﴿إنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿إنَّما يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وأُولَئِكَ هُمُ الكاذِبُونَ﴾ ﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمانِهِ إلّا مَن أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ ولَكِنْ مَن شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَياةَ الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وسَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ الغافِلُونَ﴾ ﴿لا جَرَمَ أنَّهم في الآخِرَةِ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ ﴿ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِن بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: لَمّا ذَكَرَ تَعالى نِسْبَتَهم إلى (p-٥٣٨)الِافْتِراءِ إلى الرَّسُولِ ﷺ وأنَّ ما أتى بِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ إنَّما يُعَلِّمُهُ إيّاهُ بَشَرٌ، كانَ ذَلِكَ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِانْتِفاءِ الإيمانِ، فَأخْبَرَ تَعالى عَنْهم أنَّهم لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أبَدًا إذْ كانُوا جاحِدِينَ آياتِ اللَّهِ، وهو ما أتى بِهِ الرَّسُولُ مِنَ المُعْجِزاتِ وخُصُوصًا القُرْآنُ، فَمَن بالَغَ في جَحْدِ آياتِ اللَّهِ سَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بابَ الهِدايَةِ. وذَكَرَ تَعالى وعِيدَهُ بِالعَذابِ الألِيمِ لَهم، ومَعْنى لا يَهْدِيهِمْ: لا يَخْلُقُ الإيمانَ في قُلُوبِهِمْ. وهَذا عامٌّ مَخْصُوصٌ، فَقَدِ اهْتَدى قَوْمٌ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ تَعالى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لا يَلْطُفُ بِهِمْ، لِأنَّهم مِن أهْلِ الخِذْلان في الدُّنْيا والعَذابِ في الآخِرَةِ، لا مِن أهْلِ اللُّطْفِ والثَّوابِ؛ انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: المَفْهُومُ مِنَ الوُجُودِ أنَّ الَّذِينَ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِهِ، ولَكِنَّهُ قَدَّمَ في هَذا التَّرْتِيبِ وأخْبَرَهُما بِتَقْبِيحِ فِعْلِهِمْ والتَّشْنِيعِ بِخَطَئِهِمْ، وذَلِكَ كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥] والمُرادُ ما ذَكَرْناهُ، فَكَأنَّهُ قالَ: إنَّ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يَهْدِهِمُ اللَّهُ؛ انْتَهى. وقالَ القاضِي: أقْوى ما قِيلَ في ذَلِكَ لا يَهْدِيهِمْ إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ، ولِذَلِكَ قالَ بَعْدَهُ: ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ، والمُرادُ أنَّهم لَمّا تَرَكُوا الإيمانَ بِاللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إلى الجَنَّةِ بَلْ يَسُوقُهم إلى النّارِ. وقالَ العَسْكَرِيُّ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى أنَّهم إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذِهِ الآياتِ لَمْ يَهْتَدُوا، والمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾، أيْ: لا يَهْتَدُونَ، وإنَّما يُقالُ: هَدى اللَّهُ فُلانًا عَلى الإطْلاقِ إذا اهْتَدى هو، وأمّا مَن لَمْ يَقْبَلِ الهُدى فَإنَّهُ يُقالُ: إنَّ اللَّهَ هَداهُ فَلَمْ يَهْتَدِ، كَما قالَ: ﴿وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهم فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فصلت: ١٧] ثُمَّ رَدَّ تَعالى قَوْلَهم: ﴿إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ﴾ [النحل: ١٠١] بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما يَفْتَرِي الكَذِبَ﴾، أيْ: إنَّما يَلِيقُ افْتِراءُ الكَذِبِ بِمَن لا يُؤْمِنُ، لِأنَّهُ يَتَرَقَّبُ عِقابًا عَلَيْهِ. ولَمّا كانَ في كَلامِهِمْ إنَّما وهو يَقْتَضِي الحَصْرَ عند بَعْضِهِمْ، جاءَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِإنَّما أيْضًا، وجاءَ بِلَفْظِ ﴿يَفْتَرِي﴾ الَّذِي يَقْتَضِي التَّجَدُّدَ، ثُمَّ عَلَّقَ الحُكْمَ عَلى الوَصْفِ المُقْتَضِي لِلِافْتِراءِ وهو: انْتِفاءُ الإيمانِ، وخَتَمَ بِقَوْلِهِ: وأُولَئِكَ هُمُ الكاذِبُونَ. فاقْتَضى التَّوْكِيدَ البالِغَ والحَصْرَ بِلَفْظِ الإشارَةِ، والتَّأْكِيدَ بِلَفْظِ (هُمُ)، وإدْخالِ (الـ) عَلى (الكاذِبُونَ)، وبِكَوْنِهِ اسْمَ فاعِلٍ يَقْتَضِي الثُّبُوتَ والدَّوامَ، فَجاءَ ﴿يَفْتَرِي﴾ يَقْتَضِي التَّجَدُّدَ، وجاءَ (الكاذِبُونَ) يَقْتَضِي الثُّبُوتَ والدَّوامَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وأُولَئِكَ: إشارَةٌ إلى قُرَيْشٍ هُمُ الكاذِبُونَ، هُمُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فَهُمُ الكاذِبُونَ. أوْ إلى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، أيْ: وأُولَئِكَ هُمُ الكاذِبُونَ عَلى الحَقِيقَةِ، الكامِلُونَ في الكَذِبِ، لِأنَّ تَكْذِيبَ آياتِ اللَّهِ أعْظَمُ الكَذِبِ. أوْ أُولَئِكَ هُمُ الكاذِبُونَ: عادَتْهُمُ الكَذِبُ لا يُبالُونَ بِهِ في كُلِّ شَيْءٍ، لا يَحْجُبُهم عَنْهُ مُرُوءَةٌ ولا دِينٌ. أوْ أُولَئِكَ هُمُ الكاذِبُونَ في قَوْلِهِمْ: ﴿إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ﴾ [النحل: ١٠١]؛ انْتَهى. والوَجْهُ الَّذِي بَدَأ بِهِ بَعِيدٌ، وهو: أنَّ (وأُولَئِكَ) إشارَةٌ إلى قُرَيْشٍ. والظّاهِرُ أنَّ (مَن) شَرْطِيَّةٌ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، وهو اسْتِئْنافُ إخْبارٍ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِما قَبْلَهُ مِن جِهَةِ الإعْرابِ. ولَمّا كانَ الكُفْرُ يَكُونُ بِاللَّفْظِ وبِالِاعْتِقادِ، اسْتَثْنى مِنَ الكافِرِينَ مَن كَفَرَ بِاللَّفْظِ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ، ورَخَّصَ لَهُ في النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الكُفْرِ إذْ كانَ قَلْبُهُ مُؤْمِنًا، وذَلِكَ مَعَ الإكْراهِ. والمَعْنى: إلّا مَن أُكْرِهَ عَلى الكُفْرِ، تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الكُفْرِ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ. وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ تَقْدِيرُهُ: الكافِرُونَ بَعْدَ الإيمانِ غَيْرُ المُكْرَهِينَ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ. ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ الِاسْتِثْناءُ مِن ما تَضَمَّنَهُ جَوابُ الشَّرْطِ المَحْذُوفِ، أيْ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، إلّا مَن أُكْرِهَ فَلا غَضَبَ عَلَيْهِ ولا عَذابَ، ولَكِنْ مَن شَرَحَ وكَذا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أعْنِي الجَوابَ (p-٥٣٩)قَبْلَ الِاسْتِثْناءِ في قَوْلِ مَن جَعَلَ (مَن) شَرْطًا. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقالَتْ فِرْقَةٌ (مَن) في قَوْلِهِ (مَن كَفَرَ) ابْتِداءٌ، وقَوْلُهُ: ﴿مَن شَرَحَ﴾، تَخْصِيصٌ مِنهُ، ودَخَلَ الِاسْتِثْناءُ لِإخْراجِ عَمّارٍ وشَبَهِهِ. ودَنا مِنَ الِاسْتِثْناءِ الأوَّلِ الِاسْتِدْراكُ بَلَكِنْ وقَوْلُهُ: ﴿فَعَلَيْهِمْ﴾، خَبَرٌ عَنْ مَنِ الأوْلى والثّانِيَةِ، إذْ هو واحِدٌ بِالمَعْنى لِأنَّ الإخْبارَ في قَوْلِهِ: مَن كَفَرَ، إنَّما قُصِدَ بِهِ الصِّنْفُ الشّارِحُ بِالكُفْرِ؛ انْتَهى. وهَذا وإنْ كانَ كَما ذَكَرَ فَهاتانِ جُمْلَتانِ شَرْطِيَّتانِ، وقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُما بِأداةِ الِاسْتِدْراكِ، فَلا بُدَّ لِكُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما مِن جَوابٍ عَلى انْفِرادِهِ لا يَشْتَرِكانِ فِيهِ، فَتَقْدِيرُ الحَذْفِ أحْرى عَلى صِناعَةِ الإعْرابِ. وقَدْ ضَعَّفُوا مَذْهَبَ أبِي الحَسَنِ في ادِّعائِهِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَسَلامٌ لَكَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ﴾ [الواقعة: ٩١] وقَوْلَهُ: ﴿فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ﴾ [الواقعة: ٨٩] جَوابٌ لِأمّا، ولِأنَّ هَذا وهُما أداتا شَرْطٍ، إحْداهُما تَلِي الأُخْرى، وعَلى كَوْنِ (مَن) في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، يَجُوزُ أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً كَما ذَكَرْنا، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وما بَعْدَها صِلَتُها، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ، كَما ذَكَرْنا في حَذْفِ جَوابِ الشَّرْطِ. إلّا أنَّ (مَنِ) الثّانِيَةَ لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ شَرْطًا حَتّى يُقَدَّرَ قَبْلَها مُبْتَدَأٌ، لِأنَّ (مَن) ولِيَتْ (لَكِنْ) فَيَتَعَيَّنُ إذْ ذاكَ أنْ تَكُونَ (مَن) مَوْصُولَةً، فَإنْ قُدِّرَ مُبْتَدَأٌ بَعْد (لَكِنْ) جازَ أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً في مَوْضِعِ خَبَرِ ذَلِكَ المُبْتَدَأِ المُقَدَّرِ كَقَوْلِهِ:
؎ولَكِنْ مَتى يَسْتَرْفِدُ القَوْمُ أرْفِدِ
أيْ: ولَكِنْ أنا مَتى يَسْتَرْفِدُ القَوْمُ أرْفِدُ. وكَذَلِكَ تُقَدَّرُ هُنا، ولَكِنْ هم مَن شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا، أيْ: مِنهم. وأجازَ الحَوْفِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ: أنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، ومِنَ الكاذِبُونَ. ولَمْ يُجِزِ الزَّجّاجُ إلّا أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ (الكاذِبُونَ)، لِأنَّهُ رَأى الكَلامَ إلى آخِرِ الِاسْتِثْناءِ غَيْرَ تامٍّ، فَعَلَّقَهُ بِما قَبْلَهُ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن (أُولَئِكَ)، فَإذا كانَ بَدَلًا مِنَ (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الكاذِبُونَ﴾ جُمْلَةَ اعْتِراضٍ بَيْنَ البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ، والمَعْنى: إنَّما يَفْتَرِي الكَذِبَ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمانِهِ، واسْتَثْنى مِنهُمُ المُكْرَهَ فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حُكْمِ الِافْتِراءِ. وإذا (p-٥٤٠)كانَ بَدَلًا مِنَ (الكاذِبُونَ) فالتَّقْدِيرُ: وأُولَئِكَ هم مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمانِهِ، وإذا كانَ بَدَلًا مِن (أُولَئِكَ) فالتَّقْدِيرُ: ومَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمانِهِ هُمُ الكاذِبُونَ.
وهَذِهِ الأوْجُهُ الثَّلاثَةُ عِنْدِي ضَعِيفَةٌ. لِأنَّ الأوَّلَ يَقْتَضِي أنَّهُ لا يَفْتَرِي الكَذِبَ إلّا مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمانِهِ، والوُجُودُ يَقْتَضِي أنَّ مَن يَفْتَرِي الكَذِبَ هو الَّذِي لا يُؤْمِنُ، وسَواءٌ كانَ مِمَّنْ كَفَرَ بَعْدَ الإيمانِ أنَّهُ كانَ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِن قَطُّ، بَلْ مَن لَمْ يُؤْمِن قَطُّ هُمُ الأكْثَرُونَ المُفْتَرُونَ الكَذِبَ. وأمّا الثّانِي فَيَئُولُ المَعْنى إلى ذَلِكَ، إذِ التَّقْدِيرُ: وأُولَئِكَ، أيِ: الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ هم مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمانِهِ، والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ هُمُ المُفْتَرُونَ. وأمّا الثّالِثُ فَكَذَلِكَ. إذِ التَّقْدِيرُ: أنَّ المُشارَ إلَيْهِمْ هم مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمانِهِ، مُخْبِرٌ عَنْهم بِأنَّهُمُ الكاذِبُونَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ عَلى الذَّمِّ؛ انْتَهى. وهَذا أيْضًا بَعِيدٌ، والَّذِي تَقْتَضِيهِ فَصاحَةُ الكَلامِ جَعْلُ الجُمَلِ كُلِّها مُسْتَقِلَّةً لا تَرْتَبِطُ بِما قَبْلَها مِن حَيْثُ الإعْرابِ، بَلْ مِن حَيْثُ المَعْنى والمُناسَبَةُ؛ وفي قَوْلِهِ: إلّا مَن أُكْرِهَ، دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَن فَعَلَ المُكْرَهَ لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وإذا كانَ قَدْ سُومِحَ لِكَلِمَةِ الكُفْرِ أوْ فِعْلِ ما يُؤَدِّي إلَيْهِ، فالمُسامَحَةُ بِغَيْرِهِ مِنَ المَعاصِي أوْلى. وقَدْ تَكَلَّمُوا في كَيْفِيَّةِ الإكْراهِ المُبِيحِ لِذَلِكَ، وفي تَفْصِيلِ الأشْياءِ الَّتِي يَقَعُ الإكْراهُ فِيها، وذَلِكَ كُلُّهُ مَذْكُورٌ في كُتُبِ الفِقْهِ. والمُكْرَهُونَ عَلى الكُفْرِ المُعَذَّبُونَ عَلى الإسْلامِ: خَبّابٌ، وصُهَيْبٌ، وبِلالٌ، وعَمّارٌ، وأبَواهُ ياسِرٌ وسُمَيَّةُ، وسالِمٌ، وحَبْرٌ، عُذِّبُوا فَأجابَهم عَمّارٌ وحَبْرٌ بِاللَّفْظِ فَخُلِّيَ سَبِيلُهُما، وتَمادى الباقُونَ عَلى الإسْلامِ فَقُتِلَ ياسِرٌ وسُمَيَّةُ، وهُما أوَّلُ قَتِيلٍ في الإسْلامِ، وعُذِّبَ بِلالٌ وهو يَقُولُ: (أحَدٌ أحَدٌ) وعُذِّبَ خَبّابٌ بِالنّارِ فَما أطْفَأها إلّا ودَكُ ظَهْرِهِ. وجَمَعَ الضَّمِيرَ في ﴿فَعَلَيْهِمْ﴾ عَلى مَعْنى مَن، وأفْرَدَ في شَرْحٍ عَلى لَفْظِها. والظّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى ما اسْتَحَقُّوهُ مِنَ الغَضَبِ والعَذابِ، أيْ: كائِنٌ لَهم بِسَبَبِ اسْتِحْبابِهِمُ الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: واسْتِحْقاقُهم خِذْلانَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ؛ انْتَهى. وهي نَزْغَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ. والضَّمِيرُ في (بِأنَّهم) عائِدٌ عَلى (مَن) في مَن شَرَحَ: ولَمّا فَعَلُوا فِعْلَ مَنِ اسْتَحَبَّ، أُلْزِمُوا ذَلِكَ وإنْ كانُوا غَيْرَ مُصَدِّقِينَ بِآخِرِهِ، لَكِنَّ مِن حَيْثُ أعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِيهِ كانُوا كَمَنِ اسْتَحَبَّ غَيْرَهُ. وقَوْلُهُ: اسْتَحَبُّوا، هو تَكَسُّبٌ مِنهم عُلِّقَ بِهِ العِقابُ، وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي: إشارَةٌ إلى اخْتِراعِ اللَّهِ الكُفْرَ في قُلُوبِهِمْ، فَجَمَعَتِ الآيَةُ بَيْنَ الكَسْبِ والِاخْتِراعِ، وهَذا عَقِيدَةُ أهْلِ السُّنَّةِ. وقِيلَ: ذَلِكَ إشارَةٌ إلى الِارْتِدادِ والإقْدامِ عَلى الكُفْرِ، لِأجْلِ أنَّهم رَجَّحُوا الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ، ولِأنَّهُ تَعالى ما هَداهم إلى الإيمانِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى الطَّبْعِ عَلى القُلُوبِ والسَّمْعِ والأبْصارِ والخَتْمِ عَلَيْها.
﴿وأُولَئِكَ هُمُ الغافِلُونَ﴾: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: عَنْ ما يُرادُ مِنهم في الآخِرَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الكامِلُونَ في الغَفْلَةِ الَّذِينَ لا أحَدَ أغْفَلُ مِنهم، لِأنَّ الغَفْلَةَ عَنْ تَدَبُّرِ العَواقِبِ هي غايَةُ الغَفْلَةِ ومُنْتَهاها. ولَمّا كانَ الإسْنادُ لِيَكْتَسِبَ بِالطّاعاتِ سَعادَةَ الآخِرَةِ، فَعَمِلَ عَلى عَكْسِ ذَلِكَ مِنَ المَعاصِي الكُفْرِ وغَيْرِهِ عَظُمَ خُسْرانُهُ فَقِيلَ فِيهِمْ: هُمُ الخاسِرُونَ لا غَيْرُهم. ومَن أخْسَرُ مِمَّنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الأوْصافِ السّابِقَةِ مِن كَيْنُونَةِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، والعَذابِ الألِيمِ، واسْتِحْبابِ الدُّنْيا، وانْتِفاءِ هِدايَتِهِمْ، والإخْبارِ بِالطَّبْعِ وبِغَفْلَتِهِمْ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى حالَ مَن كَفَرَ بَعْدَ الإيمانِ، وحالَ مَن أُكْرِهَ، ذَكَرَ حالَ مَن هاجَرَ بَعْدَما فُتِنَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذِهِ الآيَةُ مَدَنِيَّةٌ، ولا أعْلَمُ في ذَلِكَ خِلافًا. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ فَكَتَبَ بِها المُسْلِمُونَ إلى مَن كانَ أسْلَمَ بِمَكَّةَ أنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكم مَخْرَجًا، فَخَرَجُوا، فَأدْرَكَهُمُ المُشْرِكُونَ فَقاتَلُوهم حَتّى نَجا مَن نَجا وقُتِلَ مَن قُتِلَ، فَعَلى هَذا السَّبَبِ يَكُونُ جِهادُهم مَعَ الرَّسُولِ عَلى الإسْلامِ. ورُوِيَ أنَّهم خَرَجُوا واتَّبَعُوا وجاهَدُوا مُتَّبِعِيهِمْ، فَقُتِلَ مَن قُتِلَ، ونَجا مَن نَجا، فَنَزَلَتْ حِينَئِذٍ، فَعَنى بِالجِهادِ جِهادَهم لِمُتَّبِعِيهِمْ. وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: نَزَلَتْ في عَمّارٍ، وعَيّاشِ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ، والوَلِيدِ بْنِ الوَلِيدِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (p-٥٤١)وذِكْرُ عَمّارٍ في هَذا غَيْرُ قَوِيمٍ، فَإنَّهُ أرْفَعُ مِن طَبَقَةِ هَؤُلاءِ، وإنَّما هَؤُلاءِ مِن بابِ: مِمَّنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا أفَتَحَ اللَّهُ لَهم بابَ التَّوْبَةِ في آخِرِ الآيَةِ ؟ وقالَ عِكْرِمَةُ والحَسَنُ: نَزَلَتْ في شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي سَرْحٍ وأشْباهِهِ، فَكَأنَّهُ يَقُولُ: مِن بَعْدِ ما فَتَنَهُمُ الشَّيْطانُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ دَلالَةٌ عَلى تَباعُدِ حالِ هَؤُلاءِ مِن حالِ أُولَئِكَ، وهم عَمّارٌ وأصْحابُهُ. و(لِلَّذِينَ) عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ في مَوْضِعِ خَبَرِ إنَّ قالَ: ومَعْنى إنَّ رَبَّكَ لَهم: أنَّهُ لَهم لا عَلَيْهِمْ، بِمَعْنى أنَّهُ ولِيُّهم وناصِرُهم، لا عَدُوُّهم وخاذِلُهم كَما يَكُونُ المَلِكُ لِلرَّجُلِ: لا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ مَحْمِيًّا مَنفُوعًا غَيْرَ مَضْرُورٍ؛ انْتَهى. وقَوْلُهُ: مَنفُوعًا: اسْمُ مَفْعُولٍ مِن نَفَعَ، وهو قِياسُهُ لِأنَّهُ مُتَعَدٍّ ثُلاثِيٌّ. وزَعَمَ الأهْوازِيُّ النَّحْوِيُّ أنَّهُ لا يُسْتَعْمَلُ مِن نَفَعَ اسْمُ مَفْعُولٍ، فَلا يُقالُ مَنفُوعٌ؛ وقَفْتُ لَهُ عَلَيْهِ في شَرْحِهِ مُوجَزِ الرُّمّانِيِّ. وقالَ أبُو البَقاءِ: خَبَرُ إنَّ الأُولى قَوْلُهُ: إنَّ رَبَّكَ لَغَفُورٌ، وإنَّ الثّانِيَةُ واسْمُها تَكْرِيرٌ لِلتَّوْكِيدِ؛ انْتَهى. وإذا كانَتْ إنَّ الثّانِيَةُ واسْمُها تَكْرِيرًا لِلتَّوْكِيدِ كَما ذُكِرَ، فالَّذِي يَقْتَضِيهِ صِناعَةُ العَرَبِيَّةِ أنْ يَكُونَ خَبَرُ إنَّ الأوْلى هو قَوْلَهُ: لَغَفُورٌ، ويَكُونُ (لِلَّذِينَ) مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: لَغَفُورٌ، أوْ بِرَحِيمٍ، عَلى الإعْمالِ، لِأنَّ (إنَّ رَبَّكَ) الثّانِيَةَ لا يَكُونُ لَها طَلَبٌ لِما بَعْدَها مِن حَيْثُ الإعْرابِ. كَما أنَّكَ إذا قُلْتَ: قامَ قامَ زَيْدٌ، فَزَيْدٌ إنَّما هو مَرْفُوعٌ بِقامَ الأُولى، لِأنَّ الثّانِيَةَ ذُكِرَتْ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِلْأُولى. وقِيلَ: لا خَبَرَ لِأنَّ الأُولى في اللَّفْظِ، لِأنَّ خَبَرَ الثّانِيَةِ أغْنى عَنْهُ؛ انْتَهى. وهَذا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأنَّهُ ألْغى حُكْمَ الأُولى وجَعَلَ الحُكْمَ لِلثّانِيَةِ، وهو عَكْسُ ما تَقَدَّمَ، ولا يَجُوزُ. وقِيلَ: لِلَّذِينَ، مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ عَلى جِهَةِ البَيانِ كَأنَّهُ قِيلَ: أعْنِي لِلَّذِينِ، أيِ: الغُفْرانَ لِلَّذِينِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: فُتِنُوا، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أيْ: بِالعَذابِ والإكْراهِ عَلى كَلِمَةِ الكُفْرِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: فَتَنُوا مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ عَلى الَّذِينَ هاجَرُوا، فالمَعْنى: فَتَنُوا أنْفُسَهم بِما أعْطَوُا المُشْرِكِينَ مِنَ القَوْلِ كَما فَعَلَ عَمّارٌ. أوْ لَمّا كانُوا صابِرِينَ عَلى الإسْلامِ وعُذِّبُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ صارُوا كَأنَّهم هُمُ المُعَذِّبُونَ أنْفُسَهم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عائِدًا عَلى المُشْرِكِينَ، أيْ: مِن بَعْدِ ما عَذَّبُوا المُؤْمِنِينَ، كالحَضْرَمِيِّ وأشْباهِهِ. والضَّمِيرُ في (مِن) بَعْدَها عائِدٌ عَلى المَصادِرِ المَفْهُومَةِ مِنَ الأفْعالِ السّابِقَةِ، أيْ: مِن بَعْدِ الفِتْنَةِ والهِجْرَةِ والجِهادِ والصَّبْرِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والضَّمِيرُ في (بَعْدِها) عائِدٌ عَلى الفِتْنَةِ، أوِ الهِجْرَةِ، أوِ التَّوْبَةِ، والكَلامُ يُعْطِيها وإنْ لَمْ يَجْرِ لَها ذِكْرٌ صَرِيحٌ.
{"ayahs_start":104,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ لَا یَهۡدِیهِمُ ٱللَّهُ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمٌ","إِنَّمَا یَفۡتَرِی ٱلۡكَذِبَ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰذِبُونَ","مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِیمَـٰنِهِۦۤ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَىِٕنُّۢ بِٱلۡإِیمَـٰنِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرࣰا فَعَلَیۡهِمۡ غَضَبࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ","ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسۡتَحَبُّوا۟ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا عَلَى ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَـٰرِهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡغَـٰفِلُونَ","لَا جَرَمَ أَنَّهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ","ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِینَ هَاجَرُوا۟ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُوا۟ ثُمَّ جَـٰهَدُوا۟ وَصَبَرُوۤا۟ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِینَ هَاجَرُوا۟ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُوا۟ ثُمَّ جَـٰهَدُوا۟ وَصَبَرُوۤا۟ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}