي السَّبْعَةِ، بِالياءِ. وصَبَرُوا: أيْ: جاهَدُوا أنْفُسَهم عَلى مِيثاقِ الإسْلامِ وأذى الكُفّارِ، وتَرْكِ المَعاصِي، وكَسْبِ المالِ بِالوَجْهِ الَّذِي لا يَحِلُّ بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. قِيلَ: مِنَ التَّنَفُّلِ بِالطّاعاتِ، وكانَتْ أحْسَنَ لِأنَّها لَمْ يُحَتَّمْ فِعْلُها، فَكانَ الإنْسانُ يَأْتِي بِالتَّنَفُّلاتِ مُخْتارًا غَيْرَ مَلْزُومٍ بِها. وقِيلَ: ذَكَرَ الأحْسَنَ تَرْغِيبًا في عَمَلِهِ، وإنْ كانَتِ المُجازاةُ عَلى الحَسَنِ والأحْسَنِ. وقِيلَ: الأحْسَنُ هُنا بِمَعْنى الحَسَنِ، فَلَيْسَ أفْعَلُ الَّتِي لِلتَّفْضِيلِ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ المُرادَ بِالأحْسَنِ هُنا الصَّبْرُ، أيْ: ولَيَجْزِيَّنَ الَّذِينَ صَبَرُوا بِصَبْرِهِمْ، أيْ: بِجَزاءِ صَبْرِهِمْ، وجَعَلَ الصَّبْرَ أحْسَنَ الأعْمالِ لِاحْتِياجِ جَمِيعِ التَّكالِيفِ إلَيْهِ، فالصَّبْرُ هو رَأْسُها، فَكانَ الأحْسَنُ لِذَلِكَ. و(مَن) صالِحَةٌ لِلْمُفْرَدِ والمُذَكَّرِ وفُرُوعِهِما. لَكِنْ يَتَبادَرُ إلى الذِّهْنِ الإفْرادُ والتَّذْكِيرُ، فَبَيَّنَ بِالنَّوْعَيْنِ لِيَعُمَّ الوَعْدُ كِلَيْهِما. وهو مُؤْمِنٌ: جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، والإيمانُ شَرْطٌ في العَمَلِ الصّالِحِ مُخَصَّصٌ لِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧] أوْ يُرادُ بِمِثْقالِ ذَرَّةٍ مِن إيمانٍ، كَما جاءَ في مَن يَخْرُجُ مِنَ النّارِ مِن عُصاةِ المُؤْمِنِينَ، والظّاهِرُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلْنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً﴾ (p-٥٣٤)أنَّ ذَلِكَ في الدُّنْيا، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهُمْ﴾: يَعْنِي في الآخِرَةِ، وقالَ الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ: ذَلِكَ في الجَنَّةِ. وقالَ شَرِيكٌ: في القَبْرِ. وقالَ عَلِيٌّ، ووَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ في رِوايَةٍ عَنْهُما هي: القَناعَةُ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والضَّحّاكِ: الرِّزْقُ الحَلالُ، وعَنْهُ أيْضًا: السَّعادَةُ. وقالَ عِكْرِمَةُ: الطّاعَةُ. وقالَ قَتادَةُ: الرِّزْقُ في يَوْمٍ بِيَوْمٍ، وقالَ إسْماعِيلُ بْنُ أبِي خالِدٍ: الرِّزْقُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ، وقالَ أبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ: حَلاوَةُ الطّاعَةِ، وقِيلَ: العافِيَةُ والكِفايَةُ، وقِيلَ: الرِّضا بِالقَضاءِ، ذَكَرَهُما الماوَرْدِيُّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: المُؤْمِنُ مَعَ العَمَلِ الصّالِحِ إنْ كانَ مُوسِرًا فَلا مَقالَ فِيهِ، وإنْ كانَ مُعْسِرًا فَمَعَهُ ما يَطِيبُ عَيْشُهُ، وهو القَناعَةُ والرِّضا بِقِسْمَةِ اللَّهِ تَعالى. والفاجِرُ إنْ كانَ مُعْسِرًا فَلا إشْكالَ في أمْرِهِ، وإنْ كانَ مُوسِرًا فالحِرْصُ لا يَدَعُهُ أنْ يَتَهَنَّأ بِعَيْشِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: طَيَّبَ الحَياةَ لِلصّالِحِينَ بِانْبِساطِ نُفُوسِهِمْ ونَيْلِها وقُوَّةِ رَجائِهِمْ، والرَّجاءُ لِلنَّفْسِ أمْرٌ مُلِذٌّ، وبِأنَّهُمُ احْتَقَرُوا الدُّنْيا فَزالَتْ هُمُومُها عَنْهم، فَإنِ انْضافَ إلى هَذا مالٌ حَلالٌ وصِحَّةٌ وقَناعَةٌ فَذاكَ كَمالٌ، وإلّا فالطَّيِّبُ فِيما ذَكَرْنا راتِبٌ. وعادَ الضَّمِيرُ في ﴿فَلْنُحْيِيَنَّهُ﴾ عَلى لَفْظِ (مَن) مْفُرَدًا، وفي (ولَنَجْزِيَنَّهم) عَلى مَعْناها مِنَ الجَمْعِ، فَجَمَعَ. ورُوِيَ عَنْ نافِعٍ: ولَيَجْزِينَّهم؛ بِالياءِ بَدَلَ النُّونِ، التَفَتَ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ. ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ عَلى تَقْدِيرِ قَسَمٍ ثانٍ لا مَعْطُوفًا عَلى ﴿فَلْنُحْيِيَنَّهُ﴾، فَيَكُونُ مِن عَطْفِ جُمْلَةٍ قَسَمِيَّةٍ عَلى جُمْلَةٍ قَسَمِيَّةٍ، وكِلْتاهُما مَحْذُوفَتانِ. ولا يَكُونُ مِن عَطْفِ جَوابٍ عَلى جَوابٍ، لِتَغايُرِ الإسْنادِ، وإفْضاءِ الثّانِي إلى إخْبارِ المُتَكَلِّمِ عَنْ نَفْسِهِ بِإخْبارِ الغائِبِ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ. فَعَلى هَذا لا يَجُوزُ: زَيْدٌ قُلْتُ واللَّهِ لَأضْرِبَنَّ هِنْدًا ولِيَنْفِيَنَّها، يُرِيدُ ولَيَنْفِيها زَيْدٌ. فَإنْ جَعَلْتَهُ عَلى إضْمارِ قَسَمٍ ثانٍ جازَ، أيْ: وقالَ زَيْدٌ لَيَنْفِيَنَّها، لِأنَّ لَكَ في هَذا التَّرْكِيبِ أنْ تَحْكِيَ لَفْظَهُ، وأنْ تَحْكِيَ عَلى المَعْنى. فَمِنَ الأوَّلِ: (ولَيَحْلِفُنَّ بِاللَّهِ إنْ أرَدْنا إلّا الحُسْنى) ومِنَ الثّانِي: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا﴾ [التوبة: ٧٤] ولَوْ جاءَ عَلى اللَّفْظِ لَكانَ ما قُلْنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب