الباحث القرآني

﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ ﴿إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ﴿إنَّما سُلْطانُهُ عَلى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والَّذِينَ هم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ ﴿وإذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ واللَّهُ أعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وهُدًى وبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ ﴿ولَقَدْ نَعْلَمُ أنَّهم يَقُولُونَ إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَمِيٌّ وهَذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾: لَمّا ذَكَرَ تَعالى: ﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] (p-٥٣٥)وذَكَرَ أشْياءَ مِمّا بَيَّنَ في الكِتابِ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا﴾ [النحل: ٩٧] ذَكَرَ ما يَصُونُ بِهِ القارِئُ قِراءَتَهُ مِن وسْوَسَةِ الشَّيْطانِ ونَزْغِهِ، فَخاطَبَ السّامِعَ بِالِاسْتِعاذَةِ مِنهُ إذا أخَذَ في القِراءَةِ. فَإنْ كانَ الخِطابُ لِلرَّسُولِ ﷺ لَفْظًا فالمُرادُ أُمَّتُهُ، إذْ كانَتْ قِراءَةُ القُرْآنِ مِن أجَلِّ الأعْمالِ الصّالِحَةِ كَما ورَدَ في الحَدِيثِ: «إنَّ ثَوابَ قِراءَةِ كُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَناتٍ» والظّاهِرُ بِعَقِبِ الِاسْتِعاذَةِ. وقَدْ رَوى ذَلِكَ بَعْضُ الرُّواةِ عَنْ حَمْزَةَ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أنَّهُ قالَ: كُلَّما قَرَأْتَ الفاتِحَةَ - حِينَ تَقُولُ: آمِينَ - فاسْتَعِذْ. ورُوِيَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، ومالِكٍ، وداوُدَ. تَعْقُبُها القِراءَةُ كَما رُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ والجُمْهُورِ: عَلى تَرْكِ هَذا الظّاهِرِ وتَأْوِيلِهِ بِمَعْنى: فَإذا أرَدْتَ القِراءَةَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأنَّ الفِعْلَ يُوجَدُ عِنْدَ القَصْدِ والإرادَةِ بِغَيْرِ فاصِلٍ وعَلى حَسْبِهِ، فَكانَ بِسَبَبٍ قَوِيٍّ ومُلابَسَةٍ ظاهِرَةٍ كَقَوْلِهِ: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] وكَقَوْلِهِ: «إذا أكَلْتَ فَسَمِّ اللَّهَ» وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإذا: وصْلَةٌ بَيْنَ الكَلامَيْنِ، والعَرَبُ تَسْتَعْمِلُها في مِثْلِ هَذا، وتَقْدِيرُ الآيَةِ: فَإذا أخَذْتَ في قِراءَةِ القُرْآنِ فاسْتَعِذْ، أمْرٌ بِالِاسْتِعاذَةِ. فالجُمْهُورُ عَلى النَّدْبِ، وعَنْ عَطاءٍ الوُجُوبُ. والظّاهِرُ: طَلَبُ الِاسْتِعاذَةِ عِنْدَ القِراءَةِ مُطْلَقًا، والظّاهِرُ: أنَّ الشَّيْطانَ المُرادُ بِهِ إبْلِيسُ وأعْوانُهُ. وقِيلَ: عامٌّ في كُلِّ مُتَمَرِّدٍ عاتٍ مِن جِنٍّ وإنْسٍ، كَما قالَ شَياطِينُ الإنْسِ والجِنِّ. واخْتُلِفَ في كَيْفِيَّةِ الِاسْتِعاذَةِ، والَّذِي صارَ إلَيْهِ الجُمْهُورُ مِنَ القُرّاءِ وغَيْرِهِمْ واخْتارُوهُ: أعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، لِما رَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو هُرَيْرَةَ، وجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ”أنَّهُ اسْتَعاذَ عِنْدَ القِراءَةِ بِهَذا اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ“ ونَفى تَعالى سُلْطانَ الشَّيْطانِ عَنِ المُؤْمِنِينَ. والسُّلْطانُ هُنا: التَّسْلِيطُ والوِلايَةُ، والمَعْنى: أنَّهم لا يَقْبَلُونَ مِنهُ ولا يُطِيعُونَهُ فِيما يُرِيدُ مِنهم مِنِ اتِّباعِ خُطُواتِهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ [الحجر: ٤٢] وكَما أخْبَرَ تَعالى عَنْهُ فَقالَ في قِصَّةِ أوْلِيائِهِ: ﴿وما كانَ لِي عَلَيْكم مِن سُلْطانٍ إلّا أنْ دَعَوْتُكم فاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم: ٢٢] وقِيلَ: المُرادُ بِالسُّلْطانِ: الحُجَّةُ، وظاهِرُ الإخْبارِ انْتِفاءُ سَلْطَنَتِهِ عَلى المُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا. وقِيلَ: لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ لِاسْتِعاذَتِهِمْ مِنهُ. وقِيلَ: لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ أنْ يَحْمِلَهم عَلى ذَنْبٍ، والضَّمِيرُ في (بِهِ) عائِدٌ عَلى (بِهِمْ)، وقِيلَ: عَلى الشَّيْطانِ، وهو الظّاهِرُ لِاتِّفاقِ الضَّمائِرِ والمَعْنى: والَّذِينَ هم بِإشْراكِهِمْ إبْلِيسَ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، أوْ تَكُونُ الباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، والأمْرُ بِالِاسْتِعاذَةِ يَقْتَضِي أنَّها تَصْرِفُ كَيْدَ الشَّيْطانِ، كَأنَّها مُتَضَمِّنَةٌ التَّوَكُّلَ عَلى اللَّهِ والِانْقِطاعَ إلَيْهِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى إنْزالَ الكِتابِ تَبْيِينًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وأمَرَ بِالِاسْتِعاذَةِ عِنْدَ قِراءَتِهِ، ذَكَرَ تَعالى نَتِيجَةَ وِلايَةِ الشَّيْطانِ لِأوْلِيائِهِ المُشْرِكِينَ، وما يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ مِنَ الأباطِيلِ، فَألْقى إلَيْهِمْ إنْكارَ النَّسْخِ لَمّا رَأوْا تَبْدِيلَ آيَةٍ مَكانَ آيَةٍ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في النَّسْخِ في البَقَرَةِ. والظّاهِرُ أنَّ هَذا التَّبْدِيلَ رَفَعَ آيَةً لَفْظًا ومَعْنًى، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّبْدِيلُ لِحُكْمِ المَعْنى وإبْقاءِ اللَّفْظِ. ووَجَدَ الكُفّارُ بِذَلِكَ طَعْنًا في الدِّينِ، وما عَلِمُوا أنَّ المَصالِحَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأوْقاتِ والأشْخاصِ، وكَما وقَعَ نَسْخُ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ يَقَعُ في شَرِيعَةٍ واحِدَةٍ. وأخْبَرَ تَعالى أنَّهُ العالِمُ بِما يُنَزِّلُ لا أنْتُمْ، وما يُنَزِّلُ مِمّا يُقِرُّهُ وما يَرْفَعُهُ، فَمَرْجِعُ عِلْمِ ذَلِكَ إلَيْهِ، وهو عَلى حَسْبِ الحَوادِثِ والمَصالِحِ، وهَذِهِ حِكْمَةُ إنْزالِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وهَذِهِ الجُمْلَةُ اعْتِراضٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وجَوابِهِ. قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حالًا. وبالَغُوا في نِسْبَةِ الِافْتِراءِ لِلرَّسُولِ بِلَفْظِ إنَّما، وبِمُواجِهَةِ الخِطابِ، وباسِمِ الفاعِلِ الدّالِّ عَلى الثُّبُوتِ، وقالَ: بَلْ أكْثَرُهم، لِأنَّ بَعْضَهم يَعْلَمُ ويَكْفُرُ عِنادًا. ومَفْعُولُ (لا يَعْلَمُونَ) مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ، أيْ: لا يَعْلَمُونَ أنَّ الشَّرائِعَ حِكَمٌ ومَصالِحُ. هَذِهِ الآيَةُ دَلَّتْ عَلى وُقُوعِ نَسْخِ القُرْآنِ بِالقُرْآنِ. ورُوحُ القُدُسِ: هُنا هو جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِلا خِلافٍ، وتَقَدَّمَ لِمَ سُمِّيَ رُوحَ القُدُسِ. وأضافَ الرَّبَّ إلى كافِ الخِطابِ تَشْرِيفًا لِلرَّسُولِ ﷺ بِاخْتِصاصِ الإضافَةِ، وإعْراضًا (p-٥٣٦)عَنْهم، إذْ لَمْ يُضِفْ إلَيْهِمْ. وبِالحَقِّ حالٌ، أيْ: مُلْتَبِسًا بِالحَقِّ سَواءٌ كانَ ناسِخًا أوْ مَنسُوخًا، فَكُلُّهُ مَصْحُوبٌ بِالحَقِّ لا يَعْتَرِيهِ شَيْءٌ مِنَ الباطِلِ. ولِيُثْبِتَ مَعْناهُ أنَّهم لا يَضْطَرِبُونَ في شَيْءٍ مِنهُ لِكَوْنِهِ نُسِخَ، بَلِ النَّسْخُ مُثَبِّتٌ لَهم عَلى إيمانِهِمْ، لِعِلْمِهِمْ أنَّهُ جَمِيعُهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ، لِصِحَّةِ إيمانِهِمْ واطْمِئْنانِ قُلُوبِهِمْ يَعْلَمُونَ أنَّهُ حَكِيمٌ، وأنَّ أفْعالَهُ كُلَّها صادِرَةٌ عَنْ حِكْمَةٍ، فَهي صَوابُ كُلُّها. ودَلَّ اخْتِصاصُ التَّعْلِيلِ بِالمُسْلِمِينَ عَلى اتِّصافِ الكُفّارِ بِضِدِّهِ مِن لَحاقِ الِاضْطِرابِ لَهم وتَزَلْزُلِ عَقائِدِهِمْ وضَلالِهِمْ. وقُرِئَ: لِيُثْبِتَ، مُخَفَّفًا مِن أثْبَتَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهُدًى وبُشْرى، مَفْعُولٌ لَهُما مَعْطُوفانِ عَلى مَحَلٍّ لِيُثْبِتَ؛ انْتَهى. وتَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَيْهِ في نَحْوِ هَذا، وهو قَوْلُهُ: ﴿لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [النحل: ٦٤] وهُدًى ورَحْمَةً في هَذِهِ السُّورَةِ. ولا يَمْتَنِعُ عَطْفُهُ عَلى المَصْدَرِ المُنْسَبِكِ مِن أنْ والفِعْلِ، لِأنَّهُ مَجْرُورٌ، فَيَكُونُ (وهُدًى وبُشْرى) مَجْرُورَيْنِ كَما تَقُولُ: جِئْتُ لِأُحْسِنَ إلى زَيْدٍ وإكْرامٍ لِخالِدٍ، إذِ التَّقْدِيرُ: لِإحْسانٍ إلى زَيْدٍ. وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ ارْتِفاعُ ﴿هُدًى وبُشْرى﴾ [النمل: ٢] عَلى إضْمارِ مُبْتَدَأٍ، أيْ: وهو هُدًى وبُشْرى. ولَمّا نَسَبُوهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِلِافْتِراءِ وهو الكَذِبُ عَلى اللَّهِ، لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتّى جَعَلُوا ذَلِكَ الِافْتِراءَ الَّذِي نَسَبُوهُ هو مِن تَعْلِيمِ بَشَرٍ إيّاهُ، فَلَيْسَ هو المُخْتَلِقُ بَلِ المُخْتَلِقُ غَيْرُهُ، وهو ناقِلٌ عَنْهُ. وظاهِرُ قَوْلِهِمْ: إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ. إنَّ مَعْناهُ: مُخْتَلِقُ الكَذِبِ، وهو يُنافِي التَّعَلُّمَ مِنَ البَشَرِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿مُفْتَرٍ﴾، في نِسْبَةِ ذَلِكَ إلى اللَّهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونُوا فِيهِ طائِفَتَيْنِ: طائِفَةً ذَهَبَتْ إلى أنَّهُ هو المُفْتَرِي، وطائِفَةً أنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنَ البَشَرِ. ويُعَلِّمُ مُضارِعُ اللَّفْظِ ومَعْناهُ: المُضِيُّ، أيْ: ولَقَدْ عَلِمْنا، وجاءَ إسْنادُ التَّعْلِيمِ إلى مُبْهَمٍ لَمْ يُعَيَّنْ. فَقِيلَ: هو حَبْرٌ غُلامٌ رُومِيٌّ كانَ لِعامِرِ بْنِ الحَضْرَمِيِّ، وقِيلَ: عائِشٌ أوْ يَعِيشُ، وكانَ صاحِبَ كُتُبِ مَوْلى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ العُزّى وكانَ قَدْ أسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلامُهُ قالَهُ: الفَرّاءُ، والزَّجّاجُ. وقِيلَ: أبُو فَكِيهَةَ أعْجَمِيٌّ: مَوْلى لِامْرَأةٍ بِمَكَّةَ. قِيلَ: واسْمُهُ يَسارٌ وكانَ يَهُودِيًّا؛ قالَهُ: مُقاتِلٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ، إلّا أنَّهُ لَمْ يَقُلْ كانَ يَهُودِيًّا. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: كانَ رَجُلًا حَدّادًا نَصْرانِيًّا اسْمُهُ عَنَسٌ. وقالَ حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ: كانَ لَنا غُلامانِ نَصْرانِيّانِ مِن أهْلِ عَيْنِ التَّمْرِ، يَسارٌ وحَبْرٌ، كانا يَقْرَآنِ كُتُبًا لَهُما بِلِسانِهِمْ، وكانَ ﷺ يَمُرُّ بِهِما فَيَسْمَعُ قِراءَتَهُما. قِيلَ: وكانا حَدّادَيْنِ يَصْنَعانِ السُّيُوفَ، فَقالَ المُشْرِكُونَ: يَتَعَلَّمُ مِنهُما، فَقِيلَ لِأحَدِهِما ذَلِكَ فَقالَ: بَلْ هو يُعَلِّمُنِي، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ في مَكَّةَ غُلامٌ أعْجَمِيٌّ لِبَعْضِ قُرَيْشٍ يُقالُ لَهُ: بَلْعامُ، فَكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَلِّمُهُ الإسْلامَ، فَقالَتْ قُرَيْشٌ: هَذا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا مِن جِهَةِ الأعاجِمِ. وقالَ الضَّحّاكُ: الإشارَةُ إلى سَلْمانَ الفارِسِيِّ، وضُعِّفَ هَذا مِن جِهَةِ أنَّ سَلْمانَ إنَّما أسْلَمَ بَعْدَ الهِجْرَةِ، وهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ إلّا ما نُبِّهَ عَلَيْهِ أنَّهُ مَدَنِيٌّ. واللِّسانُ: هُنا: اللُّغَةُ. وقَرَأ الحَسَنُ: اللِّسانُ الَّذِي بِتَعْرِيفِ اللِّسانِ بِالـ، والَّذِي صِفَتُهُ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: يَلْحَدُونَ مَن لَحَدَ ثُلاثِيًّا، وهي قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَلْحَةَ، والسُّلَمِيِّ، والأعْمَشِ، ومُجاهِدٍ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ، وابْنُ القَعْقاعِ: بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الحاءِ مَن ألْحَدَ رُباعِيًّا وهُما بِمَعْنًى واحِدٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقالُ ألْحَدَ القَبْرَ ولَحَدَهُ، فَهو مُلْحِدٌ ومَلْحُودٌ إذا أمالَ حَفْرَهُ عَنِ الِاسْتِقامَةِ فَحَفَرَ في شِقٍّ مِنهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ إمالَةٍ عَنِ اسْتِقامَةٍ فَقالُوا: ألْحَدَ فُلانٌ في قَوْلِهِ: وألْحَدَ في دِينِهِ لِأنَّهُ أمالَ دِينَهُ عَنِ الأدْيانِ كُلِّها، لَمْ يُمِلْهُ مِن دِينٍ إلى دِينٍ. والمَعْنى: لِسانُ الرَّجُلِ الَّذِي يُمِيلُونَ قَوْلَهم عَنِ الِاسْتِقامَةِ إلَيْهِ لِسانٌ أعْجَمِيٌّ غَيْرُ بَيِّنٍ، وهَذا القُرْآنُ لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذُو بَيانٍ وفَصاحَةٍ، رَدًّا لِقَوْلِهِمْ وإبْطالًا لِطَعْنِهِمْ؛ انْتَهى. وظاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّ اللِّسانَ في المَوْضِعَيْنِ: اللُّغَةُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا إشارَةٌ إلى القُرْآنِ، والتَّقْدِيرُ: وهَذا سَرْدُ لِسانٍ أوْ نُطْقُ لِسانٍ، فَهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، وهَذا عَلى أنْ يُجْعَلَ اللِّسانُ هُنا الجارِحَةَ. واللِّسانُ في كَلامِ العَرَبِ: اللُّغَةُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ في هَذِهِ الآيَةِ. وقالَ الكِرْمانِيُّ: (p-٥٣٧)المَعْنى: أنْتُمْ أفْصَحُ وأبْلَغُهم وأقْدَرُهم عَلى الكَلامِ نَظْمًا ونَثْرًا، وقَدْ عَجَزْتُمْ وعَجَزَ جَمِيعُ العَرَبِ، فَكَيْفَ تَنْسُبُونَهُ إلى أعْجَمِيٍّ ألْكَنَ ؟ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): الجُمْلَةُ الَّتِي هي قَوْلُهُ ﴿لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَمِيٌّ﴾، ما مَحَلُّها ؟ (قُلْتُ): لا مَحَلَّ لَها، لِأنَّها مُسْتَأْنَفَةُ جَوابٌ (لِقَوْلِهِمْ)، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿وإذا جاءَتْهم آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١٢٤]؛ انْتَهى. ويَجُوزُ عِنْدِي أنْ تَكُونَ جُمْلَةً حالِيَّةً فَمَوْضِعُها نَصْبٌ، وذَلِكَ أبْلَغُ في الإنْكارِ عَلَيْهِمْ، أيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ والحالَةُ هَذِهِ، أيْ: عِلْمُهم بِأعْجَمِيَّةِ هَذا البَشَرِ وإبانَةِ عَرَبِيَّةِ هَذا القُرْآنَ كانَ يَمْنَعُهم مِن تِلْكَ المَقالَةِ، كَما تَقُولُ: تَشْتُمُ فُلانًا وهو قَدْ أحْسَنَ إلَيْكَ، أيْ: عِلْمُكَ بِإحْسانِهِ لَكَ كانَ يَقْتَضِي مَنعَكَ مِن شَتْمِهِ. وإنَّما ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلى الِاسْتِئْنافِ ولَمْ يَذْهَبْ إلى الحالِ، لِأنَّ مِن مَذْهَبِهِ أنَّ مَجِيءَ الجُمْلَةِ الحالِيَّةِ الِاسْمِيَّةِ بِغَيْرِ واوٍ شاذٌّ، وهو مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ جِدًّا، ومَجِيءُ ذَلِكَ بِغَيْرِ واوٍ لا يَكادُ يَنْحَصِرُ كَثْرَةً في كَلامِ العَرَبِ، وهو مَذْهَبٌ تَبِعَ فِيهِ الفَرّاءَ، وأمّا (واللَّهُ أعْلَمُ) فَظاهِرُ قَوْلِهِ فِيها، لِأنَّها جُمْلَةٌ خالِيَةٌ مِن ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلى ذِي الحالِ، لِأنَّ ذا الحالِ هو ضَمِيرُ قالُوا، وفي هَذِهِ الآيَةِ ذُو الحالِ ضَمِيرُ (يَقُولُونَ)، والضَّمِيرُ الَّذِي في جُمْلَةِ الحالِ هو ضَمِيرُ الفاعِلِ في (يُلْحِدُونَ)، فالجُمْلَةُ وإنْ عُرِّيَتْ عَنِ الواوِ فَفِيها ضَمِيرُ ذِي الحالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب