الباحث القرآني

﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وأحَلُّوا قَوْمَهم دارَ البَوارِ﴾ ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وبِئْسَ القَرارُ﴾ ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكم إلى النّارِ﴾: لَمّا ذَكَرَ حالَ المُؤْمِنِينَ وهُداهم، وحالَ الكافِرِينَ وإضْلالَهم، ذَكَرَ السَّبَبَ في إضْلالِهِمْ. والَّذِينَ بَدَّلُوا ظاهِرَهُ أنَّهُ عامٌّ (p-٤٢٤)فِي جَمِيعِ المُشْرِكِينَ، قالَهُ الحَسَنُ، بَدَّلُوا بِنِعْمَةِ الإيمانِ الكُفْرَ. وقالَ مُجاهِدٌ: هم أهْلُ مَكَّةَ، أنْعَمَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ بِبَعْثِهِ رَسُولًا مِنهم يُعَلِّمُهم أمْرَ دِينِهِ وشَرَّفَهم بِهِ، وأسْكَنَهم حَرَمَهُ، وجَعَلَهم قُوّامَ بَيْتِهِ، فَوَضَعُوا مَكانَ شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ كُفْرًا. وسَألَ ابْنُ عَبّاسٍ عُمَرَ عَنْهم فَقالَ: هُما الأعْرابُ مِن قُرَيْشٍ أخْوالِي، أيْ: بَنِي مَخْزُومٍ، واسْتُؤْصِلُوا بِبَدْرٍ. وأعْمامُكَ، أيْ: بَنِي أُمَيَّةَ، ومُتِّعُوا إلى حِينٍ. وعَنْ عَلِيٍّ نَحْوٌ مَن ذَلِكَ. وقالَ قَتادَةُ: هم قادَةُ المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ. وعَنْ عَلِيٍّ: هم قُرَيْشٌ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ. وعَلى أنَّهم قُرَيْشٌ جَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ. وعَنْ عَلِيٍّ أيْضًا: هم مُنافِقُو قُرَيْشٍ أنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِإظْهارِ عَلَمِ الإسْلامِ بِأنْ صانَ دِماءَهم وأمْوالَهم وذَرارِيَّهم، ثُمَّ عادُوا إلى الكُفْرِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: في جَبَلَةَ بْنِ الأيْهَمِ، ولا يُرِيدُ أنَّها نَزَلَتْ فِيهِ، لِأنَّ نُزُولَ الآيَةِ قَبْلَ قِصَّتِهِ، وقِصَّتُهُ كانَتْ في خِلافَةِ عُمَرَ، وإنَّما يُرِيدُ ابْنُ عَبّاسٍ أنَّها تَخُصُّ مَن فَعَلَ فِعْلًا جِبِلَّةً إلى يَوْمِ القِيامَةِ. ونِعْمَةُ اللَّهِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: بَدَّلُوا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وتَجْعَلُونَ رِزْقَكم أنَّكم تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: ٨٢] أيْ شُكْرَ رِزْقِكم، كَأنَّهُ وجَبَ عَلَيْهِمُ الشُّكْرُ فَوَضَعُوا مَكانَهُ كُفْرًا، وجَعَلُوا مَكانَ شُكْرِهِمُ التَّكْذِيبَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ووَجْهٌ آخَرُ، وهو أنَّهم بَدَّلُوا نَفْسَ النِّعْمَةِ بِالكُفْرِ حاصِلًا لَهُمِ الكُفْرُ بَدَلَ النِّعْمَةِ، وهم أهْلُ مَكَّةَ أسْكَنَهُمُ اللَّهُ حَرَمَهُ، وجَعَلَهم قِوامَ بَيْتِهِ، وأكْرَمَهم بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَكَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ، بَدَلَ ما ألْزَمَهم مِنَ الشُّكْرِ العَظِيمِ، أوْ أصابَهُمُ اللَّهُ بِالنِّعْمَةِ والسَّعَةِ لِإيلافِهِمُ الرِّحْلَتَيْنِ، فَكَفَرُوا نِعْمَتَهُ، فَضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالقَحْطِ سَبْعَ سِنِينَ، فَحَصَلَ لَهُمُ الكُفْرُ بَدَلَ النِّعْمَةِ، وبَقِيَ الكُفْرُ طَوْقًا في أعْناقِهِمْ؛ انْتَهى. ونِعْمَةُ اللَّهِ، هو المَفْعُولُ الثّانِي، لِأنَّهُ هو الَّذِي يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَرْفُ الجَرِّ، أيْ: بِنِعْمَةِ اللَّهِ، وكُفْرًا، هو المَفْعُولُ الأوَّلُ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠] أيْ بِسَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ. فالمَنصُوبُ هو الحاصِلُ، والمَجْرُورُ بِالباءِ أوِ المَنصُوبُ عَلى إسْقاطِها هو الذّاهِبُ، عَلى هَذا لِسانُ العَرَبِ، وهو عَلى خِلافِ ما يَفْهَمُهُ العَوامُّ، وكَثِيرٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلى العِلْمِ. وقَدْ أوْضَحْنا هَذِهِ المَسْألَةَ في قَوْلِهِ في البَقَرَةِ: ﴿ومَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإيمانِ﴾ [البقرة: ١٠٨] وإذا قَدَّرْتَ مُضافًا مَحْذُوفًا، وهو شُكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ، فَهو الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الباءُ ثُمَّ حُذِفَتْ، وإذا لَمْ يُقَدَّرْ مُضافٌ مَحْذُوفٌ، فالباءُ دَخَلَتْ عَلى نِعْمَةِ، ثُمَّ حُذِفَتْ. وأحَلُّوا قَوْمَهم، أيْ: مَن تابَعَهم عَلى الكُفْرِ. وزَعَمَ الحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ أنَّ كُفْرًا، هو مَفْعُولٌ ثانٍ لَبَدَّلُوا، ولَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأنَّ بَدَّلَ مِن أخَواتِ اخْتارَ، فالَّذِي يُباشِرُهُ حَرْفُ الجَرِّ هو المَفْعُولُ الثّانِي، والَّذِي يَصِلُ إلَيْهِ الفِعْلُ بِنَفْسِهِ لا بِواسِطَةِ حَرْفِ الجَرِّ هو المَفْعُولُ الأوَّلُ. وأعْرَبَ الحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ: جَهَنَّمُ: بَدَلًا مِن دارِ البَوارِ، والزَّمَخْشَرِيُّ: عَطْفُ بَيانٍ، فَعَلى هَذا يَكُونُ الإحْلالُ في الآخِرَةِ. ودارُ البَوارِ: جَهَنَّمُ، وقالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وقِيلَ: عَنْ عَلِيٍّ يَوْمَ بَدْرٍ، وعَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ: نَزَلَتْ في قَتْلى بَدْرٍ، فَيَكُونُ دارُ البَوارِ، أيِ: الهَلاكِ في الدُّنْيا كَقَلِيبِ بَدْرٍ وغَيْرِهِ مِنَ المَواضِعِ الَّتِي قُتِلُوا فِيهِ. وعَلى هَذا أعْرَبَ ابْنُ عَطِيَّة وأبُو البَقاء: جَهَنَّمَ، مَنصُوبٌ عَلى الِاشْتِغالِ؛ أيْ: يَصْلَوْنَ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها. ويُؤَيِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ قِراءَةُ ابْنِ أبِي عَبْلَةَ: جَهَنَّمُ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ جَهَنَّمُ مَرْفُوعًا عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وهَذا التَّأْوِيلُ أوْلى، لِأنَّ النَّصْبَ عَلى الِاشْتِغالِ مَرْجُوحٌ مِن حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ما يُرَجِّحُهُ، ولا ما يَكُونُ مُساوِيًا، وجُمْهُورُ القُرّاءِ عَلى النَّصْبِ. ولَمْ يَكُونُوا لِيَقْرَءُوا بِغَيْرِ الرّاجِحِ أوِ المُساوِي، إذْ زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ: أفْصَحُ مِن زَيْدًا ضَرَبْتُهُ، فَلِذَلِكَ كانَ ارْتِفاعُهُ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ في قِراءَةِ ابْنِ أبِي عَبْلَةَ راجِحًا، وعَلى تَأْوِيلِ الِاشْتِغالِ يَكُونُ ﴿يَصْلَوْنَها﴾ ) لا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الإعْرابِ، وعَلى التَّأْوِيلِ الأوَّلِ جَوَّزُوا أنْ يَكُونَ حالًا مِن جَهَنَّمَ، أوْ حالًا مِن دارِ البَوارِ، أوْ حالًا مَن قَوْمِهِمْ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: وبِئْسَ القَرارُ هي؛ أيْ: جَهَنَّمُ. ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا﴾ أيْ زادُوا إلى كُفْرِهِمْ نِعْمَتَهُ أنْ صَيَّرُوا لَهُ أنْدادًا، وهي الأصْنامُ الَّتِي اتَّخَذُوا آلِهَةً مِن دُونِ اللَّهِ. (p-٤٢٥)وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عُمَرَ: ولِيَضِلُّوا هُنا، و(لِيُضِلَّ) في الحَجِّ ولُقْمانَ والرُّومِ، بِفَتْحِ الياءِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّها. والظّاهِرُ أنَّ اللّامَ لامِ الصَّيْرُورَةِ والمَآلِ. لَمّا كانَتْ نَتِيجَةُ جَعْلِ الأنْدادِ آلِهَةً الضَّلالَ أوِ الإضْلالَ، جَرى مَجْرى لامِ العِلَّةِ في قَوْلِكَ: جِئْتُكَ لِتُكْرِمَنِي، عَلى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ. وقِيلَ: قِراءَةُ الفَتْحِ لا تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ اللّامُ لامَ العاقِبَةِ، وأمّا بِالضَّمِّ فَتَحْتَمِلُ العاقِبَةَ. والعِلَّةُ والأمْرُ بِالتَّمَتُّعِ أمْرُ تَهْدِيدٍ ووَعِيدٍ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ: ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَمَتَّعُوا، إيذانٌ بِأنَّهم لِانْغِماسِهِمْ في التَّمَتُّعِ بِالحاضِرِ، وأنَّهم لا يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ ولا يُرِيدُونَهُ، مَأْمُورُونَ بِهِ، قَدْ أمَرَهم آمِرٌ مُطاعٌ لا يَسَعُهم أنْ يُخالِفُوهُ، ولا يَمْلِكُوهُ لِأنْفُسِهِمْ أمْرًا دُونَهُ، وهو آمِرُ الشَّهْوَةِ؛ والمَعْنى: إنْ دُمْتُمْ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِامْتِثالِ لِأمْرِ الشَّهْوَةِ فَإنَّ مَصِيرَكم إلى النّارِ. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ الخِذْلانُ والتَّخْلِيَةُ ونَحْوُهُ: ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إنَّكَ مِن أصْحابِ النّارِ﴾ [الزمر: ٨]؛ انْتَهى و﴿مَصِيرَكُمْ﴾: مَصْدَرُ صارَ التّامَّةِ، بِمَعْنى رَجَعَ. وخَبَرُ إنَّ هو قَوْلُهُ: ﴿إلى النّارِ﴾، ولا يُقالُ هُنا صارَ بِمَعْنى انْتَقَلَ، ولِذَلِكَ تَعَدّى بِإلى، أيْ: فَإنَّ انْتِقالَكم إلى النّارِ، لِأنَّهُ تَبْقى إنَّ بِلا خَبَرٍ، ولا يَنْبَغِي أنْ يَدَّعِيَ حَذْفَهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَإنَّ مَصِيرَكم إلى النّارِ واقِعٌ لا مَحالَةَ أوْ كائِنٌ، لِأنَّ حَذْفَ الخَبَرِ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ قَلِيلٌ، وأكْثَرُ ما يُحْذَفُ إذا كانَ اسْمُ إنَّ نَكِرَةً، والخَبَرُ جارٌّ ومَجْرُورٌ. وقَدْ أجازَ الحَوْفِيُّ: أنْ يَكُونَ إلى النّارِ مُتَعَلِّقًا بِمَصِيرَكم، فَعَلى هَذا يَكُونُ الخَبَرُ مَحْذُوفًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب