الباحث القرآني

﴿ويَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ﴾ ﴿وإذا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُوا العَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهم ولا هم يُنْظَرُونَ﴾ ﴿وإذا رَأى الَّذِينَ أشْرَكُوا شُرَكاءَهم قالُوا رَبَّنا هَؤُلاءِ شُرَكاؤُنا الَّذِينَ كُنّا نَدْعُوا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إلَيْهِمُ القَوْلَ إنَّكم لَكاذِبُونَ﴾ ﴿وألْقَوْا إلى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهم عَذابًا فَوْقَ العَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ﴾ ﴿ويَوْمَ نَبْعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِن أنْفُسِهِمْ وجِئْنا بِكَ شَهِيدًا عَلى هَؤُلاءِ ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً وبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾: لَمّا ذَكَرَ إنْكارَهم لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعالى، ذَكَرَ حالَ يَوْمِ القِيامَةِ حَيْثُ لا يَنْفَعُ فِيهِ الإنْكارُ عَلى سَبِيلِ الوَعِيدِ لَهم بِذَلِكَ اليَوْمِ. وانْتَصَبَ (يَوْمَ) بِإضْمارِ (اذْكُرْ) قالَهُ: الحَوْفِيُّ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، وأبُو البَقاءِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ يَوْمَ نَبْعَثُ وقَعُوا فِيما وقَعُوا فِيهِ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: هو مَعْطُوفٌ عَلى ظَرْفٍ مَحْذُوفٍ العامِلُ فِيهِ: ﴿ثُمَّ يُنْكِرُونَها﴾ [النحل: ٨٣]، أيْ: يُنْكِرُونَها اليَوْمَ. ويَوْمَ نَبْعَثُ، أيْ: يُنْكِرُونَ كُفْرَهم، فَيُكَذِّبُهُمُ الشَّهِيدُ، والشَّهِيدُ: نَبِيُّ تِلْكَ الأُمَّةِ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِإيمانِهِمْ وبِكُفْرِهِمْ، ومُتَعَلِّقُ الإذْنِ مَحْذُوفٌ. فَقِيلَ: في الرُّجُوعِ إلى دارِ الدُّنْيا. وقِيلَ: في الكَلامِ والِاعْتِذارِ، كَما قالَ: ﴿هَذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ﴾ [المرسلات: ٣٥] ﴿ولا يُؤْذَنُ لَهم فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦]، أيْ: بَعْدَ شَهادَةِ أنْبِيائِهِمْ عَلَيْهِمْ، وإلّا فَقَبْلَ ذَلِكَ تُجادِلُ كُلُّ أُمَّةٍ عَنْ نَفْسِهِ. وجاءَ كَلامُهم في ذَلِكَ، ولَكِنَّها مَواطِنُ يَتَكَلَّمُونَ في بَعْضِها ولا يَنْطِقُونَ في بَعْضِها ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ، أيْ: مُزالٌ عَنْهُمُ العَتَبُ. وقالَ قَوْمٌ: مَعْناهُ لا يَسْألُونَ أنْ يَرْجِعُوا عَنْ ما كانُوا عَلَيْهِ في الدُّنْيا، فَهَذا اسْتِعْتابٌ مَعْناهُ طَلَبُ عُتْباهم، ونَحْوُهُ قَوْلُ مَن قالَ: ولا هم يُسْتَرْضَوْنَ، أيْ: لا يُقالُ لَهُمُ ارْضُوا رَبَّكم، لِأنَّ الآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدارِ عَمَلٍ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: مَعْناهُ يُعْطَوْنَ الرُّجُوعَ إلى الدُّنْيا فَيَقَعُ مِنهم تَوْبَةٌ وعَمَلٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): فَما مَعْنى (ثُمَّ) هَذِهِ ؟ (قُلْتُ): مَعْناها أنَّهم يُمْنَوْنَ بَعْدَ شَهادَةِ الأنْبِياءِ بِما هو أطَمُّ مِنهُ، وأنَّهم يُمْنَعُونَ الكَلامَ فَلا (p-٥٢٦)يُؤْذَنُ لَهم في إلْقاءِ مَعْذِرَةٍ، ولا إدْلاءٍ بِحُجَّةٍ؛ انْتَهى. ولَمّا كانَتْ حالَةُ العَذابِ في الدُّنْيا مُخالِفَةً لِحالِ الآخِرَةِ، إذْ مَن رَأى العَذابَ في الدُّنْيا رَجا أنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ، وإنْ وقْعَ فِيهِ أنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ، أخْبَرَ تَعالى أنَّ عَذابَ الآخِرَةِ لا يَكُونُ فِيهِ تَخْفِيفٌ ولا نَظِرَةٌ. والظّاهِرُ أنَّ جَوابَ (إذا) قَوْلُهُ فَلا يُخَفَّفُ، وهو عَلى إضْمارِ هو، أيْ: فَهو لا يُخَفَّفُ، لِأنَّهُ لَوْلا تَقْدِيرُ الإضْمارِ لَمْ تَدْخُلِ الفاءُ، لِأنَّ جَوابَ (إذا) إذا كانَ مُضارِعًا لا يَحْتاجُ إلى دُخُولِ الفاءِ، سَواءٌ كانَ مُوجَبًا أمْ مَنفِيًّا، كَما قالَ تَعالى: ﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا المُنْكَرَ﴾ [الحج: ٧٢] وتَقُولُ: إذا جاءَ زَيْدٌ لا يَجِيءُ عَمْرٌو. قالَ الحَوْفِيُّ: فَلا يُخَفَّفُ، جَوابُ (إذا)، وهو العامِلُ في (إذا)، وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا أنَّ ما تَقَدَّمَ فاءَ الجَوابِ في غَيْرِ (أمّا) لا تَعْمَلُ فِيما قَبْلَهُ، وبَيَّنا أنَّ العامِلَ في إذا الفِعْلُ الَّذِي يَلِيها كَسائِرِ أدَواتِ الشَّرْطِ، وإنْ كانَ لَيْسَ قَوْلَ الجُمْهُورِ. وجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ جَوابَ إذا مَحْذُوفًا؛ فَقالَ: وقَدْ قُدِّرَ العامِلُ في يَوْمَ نَبْعَثُ مَجْزُومًا، قالَ: ويَوْمَ نَبْعَثُ وقَعُوا فِيما وقَعُوا فِيهِ، وكَذَلِكَ، وإذا رَأوُا العَذابَ بَغَتَهم وثَقُلَ عَلَيْهِمْ فَلا يُخَفَّفُ ولا هم يُنْظَرُونَ كَقَوْلِهِ: ﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ﴾ [الأنبياء: ٤٠] الآيَةَ؛ انْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: شُرَكاءَهم، عامٌّ في كُلِّ مَنِ اتَّخَذُوهُ شَرِيكًا لِلَّهِ مِن صَنَمٍ ووَثَنٍ وآدَمِيٍّ وشَيْطانٍ ومَلَكٍ، فَيُكَذِّبُهم مَن لَهُ مِنهم عَقْلٌ، فَيَكُونُ: فَألْقَوْا عائِدًا عَلى مَن لَهُ الكَلامُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عامًّا يُنْطِقُ اللَّهُ تَعالى بِقُدْرَتِهِ الأوْثانَ والأصْنامَ. وإضافَةُ الشُّرَكاءِ إلَيْهِمْ عَلى هَذا القَوْلِ لِكَوْنِهِمْ هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوهم شُرَكاءَ لِلَّهِ. وقالَ الحَسَنُ: شُرَكاؤُهم: الشَّياطِينُ، شَرَكُوهم في الأمْوالِ والأوْلادِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وشارِكْهم في الأمْوالِ والأوْلادِ﴾ [الإسراء: ٦٤]، وقِيلَ: شُرَكاؤُهم في الكُفْرِ. وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ (شُرَكاؤُهم) في (أنِ اتَّخَذُوهم آلِهَةً مَعَ اللَّهِ وعَبَدُوهم)، أوْ (شُرَكاؤُهم) في أنْ جَعَلُوا لَهم نَصِيبًا مِن أمْوالِهِمْ وأنْعامِهِمْ، والظّاهِرُ أنَّ القَوْلَ مَنسُوبٌ إلَيْهِمْ حَقِيقَةً. وقِيلَ: مَنسُوبٌ إلى جَوارِحِهِمْ، لِأنَّهم لَمّا أنْكَرُوا الإشْراكَ بِقَوْلِهِمْ: ﴿إلّا أنْ قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] أصْمَتَ اللَّهُ ألْسِنَتَهم وأنْطَقَ جَوارِحَهم. ومَعْنى نَدْعُو: نَعْبُدُ، قالُوا ذَلِكَ رَجاءَ أنْ يُشْرَكُوا مَعَهم في العَذابِ، إذْ يَحْصُلُ التَّأسِّي، أوِ اعْتِذارًا عَنْ كُفْرِهِمْ إذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ذَلِكَ وحَمَلَهم عَلَيْهِ، إنْ كانَ الشُّرَكاءُ هُمُ الشَّياطِينَ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْبَهانِيُّ. قالُوا: ذَلِكَ إحالَةُ هَذا الذَّنْبِ عَلى تِلْكَ الأصْنامِ، وظَنًّا أنَّ ذَلِكَ يُنْجِيهِمْ مِن عَذابِ الله أوْ مِن عَذابِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُكَذِّبُهم تِلْكَ الأصْنامَ. وقالَ القاضِي: هَذا بَعِيدٌ، لِأنَّ الكُفّارَ يَعْلَمُونَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا في الآخِرَةِ أنَّ العَذابَ سَيَنْزِلُ بِهِمْ، ولا نُصْرَةَ، ولا فِدْيَةَ، ولا شَفاعَةَ. وتَقَدَّمُ الإخْبارُ بِأنَّهم شُرَكاءُ، والإخْبارُ أنَّهم كانُوا يَدْعُونَهم: أيْ يَعْبُدُونَهم، فاحْتَمَلَ التَّكْذِيبُ أنْ يَكُونَ عائِدًا لِلْإخْبارِ الأوَّلِ، أيْ: لَسْنا شُرَكاءَ لِلَّهِ في العِبادَةِ، ولا آلِهَةً نَزَّهُوا اللَّهَ تَعالى عَنْ أنْ يَكُونُوا شُرَكاءَ لَهُ. واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ عائِدًا عَلى الإخْبارِ الثّانِي وهو العِبادَةُ، لَمّا لَمْ يَكُونُوا راضِينَ بِالعِبادَةِ جَعَلُوا عِبادَتَهم كَلا عِبادَةٍ، أوْ لَمّا لَمْ يَدْعُوهم إلى العِبادَةِ. ألا تَرى أنَّ الأصْنامَ والأوْثانَ لا شُعُورَ لَها بِالعِبادَةِ، فَضْلًا عَنْ أنْ يَدْعُوَ، وإنَّ مَن عُبِدَ مِن صالِحِي المُؤْمِنِينَ والمَلائِكَةِ، لَمْ يَدْعُ إلى عِبادَتِهِ. وإنْ كانَ الشُّرَكاءُ الشَّياطِينَ جازَ أنْ يَكُونُوا كاذِبِينَ في إخْبارِهِمْ بِكَذِبِ مَن عَبَدَهم، كَما كَذَبَ إبْلِيسُ في قَوْلِهِ: ﴿إنِّي كَفَرْتُ بِما أشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ﴾ [إبراهيم: ٢٢] والضَّمِيرُ في (فَألْقَوْا إلى اللَّهِ) عائِدٌ عَلى الَّذِينَ أشْرَكُوا، قالَهُ الأكْثَرُونَ. والسَّلَمُ: الِاسْتِسْلامُ والِانْقِيادُ لِحُكْمِ اللَّهِ بَعْدَ الإباءِ والِاسْتِكْبارِ في الدُّنْيا، فَلَمْ يَكُنْ لَهم إذْ ذاكَ حِيلَةٌ ولا دَفْعٌ. ورَوى يَعْقُوبُ عَنْ أبِي عَمْرٍو: السَّلْمَ بِإسْكانِ (p-٥٢٧)اللّامِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ: بِضَمِّ السِّينِ واللّامِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الَّذِينَ أشْرَكُوا، وشُرَكائِهِمْ كُلِّهِمْ. قالَ الكَلْبِيُّ: اسْتَسْلَمُوا مُنْقادِينَ لِحُكْمِهِ، والضَّمِيرُ في (وضَلُّوا) عائِدٌ عَلى الَّذِينَ أشْرَكُوا خاصَّةً، أيْ: وبَطَلَ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ مِن أنَّ لِلَّهِ شُرَكاءَ وأنَّهم يَنْصُرُونَهم ويَشْفَعُونَ لَهم حِينَ كَذَّبُوهم وتَبَرَّأُوا مِنهم، والظّاهِرُ أنَّ (الَّذِينَ): مُبْتَدَأٌ، و(زِدْناهم): الخَبَرُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ، بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ في (يَفْتَرُونَ) . وزِدْناهم: فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ إخْبارُهُ. ﴿وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، أيْ: غَيْرَهم زِدْناهم عَذابًا بِسَبَبِ الصَّدِّ فَوْقَ العَذابِ، أيِ: الَّذِي تَرَتَّبَ لَهم عَلى الكُفْرِ ضاعَفُوا كُفْرَهم، فَضاعَفَ اللَّهُ عِقابَهم. وهَذا المَزِيدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَقارِبُ كَأمْثالِ النَّخْلِ الطِّوالِ، وعَنْهُ: حَيّاتٌ كَأمْثالِ الفِيَلَةِ، وعَقارِبُ كَأمْثالِ البِغالِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّها مِن صُفْرٍ مُذابٍ تَسِيلُ مِن تَحْتِ العَرْشِ يُعَذَّبُونَ بِها، وعَنِ الزَّجّاجِ: يَخْرُجُونَ مِن حَرِّ النّارِ إلى الزَّمْهَرِيرِ، فَيُبادِرُونَ مِن شِدَّةِ بَرْدِهِ إلى النّارِ، وعَلَّلَ تِلْكَ الزِّيادَةَ بِكَوْنِهِمْ مُفْسِدِينَ غَيْرَهم، وحامِلِينَ عَلى الكُفْرِ. وفي كُلِّ أُمَّةٍ فِيها مِنها حَذْفٌ في السّابِقِ مِن أنْفُسِهِمْ وأثْبَتَهُ هُنا وحَذَفَ هُناكَ في وأثْبَتَهُ هُنا، والمَعْنى في كِلَيْهِما: أنَّهُ يَبْعَثُ اللَّهُ أنْبِياءَ الأُمَمِ فِيهِمْ مِنهم، والخِطابُ في ذَلِكَ لِلرَّسُولِ ﷺ والإشارَةُ بِهَؤُلاءِ إلى أُمَّتِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَجُوزُ أنْ يَبْعَثَ اللَّهُ شُهَداءَ مِنَ الصّالِحِينَ مَعَ الرُّسُلِ. وقَدْ قالَ بَعْضُ الصَّحابَةِ: إذا رَأيْتَ أحَدًا عَلى مَعْصِيَةٍ فانْهَهُ، فَإنْ أطاعَكَ وإلّا كُنْتَ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ القِيامَةِ؛ انْتَهى. وكانَ الشَّهِيدُ مِن أنْفُسِهِمْ، لِأنَّهُ كانَ كَذَلِكَ حِينَ أرْسَلَ إلَيْهِمْ في الدُّنْيا مِن أنْفُسِهِمْ. وقالَ الأصَمُّ أبُو بَكْرٍ المُرادُ: الشَّهِيدُ هو أنَّهُ تَعالى يُنْطِقُ عَشَرَةً مِن أجْزاءِ الإنْسانِ حَتّى تَشْهَدَ عَلَيْهِ، لِأنَّهُ قالَ في صِفَةِ الشَّهِيدِ مِن أنْفُسِهِمْ، وهَذا بَعِيدٌ لِمُقابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وجِئْنا بِكَ شَهِيدًا عَلى هَؤُلاءِ، فَيَقْتَضِي المُقابَلَةَ أنَّ الشُّهَداءَ عَلى الأُمَمِ أنْبِياؤُهم كَرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ونَزَّلَنا: اسْتِئْنافُ إخْبارٍ، ولَيْسَ داخِلًا مَعَ ما قَبْلَهُ لِاخْتِلافِ الزَّمانَيْنِ. لَمّا ذَكَرَ ما شَرَّفَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّهادَةِ عَلى أُمَّتِهِ، ذَكَرَ ما أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِمّا فِيهِ بَيانُ كُلِّ شَيْءٍ مِن أُمُورِ الدِّينِ، لِيُزِيحَ بِذَلِكَ عِلَّتَهم فِيما كُلِّفُوا، فَلا حُجَّةَ لَهم ولا مَعْذِرَةَ. والظّاهِرُ أنَّ تِبْيانًا مَصْدَرٌ جاءَ عَلى ”تِفْعالٍ“، وإنْ كانَ بابُ المَصادِرِ أنْ يَجِيءَ عَلى تَفْعالٍ بِالفَتْحِ، كالتَّرْدادِ والتَّطْوافِ، ونَظِيرُ تِبْيانٍ في كَسْرِ تائِهِ تِلْقاءَ. وقَدْ جَوَّزَ الزَّجّاجُ فَتْحَهُ في غَيْرِ القُرْآنِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تِبْيانًا اسْمٌ ولَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وهو قَوْلُ أكْثَرِ النُّحاةِ. ورَوى ثَعْلَبٌ عَنِ الكُوفِيِّينَ، والمُبَرِّدُ عَنِ البَصْرِيِّينَ: أنَّهُ مَصْدَرٌ ولِمَ يَجِئْ عَلى تِفْعالٍ مِنَ المَصادِرِ إلّا ضَرْبانِ: تِبْيانٌ وتِلْقاءٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ كانَ القُرْآنُ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ؟ (قُلْتُ): المَعْنى أنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ شَيْءٍ مِن أُمُورِ الدِّينِ حَيْثُ كانَ نَصًّا عَلى بَعْضِها وإحالَةً عَلى السُّنَّةِ، حَيْثُ أُمِرَ فِيهِ بِاتِّباعِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وطاعَتِهِ. وقِيلَ: ﴿وما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ [النجم: ٣]، وحَثًّا عَلى الإجْماعِ في قَوْلِهِ ﴿ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: ١١٥] (p-٥٢٨)وقَدْ رَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأُمَّتِهِ اتِّباعَ أصْحابِهِ، والِاقْتِداءَ بِآثارِهِمْ في قَوْلِهِ: (أصْحابِي كالنُّجُومِ بِأيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ) وقَدِ اجْتَهَدُوا، وقاسَوْا، ووَطَّئُوا طُرُقَ القِياسِ والِاجْتِهادِ، فَكانَتِ السُّنَّةُ والإجْماعُ والقِياسُ والِاجْتِهادُ مُسْتَنِدَةً إلى تَبْيِينِ الكِتابِ، فَمِن ثَمَّ كانَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ. وقَوْلُهُ: وقَدْ رَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى قَوْلِهِ: اهْتَدَيْتُمْ، لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهو حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ لا يَصِحُّ بِوَجْهٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ الحافِظُ أبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أحْمَدَ بْنِ حَزْمٍ في رِسالَتِهِ في إبْطالِ الرَّأْيِ، والقِياسِ، والِاسْتِحْسانِ، والتَّعْلِيلِ، والتَّقْلِيدِ ما نَصُّهُ: وهَذا خَبَرٌ مَكْذُوبٌ مَوْضُوعٌ باطِلٌ لَمْ يَصْلُحْ قَطُّ، وذَكَرَ إسْنادَهُ إلى البَزّازِ صاحِبِ المُسْنَدِ قالَ: سَألْتُمْ عَمّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِمّا في أيْدِي العامَّةِ تَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «إنَّما مَثَلُ أصْحابِي كَمَثَلِ النُّجُومِ أوْ كالنُّجُومِ، بِأيِّها اقْتَدَوُا اهْتَدَوْا» . وهَذا كَلامٌ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ رَواهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ العَمِّيُّ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وإنَّما أتى ضَعْفُ هَذا الحَدِيثِ مِن قِبَلِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، لِأنَّ أهْلَ العِلْمِ سَكَتُوا عَنِ الرِّوايَةِ لِحَدِيثِهِ. والكَلامُ أيْضًا مُنْكَرٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ولَمْ يَثْبُتْ، والنَّبِيُّ ﷺ لا يُبِيحُ الِاخْتِلافَ بَعْدَهُ مِن أصْحابِهِ، هَذا نَصُّ كَلامِ البَزّارِ. قالَ ابْنُ مَعِينٍ: عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ كَذّابٌ خَبِيثٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وقالَ البُخارِيُّ: هو مَتْرُوكٌ، رَواهُ أيْضًا حَمْزَةُ الجَزَرِيُّ، وحَمْزَةُ هَذا ساقِطٌ مَتْرُوكٌ. ونَصَبُوا ﴿تِبْيانًا﴾ عَلى الحالِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِن أجْلِهِ. و(لِلْمُسْلِمِينَ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (وبُشْرى) ومِن حَيْثُ المَعْنى هو مُتَعَلِّقٌ بِـ ”وهُدًى ورَحْمَةً“ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب