الباحث القرآني

﴿وإذا قِيلَ لَهم ماذا أنْزَلَ رَبُّكم قالُوا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿لِيَحْمِلُوا أوْزارَهم كامِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ ومِن أوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهم بِغَيْرِ عِلْمٍ ألا ساءَ ما يَزِرُونَ﴾ ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأتى اللَّهُ بُنْيانَهم مِنَ القَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وأتاهُمُ العَذابُ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾ ﴿ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يُخْزِيهِمْ ويَقُولُ أيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ إنَّ الخِزْيَ اليَوْمَ والسُّوءَ عَلى الكافِرِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ فَألْقَوُا السَّلَمَ ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلى إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿فادْخُلُوا أبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوى المُتَكَبِّرِينَ﴾ . قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ وإذا قِيلَ لَهُمُ الآيَةَ، أنَّ النَّضْرَ بْنَ الحارِثِ سافَرَ عَنْ مَكَّةَ إلى الحِيرَةِ، وكانَ قَدِ اتَّخَذَ كُتُبَ التَّوارِيخِ والأمْثالِ كَكَلِيلَةَ ودِمْنَةَ، وأخْبارَ اسْفَنْدِيارَ ورُسْتُمَ، فَجاءَ إلى مَكَّةَ فَكانَ يَقُولُ: إنَّما يُحَدِّثُ مُحَمَّدٌ (p-٤٨٤)بِأساطِيرِ الأوَّلِينَ وحَدِيثِي أجْمَلُ مِن حَدِيثِهِ. و(ماذا) كَلِمَةُ اسْتِفْهامٍ مَفْعُولٌ بِأنْزَلَ، أوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ذا بِمَعْنى الَّذِي، وعائِدُهُ في أنْزَلَ مَحْذُوفٌ، أيْ: أيُّ شَيْءٍ الَّذِي أنْزَلَهُ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ (ماذا) مَرْفُوعًا بِالِابْتِداءِ؛ قالَ: بِمَعْنى: أيُّ شَيْءٍ أنْزَلَهُ رَبُّكم. وهَذا لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ إلّا في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، والضَّمِيرُ في (لَهم) عائِدٌ عَلى كُفّارِ قُرَيْشٍ. وماذا أنْزَلَ، لَيْسَ مَعْمُولًا لَقِيلَ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، لِأنَّهُ جُمْلَةٌ، والجُمْلَةُ لا تَقَعُ مَوْقِعَ المَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، كَما لا تَقَعُ مَوْقِعَ الفاعِلِ. وقُرِئَ شاذًّا: (أساطِيرَ) بِالنَّصْبِ عَلى مَعْنى ذَكَرْتُمْ أساطِيرَ، أوْ أنْزَلَ أساطِيرَ، عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ والسُّخْرِيَةِ، لِأنَّ التَّصْدِيقَ بِالإنْزالِ يُنافِي أساطِيرَ، وهم يَعْتَقِدُونَ أنَّهُ ما نَزَلَ شَيْءٌ ولا أنَّ ثَمَّ مُنَزِّلًا. وبَنى قِيلَ: لِلْمَفْعُولِ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ القائِلُ بَعْضَهم لِبَعْضٍ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ المُؤْمِنُونَ قالُوا لَهم عَلى سَبِيلِ الِامْتِحانِ. وقِيلَ: قائِلُ ذَلِكَ الَّذِينَ تَقاسَمُوا مَداخِلَ مَكَّةَ يُنَفِّرُونَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ إذا سَألَهم وُفُودُ الحاجِّ: ماذا أُنْزِلَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ؟ قالُوا: أحادِيثُ الأوَّلِينَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِرَفْعِ أساطِيرَ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ المَذْكُورُ: أساطِيرُ، أوِ المُنَزَّلُ أساطِيرُ، جَعَلُوهُ مُنَزَّلًا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ، وإنْ كانُوا لا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ. واللّامُ في (لِيَحْمِلُوا) لامُ الأمْرِ عَلى مَعْنى الحَتْمِ عَلَيْهِمْ والصَّغارِ المُوجِبِ لَهم، أوْ لامُ التَّعْلِيلِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ غَرَضًا؛ كَقَوْلِكَ: خَرَجْتُ مِنَ البَلَدِ مَخافَةَ الشَّرِّ، وهي الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْها بِلامِ العاقِبَةِ، لِأنَّهم لَمْ يَقْصِدُوا بِقَوْلِهِمْ: أساطِيرُ الأوَّلِينَ، أنْ يَحْمِلُوا الأوْزارَ. ولَمّا قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لامَ العاقِبَةِ، قالَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ صَرِيحُ لامِ كَيْ عَلى مَعْنى قُدِّرَ هَذا لِكَذا، وهي لامُ التَّعْلِيلِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْها بِقَوْلِهِ. قالُوا: بَلْ أضْمَرَ فِعْلًا آخَرَ وهو: قَدَّرَ هَذا، وكامِلَةً: حالٌ، أيْ: لا يَنْقُصُ مِنها شَيْءٌ، ومِن: لِلتَّبْعِيضِ. فالمَعْنى: أنَّهُ يَحْمِلُ مِن وِزْرِ كُلِّ مَن أضَلَّ، أيْ: بَعْضَ وِزْرِ مَن ضَلَّ بِضَلالِهِمْ، وهو وِزْرُ الإضْلالِ، لِأنَّ المُضِلَّ والضّالَّ شَرِيكانِ، هَذا يُضِلُّهُ، وهَذا يُطاوِعُهُ عَلى إضْلالِهِ، فَيَتَحامَلانِ الوِزْرَ. وقالَ الأخْفَشُ: مِن زائِدَةٌ، أيْ: وأوْزارَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهم، والمَعْنى: ومِثْلَ ﴿أوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ﴾ كَقَوْلِهِ: «فَعَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ» المُرادُ: ومِثْلُ وِزْرِ، والمَعْنى: أنَّ الرَّئِيسَ إذا وضَعَ سُنَّةً قَبِيحَةً عَظُمَ عِقابُهُ حَتّى إنَّ ذَلِكَ العِقابَ يَكُونُ مُساوِيًا لِعِقابِ كُلِّ مَنِ اقْتَدى بِهِ في ذَلِكَ. وقالَ الواحِدِيُّ: لَيْسَتْ (مِن) لِلتَّبْعِيضِ، لِأنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَخْفِيفَ الأوْزارِ عَنِ الأتْباعِ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أوْزارِهِمْ شَيْءٌ» لَكِنَّها لِلْجِنْسِ، أيْ: لِيَحْمِلُوا مِن جِنْسِ أوْزارِ الأتْباعِ؛ انْتَهى. ولا تَتَقَدَّرُ مِنَ الَّتِي لِبَيانِ (p-٤٨٥)الجِنْسِ هَذا التَّقْدِيرَ الَّذِي قَدَّرَهُ الواحِدِيُّ، وإنَّما تُقَدَّرُ: الأوْزارُ الَّتِي هي أوْزارُ الَّذِينَ يُضِلُّونَهم، فَيَئُولُ مِن حَيْثُ المَعْنى إلى قَوْلِ الأخْفَشِ، وإنِ اخْتَلَفا في التَّقْدِيرِ. وبِغَيْرِ عِلْمٍ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حالٌ مِنَ المَفْعُولِ، أيْ: يُضِلُّونَ مَن لا يَعْلَمُ أنَّهم ضُلّالٌ. وقالَ غَيْرُهُ: حالٌ مِنَ الفاعِلِ وهو أوْلى، إذْ هو المُحَدَّثُ عَنْهُ المُسْنَدُ إلَيْهِ الإضْلالُ عَلى جِهَةِ الفاعِلِيَّةِ، والمَعْنى: أنَّهم يُقْدِمُونَ عَلى هَذا الإضْلالِ جَهْلًا مِنهم بِما يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ العَذابِ الشَّدِيدِ عَلى ذَلِكَ الإضْلالِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عَنْ سُوءِ ما يَتَحَمَّلُونَهُ لِلْآخِرَةِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في إعْرابِ مِثْلِ ﴿ساءَ ما يَزِرُونَ﴾ . فَأتى اللَّهُ، أيْ: أمْرُهُ وعَذابُهُ، والبُنْيانُ: قِيلَ: حَقِيقَةٌ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ نَمْرُودُ بَنى صَرْحًا لِيَصْعَدَ بِزَعْمِهِ إلى السَّماءِ، وأفْرَطَ في عُلُوِّهِ وطُولِهِ في السَّماءِ فَرْسَخَيْنِ، عَلى ما حَكى النَّقّاشُ، وقالَهُ كَعْبُ الأحْبارِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ووَهْبٌ: طَولُهُ في السَّماءِ خَمْسَةُ آلافِ ذِراعٍ، وعَرْضُهُ ثَلاثَةُ آلافِ ذِراعٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ رِيحًا فَهَدَمَتْهُ، وخَرَّ سَقْفُهُ عَلَيْهِ وعَلى أتْباعِهِ. وقِيلَ: هَدَمَهُ جِبْرِيلُ بِجَناحِهِ، وألْقى أعْلاهُ في البَحْرِ، والحِقْفُ مِن أسْفَلِهِ. وقالَ ابْنُ الكَلْبِيِّ: المُرادُ: المُقْتَسِمُونَ المَذْكُورُونَ في سُورَةِ الحِجْرِ. وقِيلَ: الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ بُخْتُنَصَّرَ وأصْحابُهُ. وقالَ الضَّحّاكُ: قُرَيّاتُ قَوْمِ لُوطٍ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: المُرادُ بِالَّذِينِ مِن قَبْلِهِمْ: مَن كَفَرَ مِنَ الأُمَمِ المُتَقَدِّمَةِ ومَكَرَ، ونَزَلَتْ بِهِ عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ، ويَكُونُ ﴿فَأتى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ﴾ إلى آخِرِهِ، تَمْثِيلًا؛ والمَعْنى: أنَّهم سَوَّوْا مَنصُوباتٍ لِيَمْكُرُوا بِها اللَّهَ ورَسُولَهُ، فَجَعَلَ اللَّهُ هَلاكَهم في تِلْكَ المَنصُوباتِ كَحالِ قَوْمٍ بَنَوْا بُنْيانًا وعَمَّدُوهُ بِالأساطِينِ، فَأتى البُنْيانَ مِنَ الأساطِينِ بِأنْ تَضَعْضَعَتْ، فَسَقَطَ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ وهَلَكُوا ونَحْوُهُ مَن حَفَرَ لِأخِيهِ جُبًّا وقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا، ومِنَ القَواعِدِ لِابْتِداءِ الغايَةِ، أيْ: أتاهم أمْرُ اللَّهِ مِن جِهَةِ القَواعِدِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ﴾: جاءَهُمُ العَذابُ مِن قِبَلِ السَّماءِ الَّتِي هي فَوْقَهم، وقالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقِيلَ: المَعْنى: أحْبَطَ اللَّهُ أعْمالَهم فَكانُوا بِمَنزِلَةِ مَن سَقَطَ بُنْيانُهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا يَنْجَرُّ إلى اللُّغْزِ. ومَعْنى قَوْلِهِ: مِن فَوْقِهِمْ، رَفْعُ الِاحْتِمالِ في قَوْلِهِ: ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ﴾، فَإنَّكَ تَقُولُ: انْهَدَمَ عَلى فُلانٍ بِناؤُهُ ولَيْسَ تَحْتَهُ، كَما تَقُولُ: انْفَسَدَ عَلَيْهِ، وقَوْلُهُ: مِن فَوْقِهِ، ألْزَمَ أنَّهم كانُوا تَحْتَهُ؛ انْتَهى. وهَذا الَّذِي قالَهُ ابْنُ الأعْرابِيِّ؛ قالَ: يُعْلِمُكَ أنَّهم كانُوا جالِسِينَ تَحْتَهُ، والعَرَبُ تَقُولُ: خَرَّ عَلَيْنا سَقْفٌ، ووَقَعَ عَلَيْنا سَقْفٌ، ووَقَعَ عَلَيْنا حائِطٌ إذا كانَ يَمْلِكُهُ. وإنْ لَمْ يَكُنْ وقَعَ عَلَيْهِ فَجاءَ بِقَوْلِهِ مِن فَوْقِهِمْ لِيَخْرُجَ هَذا الَّذِي في كَلامِ العَرَبِ فَقالَ: مِن فَوْقِهِمْ، أيْ: عَلَيْهِمْ وقَعَ، وكانُوا تَحْتَهُ فَهَلَكُوا، فَأتاهُمُ العَذابُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يَعْنِي: البَعُوضَةَ الَّتِي أُهْلِكَ بِها نُمْرُوذٌ، وقِيلَ: ﴿مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾، مِن حَيْثُ ظَنُّوا أنَّهم في أمانٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بُنْيانَهم، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ بُنْيَتَهم. وقَرَأ جَعْفَرٌ: بَيْتَهم، والضَّحّاكُ: بُيُوتَهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: السَّقْفُ مُفْرَدًا، والأعْرَجُ: السُّقُفُ، بِضَمَّتَيْنِ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ومُجاهِدٌ، بِضَمِّ السِّينِ فَقَطْ. وتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ مِثْلِ هاتَيْنِ القِراءَتَيْنِ في (وبِالنَّجْمِ) . وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: السَّقُفُ، بِفَتْحِ السِّينِ وضَمِّ القافِ، وهي لُغَةٌ في السَّقْفِ، ولَعَلَّ السَّقْفَ مُخَفَّفٌ مِنهُ، ولَكِنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمالُهُ كَما قالُوا في رَجُلٍ رَجْلٍ وهي لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى ما حَلَّ بِهِمْ في دارِ الدُّنْيا، ذَكَرَ ما يَحِلُّ بِهِمْ في الآخِرَةِ. ويُخْزِيهِمْ: يَعُمُّ جَمِيعَ المَكارِهِ الَّتِي تَحُلُّ بِهِمْ، ويَقْتَضِي ذَلِكَ إدْخالَهُمُ النّارَ كَقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾ [آل عمران: ١٩٢]؛ أيْ: أهَنْتَهُ كُلَّ الإهانَةِ. وجَمَعَ بَيْنَ الإهانَةِ بِالفِعْلِ، والإهانَةِ بِالقَوْلِ بِالتَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ في قَوْلِهِ: يُخْزِيهِمْ ويَقُولُ أيْنَ شُرَكائِي، أضافَ تَعالى الشُّرَكاءَ إلَيْهِ، والإضافَةُ تَكُونُ بِأدْنى مُلابَسَةٍ، والمَعْنى: شُرَكائِي في زَعْمِكم، إذْ أضافَ عَلى الِاسْتِهْزاءِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: شُرَكائِيَ، مَمْدُودًا مَهْمُوزًا مَفْتُوحَ الياءِ، وفِرْقَةٌ كَذَلِكَ: تُسَكِّنُها، فَسَقَطَ في الدَّرَجِ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ. والبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِخِلافٍ عَنْهُ: مَقْصُورًا وفَتَحَ الياءَ هُنا خاصَّةً. ورُوِيَ عَنْهُ: تَرْكُ الهَمْزِ في القَصَصِ والعَمَلُ (p-٤٨٦)عَلى الهَمْزِ فِيهِ وقَصْرُ المَمْدُودِ، وذَكَرُوا أنَّهُ مِن ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، ولا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِثُبُوتِهِ في هَذِهِ القِراءَةِ، فَيَجُوزُ قَلِيلًا في الكَلامِ. والمُشاقَّةُ: المُفاداةُ والمُخاصَمَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (تُشاقُّونَ)، بِفَتْحِ النُّونِ، وقَرَأ نافِعٌ، بِكَسْرِها، ورُوِيَتْ عَنِ الحَسَنِ، ولا يُلْتَفَتُ إلى تَضْعِيفِ أبِي حاتِمٍ هَذِهِ القِراءَةَ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: بِتَشْدِيدِها، أُدْغِمَ نُونُ الرَّفْعِ في نُونِ الوِقايَةِ. والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ، عامٌّ فِيمَن أُوتِيَ العِلْمَ مِنَ الأنْبِياءِ، وعُلَماءِ أُمَمِهِمُ الَّذِينَ كانُوا يَدْعُونَهم إلى الإيمانِ ويَعِظُونَهم، فَلا يَلْتَفِتُونَ إلَيْهِمْ، ويُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ. وقِيلَ: هُمُ المَلائِكَةُ، وقالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقِيلَ: الحَفَظَةُ مِنَ المَلائِكَةِ. وقِيلَ: مَن حَضَرَ المَوْقِفَ مِن مَلَكٍ وإنْسِيٍّ، وغَيْرِ ذَلِكَ. وقالَ يَحْيى بْنُ سَلامٍ: هُمُ المُؤْمِنُونَ؛ انْتَهى. ويَقُولُ أهْلُ العِلْمِ: شَماتَةً بِالكُفّارِ وتَسْمِيعًا لَهم، وفي ذَلِكَ إعْظامٌ لِلْعِلْمِ، إذْ لا يَقُولُ ذَلِكَ إلّا أهْلُهُ ﴿الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في سُورَةِ النِّساءِ. والظّاهِرُ أنَّ (الَّذِينَ) صِفَةٌ لِلْكافِرِينَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ داخِلًا في القَوْلِ. فَإنْ كانَ القَوْلُ يَوْمَ القِيامَةِ فَيَكُونُ تَتَوَفّاهم حِكايَةَ حالٍ ماضِيَةٍ، وإنْ كانَ القَوْلُ في الدُّنْيا لَما أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ يُخْزِيهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ ويَقُولُ لَهم ما يَقُولُ قالَ أهْلُ العِلْمِ: إذا أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِذَلِكَ أنَّ الخِزْيَ اليَوْمَ الَّذِي أخْبَرَ اللَّهُ أنَّهُ يُخْزِيهِمْ فِيهِ، فَيَكُونُ تَتَوَفّاهم عَلى بابِها. ويَشْمَلُ مِن حَيْثُ المَعْنى مَن تَوَفَّتْهُ، ومَن تَتَوَفّاهُ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (الَّذِينَ) خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وأنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى الذَّمِّ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَقُولًا لِأهْلِ العِلْمِ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقُولٍ، بَلْ مِن إخْبارِ اللَّهِ تَعالى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (الَّذِينَ) مُرْتَفِعًا بِالِابْتِداءِ مُنْقَطِعًا مِمّا قَبْلَهُ، وخَبَرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿فَألْقَوُا السَّلَمَ﴾، فَزِيدَتِ الفاءُ في الخَبَرِ، وقَدْ يَجِيءُ مِثْلُ هَذا؛ انْتَهى. وهَذا لا يَجُوزُ إلّا عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ، فَإنَّهُ يُجِيزُ: زَيْدٌ فَقامَ، أيْ: قامَ. ولا يُتَوَهَّمُ أنَّ الفاءَ هي الدّاخِلَةُ في خَبَرِ المُبْتَدَإ إذا كانَ مَوْصُولًا، وضُمِّنَ مَعْنى الشَّرْطِ، لِأنَّهُ لا يَجُوزُ دُخُولُها في مِثْلِ هَذا الفِعْلِ مَعَ صَرِيحِ الشَّرْطِ، فَلا يَجُوزُ فِيما ضُمِّنَ مَعْناهُ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والأعْمَشُ: يَتَوَفّاهم، بِالياءِ مِن أسْفَلُ في المَوْضِعَيْنِ. وقُرِئَ: بِإدْغامِ تاءِ المُضارَعَةِ في التّاءِ بَعْدَها، وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ، بِتاءٍ واحِدَةٍ في المَوْضِعَيْنِ. والسَّلْمُ هُنا: الِاسْتِسْلامُ. قالَهُ الأخْفَشُ، أوِ الخُضُوعُ؛ قالَهُ مُقاتِلٌ. أيِ: انْقادُوا حِينَ عايَنُوا المَوْتَ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ. وقِيلَ: في القِيامَةِ انْقادُوا وأجابُوا بِما كانُوا عَلى خِلافِهِ في الدُّنْيا مِنَ الشِّقاقِ والكِبْرِ. والظّاهِرُ عَطْفُ (فَألْقَوْا) عَلى (تَتَوَفّاهم)، وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِ: الَّذِينَ، وأنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا. وقِيلَ: تَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿ظالِمِي أنْفُسِهِمْ﴾، ثُمَّ عادَ الكَلامُ إلى حِكايَةِ كَلامِ المُشْرِكِينَ يَوْمَ القِيامَةِ، فَعَلى هَذا يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿قالَ الَّذِينَ﴾ إلى قَوْلِهِ (فَألْقَوْا)، جُمْلَةً اعْتِراضِيَّةً بَيْنَ الإخْبارِ بِأحْوالِ الكُفّارِ، ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ هو عَلى إضْمار القَوْلِ؛ أيْ: ونَعْتُهم بِحَمْلِ السُّوءِ، إمّا أنْ يَكُونَ صَرِيحَ كَذِبٍ كَما قالُوا: ﴿واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، فَقالَ تَعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ [الأنعام: ٢٤] . وإمّا أنْ يَكُونَ المَعْنى: عِنْدَ أنْفُسِنا؛ أيْ: لَوْ كانَ الكُفْرُ عِنْدَ أنْفُسِنا سَواءً ما عَلِمْناهُ. ويُرَجِّحُ الوَجْهَ الأوَّلَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِبَلى، إذْ لَوْ كانَ ذَلِكَ عَلى حَسْبِ اعْتِقادِهِمْ لَما كانَ الجَوابُ: بَلى، عَلى أنَّهُ يَصِحُّ عَلى الوَجْهِ الثّانِي أنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِبَلى، والمَعْنى: أنَّكم كَذَبْتُمْ في اعْتِقادِكم أنَّهُ لَيْسَ بِسُوءٍ، بَلْ كُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أنَّهُ سُوءٌ لِأنَّكم تَبَيَّنْتُمُ الحَقَّ وعَرَفْتُمُوهُ وكَفَرْتُمْ لِقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩] وقَوْلِهِ: ﴿وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهم ظُلْمًا وعُلُوًّا﴾ [النمل: ١٤] والظّاهِرُ أنَّ هَذا السِّياقَ كُلَّهُ هو مَعَ أهْلِ العِلْمِ والكُفّارِ، وأنَّ أهْلَ العِلْمِ هُمُ الَّذِينَ رَدُّوا عَلَيْهِمْ إخْبارَهم بِنَفْيِ عَمَلِ السُّوءِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الرَّدُّ مِنَ المَلائِكَةِ وهُمُ الآمِرُوهم بِالدُّخُولِ في النّارِ، يَسُوقُونَهم إلَيْها. وقِيلَ: الخَزَنَةُ، والظّاهِرُ: الأبْوابُ حَقِيقَةً. وقِيلَ: المُرادُ الدَّرَكاتُ. وقِيلَ: الأصْنافُ كَما يُقالُ: فُلانٌ يَنْظُرُ في بابٍ مِنَ العِلْمِ؛ أيْ: صِنْفٍ. وأبْعَدَ مَن قالَ: المُرادُ بِذَلِكَ: عَذابُ القَبْرِ، مُسْتَدِلًّا بِما جاءَ «القَبْرُ رَوْضَةٌ (p-٤٨٧)مِن رِياضِ الجَنَّةِ أوْ حُفْرَةٌ مِن حُفَرِ النّارِ» ولَمّا أكْذَبُوهم مِن دَعْواهم أُخْبِرُوا أنَّهُ هو العالِمُ بِأعْمالِهِمْ، فَهو المُجازِي عَلَيْها، ثُمَّ أمَرُوهم بِالدُّخُولِ، واللّامُ في (فَلَبِئْسَ) لامُ تَأْكِيدٍ، ولا تَدْخُلَ عَلى الماضِي المُنْصَرِفِ، ودَخَلَتْ عَلى الجامِدِ لِبُعْدِهِ عَنِ الأفْعالِ وقُرْبِهِ مِنَ الأسْماءِ. والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: فَلَبِئْسَ مَثْوى المُتَكَبِّرِينَ هي؛ أيْ: جَهَنَّمُ. ووَصْفُ التَّكَبُّرِ دَلِيلٌ عَلى اسْتِحْقاقِ صاحِبِهِ النّارَ، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى قَوْلِهِ. ﴿قُلُوبُهم مُنْكِرَةٌ وهم مُسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل: ٢٢] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب