الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهم فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ وذَكِّرْهم بِأيّامِ اللَّهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ (p-٤٠٥)سَبَبُ نُزُولِها أنَّ قُرَيْشًا قالُوا: ما بالُ الكُتُبِ كُلِّها أعْجَمِيَّةٌ وهَذا عَرَبِيٌّ ؟ فَنَزَلَتْ. وساقَ قِصَّةَ مُوسى أنَّهُ تَعالى أرْسَلَهُ إلى قَوْمِهِ بِلِسانِهِ ﴿أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ كَما أرْسَلَكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ﴾ العُمُومُ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. فَإنْ كانَتِ الدَّعْوَةُ عامَّةً لِلنّاسِ كُلِّهِمْ، أوِ انْدَرَجَ في اتِّباعِ ذَلِكَ الرَّسُولِ مَن لَيْسَ مِن قَوْمِهِ، كانَ مَن لَمْ تَكُنْ لُغَتُهُ لُغَةَ ذَلِكَ النَّبِيِّ مَوْقُوفًا عَلى تَعَلُّمِ تِلْكَ اللُّغَةِ حَتّى يَفْهَمَها، وأنْ يَرْجِعَ في تَفْسِيرِها إلى مَن يَعْلَمُها. وقِيلَ: في الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ قَبْلَكَ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ، وأنْتَ أرْسَلْناكَ لِلنّاسِ كافَّةً بِلِسانِ قَوْمِكَ، وقَوْمُكَ يُتَرْجِمُونَ لِغَيْرِهِمْ بِألْسِنَتِهِمْ، ومَعْنى ﴿بِلِسانِ قَوْمِهِ﴾ بِلُغَةِ قَوْمِهِ. وقَرَأ أبُو السَّمّالِ وأبُو الجَوْزاءِ وأبُو عِمْرانَ الجَوْنِيُّ: (بِلِسْنِ) بِإسْكانِ السِّينِ، قالُوا: هو كالرِّيشِ والرِّياشِ. وقالَ صاحِبُ اللَوامِحِ: واللِّسْنُ خاصٌّ بِاللُّغَةِ، واللِّسانُ قَدْ يَقَعُ عَلى العُضْوِ وعَلى الكَلامِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مِثْلَ ذَلِكَ قالَ: اللِّسانُ في هَذِهِ الآيَةِ يُرادُ بِهِ اللُّغَةُ، ويُقالُ: لِسْنٌ ولِسانٌ في اللُّغَةِ، فَأمّا العُضْوُ فَلا يُقالُ فِيهِ لِسْنٌ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ وأبُو المُتَوَكِّلِ والجَحْدَرِيُّ: (لُسُنِ) بِضَمِّ اللّامِ والسِّينِ، وهو جَمْعُ لِسانٍ كَعِمادٍ وعُمُدٍ. وقُرِئَ أيْضًا بِضَمِّ اللّامِ وسُكُونِ السِّينِ مُخَفَّفٌ كَرُسُلٍ ورُسْلٍ، والضَّمِيرُ في (قَوْمِهِ) عائِدٌ عَلى (رَسُولٍ) أيْ: قَوْمِ ذَلِكَ الرَّسُولِ. وقالَ الضَّحّاكُ: والضَّمِيرُ في قَوْمِهِ عائِدٌ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ قالَ: والكُتُبُ كُلُّها نَزَلَتْ بِالعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ أدّاها كُلُّ نَبِيٍّ بِلُغَةِ قَوْمِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ ضَمِيرُ القَوْمِ وهُمُ العَرَبُ، فَيُؤَدِّي إلى أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ التَّوْراةَ مِنَ السَّماءِ بِالعَرَبِيَّةِ لِيُبَيِّنَ لِلْعَرَبِ، وهَذا مَعْنًى فاسِدٌ، انْتَهى. وقالَ الكَلْبِيُّ: جَمِيعُ الكُتُبِ أُدَّتْ إلى جِبْرِيلَ بِالعَرَبِيَّةِ، وأمَرَهُ تَعالى أنْ يَأْتِيَ رَسُولَ كُلِّ قَوْمٍ بِلُغَتِهِمْ. وأوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنا سُؤالًا وابْنُ عَطِيَّةَ أخَّرَهُما في كِتابَيْهِما، ويَقُولُ: قامَتِ الحُجَّةُ عَلى البَشَرِ بِإذْعانِ الفُصَحاءِ الَّذِينَ يُظَنُّ بِهِمُ القُدْرَةُ عَلى المُعارَضَةِ وإقْرارُهم بِالعَجْزِ، كَما قامَتْ بِإذْعانِ السَّحَرَةِ لِمُوسى، والأطِبّاءِ لِعِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ، بَيَّنَ تَعالى العِلَّةَ في كَوْنِ مَن أرْسَلَ مِنَ الرُّسُلِ بِلُغَةِ قَوْمِهِ وهي التَّبْيِينُ لَهم، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ تَعالى يُضِلُّ مَن يَشاءُ إضْلالَهُ، ويَهْدِي مَن يَشاءُ هِدايَتَهُ، فَلَيْسَ عَلى ذَلِكَ الرَّسُولِ غَيْرُ التَّبْلِيغِ والتَّبْيِينِ، ولَمْ يُكَلَّفْ أنْ يَهْدِيَ بَلْ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ عَلى ما سَبَقَ بِهِ قَضاؤُهُ. ﴿وهُوَ العَزِيزُ﴾ الَّذِي لا يُغالَبُ. (الحَكِيمُ) الواضِعُ الأشْياءَ عَلى ما اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وإرادَتُهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والمُرادُ بِالإضْلالِ التَّخْلِيَةُ ومَنعُ الإلْطافِ، وبِالهِدايَةِ التَّوْفِيقُ واللُّطْفُ، وكانَ ذَلِكَ كِنايَةً عَنِ الكُفْرِ والإيمانِ. ﴿وهُوَ العَزِيزُ﴾ فَلا يُغْلَبُ عَلى مَشِيئَتِهِ (الحَكِيمُ) فَلا يَخْذُلُ إلّا أهْلَ الخِذْلانِ، ولا يَلْطُفُ إلّا بِأهْلِ اللُّطْفِ، انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ، والجُمْهُورُ عَلى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: (بِآياتِنا) إنَّها تِسْعُ الآياتِ الَّتِي أجْراها اللَّهُ عَلى يَدِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - . وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِها آياتُ التَّوْراةِ، والتَّقْدِيرُ: كَما أرْسَلْناكَ يا مُحَمَّدُ بِالقُرْآنِ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ وهو آياتُنا، كَذَلِكَ أرْسَلْنا مُوسى بِالتَّوْراةِ بِلِسانِ قَوْمِهِ. و﴿أنْ أخْرِجْ﴾ يُحْتَمَلُ أنَّ ”أنْ“ تَكُونُ تَفْسِيرِيَّةً، وأنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، ويَضْعُفُ زَعْمُ مَن زَعَمَ أنَّها زائِدَةٌ. وفي قَوْلِهِ: (قَوْمَكَ) خُصُوصٌ لِرِسالَتِهِ إلى قَوْمِهِ، بِخِلافِ ﴿لِتُخْرِجَ النّاسَ﴾ [إبراهيم: ١]، والظّاهِرُ أنَّ قَوْمَهُ هم بَنُو إسْرائِيلَ. وقِيلَ: القِبْطُ. فَإنْ كانُوا القِبْطَ فالظُّلُماتُ هُنا الكُفْرُ، والنُّورُ الإيمانُ. وإنْ كانُوا بَنِي إسْرائِيلَ وقُلْنا: إنَّهم كُلُّهم كانُوا مُؤْمِنِينَ، فالظُّلُماتُ ذُلُّ العُبُودِيَّةِ، والنُّورُ العِزَّةُ بِالدِّينِ وظُهُورُ أمْرِ اللَّهِ. وإنْ كانُوا أشْياعًا مُتَفَرِّقِينَ في الدِّينِ - قَوْمٌ مَعَ القِبْطِ في عِبادَةِ فِرْعَوْنَ، وقَوْمٌ عَلى غَيْرِ شَيْءٍ - فالظُّلُماتُ الكُفْرُ والنُّورُ الإيمانُ. قِيلَ: وكانَ مُوسى مَبْعُوثًا إلى القِبْطِ (p-٤٠٦)وبَنِي إسْرائِيلَ. وقِيلَ: إلى القِبْطِ بِالِاعْتِرافِ بِوَحْدانِيَّةِ اللَّهِ، وأنْ لا يُشْرَكَ بِهِ والإيمانِ بِمُوسى، وأنَّهُ نَبِيٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وإلى بَنِي إسْرائِيلَ بِالتَّكْلِيفِ وبِفُرُوعِ شَرِيعَتِهِ إذْ كانُوا مُؤْمِنِينَ. ويَحْتَمِلُ (وذَكِّرْهم) أنْ يَكُونَ أمْرًا مُسْتَأْنَفًا، وأنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى ﴿أنْ أخْرِجْ﴾ فَيَكُونُ في حَيِّزِ (أنْ) . و(أيّامِ اللَّهِ) قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ: نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، ورَواهُ أُبَيٌّ مَرْفُوعًا. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وأيّامٍ لَنا غُرٍّ طِوالٍ عَصَيْنا المَلِكَ فِيها أنْ نَدِينا وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا، ومُقاتِلٍ وابْنِ زَيْدٍ: وقائِعُهُ ونَقَماتُهُ في الأُمَمِ الماضِيَةِ، ويُقالُ: فُلانٌ عالِمٌ بِأيّامِ العَرَبِ؛ أيْ: وقائِعِها وحُرُوبِها ومَلاحِمِها: كَيَوْمِ ذِي قارٍ ويَوْمِ الفِجارِ ويَوْمِ فِضَّةَ وغَيْرِها. ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مالِكٍ قالَ: بَلاؤُهُ. وقالَ الشّاعِرُ: ؎وأيّامُنا مَشْهُورَةٌ في عَدُوِّنا أيْ: وقائِعُنا. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا: نَعْماؤُهُ وبَلاؤُهُ، واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ، فَنَعْماؤُهُ: بِتَظْلِيلِهِ عَلَيْهِمُ الغَمامَ، وإنْزالِ المَنِّ والسَّلْوى، وفَلْقِ البَحْرِ. وبَلاؤُهُ: بِاسْتِعْبادِ فِرْعَوْنَ لَهم، وتَذْبِيحِ أبْنائِهِمْ، وإهْلاكِ القُرُونِ قَبْلَهم. وفي حَدِيثِ أُبَيٍّ في قِصَّةِ مُوسى والخَضِرِ عَلَيْهِما السَّلامُ بَيْنَما مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - في قَوْمِهِ يُذَكِّرُهم بِأيّامِ اللَّهِ، وأيّامُ اللَّهِ بَلاؤُهُ ونَعْماؤُهُ، واخْتارَ الطَّبَرِيُّ هَذا القَوْلَ الآخَرَ. ولَفْظَةُ الأيّامِ تَعُمُّ المَعْنَيَّيْنِ؛ لِأنَّ التَّذْكِيرَ يَقَعُ بِالوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. وفي هَذِهِ اللَّفْظَةِ تَعْظِيمُ الكَوائِنِ المُذَكَّرِ بِها. وعَبَّرَ عَنْها بِالظَّرْفِ الَّذِي وقَعَتْ فِيهِ. وكَثِيرًا ما يَقَعُ الإسْنادُ إلى الظَّرْفِ، وفي الحَقِيقَةِ الإسْنادُ لِغَيْرِها كَقَوْلِهِ: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾ [سبإ: ٣٣]، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهم: يَوْمٌ عَبُوسٌ، ويَوْمٌ عَصِيبٌ، ويَوْمٌ بَسّامٌ. والحَقِيقَةُ وصْفُ ما وقَعَ فِيهِ مِن شِدَّةٍ أوْ سُرُورٍ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ إلى التَّذْكِيرِ بِأيّامِ اللَّهِ. و﴿صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ صِفَتا مُبالَغَةٍ، وهُما مُشْعِرَتانِ بِأنَّ ﴿أيّامَ اللَّهِ﴾ [الجاثية: ١٤] المُرادُ بِهِما بَلاؤُهُ ونَعْماؤُهُ؛ أيْ: صَبّارٌ عَلى بَلائِهِ، شَكُورٌ لِنَعْمائِهِ. فَإذا سَمِعَ بِما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ البَلاءِ عَلى الأُمَمِ، أوْ بِما أفاضَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، تَنَبَّهَ عَلى ما يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّبْرِ إذا أصابَهُ بَلاءٌ، ومِنَ الشُّكْرِ إذا أصابَتْهُ نَعْماءُ، وخَصَّ الصَّبّارَ والشَّكُورَ؛ لِأنَّهُما هُما اللَّذانِ يَنْتَفِعانِ بِالتَّذْكِيرِ والتَّنْبِيهِ ويَتَّعِظانِ بِهِ. وقِيلَ: أرادَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ ناظِرٍ لِنَفْسِهِ؛ لِأنَّ الصَّبْرَ والشُّكْرَ مِن سَجايا أهْلِ الإيمانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب