الباحث القرآني

(p-٤٧٨)﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكم مِنهُ شَرابٌ ومِنهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ ﴿يُنْبِتُ لَكم بِهِ الزَّرْعَ والزَّيْتُونَ والنَّخِيلَ والأعْنابَ ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ والشَّمْسَ والقَمَرَ والنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأمْرِهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ﴿وما ذَرَأ لَكم في الأرْضِ مُخْتَلِفًا ألْوانُهُ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾: مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا امْتَنَّ بِإيجادِهِمْ بَعْدَ العَدَمِ وإيجادِ ما يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنَ الأنْعامِ وغَيْرِها مِنَ الرُّكُوبِ، ذَكَرَ ما امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِن إنْزالِ الماءِ الَّذِي هو قِوامُ حَياتِهِمْ وحَياةِ الحَيَوانِ، وما يَتَوَلَّدُ عَنْهُ مِن أقْواتِهِمْ وأقْواتِها مِنَ الزَّرْعِ، وما عُطِفَ عَلَيْهِ فَذَكَرَ مِنها الأغْلَبَ، ثُمَّ عَمَّمَ بِقَوْلِهِ: ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ، ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّيْلِ الَّذِي هو سَكَنٌ لَهم، والنَّهارِ الَّذِي هو مَعاشٌ، ثُمَّ بِالنَّيِّرَيْنِ اللَّذَيْنِ جَعَلَهُما اللَّهُ تَعالى مُؤَثِّرَيْنِ بِإرادَتِهِ في إصْلاحِ ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ، ثُمَّ بِما ذَرَأ في الأرْضِ. والظّاهِرُ أنَّ (لَكم)، في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِـ ”ماءً“، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، ويَرْتَفِعُ شَرابٌ بِهِ، أيْ: ماءً كائِنًا لَكم مِنهُ شَرابٌ. ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِأنْزَلَ، ويَجُوزَ أنْ يَكُونَ اسْتِئْنافًا، وشَرابٌ: مُبْتَدَأٌ. لَمّا ذَكَرَ إنْزالَ الماءِ أخَذَ في تَقْسِيمِهِ. والشَّرابُ هو المَشْرُوبُ، والتَّبْعِيضُ في (مِنهُ) ظاهِرٌ، وأمّا في (مِنهُ شَجَرٌ) فَمَجازٌ، لَمّا كانَ الشَّجَرُ إنْباتُهُ عَلى سَقْيِهِ بِالماءِ جَعَلَ الشَّجَرَ مِنَ الماءِ، كَما قالَ: أسْنِمَةُ الآبالِ في رَبابِهِ، أيْ في سَحابِ المَطَرِ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: هو عَلى حَذْفِ المُضافِ، إمّا قَبْلَ الضَّمِيرِ، أيْ: ومِن جِهَتِهِ، أوْ سَقْيُهُ شَجَرٌ، وإمّا قَبْلَ شَجَرٍ، أيْ: شُرِبَ شَجَرٌ كَقَوْلِهِ ﴿وأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ العِجْلَ﴾ [البقرة: ٩٣] أيْ: حُبَّهُ. والشَّجَرُ هُنا كُلُّ ما تُنْبِتُهُ الأرْضُ؛ قالَهُ الزَّجّاجُ. وقالَ: نُطْعِمُها اللَّحْمَ إذا عَزَّ الشَّجَرُ، فَسُمِّيَ الكَلَأُ شَجَرًا. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الشَّجَرُ هُنا الكَلَأُ، وفي حَدِيثِ «عِكْرِمَةَ: ”لا تَأْكُلُوا الشَّجَرَ فَإنَّهُ سُحْتٌ“» يَعْنِي الكَلَأ. ويُقالُ: أسامَ الماشِيَةَ وسَوَّمَها جَعَلَها تَرْعى، وسامَتْ بِنَفْسِها فَهي سائِمَةٌ، وسِوامٌ: رَعَتْ حَيْثُ شاءَتْ، قالَ الزَّجّاجُ: مِنَ السَّوْمَةِ، وهي العَلامَةُ، لِأنَّها تُؤَثِّرُ في الأرْضِ عَلاماتٌ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: تَسِيمُونَ، بِفَتْحِ التّاءِ، فَإنْ سُمِعَ مُتَعَدِّيًا كانَ هو، وأسامَ بِمَعْنًى واحِدٍ، وإنْ كانَ لازِمًا فَتَأْوِيلُهُ عَلى حَذْفِ مُضافِ تُسِيمُونَ أيْ: تُسِيمُ مَواشِيكم، لَمّا ذَكَرَ ومِنهُ شَجَرٌ. أخَذَ في ذِكْرِ غالِبِ ما يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الشَّجَرِ إنْ كانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ومِنهُ شَجَرُ العُمُومِ، وإنْ كانَ المُرادُ الكَلَأ فَهو اسْتِئْنافُ إخْبارِ مَنافِعِ الماءِ. ويُقالُ: نَبَتَ الشَّيْءُ وأنْبَتَهُ اللَّهُ فَهو مَنبُوتٌ، وهَذا قِياسُهُ مَنبَتٌ. وقِيلَ: يُقالُ أنْبَتَ الشَّجَرُ، لازِمًا. وأنْشَدَ الفَرّاءُ: ؎رَأيْتُ ذَوِي الحاجّاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ قَطِينًا بِها حَتّى إذا أنْبَتَ البَقْلُ . أيْ: نَبَتَ. وكانَ الأصْمَعِيُّ يَأْبى أنْبَتَ بِمَعْنى نَبَتَ. وقَرَأ أبُو بَكْرٍ: نُنْبِتُ، بِنُونِ العَظَمَةِ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ: نُنَبِّتُ، بِالتَّشْدِيدِ قِيلَ: لِلتَّكْثِيرِ والتَّكْرِيرِ، والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُ تَضْعِيفُ التَّعْدِيَةِ. وقَرَأ أُبَيٌّ: يَنْبُتُ مِن نَبَتَ، ورَفَعَ الزَّرْعَ وما عُطِفَ عَلَيْهِ. وخَصَّ الأرْبَعَةَ بِالذِّكْرِ لِأنَّها أشْرَفُ ما يَنْبُتُ، وأجْمَعُهُ لِلْمَنافِعِ. وبَدَأ بِالزَّرْعِ لِأنَّهُ قُوتُ أكْثَرِ العالَمِ، ثُمَّ بِالزَّيْتُونِ لِما فِيهِ مِن فائِدَةِ الِاسْتِصْباحِ بِدُهْنِهِ، وهي ضَرُورِيَّةٌ مَعَ مَنفَعَةِ أكْلِهِ والِائْتِدامِ بِهِ وبِدَهْنِهِ، والِاطِّلاءِ بِدُهْنِهِ، ثُمَّ بِالنَّخْلِ لِأنَّ ثَمَرَتَهُ مِن أطْيَبِ الفَواكِهِ، وقُوتٌ في بَعْضِ البِلادِ، ثُمَّ بِالأعْنابِ لِأنَّها فاكِهَةٌ مَحْضَةٌ، ثُمَّ قالَ: ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ، أتى بِلَفْظِ (مِن) الَّتِي لِلتَّبْعِيضِ، لِأنَّ كُلَّ الثَّمَراتِ لا تَكُونُ إلّا في الجَنَّةِ، وإنَّما أُنْبِتَ في الأرْضِ بَعْضٌ مِن كُلِّها لِلتَّذْكِرَةِ. ولَمّا ذَكَرَ الحَيَواناتِ المُنْتَفَعِ بِها عَلى التَّفْصِيلِ أعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: ويَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ، كَذَلِكَ هُنا ذَكَرَ الأنْواعَ المُنْتَفَعَ بِها مِنَ (p-٤٧٩)النَّباتِ، ثُمَّ قالَ: ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ تَفْصِيلَ القَوْلِ في أجْناسِها وأنْواعِها وصِفاتِها ومَنافِعها مِمّا لا يَكادُ يُحْصَرُ، كَما أنَّ تَفْصِيلَ ما خَلَقَ مِن باقِي الحَيَوانِ لا يَكادُ يُحْصَرُ. وخَتَمَ ذَلِكَ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، لِأنَّ النَّظَرَ في ذَلِكَ يَحْتاجُ إلى فَضْلِ تَأمُّلٍ واسْتِعْمالِ فِكْرٍ. ألا تَرى أنَّ الحَبَّةَ الواحِدَةَ إذا وُضِعَتْ في الأرْضِ ومَرَّ عَلَيْها مِقْدارٌ مِنَ الزَّمانِ مُعَيَّنٌ لَحِقَها مِن نَداوَةِ الأرْضِ ما تَنْتَفِخُ بِهِ، فَيَنْشَقُّ أعْلاها فَيَصْعَدُ مِنهُ شَجَرَةٌ إلى الهَواءِ، وأسْفَلُها يَغُوصُ مِنهُ في عُمْقِ الأرْضِ شَجَرَةٌ أُخْرى وهي العُرُوقُ، ثُمَّ يَنْمُو الأعْلى ويَقْوى، وتَخْرُجُ الأوْراقُ والأزْهارُ والأكْمامُ، والثِّمارُ المُشْتَمِلَةُ عَلى أجْسامٍ مُخْتَلِفَةِ الطَّبائِعِ والطُّعُومِ والألْوانِ والرَّوائِحِ والأشْكالِ والمَنافِعِ، وذَلِكَ بِتَقْدِيرِ قادِرٍ مُخْتارٍ وهو اللَّهُ تَعالى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”والشَّمْسَ“ وما بَعْدَهُ مَنصُوبًا، وانْتَصَبَ (مُسَخَّراتٍ) عَلى أنَّها حالٌ مُؤَكِّدَةٌ إنْ كانَ (مُسَخَّراتٍ) اسْمَ مَفْعُولٍ، وهو إعْرابُ الجُمْهُورِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنَّ كَوْنَ المَعْنى: أنَّهُ سَخَّرَها أنْواعًا مِنَ التَّسْخِيرِ جَمْعُ مُسَخَّرٍ، بِمَعْنى: تَسْخِيرٍ مِن قَوْلِكَ: سَخَّرَهُ اللَّهُ مُسَخَّرًا، كَقَوْلِكَ: سَرَّحَهُ مُسَرَّحًا، كَأنَّهُ قِيلَ: وسَخَّرَها لَكم تَسْخِيراتٍ بِأمْرِهِ؛ انْتَهى. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: و”الشَّمْسُ“ وما بَعْدَهُ، بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرِ، وحَفْصٌ: والنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ، بِرَفْعِهِما، وهاتانِ القِراءَتانِ يُبْعِدانِ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّ مُسَخَّراتٍ بِمَعْنى تَسْخِيراتٍ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، والأعْمَشُ، وابْنُ مُصَرِّفٍ: والرِّياحُ مُسَخَّراتٌ، في مَوْضِعِ، (والنُّجُومُ) وهي مُخالِفَةٌ لِسَوادِ المُصْحَفِ. والظّاهِرُ في قِراءَةِ نَصْبِ الجَمِيعِ أنَّ (والنُّجُومَ) مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ. وقالَ الأخْفَشُ: والنُّجُومَ، مَنصُوبٌ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وجَعَلَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ، فَأضْمَرَ الفِعْلَ. وعَلى هَذا الإعْرابِ لا تَكُونُ ”مُسَخَّراتٍ“ حالًا مُؤَكِّدَةً، بَلْ مَفْعُولًا ثانِيًا لِجَعَلَ إنْ كانَ (جَعَلَ) المُقَدَّرَةُ بِمَعْنى (صَيَّرَ)، وحالًا مُبَيِّنَةً، إنْ كانَ بِمَعْنى (خَلَقَ) . وتَقَدَّمَ شَرْحُ تَسْخِيرِ هَذِهِ النَّيِّراتِ في الأعْرافِ. وجَمَعَ الآياتِ هُنا، وذَكَرَ العَقْلَ، وأفْرَدَ فِيما قَبْلُ، وذَكَرَ التَّفَكُّرَ لِأنَّ فِيما قَبْلُ اسْتِدْلالًا بِإثْباتِ الماءِ وهو واحِدٌ، وإنْ كَثُرَتْ أنْواعُ النَّباتِ، والِاسْتِدْلالُ هُنا مُتَعَدِّدٌ، ولِأنَّ الآثارَ العُلْوِيَّةَ أظْهَرُ دَلالَةً عَلى القُدْرَةِ الباهِرَةِ، وأبْيَنُ شَهادَةً لِلْكِبْرِياءِ والعَظَمَةِ. ﴿وما ذَرَأ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى اللَّيْلِ والنَّهارِ؛ يَعْنِي: ما خَلَقَ فِيها مِن حَيَوانٍ وشَجَرٍ وثَمَرٍ وغَيْرِ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا ألْوانُهُ مِنَ البَياضِ والسَّوادِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وقِيلَ: مُخْتَلِفًا ألْوانُهُ: أصْنافُهُ، كَما تَقُولُ: هَذِهِ ألْوانٌ مِنَ الثَّمَرِ ومِنَ الطَّعامِ. وقِيلَ: المُرادُ بِهِ المَعادِنُ. إنَّ في ذَلِكَ، أيْ: فِيما ذَرَأ عَلى هَذِهِ الحالِ مِنِ اخْتِلافِ الألْوانِ، أوْ إنَّ في ذَلِكَ، أيْ: اخْتِلافِ الألْوانِ. وخَتَمَ هَذا بِقَوْلِهِ: يَذَّكَّرُونَ، ومَعْناهُ الِاعْتِبارُ والِاتِّعاظُ، كانَ عِلْمُهم بِذَلِكَ سابِقًا طَرَأ عَلَيْهِ النِّسْيانُ، فَقِيلَ: يَذَّكَّرُونَ، أيْ: يَتَذَكَّرُونَ ما نَسُوا مِن تَسْخِيرِ هَذِهِ المُكَوِّناتِ في الأرْضِ. ﴿وهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنهُ لَحْمًا طَرِيًّا وتَسْتَخْرِجُوا مِنهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وتَرى الفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ ﴿وألْقى في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكم وأنْهارًا وسُبُلًا لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ ﴿وعَلاماتٍ وبِالنَّجْمِ هم يَهْتَدُونَ﴾: لَمّا ذَكَرَ تَعالى الِاسْتِدْلالَ بِما ذَرَأ في الأرْضِ، ذَكَرَ ما امْتَنَّ بِهِ مِن تَسْخِيرِ البَحْرِ. ومَعْنى تَسْخِيرِهِ: كَوْنُهُ يَتْمَكَنُّ النّاسُ مِنَ الِانْتِفاعِ بِهِ لِلرُّكُوبِ في المَصالِحِ، ولِلْغَوْصِ في اسْتِخْراجِ ما فِيهِ، ولِلِاصْطِيادِ لِما فِيهِ. والبَحْرُ: جِنْسٌ يَشْمَلُ المِلْحَ والعَذْبَ، وبَدَأ أوَّلًا مِن مَنافِعِهِ بِما هو الأهَمُّ وهو الأكْلُ، ومِنهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: لِتَأْكُلُوا مِن حَيَوانِهِ طَرِيًّا، ثُمَّ ثَنّى بِما يُتَزَيَّنُ بِهِ وهو الحِلْيَةُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ والمَرْجانِ، ونَبَّهَ عَلى غايَةِ الحِلْيَةِ وهو اللُّبْسُ. وفِيهِ مَنافِعُ غَيْرُ اللُّبْسِ، فاللَّحْمُ الطَّرِيُّ مِنَ المِلْحِ والعَذْبِ، والحِلْيَةِ مِنَ المِلْحِ. وقِيلَ: إنَّ العَذْبَ يَخْرُجُ مِنهُ لُؤْلُؤٌ لا يُلْبَسُ إلّا قَلِيلًا وإنَّما يُتَداوى بِهِ، ويُقالُ: إنَّ في الزُّمُرُّدِ بَحْرِيًّا، فَأمّا (لِتَأْكُلُوا) فَعامٌّ في النِّساءِ والرِّجالِ، وأمّا (تَلْبَسُونَها) فَخاصٌّ بِالنِّساءِ. والمَعْنى: يَلْبَسُها نِساؤُكم. وأُسْنِدَ اللُّبْسُ إلى (p-٤٨٠)الذُّكُورِ، لِأنَّ النِّساءَ إنَّما يَتَزَيَّنَّ بِالحِلْيَةِ مِن أجْلِ رِجالِهِنَّ، فَكَأنَّها زِينَتُهم ولِباسُهم. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى نِعْمَةَ الأكْلِ مِنهُ والِاسْتِخْراجِ لِلْحِلْيَةِ، ذَكَرَ نِعْمَةَ تَصَرُّفِ الفُلْكِ فِيهِ؛ ماخِرَةً، أيْ: شاقَّةً فِيهِ، أوْ ذاتَ صَوْتٍ لِشَقِّ الماءِ لِحَمْلِ الأمْتِعَةِ والأقْواتِ لِلتِّجارَةِ وغَيْرِها، وأسْنَدَ الرُّؤْيَةَ إلى المُخاطَبِ المُفْرَدِ، فَقالَ: وتَرى، وجَعَلَها جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ التَّعْلِيلَيْنِ: تَعْلِيلِ الِاسْتِخْراجِ، وتَعْلِيلِ الِابْتِغاءِ، لِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ جَمْعِ المُخاطَبِ، والظّاهِرُ عَطْفُ، ولِتَبْتَغُوا: عَلى التَّعْلِيلِ قَبْلَهُ، كَما أشَرْنا إلَيْهِ. وأجازَ ابْنُ الأنْبارِيِّ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، أيْ: لِتَبْتَغُوا بِذَلِكَ. ولِتَبْتَغُوا، وأنْ يَكُونَ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ، أيْ: وفَعَلَ ذَلِكَ لِتَبْتَغُوا. والفَضْلُ هُنا حُصُولُ الأرْباحِ بِالتِّجارَةِ، والوُصُولُ إلى البِلادِ الشّاسِعَةِ، وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى جَوازِ رُكُوبِ البَحْرِ. ﴿ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾، عَلى ما مَنَحَكم مِن هَذِهِ النِّعَمِ. قِيلَ: «خَلَقَ اللَّهُ الأرْضَ فَجَعَلَتْ تَمُورُ، وقالَتِ المَلائِكَةُ: ما هي بِمَقَرِّ أحَدٍ عَلى ظَهْرِها، فَأصْبَحَتْ وقَدْ أُرْسِيَتْ بِالجِبالِ، لَمْ تَدْرِ المَلائِكَةُ مِمَّ خُلِقَتْ» . وعَطَفَ (وأنْهارًا) عَلى (رَواسِيَ) . ومَعْنى ألْقى: جَعَلَ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهادًا والجِبالَ أوْتادًا﴾ [النبإ: ٦] وقَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن فَوْقِها﴾ [فصلت: ١٠] . وقالَ ﴿وألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ [طه: ٣٩] أيْ: جَعَلْتُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قالَ المُتَأوِّلُونَ: ألْقى بِمَعْنى: خَلَقَ وجَعَلَ، وهي عِنْدِي أخَصُّ مِن خَلَقَ وجَعَلَ، وذَلِكَ أنَّ (ألْقى) يَقْتَضِي أنَّ اللَّهَ أوْجَدَ الجِبالَ لَيْسَ مِنَ الأرْضِ لَكِنْ مِن قُدْرَتِهِ واخْتِراعِهِ، ويُؤَيِّدُ هَذا النَّظَرَ ما رُوِيَ في القَصَصِ عَنِ الحَسَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبّادٍ: أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا خَلَقَ الأرْضَ جَعَلَتْ تَمُورُ. . . إلى آخِرِ الكَلامِ السّابِقِ، وهو أيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أيْضًا: وقَوْلُهُ: وأنْهارًا، مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: وجَعَلَ، أوْ خَلَقَ أنْهارًا، وإجْماعُهم عَلى إضْمارِ هَذا الفِعْلِ دَلِيلٌ عَلى خُصُوصِ ألْقى، ولَوْ كانَتْ (ألْقى) بِمَعْنى خَلَقَ لَمْ يُحْتَجْ إلى هَذا الإضْمارِ؛ انْتَهى. وأيُّ إجْماعٍ في هَذا، وقَدْ حُكِيَ عَنِ المُتَأوِّلِينَ أنَّ ألْقى بِمَعْنى خَلَقَ وجَعَلَ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأنْهارًا، وجَعَلَ فِيها أنْهارًا لِأنَّ (ألْقى) فِيهِ مَعْنى: جَعَلَ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: (ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهادًا والجِبالَ أوْتادًا) . وقالَ أبُو البَقاءِ: أيْ: وشَقَّ أنْهارًا وعَلاماتٍ، أيْ: وضَعَ عَلاماتٍ، ويَجُوزُ أنْ يُعْطَفَ عَلى ”رَواسِيَ“ . وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: ثَبَتَ في العُلُومِ العَقْلِيَّةِ أنَّ أكْثَرَ الأنْهارِ إنَّما تَتَفَجَّرُ مَنابِعُها في الجِبالِ، فَلِهَذا السَّبَبِ أتْبَعَ ذِكْرَها بِتَفْجِيرِ الأنْهارِ، وسُبُلًا: طُرُقًا إلى مَقاصِدِكم ﴿لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ بِالسُّبُلِ إلى مَقاصِدِكم، هَذا هو الظّاهِرُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما بَعْدَهُ. وقالَ تَعالى: ﴿وجَعَلَ لَكم فِيها سُبُلًا لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ١٠] . وقِيلَ: تَهْتَدُونَ، أيْ: بِالنَّظَرِ في دَلالَةِ هَذِهِ المَصْنُوعاتِ عَلى صانِعِها، فَهو مِنَ الهِدايَةِ إلى الحَقِّ، ودِينِ اللَّهِ. وعَلاماتٍ: هي مَعالِمُ الطُّرُقِ، وكُلُّ ما يَسْتَدِلُّ بِهِ السّابِلَةُ مِن جَبَلٍ وسَهْلٍ وغَيْرِ ذَلِكَ؛ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وهو مَعْنى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: ورَأيْتُ جَماعَةً يَتَعَرَّفُونَ الطُّرُقاتِ بِشَمِّ التُّرابِ. وقالَ ابْنُ عِيسى: العَلامَةُ: صُورَةٌ يُعْلَمُ بِها ما يُرادُ مِن خَطٍّ أوْ لَفْظٍ أوْ إشارَةٍ أوْ هَيْئَةٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وعَلاماتٍ، نُصِبَ كالمَصْدَرِ، أيْ: فَعَلَ هَذِهِ الأشْياءَ لَعَلَّكم تَعْتَبِرُونَ بِها، وعَلاماتٍ، أيْ: عِبْرَةً، وإعْلامًا في كُلِّ سُلُوكٍ، فَقَدْ يُهْتَدى بِالجِبالِ وبِالأنْهارِ وبِالسُّبُلِ؛ انْتَهى. وقالَ ابْنُ الكَلْبِيِّ: العَلاماتُ: الجِبالُ. وقالَ النَّخَعِيُّ ومُجاهِدٌ: النُّجُومُ. وأغْرَبُ ما فُسِّرَتْ بِهِ العَلاماتُ أنَّها: حَيَّتانِ طُوالٌ رِقاقٌ كالحَيّاتِ في ألْوانِها وحَرَكاتِها تُسَمّى بِالعَلاماتِ، وذَلِكَ في بَحْرِ الهِنْدِ الَّذِي يُسارُ إلَيْهِ مِنَ اليَمَنِ، فَإذا ظَهَرَتْ كانَتْ عَلامَةً لِلْوُصُولِ لِبِلادِ الهِنْدِ وأمارَةً لِلنَّجاةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: وبِالنَّجْمِ، عَلى أنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِراءَةُ ابْنِ وثّابٍ: وبِالنُّجُمِ، بِضَمِّ النُّونِ والجِيمِ، وقِراءَةُ الحَسَنِ: بِضَمِّ النُّونِ. وفي اللَّوامِحِ الحَسَنُ: النُّجُمُ بِضَمَّتَيْنِ، وابْنُ وثّابٍ: بِضَمَّةٍ واحِدَةٍ، وجاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ هِشامٍ الرِّفاعِيِّ، ولا شَكَّ في أنَّهُ يَذْكُرُهُ عَنْ أصْحابِ عاصِمٍ؛ انْتَهى. وذَلِكَ جَمْعٌ كَسُقُفٍ وسَقَفِ، ورُهُنٍ (p-٤٨١)ورَهَنٍ، وجَعْلُهُ مِمّا جُمِعَ عَلى فُعُلٍ أوْلى مِن حَمْلِهِ عَلى أنَّهُ أرادَ النُّجُومَ، فَحَذَفَ الواوَ. إلّا أنَّ ابْنَ عُصْفُورٍ ذَكَرَ أنَّ قَوْلَهم: النُّجُمُ مِن ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وأنْشَدَ: ؎إنَّ الَّذِي قَضى بِذا قاضٍ حَكَمْ ∗∗∗ أنْ يَرِدَ الماءَ إذا غابَ النُّجُمْ قالَ: يُرِيدُ النُّجُومَ. مِثْلَ قَوْلِهِ: ؎حَتّى إذا ابْتَلَّتْ حَلاقِيمُ الحَلْقِ يُرِيدُ: الحُلُوقَ. والتَّسْكِينُ: قِيلَ تَخْفِيفٌ، وقِيلَ: لُغَةٌ. وعَنِ السُّدِّيِّ: هو الثُّرَيّا، والفَرْقَدانِ، وبَناتُ نَعْشٍ، والجَدْيُ. وقالَ الفَرّاءُ: المُرادُ: الجَدْيُ والفَرْقَدانِ؛ انْتَهى. قِيلَ: والجَدْيُ هو السّابِعُ مِن بَناتِ نَعْشِ الصُّغْرى، والفَرْقَدانِ: الأوَّلانِ مِنها، ولَيْسَ بِالجَدْيِ الَّذِي هو المَنزِلَةُ، وبَعْضُهم يُصَغِّرُهُ فَيَقُولُ: جُدَيٌّ. وفي الحَدِيثِ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ سَألَ الرَّسُولَ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ: وبِالنَّجْمِ، فَقالَ: ”هو الجَدْيُ“» ولَوْ صَحَّ هَذا لَمْ يَعْدِلْ أحَدٌ عَنْهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: عَلَيْهِ قِبْلَتُكم، وبِهِ تَهْتَدُونَ في بَرِّكم وبَحْرِكم. وقِيلَ: هو القُطْبُ الَّذِي لا يَجْرِي. وقِيلَ: هو الثُّرَيّا. وقالَ الشّاعِرُ: ؎إذا طَلَبَ الجَوْزاءَ والنَّجْمُ طالِعٌ ∗∗∗ فَكُلُّ مَخاضاتِ الفُراتِ مَعابِرُ وقالَ آخَرُ: ؎حَتّى إذا ما اسْتَقَلَّ النَّجْمُ في غَلَسٍ ∗∗∗ وغُودِرَ البَقْلُ مُلَوًّى ومَحْصُودُ أيْ ومِنهُ مُلَوًّى، ومِنهُ مَحْصُودٌ، وذَلِكَ إنَّما يَكُونُ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيّا. وهم: ضَمِيرُ غَيْبَةٍ، خَرَجَ مِنَ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ، كانَ الضَّمِيرُ النَّعْتَ بِهِ إلى قُرَيْشٍ إذْ كانَ لَهُمُ اهْتِداءٌ بِالنُّجُومِ في مَسايِرِهِمْ، وكانَ لَهم بِذَلِكَ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ، فَكانَ الشُّكْرُ أوْجَبَ عَلَيْهِمْ والِاعْتِبارُ ألْزَمَ لَهم. وقَدَّمَ المَجْرُورَ عَلى ما يَتَعَلَّقُ بِهِ اعْتِناءً ولِأجْلِ الفاصِلَةِ. والزَّمَخْشَرِيُّ عَلى عادَتِهِ كَأنَّهُ قِيلَ: وبِالنَّجْمِ خُصُوصًا هم يَهْتَدُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب