الباحث القرآني

﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وتُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ ﴿وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللَّهِ فَأذاقَها اللَّهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ جاءَهم رَسُولٌ مِنهم فَكَذَّبُوهُ فَأخَذَهُمُ العَذابُ وهم ظالِمُونَ﴾ ﴿فَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا واشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (p-٥٤٢)يَوْمَ: مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِ، وناصِبُهُ رَحِيمٌ، أوْ عَلى المَفْعُولِ بِهِ، وناصِبُهُ: اذْكُرْ. والظّاهِرُ عُمُومُ كُلِّ نَفْسٍ، فَيُجادِلُ المُؤْمِنُ والكافِرُ، وجِدالُهُ بِالكَذِبِ والجَحَدِ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِمُ الرُّسُلُ والجَوارِحُ، فَحِينَئِذٍ لا يَنْطِقُونَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الجِدالُ: قَوْلُ كُلِّ أحَدٍ مِنَ الأنْبِياءِ وغَيْرِهِمْ: نَفْسِي نَفْسِي. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا لَيْسَ بِجِدالٍ ولا احْتِجاجٍ، إنَّما هو مُجَرَّدُ رَغْبَةٍ. واخْتارَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذا القَوْلَ، ورَكَّبَ مَعَهُ ما قَبْلَهُ فَقالَ: كَأنَّهُ قِيلَ يَوْمَ يَأْتِي كُلُّ إنْسانٍ يُجادِلُ عَنْ ذاتِهِ لا يُهِمُّهُ شَأْنُ غَيْرِهِ، كُلٌّ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي. ومَعْنى المُجادَلَةِ: الِاعْتِذارُ عَنْها كَقَوْلِهِمْ: ﴿هَؤُلاءِ أضَلُّونا﴾ [الأعراف: ٣٨] ﴿ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] ونَحْوِ ذَلِكَ. وقالَ: يُقالُ لَعِينِ الشَّيْءِ وذاتِهِ: نَفْسُهُ، وفي نَقِيضِهِ: غَيْرُهُ، والنَّفْسُ: الجُمْلَةُ كَما هي، فالنَّفْسُ الأُولى هي الجُمْلَةُ، والثّانِيَةُ عَيْنُها وذاتُها. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أيْ: كُلُّ ذِي نَفْسٍ، ثُمَّ أُجْرِيَ الفِعْلُ عَلى المُضافِ إلَيْهِ المَذْكُورِ، فَأثْبَتَ العَلامَةَ. ونَفْسٌ الأُولى هي: النَّفْسُ المَعْرُوفَةُ، والثّانِيَةُ هي: بِمَعْنى البَدَنِ كَما تَقُولُ: نَفْسُ الشَّيْءِ وعَيْنُهُ، أيْ: ذاتُهُ. وقالَ العَسْكَرِيُّ: الإنْسانُ يُسَمّى نَفْسًا، تَقُولُ العَرَبُ: ما جاءَنِي إلّا نَفْسٌ واحِدَةٌ، أيْ: إنْسانٌ واحِدٌ. والنَّفْسُ في الحَقِيقَةِ لا تَأْتِي، لِأنَّها هي الشَّيْءُ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ الإنْسانُ؛ انْتَهى. (فَإنْ قُلْتَ): لِمَ لَمْ يَتَعَدَّ الفِعْلُ إلى الضَّمِيرِ، لا إلى لَفْظِ النَّفْسِ ؟ (قُلْتُ): مَنَعَ مِن ذَلِكَ أنَّ الفِعْلَ إذا لَمْ يَكُنْ مِن بابِ ظَنَّ، وفَقَدَ لا يَتَعَدّى فِعْلُ ظاهِرِ فاعِلِهِ، ولا مُضْمَرِهِ إلى مُضْمَرِهِ المُتَّصِلِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِئِ التَّرْكِيبُ تُجادِلُ عَنْها، ولِذَلِكَ لا يَجُوزُ: ضَرَبَتْها هِنْدٌ ولا هِنْدٌ ضَرَبَتْها، وإنَّما تَقُولُ: ضَرَبَتْ نَفْسَها هِنْدٌ، وضَرَبَتْ هِنْدٌ نَفْسَها، ما عَمِلَتْ، أيْ: جَزاءَ ما عَمِلَتْ مِن إحْسانٍ أوْ إساءَةٍ، وأنَّثَ الفِعْلَ في تَأْتِي، والضَّمِيرَ في تُجادِلُ، وفي عَنْ نَفْسِهِ، وفي تُوُفّى، وفي عَمِلَتْ، حَمْلًا عَلى مَعْنى ”كُلُّ“، ولَوْ رُوعِيَ اللَّفْظُ لَذُكِّرَ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎جادَتْ عَلَيْها كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كالدِّرْهَمِ فَأنَّثَ عَلى المَعْنى. وما ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ الجِدالَ هُنا هو جِدالُ الجَسَدِ لِلرُّوحِ، والرُّوحِ لِلْجَسَدِ لا يَظْهَرُ قالَ: يَقُولُ الجَسَدُ: رَبِّ جاءَ الرُّوحُ بِأمْرِكَ بِهِ نَطَقَ لِسانِي وأبْصَرَتْ عَيْنِي ومَشَتْ رِجْلِي، فَتَقُولُ الرُّوحُ: أنْتَ كَسَبْتَ وعَصَيْتَ لا أنا، وأنْتَ كُنْتَ الحامِلَ وأنا المَحْمُولُ، فَيَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: أضْرِبُ لَكُما مَثَلَ أعْمى حَمَلَ مُقْعَدًا إلى بُسْتانٍ فَأصابا مِن ثِمارِهِ، فالعَذابُ عَلَيْكُما. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وابْنِ زَيْدٍ، وقَتادَةَ: أنَّ القَرْيَةَ المَضْرُوبَ بِها المَثَلُ مَكَّةُ، كانَتْ لا تُغْزى ولا يُغارُ عَلَيْها، والأرْزاقُ تُجْلَبُ إلَيْها، وأنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْها بِالرَّسُولِ ﷺ فَكَفَرَتْ، فَأصابَها السُّنُونَ والخَوْفُ. وسَرايا الرَّسُولِ وغَزَواتُهُ ضُرِبَتْ مَثَلًا لِغَيْرِها مِمّا يَأْتِي بَعْدَها. وهَذا إنْ كانَتِ الآيَةُ مَدَنِيَّةً، وإنْ كانَتْ مَكِّيَّةً: فَجُوعُ السِّنِينَ وخَوْفُ العَذابِ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ. ويُؤَيِّدُ كَوْنَها مَكِّيَّةً قَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ جاءَهم رَسُولٌ مِنهم فَكَذَّبُوهُ﴾، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (قَرْيَةً) مِن قُرى الأوَّلِينَ. وعَنْ حَفْصَةَ: أنَّها المَدِينَةُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَتَوَجَّهُ عِنْدِي أنَّها قُصِدَ بِها قَرْيَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، جُعِلَتْ مَثَلًا لِمَكَّةَ عَلى مَعْنى التَّحْذِيرِ لِأهْلِها ولِغَيْرِها مِنَ القُرى إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أنْ يُرادَ قَرْيَةً مُقَدَّرَةً عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ، وأنْ يَكُونَ في قُرى الأوَّلِينَ قَرْيَةٌ كانَتْ هَذِهِ حالَها، فَضَرَبَها اللَّهُ مَثَلًا لِمَكَّةَ إنْذارًا مِن مِثْلِ عاقِبَتِها؛ انْتَهى. ولا يَجُوزُ أنْ يُرادَ قَرْيَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ، بَلْ لا بُدَّ مِن وُجُودِها لِقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ جاءَهم رَسُولٌ مِنهم فَكَذَّبُوهُ فَأخَذَهُمُ العَذابُ وهم ظالِمُونَ﴾ . كانَتْ آمِنَةً: ابْتَدَأ بِصِفَةِ الأمْنِ، لِأنَّهُ لا يُقِيمُ لِخائِفٍ. والِاطْمِئْنانُ زِيادَةٌ في الأمْنِ، فَلا يُزْعِجُها خَوْفٌ. يَأْتِيها رِزْقُها: أقْواتُها واسِعَةٌ مِن جَمِيعِ جِهاتِها، لا يَتَعَذَّرُ مِنها جِهَةٌ. وأنْعُمٌ: جَمْعُ نَعْمَةٍ، كَشَدَّةٍ وأشُدٍّ. وقالَ قُطْرُبٌ: جَمْعُ نِعَمٍ بِمَعْنى النَّعِيمِ، يُقالُ: هَذِهِ أيّامُ طُعْمٍ ونَعْمٍ؛ انْتَهى. فَيَكُونُ كَبُؤْسٍ (p-٥٤٣)وأبْؤُسٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمَعَ نِعْمَةً عَلى تَرْكِ التّاءِ، والِاعْتِدادِ بِالتّاءِ، كَدِرْعٍ وأدْرُعٍ. وقالَ العُقَلاءُ: ثَلاثَةٌ لَيْسَ لَها نِهايَةٌ: الأمْنُ، والصِّحَّةُ، والكِفايَةُ. قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: آمِنَةً: إشارَةٌ إلى الأمْنِ، مُطَمْئِنَّةً: إشارَةٌ إلى الصِّحَّةِ، لِأنَّ هَواءَ ذَلِكَ لَمّا كانَ مُلازِمًا لِأمْزِجَتِهِمُ اطْمَأنُّوا إلَيْها واسْتَقَرُّوا، يَأْتِيها رِزْقُها: السَّبَبُ في ذَلِكَ دَعْوَةُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وارْزُقْهم مِنَ الثَّمَراتِ﴾ [إبراهيم: ٣٧] وقالَ: الأنْعُمُ: جَمْعُ نِعْمَةٍ وجَمْعُ قِلَّةٍ، ولَمْ يَأْتِ بِنِعَمِ اللَّهِ، وذَلِكَ أنَّهُ قَصَدَ التَّنْبِيهَ بِالأدْنى عَلى الأعْلى بِمَعْنى أنَّ كُفْرانَ النِّعَمِ القَلِيلَةِ أوْجَبَ العَذابَ، فَكُفْرانُ الكَثِيرَةِ أوْلى بِإيجابِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمّا باشَرَهم ذَلِكَ صارَ كاللِّباسِ، وهَذا كَقَوْلِ الأعْشى: ؎إذا ما الضَّجِيعُ ثَنى جِيدَها ∗∗∗ تَثَنَّتْ فَكانَتْ عَلَيْهِ لِباسًا ونَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُنَّ لِباسٌ لَكم وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة: ١٨٧] ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وقَدْ لَبِسَتْ بَعْدَ الزُّبَيْرِ مُجاشِعُ ∗∗∗ ثِيابَ الَّتِي حاضَتْ ولَمْ تَغْسِلِ الدَّما كَأنَّ العارَ لَمّا باشَرَهم ولَصِقَ بِهِمْ جَعَلَهم لَبِسُوهُ. وقَوْلُهُ: ﴿فَأذاقَها اللَّهُ﴾، نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿ذُقْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩] ونَظِيرُ قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎دُونَكَ ما جَنَيْتَهُ فاحْسُ وذُقْ وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الإذاقَةُ واللِّباسُ اسْتِعارَتانِ، فَما وجْهُ صِحَّتِهِما ؟ والإذاقَةُ المُسْتَعارَةُ مُوقَعَةٌ عَلى اللِّباسِ؛ فَما وجْهُ صِحَّةِ إيقاعِها ؟ (قُلْتُ): أمّا الإذاقَةُ فَقَدْ جَرَتْ عِنْدَهم مَجْرى الحَقِيقَةِ لِشُيُوعِها في البَلايا والشَّدائِدِ وما يَمَسُّ النّاسَ مِنها فَيَقُولُونَ: ذاقَ فُلانٌ البُؤْسَ والضُّرَّ، وإذاقَةُ العَذابِ: شَبَّهَ ما يُدْرَكُ مِن أثَرِ الضَّرَرِ والألَمِ بِما يُدْرَكُ مِن طَعْمِ المُرِّ والبَشِعِ. وأمّا اللِّباسُ فَقَدْ شُبِّهَ بِهِ لِاشْتِمالِهِ عَلى اللّابِسِ ما غَشِيَ الإنْسانَ والتَبَسَ بِهِ مِن بَعْضِ الحَوادِثِ. وأمّا إيقاعُ الإذاقَةِ عَلى لِباسِ الجُوعِ والخَوْفِ فَلِأنَّهُ لَمّا وقَعَ عِبارَةُ: عَمّا يُغْشى مِنهُما ويُلابَسُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَأذاقَهم ما غَشِيَهم مِنَ الجُوعِ والخَوْفِ، ولَهم في نَحْوِ هَذا طَرِيقانِ: أحَدُهُما: أنْ يَنْظُرُوا فِيهِ إلى المُسْتَعارِ لَهُ، كَما نُظِرَ إلَيْهِ هَهُنا، ونَحْوُهُ قَوْلُ كُثَيِّرٍ: ؎غَمْرُ الرِّداءِ إذا تَبَسَّمَ ضاحِكًا ∗∗∗ غُلِقَتْ لِضُحْكَتِهِ رِقابُ المالِ اسْتَعارَ الرِّداءَ لِلْمَعْرُوفِ، لِأنَّهُ يَصُونُ عِرْضَ صاحِبِهِ، صَوْنَ الرِّداءِ لِما يُلْقى عَلَيْهِ. ووَصَفَهُ بِالغَمْرِ الَّذِي هو وصْفُ المَعْرُوفِ والنَّوالِ، لا صِفَةُ الرِّداءِ، نَظَرًا إلى المُسْتَعارِ لَهُ. والثّانِي: أنْ يَنْظُرُوا فِيهِ إلى المُسْتَعارِ كَقَوْلِهِ: ؎يُنازِعُنِي رِدائِي عَبْدُ عَمْرٍو ∗∗∗ رُوَيْدَكَ يا أخا عَمْرِو بْنِ بَكْرِ ؎لِيَ الشَّطْرُ الَّذِي مَلَكَتْ يَمِينِي ∗∗∗ ودُونَكَ فاعْتَجِرْ مِنهُ بِشَطْرِ أرادَ بِرِدائِهِ سَيْفَهُ، ثُمَّ قالَ: فاعْتَجِرْ مِنهُ بِشَطْرٍ، فَنُظِرَ إلى المُسْتَعارِ في لَفْظِ: الِاعْتِجارِ، ولَوْ نُظِرَ إلَيْهِ فِيما نَحْنُ فِيهِ لَقِيلَ: فَكَساهم لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ، ولَقالَ كُثَيِّرٌ: ضافِي الرِّداءِ إذا تَبَسَّمَ ضاحِكًا؛ انْتَهى. وهو كَلامٌ حَسَنٌ. ولَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الأمْنِ وإتْيانِ الرِّزْقِ، قابَلَهُما بِالجُوعِ النّاشِئِ عَنِ انْقِطاعِ الرِّزْقِ وبِالخَوْفِ. وقَدَّمَ الجُوعَ لَيَلِيَ المُتَأخِّرَ وهو إتْيانُ الرِّزْقِ كَقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأمّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ [آل عمران: ١٠٦] وأمّا قَوْلُهُ: ﴿فَمِنهم شَقِيٌّ وسَعِيدٌ﴾ [هود: ١٠٥] فَأمّا الَّذِينَ شَقُوا فَفي النّارِ فَقَدَّمَ ما بُدِئَ بِهِ وهُما طَرِيقانِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: والخَوْفِ، بِالجَرِّ، عَطْفًا عَلى الجُوعِ. ورَوى العَبّاسُ عَنْ أبِي عَمْرٍو: والخَوْفَ، بِالنَّصْبِ، عَطْفًا عَلى لِباسٍ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَصَبَهُ بِإضْمارِ فِعْلٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ المُضافِ، وإقامَةِ المُضافِ إلَيْهِ مَقامَهُ، أصْلُهُ: ولِباسَ الخَوْفِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: فَأذاقَها اللَّهُ الخَوْفَ والجُوعَ، ولا يُذْكَرُ ”لِباسَ“ . والَّذِي أقُولُهُ: إنَّ هَذا تَفْسِيرُ المَعْنى لا قِراءَةٌ، لِأنَّ المَنقُولَ عَنْهُ مُسْتَفِيضًا مِثْلُ ما في سَوادِ المُصْحَفِ. وفي مُصْحَفِ (p-٥٤٤)أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: لِباسَ الخَوْفِ والجُوعِ، بَدَأ بِمُقابِلِ ما بَدَأ بِهِ في قَوْلِهِ: كانَتْ آمِنَةً، وهَذا عِنْدِي إنَّما كانَ في مُصْحَفِهِ قَبْلَ أنْ يَجْمَعُوا ما في سَوادِ المُصْحَفِ المَوْجُودِ الآنَ شَرْقًا وغَرْبًا، ولِذَلِكَ المُسْتَفِيضِ عَنْ أُبَيٍّ في القِراءَةِ إنَّما هو كَقِراءَةِ الجَماعَةِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ مِن كُفْرانِ نِعَمِ اللَّهِ، ومِنها تَكْذِيبُ الرَّسُولِ ﷺ الَّذِي جاءَهم. والضَّمِيرُ في (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) عائِدٌ عَلى المَحْذُوفِ في قَوْلِهِ: ﴿وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً﴾، أيْ: قِصَّةَ أهْلِ قَرْيَةٍ، أعادَ الضَّمِيرَ أوَّلًا عَلى لَفْظِ قَرْيَةٍ، ثُمَّ عَلى المُضافِ المَحْذُوفِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا أوْ هم قائِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] . والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (ولَقَدْ جاءَهم)، عائِدٌ عَلى ما عادَ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في (جاءَهم) لِأهْلِ تِلْكَ المَدِينَةِ، يَكُونُ هَذا بِما جَرى فِيها كَمَدِينَةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وغَيْرِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِأهْلِ مَكَّةَ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: لَمّا ذَكَرَ المَثَلَ قالَ: ولَقَدْ جاءَهم - يَعْنِي أهْلَ مَكَّةَ - رَسُولٌ مِنهم - يَعْنِي مِن أنْفُسِهِمْ - يَعْرِفُونَهُ بِأصْلِهِ ونَسَبِهِ، ولَمّا وعَظَ تَعالى بِضَرْبِ ذَلِكَ المَثَلِ وصَلَ هَذا الأمْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالفاءِ، فَأمَرَ المُؤْمِنِينَ بِأكْلِ ما رَزَقَهم وشُكْرِ نِعْمَتِهِ لِيُبايِنُوا تِلْكَ القَرْيَةَ الَّتِي كَفَرَتْ بِنِعَمِ اللَّهِ. ولَمّا تَقَدَّمَ ﴿فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللَّهِ﴾ جاءَ هُنا: ﴿واشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ . وفي البَقَرَةِ جاءَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ٢٥٤] لَمْ يَذْكُرْ مَن كَفَرَ نِعْمَتَهُ فَقالَ: ﴿واشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٢] ولَمّا أمَرَهم بِالأكْلِ مِمّا رَزَقَهم، عَدَّدَ عَلَيْهِمْ مُحَرَّماتِهِ تَعالى ونَهاهم عَنْ تَحْرِيمِهِمْ وتَحْلِيلِهِمْ بِأهْوائِهِمْ دُونَ اتِّباعِ ما شَرَعَ اللَّهُ عَلى لِسانِ أنْبِيائِهِ. وكَذا جاءَ في البَقَرَةِ ذِكْرُ ما حَرَّمَ إثْرَ قَوْلِهِ: كُلُوا مِمّا رَزَقْناكم. وقَوْلِهِ: (إنَّما حَرَّمَ) الآيَةَ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِها في البَقَرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب