الباحث القرآني
﴿ألَمْ يَأْتِكم نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ والَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهم إلّا اللَّهُ جاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَرَدُّوا أيْدِيَهم في أفْواهِهِمْ وقالُوا إنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وإنّا لَفي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ ﴿قالَتْ رُسُلُهم أفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ يَدْعُوكم لِيَغْفِرَ لَكم مِن ذُنُوبِكم ويُؤَخِّرَكم إلى أجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إنْ أنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾
(p-٤٠٨)الظّاهِرُ أنَّ هَذا مِن خِطابِ مُوسى لِقَوْمِهِ. وقِيلَ: ابْتِداءُ خِطابٍ مِنَ اللَّهِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، وخَبَرُ ﴿قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ﴾ قَدْ قَصَّهُ اللَّهُ في كِتابِهِ، وتَقَدَّمَ في الأعْرافِ وهُودٍ، والهَمْزَةُ في (ألَمْ) لِلتَّقْرِيرِ والتَّوْبِيخِ. والظّاهِرُ أنَّ (والَّذِينَ) في مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلى ما قَبْلَهُ إمّا عَلى (الَّذِينَ) وإمّا عَلى ﴿قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ﴾ .
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿لا يَعْلَمُهم إلّا اللَّهُ﴾ اعْتِراضٌ والمَعْنى: أنَّهم مِنَ الكَثْرَةِ بِحَيْثُ لا يَعْلَمُ عَدَدَهم إلّا اللَّهُ، انْتَهى. ولَيْسَتْ جُمْلَةَ اعْتِراضٍ؛ لِأنَّ جُمْلَةَ الِاعْتِراضِ تَكُونُ بَيْنَ جُزْأيْنِ، يَطْلُبُ أحَدُهُما الآخَرَ. وقالَ أبُو البَقاءِ: تَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في ﴿مِن بَعْدِهِمْ﴾، فَإنْ عَنى مِنَ الضَّمِيرِ المَجْرُورِ في (بَعْدِهِمْ) فَلا يَجُوزُ؛ لِأنَّهُ حالٌ مِمّا جُرَّ بِالإضافَةِ، ولَيْسَ لَهُ مَحَلُّ إعْرابٍ مِن رَفْعٍ أوْ نَصْبٍ، وإنْ عَنى مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَقِرِّ في الجارِّ والمَجْرُورِ النّائِبِ عَنِ العامِلِ أمْكَنَ. وقالَ أبُو البَقاءِ: أيْضًا ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، وكَذَلِكَ جاءَتْهم. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وتَبِعَهُ أبُو البَقاءِ: أنْ يَكُونَ (والَّذِينَ) مُبْتَدَأً وخَبَرُهُ ﴿لا يَعْلَمُهم إلّا اللَّهُ﴾ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والجُمْلَةُ مِنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ وقَعَتِ اعْتِراضًا، انْتَهى. ولَيْسَتْ بِاعْتِراضٍ؛ لِأنَّها لَمْ تَقَعْ بَيْنَ جُزْأيْنِ أحَدُهُما يَطْلُبُ الآخَرَ. والضَّمِيرُ في (جاءَتْهم) عائِدٌ عَلى ﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾، والجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةٌ لِلنَّبَأِ. والظّاهِرُ أنَّ الأيْدِيَ هي الجَوارِحُ، وأنَّ الضَّمِيرَ في (أيْدِيهِمْ) وفي (أفْواهِهِمْ) عائِدٌ عَلى الَّذِينَ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ زَيْدٍ: أيْ جَعَلُوا؛ أيْ: أيْدِي أنْفُسِهِمْ في أفْواهِ أنْفُسِهِمْ لِيَعَضُّوها غَيْظًا مِمّا جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظِ﴾ [آل عمران: ١١٩] والعَضُّ بِسَبَبٍ مَشْهُورٍ مِنَ البَشَرِ. وقالَ الشّاعِرُ:
؎قَدْ أفْنى أنامِلَهُ أزْمُهْ وأضْحى يَعَضُّ عَلَيَّ الوَظِيفا
(وقالَ آخَرُ)
:
؎لَوْ أنَّ سَلْمى أبْصَرَتْ تَخَدُّدِي ∗∗∗ ودَقَّةً في عَظْمِ ساقِي ويَدِي
؎وبُعْدَ أهْلِي وجَفاءَ عُوَّدِي ∗∗∗ عَضَّتْ مِنَ الوَجْدِ بِأطْرافِ اليَدِ
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمّا سَمِعُوا كِتابَ اللَّهِ عَجِبُوا ورَجَعُوا بِأيْدِيهِمْ إلى أفْواهِهِمْ. وقالَ أبُو صالِحٍ: لَمّا قالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أنا رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم، أشارُوا بِأصابِعِهِمْ إلى أفْواهِهِمْ أنِ اسْكُتْ تَكْذِيبًا لَهُ، ورَدًّا لِقَوْلِهِ، واسْتِبْشاعًا لِما جاءَ بِهِ. وقِيلَ: رَدُّوا أيْدِيَهم في أفْواهِهِمْ ضَحِكًا واسْتِهْزاءً كَمَن غَلَبَهُ الضَّحِكُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلى فِيهِ. وقِيلَ: أشارُوا بِأيْدِيهِمْ إلى ألْسِنَتِهِمْ وما نَطَقَتْ بِهِ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿إنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ أيْ: هَذا جَوابٌ لَكم لَيْسَ عِنْدَنا غَيْرُهُ إقْناطًا لَهم مِنَ التَّصْدِيقِ. وقِيلَ: الضَّمِيرانِ عائِدانِ عَلى الرُّسُلِ قالَهُ: مُقاتِلٌ، قالَ: أخَذُوا أيْدِيَ الرُّسُلِ ووَضَعُوها عَلى أفْواهِ الرُّسُلِ لِيُسْكِتُوهم ويَقْطَعُوا كَلامَهم. وقالَ الحَسَنُ وغَيْرُهُ: جَعَلُوا أيْدِيَ أنْفُسِهِمْ في أفْواهِ الرُّسُلِ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ، وهَذا أشْنَعُ في الرَّدِّ وأذْهَبُ في الِاسْتِطالَةِ عَلى الرُّسُلِ والنَّيْلِ مِنهم، فَعَلى هَذا الضَّمِيرِ في (أيْدِيهِمْ) عائِدٌ عَلى الرُّسُلِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالأيْدِي هُنا النِّعَمُ، جَمْعُ يَدٍ المُرادُ بِها النِّعْمَةُ؛ أيْ: رَدُّوا نِعَمَ الأنْبِياءِ الَّتِي هي أجَلُّ النِّعَمِ مِن مَواعِظِهِمْ ونَصائِحِهِمْ، وما أُوحِيَ إلَيْهِمْ مِنَ الشَّرائِعِ والآياتِ في أفْواهِ الأنْبِياءِ؛ لِأنَّهم إذا كَذَّبُوها ولَمْ يَقْبَلُوها فَكَأنَّهم رَدُّوها في أفْواهِهِمْ، ورَجَعُوها إلى حَيْثُ جاءَتْ مِنهُ عَلى طَرِيقِ المِثْلِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (أفْواهِهِمْ) عَلى هَذا القَوْلِ عائِدٌ عَلى الكُفّارِ، وفي بِمَعْنى الباءِ؛ أيْ: بِأفْواهِهِمْ، والمَعْنى: كَذَّبُوهم بِأفْواهِهِمْ. وفي بِمَعْنى الباءِ يُقالُ: جَلَسْتُ في البَيْتِ، وبِالبَيْتِ. (p-٤٠٩)وقالَ الفَرّاءُ: قَدْ وجَدْنا مِنَ العَرَبِ مَن يَجْعَلُ ”في“ مَوْضِعَ ”الباءِ“ فَتَقُولُ: أدْخَلَكَ اللَّهُ الجَنَّةَ، وفي الجَنَّةِ. وأنْشَدَ:
؎وأرْغَبُ فِيها مِن لَقِيطٍ ورَهْطِهِ ∗∗∗ ولَكِنِّي عَنْ شِنْبِسٍ لَسْتُ أرْغَبُ
يُرِيدُ: أرْغَبُ بِها. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: هَذا ضَرْبُ مَثَلٍ أيْ: لَمْ يُؤْمِنُوا ولَمْ يُجِيبُوا. والعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إذا سَكَتَ عَنِ الجَوابِ وأمْسَكَ: رَدَّ يَدَهُ في فِيهِ، وقالَهُ الأخْفَشُ أيْضًا. وقالَ القُتَبِيُّ: لَمْ يَسْمَعْ أحَدٌ مِنَ العَرَبِ يَقُولُ: رَدَّ يَدَهُ في فِيهِ إذا تَرَكَ ما أمَرَ بِهِ، انْتَهى. ومَن سَمِعَ حُجَّةٌ عَلى مَن لَمْ يَسْمَعْ، هَذاأبُو عُبَيْدَةَ والأخْفَشُ نَقَلا ذَلِكَ عَنِ العَرَبِ، فَعَلى ما قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ يَكُونُ ذَلِكَ مِن مَجازِ التَّمْثِيلِ، كَأنَّ المُمْسِكَ عَنِ الجَوابِ السّاكِتَ عَنْهُ وضَعَ يَدَهُ عَلى فِيهِ. وقَدْ رَدَّ الطَّبَرِيُّ قَوْلَ أبِي عُبَيْدَةَ وقالَ: إنَّهم قَدْ أجابُوا بِالتَّكْذِيبِ لِأنَّهم قالُوا: إنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ، ولا يَرُدُّ ما قالَهُ الطَّبَرِيُّ، لِأنَّهُ يُرِيدُ أبُو عُبَيْدَةَ أنَّهم أمْسَكُوا وسَكَتُوا عَنِ الجَوابِ المُرْضِي الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَجِيءُ الرُّسُلِ بِالبَيِّناتِ، وهو الِاعْتِرافُ بِالإيمانِ والتَّصْدِيقِ لِلرُّسُلِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَتَجَوَّزَ في لَفْظَةِ الأيْدِي أيْ: أنَّهم رَدُّوا قُوَّتَهم ومُدافَعَتَهم ومُكافَحَتَهم فِيما قالُوا بِأفْواهِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ، فَكانَ المَعْنى: رَدُّوا جَمِيعَ مُدافَعَتِهِمْ في أفْواهِهِمْ؛ أيْ: في أقْوالِهِمْ، وعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ المُدافَعَةِ بِالأيْدِي، إذِ الأيْدِي مَوْضِعُ أشَدِّ المُدافَعَةِ والمَرادَّةِ، انْتَهى. بادَرُوا أوَّلًا إلى الكُفْرِ وهو التَّكْذِيبُ المَحْضُ، ثُمَّ أخْبَرُوا بِأنَّهم في شَكٍّ وهو التَّرَدُّدُ، كَأنَّهم نَظَرُوا بَعْضَ نَظَرٍ اقْتَضى أنِ انْتَقَلُوا مِنَ التَّكْذِيبِ المَحْضِ إلى التَّرَدُّدِ، أوْ هُما قَوْلانِ مِن طائِفَتَيْنِ: طائِفَةٍ بادَرَتْ بِالتَّكْذِيبِ والكُفْرِ، وطائِفَةٍ شَكَّتْ، والشَّكُّ في مِثْلِ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كُفْرٌ. وقَرَأ طَلْحَةُ: (مِمّا تَدْعُونا) بِإدْغامِ نُونِ الرَّفْعِ في الضَّمِيرِ، كَما تُدْغَمُ في نُونِ الوِقايَةِ في مِثْلِ: (أتُحاجُّونِّي) والمَعْنى: مِمّا تَدْعُونَنا إلَيْهِ مِنَ الإيمانِ بِاللَّهِ. و(مُرِيبٍ) صِفَةٌ تَوْكِيدِيَّةٌ، ودَخَلَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ الَّذِي مَعْناهُ الإنْكارُ عَلى الظَّرْفِ الَّذِي هو خَبَرٌ عَنِ المُبْتَدَأِ، لِأنَّ الكَلامَ لَيْسَ في الشَّكِّ إنَّما هو في المَشْكُوكِ فِيهِ، وأنَّهُ لا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ لِظُهُورِ الأدِلَّةِ وشَهادَتِها عَلَيْهِ. وقُدِّرَ مُضافٌ فَقِيلَ: أفِي إلاهِيَّةِ اللَّهِ. وقِيلَ: أفِي وحْدانِيَّتِهِ، ثُمَّ نَبَّهَهم عَلى الوَصْفِ الَّذِي يَقْتَضِي أنْ لا يَقَعَ فِيهِ شَكٌّ البَتَّةَ وهو كَوْنُهُ مُنْشِئَ العالَمِ ومُوجِدَهُ، فَقالَ: ﴿فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ . و(فاطِرِ) صِفَةٌ لِلَّهِ، ولا يَضُرُّ الفَصْلُ بَيْنَ المَوْصُوفِ وصِفَتِهِ بِمِثْلِ هَذا المُبْتَدَأِ، فَيَجُوزُ أنْ تَقُولَ: في الدّارِ زِيدٌ الحَسَنَةِ، وإنْ كانَ أصْلُ التَّرْكِيبِ في الدّارِ الحَسَنَةِ زَيْدٌ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ”فاطِرَ“ نَصْبًا عَلى المَدْحِ، ولَمّا ذَكَرَ أنَّهُ مُوجِدُ العالَمِ، ونَبَّهَ عَلى الوَصْفِ الَّذِي لا يُناسِبُ أنْ يَكُونَ مَعَهُ فِيهِ شَكٌّ ذَكَرَ ما هو عَلَيْهِ مِنَ اللُّطْفِ بِهِمْ والإحْسانِ إلَيْهِمْ فَقالَ: ﴿يَدْعُوكم لِيَغْفِرَ لَكُمْ﴾ أيْ: يَدْعُوكم إلى الإيمانِ كَما قالَ: ﴿إذْ تُدْعَوْنَ إلى الإيمانِ﴾ [غافر: ١٠]، أوْ يَدْعُوكم لِأجْلِ المَغْفِرَةِ، نَحْوَ: دَعَوْتُهُ لِيَنْصُرَنِي. وقالَ الشّاعِرُ:
؎دَعَوْتُ لِما نابَنِي مِسْوَرًا ∗∗∗ فَلَبّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ
و﴿مِن ذُنُوبِكُمْ﴾ ذَهَبَ أبُو عُبَيْدَةَ والأخْفَشُ إلى زِيادَةِ (مِن) أيْ: لِيَغْفِرَ لَكم ذُنُوبَكم. وجُمْهُورُ البَصْرِيِّينَ لا يُجِيزُ زِيادَتَها في الواجِبِ، ولا إذا جُرَّتِ المَعْرِفَةُ، والتَّبْعِيضُ يُصْبِحُ فِيها إذِ المَغْفُورُ هو ما بَيْنَهم وبَيْنَ اللَّهِ، بِخِلافِ ما بَيْنَهم وبَيْنَ العِبادِ مِنَ المَظالِمِ. وبِطَرِيقٍ آخَرَ يَصِحُّ التَّبْعِيضُ وهو أنَّ الإسْلامَ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ، ويَبْقى ما يُسْتَأْنَفُ بَعْدَ الإيمانِ مِنَ الذُّنُوبِ مَسْكُوتًا عَنْهُ، هو في المَشِيئَةِ والوَعْدُ إنَّما هو بِغُفْرانِ ما تَقَدَّمَ، لا بِغُفْرانِ ما يُسْتَأْنَفُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ما مَعْناهُ: إنَّ الِاسْتِقْراءَ في الكافِرِينَ أنْ يَأْتِيَ مِن ذُنُوبِكم، وفي المُؤْمِنِينَ ذُنُوبَكم، وكانَ ذَلِكَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الخِطابَيْنِ، ولِأنْ لا يُسَوِّيَ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ، انْتَهى. ويُقالُ: ما فائِدَةُ الفَرْقِ في الخِطابِ والمَعْنى مُشْتَرَكٌ، إذِ الكافِرُ إذا آمَنَ، والمُؤْمِنُ إذا تابَ مُشْتَرِكانِ في الغُفْرانِ، (p-٤١٠)وما تَخَيَّلْتَ فِيهِ مَغْفِرَةَ بَعْضِ الذُّنُوبِ في الكافِرِ الَّذِي آمَنَ هو مَوْجُودٌ في المُؤْمِنِ الَّذِي تابَ، وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: أمّا قَوْلُ صاحِبِ الكَشّافِ: المُرادُ تَمْيِيزُ خِطابِ المُؤْمِنِ مِن خِطابِ الكافِرِ، فَهو مِن بابِ الطّامّاتِ؛ لِأنَّ هَذا التَّبْعِيضَ إنْ حَصَلَ فَلا حاجَةَ إلى ذِكْرِ هَذا الجَوابِ، وإنْ لَمْ يَحْصُلْ كانَ هَذا الكَلامُ فاسِدًا.
وقالَ: ﴿إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾: إلى وقْتٍ قَدْ بَيَّنّاهُ، أوْ بَيَّنّا مِقْدارَهُ إنْ آمَنتُمْ، وإلّا عاجَلَكم بِالهَلاكِ قَبْلَ ذَلِكَ الوَقْتِ، انْتَهى. وهَذا بِناءً عَلى القَوْلِ بِالأجَلَيْنِ، وهو مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في طَرْفٍ مِن هَذا في سُورَةِ الأعْرافِ في قَوْلِهِ: ﴿ولِكُلِّ أُمَّةٍ أجَلٌ﴾ [الأعراف: ٣٤] وقِيلَ هُنا: ويُؤَخِّرُكم إلى أجَلٍ مُسَمّى قَبْلَ المَوْتِ فَلا يُعاجِلُكم بِالعَذابِ، إنْ أنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا فَضْلَ بَيْنَنا وبَيْنَكم، ولا فَضْلَ لَكم عَلَيْنا، فَلِمَ تُخَصُّونَ بِالنُّبُوَّةِ دُونَنا ؟ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولَوْ أرْسَلَ اللَّهُ إلى البَشَرِ رُسَلًا لَجَعَلَهم مِن جِنْسٍ أفْضَلَ مِنهم وهُمُ المَلائِكَةُ، انْتَهى. وهَذا عَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ في تَفْضِيلِ المَلائِكَةِ عَلى مَن سِواهم. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: في قَوْلِهِمُ اسْتِبْعادُ بِعْثَةِ البَشَرِ. وقالَ بَعْضُ النّاسِ: بَلْ أرادُوا إحالَتَهُ، وذَهَبُوا مَذْهَبَ البَراهِمَةِ، أوْ مَن يَقُولُ مِنَ الفَلاسِفَةِ أنَّ الأجْناسَ لا يَقَعُ فِيها هَذا القِياسُ. فَظاهِرُ كَلامِهِمْ لا يَقْتَضِي أنَّهم أغْمَضُوا هَذا الإغْماضَ، ويَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْتُ أنَّهم طَلَبُوا مِنهم حُجَّةً، ويُحْتَمَلُ أنَّ طَلَبَهم مِنهُمُ السُّلْطانَ إنَّما هو عَلى جِهَةِ التَّعْجِيزِ؛ أيْ: بَعْثَتُكم مُحالٌ، وإلّا فَأتُوا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ؛ أيْ: إنَّكم لا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ أبَدًا، فَتَقْوى بِهَذا الِاحْتِمالِ مَنَحاهم إلى مَذْهَبِ الفَلاسِفَةِ، انْتَهى.
والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ طَلَبَهُمُ السُّلْطانَ المُبِينَ وقَدْ أتَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالبَيِّناتِ إنَّما هو عَلى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ والِاقْتِراحِ، وإلّا فَما أُتُوا بِهِ مِنَ الدَّلائِلِ والآياتِ كافٍ لِمَنِ اسْتَبْصَرَ، ولَكِنَّهم قَلَّدُوا آباءَهم فِيما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ الضَّلالِ، ألا تَرى إلى أنَّهم لَمّا ذَكَرُوا أنَّهم مُماثِلُوهم قالُوا: ﴿تُرِيدُونَ أنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا﴾ أيْ: لَيْسَ مَقْصُودُكم إلّا أنْ نَكُونَ لَكم تَبَعًا، ونَتْرُكُ ما نَشَأْنا عَلَيْهِ مِن دِينِ آبائِنا. وقَرَأ طَلْحَةُ: ﴿أنْ تَصُدُّونا﴾ بِتَشْدِيدِ النُّونِ، جَعَلَ ”أنْ“ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وقَدَّرَ فَصْلًا بَيْنَها وبَيْنَ الفِعْلِ، وكانَ الأصْلُ أنَّهُ تَصُدُّونَنا، فَأدْغَمَ نُونَ الرَّفْعِ في الضَّمِيرِ، والأوْلى أنْ تَكُونَ ”أنْ“ الثُّنائِيَّةَ الَّتِي تَنْصِبُ المُضارِعَ، لَكِنَّهُ هُنا لَمْ يُعْمِلْها بَلْ ألْغاها، كَما ألْغاها مَن قَرَأ ﴿لِمَن أرادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ﴾ [البقرة: ٢٣٣] بِرَفْعِ (يُتِمُّ) حَمَلًا عَلى ”ما“ المَصْدَرِيَّةِ أُخْتِها.
{"ayahs_start":9,"ayahs":["أَلَمۡ یَأۡتِكُمۡ نَبَؤُا۟ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ قَوۡمِ نُوحࣲ وَعَادࣲ وَثَمُودَ وَٱلَّذِینَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَا یَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا ٱللَّهُۚ جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَرَدُّوۤا۟ أَیۡدِیَهُمۡ فِیۤ أَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَقَالُوۤا۟ إِنَّا كَفَرۡنَا بِمَاۤ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ وَإِنَّا لَفِی شَكࣲّ مِّمَّا تَدۡعُونَنَاۤ إِلَیۡهِ مُرِیبࣲ","۞ قَالَتۡ رُسُلُهُمۡ أَفِی ٱللَّهِ شَكࣱّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ یَدۡعُوكُمۡ لِیَغۡفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَیُؤَخِّرَكُمۡ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ قَالُوۤا۟ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُنَا تُرِیدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ یَعۡبُدُ ءَابَاۤؤُنَا فَأۡتُونَا بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینࣲ"],"ayah":"۞ قَالَتۡ رُسُلُهُمۡ أَفِی ٱللَّهِ شَكࣱّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ یَدۡعُوكُمۡ لِیَغۡفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَیُؤَخِّرَكُمۡ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ قَالُوۤا۟ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرࣱ مِّثۡلُنَا تُرِیدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ یَعۡبُدُ ءَابَاۤؤُنَا فَأۡتُونَا بِسُلۡطَـٰنࣲ مُّبِینࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق