الباحث القرآني

﴿وإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهم أئِذا كُنّا تُرابًا أئِنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وأُولَئِكَ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ ﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وإنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقابِ﴾ (p-٣٦٥)ولَمّا أقامَ الدَّلائِلَ عَلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِما أوْدَعَهُ مِنَ الغَرائِبِ في مَلَكُوتِهِ الَّتِي لا يَقْدِرُ عَلَيْها سِواهُ، عَجِبَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن إنْكارِ المُشْرِكِينَ وحْدانِيَّتَهُ وتَوْهِينِهِمْ قُدْرَتَهُ لِضَعْفِ عُقُولِهِمْ فَنَزَلَ ﴿وإنْ تَعْجَبْ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وإنْ تَعْجَبْ مِن تَكْذِيبِهِمْ إيّاكَ بَعْدَما كانُوا حَكَمُوا عَلَيْكَ أنَّكَ مِنَ الصّادِقِينَ، فَهَذا أعْجَبُ. وقِيلَ: وإنْ تَعْجَبْ يا مُحَمَّدُ مِن عِبادَتِهِمْ ما لا يَمْلِكُ لَهم ضَرًّا ولا نَفْعًا بَعْدَما عَرَفُوا الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى التَّوْحِيدِ، فَهَذا أعْجَبُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنْ تَعْجَبْ مِن قَوْلِهِمْ يا مُحَمَّدُ في إنْكارِ البَعْثِ، فَقَوْلُهم عَجِيبٌ، حَقِيقٌ بِأنْ يُتَعَجَّبَ مِنهُ؛ لِأنَّ مَن قَدَرَ عَلى إنْشاءِ ما عَدَّدَ عَلَيْكَ مِنَ الفِطَرِ العَظِيمَةِ، ولِمَ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، كانَتِ الإعادَةُ أهْوَنَ شَيْءٍ عَلَيْهِ وأيْسَرَهُ، فَكانَ إنْكارُهم أُعْجُوبَةً مِنَ الأعاجِيبِ، انْتَهى. ولَيْسَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ ما ذُكِرَ؛ لِأنَّهُ جَعَلَ مُتَعَلِّقَ عَجَبِهِ ﷺ هو قَوْلُهم في إنْكارِ البَعْثِ، فاتَّحَدَ الجَزاءُ والشَّرْطُ، إذْ صارَ التَّقْدِيرُ: وإنْ تَعْجَبْ مِن قَوْلِهِمْ في إنْكارِ البَعْثِ فاعْجَبْ مِن قَوْلِهِمْ في إنْكارِ البَعْثِ، وإنَّما مَدْلُولُ اللَّفْظِ أنْ يَقَعَ مِنكَ عَجَبٌ، فَلْيَكُنْ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿أئِذا كُنّا﴾ الآيَةَ. وكانَ المَعْنى الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُتَعَجَّبَ مِنهُ: هو إنْكارُ البَعْثِ؛ لِأنَّهُ تَعالى هو المُخْتَرِعُ لِلْأشْياءِ، ومَن كانَ قادِرًا عَلى إبْرازِها مِنَ العَدَمِ الصِّرْفِ كانَ قادِرًا عَلى الإعادَةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهو أهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧] أيْ: هَيِّنٌ عَلَيْهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الآيَةُ تَوْبِيخٌ لِلْكَفَرَةِ؛ أيْ: إنْ تَعْجَبْ يا مُحَمَّدُ مِن جَهالَتِهِمْ وإعْراضِهِمْ عَنِ الحَقِّ، فَهم أهْلٌ لِذَلِكَ، وعَجِيبٌ وغَرِيبٌ أنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمُ العَوْدَ بَعْدَ كَوْنِنا خَلْقًا جَدِيدًا. ويَحْتَمِلُ اللَّفْظُ مَنزَعًا آخَرَ: إنْ كُنْتَ تُرِيدَ عَجَبًا فَهَلُمَّ، فَإنَّ مِن أعْجَبِ العَجَبِ قَوْلَهم، انْتَهى. واخْتَلَفَ القُرّاءُ في الِاسْتِفْهامَيْنِ إذا اجْتَمَعا في أحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا، هُنا مَوْضِعٌ، وكَذا في المُؤْمِنِينَ، وفي العَنْكَبُوتِ، وفي النَّمْلِ، وفي السَّجْدَةِ، وفي الواقِعَةِ، وفي والنّازِعاتِ، وفي بَنِي إسْرائِيلَ مَوْضِعانِ، وكَذا في والصّافّاتِ. وقَرَأ نافِعٌ والكِسائِيُّ بِجَعْلِ الأوَّلِ اسْتِفْهامًا، والثّانِي خَبَرًا، إلّا في العَنْكَبُوتِ والنَّمْلِ بِعَكْسِ نافِعٍ. وجَمَعَ الكِسائِيُّ بَيْنَ الِاسْتِفْهامَيْنِ في العَنْكَبُوتِ، وأمّا في النَّمْلِ فَعَلى أصْلِهِ إلّا أنَّهُ زادَ نُونًا فَقَرَأ: (إنَّنا لَمُخْرَجُونَ) وقَرَأابْنُ عامِرٍ بِجَعْلِ الأوَّلِ خَبَرًا، والثّانِي اسْتِفْهامًا، إلّا في النَّمْلِ والنّازِعاتِ فَعَكْسٌ، وزادَ في النَّمْلِ نُونًا كالكِسائِيِّ. وإلّا في الواقِعَةِ فَقَرَأهُما بِاسْتِفْهامَيْنِ، وهي قِراءَةُ باقِي السَّبْعَةِ في هَذا البابِ، إلّا ابْنَ كَثِيرٍ وحَفْصًا قَرَأ في العَنْكَبُوتِ بِالخَبَرِ في الأوَّلِ وبِالِاسْتِفْهامِ في الثّانِي، وهم عَلى أُصُولِهِمْ في اجْتِماعِ الهَمْزَتَيْنِ مِن تَخْفِيفٍ (p-٣٦٦)وتَحْقِيقٍ وفَصْلٍ بَيْنَ الهَمْزَتَيْنِ وتَرْكِهِ. وقَوْلُهم: (فَعَجَبٌ) هو خَبَرٌ مُقَدَّمٌ ولا بُدَّ فِيهِ مِن تَقْدِيرِ صِفَةٍ؛ لِأنَّهُ لا يَتَمَكَّنُ المَعْنى بِمُطْلَقٍ فَلا بُدَّ مِن قَيْدِهِ، وتَقْدِيرُهُ - واللَّهُ أعْلَمُ -: فَعَجَبٌ أيْ عَجَبٌ، أوْ فَعَجَبٌ غَرِيبٌ، وإذا قَدَّرْناهُ مَوْصُوفًا جازَ أنْ يُعْرَبَ مُبْتَدَأً؛ لِأنَّهُ نَكِرَةٌ فِيها مُسَوِّغُ الِابْتِداءِ وهو الوَصْفُ، وقَدْ وقَعَتْ مَوْقِعَ الِابْتِداءِ، ولا يَضُرُّ كَوْنُ الخَبَرِ مَعْرِفَةً، ذَلِكَ كَما أجازَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ في كَمْ مالِكٍ ؟ لِمُسَوِّغِ الِابْتِداءِ فِيهِ وهو الِاسْتِفْهامُ، وفي نَحْوِ: اقْصِدْ رَجُلًا خَيْرٌ مِنهُ أبُوهُ، لِمُسَوِّغِ الِابْتِداءِ أيْضًا، وهو كَوْنُهُ عامِلًا فِيما بَعْدَهُ، وقالَ أبُو البَقاءِ: وقِيلَ عَجَبٌ بِمَعْنى مُعَجَّبٍ، قالَ: فَعَلى هَذا يَجُوزُ أنْ يَرْتَفِعَ قَوْلُهم بِهِ، انْتَهى. وهَذا الَّذِي أجازَهُ لا يَجُوزُ، لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن كَوْنِ الشَّيْءِ بِمَعْنى الشَّيْءِ أنْ يَكُونَ حُكْمُهُ في العَمَلِ كَحُكْمِهِ، فَمُعَجَّبٌ يَعْمَلُ، وعَجَبٌ لا يَعْمَلُ، ألا تَرى أنَّ فِعْلًا كَذَبَحَ، وفِعْلًا كَقَبَضَ، وفُعْلَةً كَغُرْفَةٍ، هي بِمَعْنى مَفْعُولٍ، ولا يَعْمَلُ عَمَلَهُ، فَلا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ذَبَحَ كَبْشَهُ، ولا بَرَجُلٍ قَبَضَ مالَهُ، ولا بَرَجُلٍ غَرَفَ ماءَهُ، بِمَعْنى مَذْبُوحٍ كَبْشُهُ ومَقْبُوضٍ مالُهُ ومَعْرُوفٍ ماؤُهُ. وقَدْ نَصُّوا عَلى أنَّ هَذِهِ تَنُوبُ في الدَّلالَةِ لا في العَمَلِ عَنِ المَفْعُولِ. وقَدْ حَصَرَ النَّحْوِيُّونَ ما يَرْفَعُ الفاعِلَ، والظّاهِرُ أنَّ ”أئِذا“ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِمْ مَحْكِيٌّ بِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿أئِذا كُنّا﴾ إلى آخِرِ قَوْلِهِمْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بَدَلًا مِن قَوْلِهِمْ، انْتَهى. هَذا إعْرابٌ مُتَكَلَّفٌ، وعُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ. و”إذا“ مُتَمَحِّضَةٌ لِلظَّرْفِ ولَيْسَ فِيها مَعْنى الشَّرْطِ، فالعامِلُ فِيها مَحْذُوفٌ يُفَسِّرُهُ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ الجُمْلَةُ الثّانِيَةُ، وتَقْرِيرُهُ: أنُبْعَثُ، أوْ أنُحْشَرُ. (أُولَئِكَ) إشارَةٌ إلى قائِلِ تِلْكَ المَقالَةِ، وهو تَقْرِيرٌ مُصَمَّمٌ عَلى إنْكارِ البَعْثِ، فَلِذَلِكَ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ إذْ عَجَّزُوا قُدْرَتَهُ مِن إعادَةِ ما أنْشَأ واخْتَرَعَ ابْتِداءً. ولَمّا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ في الدُّنْيا ذَكَرَ ما يَئُولُونَ إلَيْهِ في الآخِرَةِ عَلى سَبِيلِ الوَعِيدِ، وأبْرَزَ ذَلِكَ في جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُشارٌ إلَيْهِمْ. والظّاهِرُ أنَّ الأغْلالَ تَكُونُ حَقِيقَةً في أعْناقِهِمْ كالأغْلالِ، ثُمَّ ذَكَرَ ما يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ في الآخِرَةِ، كَما قالَ: ﴿إذِ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ والسَّلاسِلُ﴾ [غافر: ٧١] وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَجازًا أيْ: هم مَغْلُولُونَ عَنِ الإيمانِ، فَتَجْرِي ”إذا“ مَجْرى الطَّبْعِ والخَتْمِ عَلى القُلُوبِ كَما قالَ تَعالى: ﴿إنّا جَعَلْنا في أعْناقِهِمْ أغْلالًا﴾ [يس: ٨] وكَما قالَ الشّاعِرُ: ؎لَهم عَنِ الرُّشْدِ أغْلالٌ وأقْيادُ وقِيلَ: الأغْلالُ هُنا عِبارَةٌ عَنْ أعْمالِهِمُ الفاسِدَةِ في أعْناقِهِمْ كالأغْلالِ، ثُمَّ ذَكَرَ ما يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ في الآخِرَةِ، وأبْرَزَ ذَلِكَ في جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ - مُشارًا إلَيْهِمْ - رادَّةٍ عَلَيْهِمْ ما أنْكَرُوهُ مِنَ البَعْثِ، إذْ لا يَكُونُ أصْحابُ النّارِ إلّا بَعْدَ الحَشْرِ، ولَمّا كانُوا مُتَوَعَّدِينَ بِالعَذابِ إنْ أصَرُّوا عَلى الكُفْرِ، وكانُوا مُكَذِّبِينَ بِما أُنْذِرُوا بِهِ مِنَ العَذابِ، سَألُوا واسْتَعْجَلُوا في الطَّلَبِ أنْ يَأْتِيَهُمُ العَذابُ وذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ كَما قالُوا: ﴿فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً﴾ [الأنفال: ٣٢]، وقالُوا: ﴿أوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفًا﴾ [الإسراء: ٩٢] . قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: السَّيِّئَةُ العَذابُ، والحَسَنَةُ العافِيَةُ. وقالَ قَتادَةُ: بِالشَّرِّ قَبْلَ الخَيْرِ. وقِيلَ: بِالبَلاءِ والعُقُوبَةِ قَبْلَ الرَّخاءِ والعافِيَةِ، وهَذِهِ الأقْوالُ مُتَقارِبَةٌ. ﴿وقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ﴾ أيْ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِما حَلَّ بِغَيْرِهِمْ مِن مُكَذِّبِي الرُّسُلِ في الأُمَمِ السّالِفَةِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى سُخْفِ عُقُولِهِمْ، إذْ يَسْتَعْجِلُونَ بِالعَذابِ والحالَةُ هَذِهِ، فَلَوْ أنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ تَعْذِيبُ أمْثالِهِمْ لَكانُوا رُبَّما يَكُونُ لَهم عُذْرٌ، ولَكِنَّهم لا يَعْتَبِرُونَ فَيَسْتَهْزِئُونَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: (المَثُلاتُ) العُقُوباتُ المُسْتَأْصِلاتُ، كَمَثُلاتِ قَطْعِ الأنْفِ والأُذُنِ ونَحْوِهِما. وقالَ السُّدِّيُّ: النَّقِماتُ. وقالَ قَتادَةُ: وقائِعُ اللَّهِ الفاضِحَةُ، كَمَسْخِ القِرَدَةِ والخَنازِيرِ. وقالَ مُجاهِدٌ: الأمْثالُ المَضْرُوبَةُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِفَتْحِ المِيمِ وضَمِّ التّاءِ، ومُجاهِدٌ والأعْمَشُ بِفَتْحِهِما. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَيْرٍ وفي رِوايَةِ الأعْمَشِ وأبُو بَكْرٍ: بِضَمِّهِما. وابْنُ وثّابٍ: بِضَمِّ المِيمِ وسُكُونِ الثّاءِ. وابْنُ مُصَرِّفٍ: بِفَتْحِ المِيمِ وسُكُونِ الثّاءِ. و﴿لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ﴾ تَرْجِيَةٌ لِلْغُفْرانِ، و﴿عَلى ظُلْمِهِمْ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، والمَعْنى: أنَّهُ يَغْفِرُ لَهم مَعَ ظُلْمِهِمْ أنْفُسَهم بِاكْتِسابِ الذُّنُوبِ؛ أيْ: ظالِمِينَ أنْفُسَهم. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَيْسَ في القُرْآنِ (p-٣٦٧)آيَةٌ أرْجى مِن هَذِهِ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: لِيَغْفِرَ لَهم في الآخِرَةِ. وقالَ القاسِمُ بْنُ يَحْيى وقَوْمٌ: لِيَغْفِرَ لَهُمُ الظُّلْمَ السّالِفَ بِتَوْبَتِهِمْ في الآنِفِ. وقِيلَ: لِيَغْفِرَ السَّيِّئاتِ الصَّغِيرَةَ لِمُجْتَنِبِ الكَبائِرِ. وقِيلَ: لِيَغْفِرَ لَهم بِسَتْرِهِ وإمْهالِهِ، فَلا يُعَجِّلُ لَهُمُ العَذابَ مَعَ تَعْجِيلِهِمْ بِالمَعْصِيَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والظّاهِرُ مِن مَعْنى المَغْفِرَةِ هُنا هو سَتْرُهُ في الدُّنْيا، وإمْهالُهُ لِلْكَفَرَةِ. ألا تَرى التَّيْسِيرَ في لَفْظِ مَغْفِرَةٍ، وأنَّها مُنْكَرَةٌ مُقَلَّدَةٌ، ولَيْسَ فِيها مُبالَغَةٌ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنِّي لَغَفّارٌ لِمَن تابَ﴾ [طه: ٨٢] ومَحَطُّ الآيَةِ يُعْطِي هَذا حُكْمَهُ عَلَيْهِمْ بِالنّارِ. ثُمَّ قالَ: ويَسْتَعْجِلُونَكَ، فَلَمّا ظَهَرَ سُوءُ فِعْلِهِمْ وجَبَ في نَفْسِ السّامِعِ تَعْذِيبُهم، فَأخْبَرَ بِسِيرَتِهِ في الأُمَمِ، وأنَّهُ يُمْهِلُ مَعَ ظُلْمِ الكَفَرَةِ، انْتَهى. و﴿لَشَدِيدُ العِقابِ﴾ تَخْوِيفٌ وارْتِقابٌ بَعْدَ تَرْجِيَةٍ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَوْلا عَفْوُ اللَّهِ ومَغْفِرَتُهُ لَما هَنَأ لِأحَدٍ عَيْشٌ، ولَوْلا عِقابُهُ لاتَّكَلَ كُلُّ أحَدٍ» وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «إنَّ العَبْدَ لَوْ عَلِمَ قَدْرَ عَفْوِ اللَّهِ لَما أمْسَكَ عَنْ ذَنْبٍ، ولَوْ عَلِمَ قَدْرَ عُقُوبَتِهِ لَقَمَعَ نَفْسَهُ في عِبادَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ» . ﴿ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ إنَّما أنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِ قَوْمٍ هادٍ﴾ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: لَمّا نَزَلَتْ وضَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَهُ عَلى صَدْرِهِ فَقالَ: «أنا مُنْذِرٌ» وأوْمَأ بِيَدِهِ إلى مَنكِبِ عَلِيٍّ وقالَ: ”أنْتَ الهادِي يا عَلِيُّ، بِكَ يَهْتَدِي مَن بَعْدِي“ . وقالَ القُشَيْرِيُّ: نَزَلَتْ في النَّبِيِّ ﷺ وعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، و(الَّذِينَ كَفَرُوا) مُشْرِكُو العَرَبِ، أوْ مَن أنْكَرَ نُبُوَّتَهُ مِن مُشْرِكِيهِمْ والكُفّارِ، ولَمْ يَعْتَدُّوا بِالآياتِ الخارِقَةِ المُنَزَّلَةِ كانْشِقاقِ القَمَرِ، وانْقِيادِ الشَّجَرِ، وانْقِلابِ العَصا سَيْفًا، ونَبْعِ الماءِ مِن بَيْنِ الأصابِعِ وأمْثالِ هَذِهِ. فاقْتَرَحُوا عِنادًا آياتٍ كالمَذْكُورَةِ في سُبْحانَ، وفي الفُرْقانِ كالتَّفْجِيرِ لِلْيَنْبُوعِ، والرُّقِيِّ في السَّماءِ، والمُلْكِ، والكَنْزِ، فَقالَ تَعالى لِنَبِيِّهِ: ﴿إنَّما أنْتَ مُنْذِرٌ﴾ تُخَوِّفُهم مِن سُوءِ العاقِبَةِ، وناصِحٌ كَغَيْرِكَ مِنَ الرُّسُلِ، لَيْسَ لَكَ الإتْيانُ بِما اقْتَرَحُوا. إذْ قَدْ أتى بِآياتٍ عَدَدَ الحَصا، والآياتُ كُلُّها مُتَماثِلَةٌ في صِحَّةِ الدَّعْوى، لا تَفاوُتَ فِيها. فالِاقْتِراحُ إنَّما هو عِنادٌ، ولَمْ يُجْرِ اللَّهُ العادَةَ بِإظْهارِ الآياتِ المُقْتَرِحَةِ إلّا لِلْآيَةِ الَّتِي حَتَّمَ بِعَذابِها واسْتِئْصالِها. و(هادٍ) يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَدْ عَطَفَ عَلى (مُنْذِرٌ) وفَصَلَ بَيْنَهُما بِقَوْلِهِ: (لِكُلِّ قَوْمٍ) وبِهِ قالَ: عِكْرِمَةُ وأبُو الضُّحى. فَإنْ أخَذْتَ: ﴿ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ عَلى العُمُومِ فَمَعْناهُ: وداعٍ إلى الهُدى، كَما قالَ: (بُعِثْتُ إلى الأسْوَدِ والأحْمَرِ) فَإنْ أخَذْتَ هادٍ عَلى حَقِيقَتِهِ فَلِكُلِّ قَوْمٍ مَخْصُوصٌ؛ أيْ: ولِكُلِّ قَوْمٍ قائِلِينَ هادٍ. وقِيلَ: ولِكُلِّ أُمَّةٍ سَلَفَتْ هادٍ؛ أيْ: نَبِيٌّ يَدْعُوهم. والقَصْدُ: فَلَيْسَ أمْرُكَ بِبِدْعٍ ولا مُنْكَرٍ، وبِهِ قالَ: مُجاهِدٌ وابْنُ زَيْدٍ والزَّجّاجُ قالَ: نَبِيٌّ يَدْعُوهم بِما يُعْطى مِنَ الآياتِ، لا بِما يَتَحَكَّمُونَ فِيهِ مِنَ الِاقْتِراحاتِ، وتَبِعَهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقالَ: هادٍ مِنَ الأنْبِياءِ يَهْدِيهِمْ إلى الدِّينِ، ويَدْعُوهم إلى اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الهِدايَةِ، وبِآيَةٍ خُصَّ بِها، ولَمْ يَجْعَلِ الأشْياءَ شَرْعًا واحِدًا في آياتٍ مَخْصُوصَةٍ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الهادِي في هَذِهِ الآيَةِ هو اللَّهُ تَعالى، رُوِيَ أنَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وابْنِ جُبَيْرٍ. و(هادٍ): عَلى هَذا مُخْتَرِعٌ لِلْإرْشادِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وألْفاظٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذا المَعْنى، وتُعْرَفُ أنَّ اللَّهَ تَعالى هو الهادِي مِن غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: في هَذا القَوْلِ وجْهٌ آخَرُ: وهو أنْ يَكُونَ المَعْنى: أنَّهم يَجْحَدُونَ كَوْنَ ما أُنْزِلَ عَلَيْكَ آياتٍ ويُعانِدُونَ، فَلا يُهِمَّنَّكَ ذَلِكَ إنَّما أنْتَ مُنْذِرٌ، فَما عَلَيْكَ إلّا أنْ تُنْذِرَ، لا أنْ تُثْبِتَ الإيمانَ بِالإلْجاءِ، والَّذِي يُثْبِتُهُ بِالإلْجاءِ هو اللَّهُ تَعالى، انْتَهى. ودَلَّ كَلامُهُ عَلى الِاعْتِزالِ. وقالَ في مَعْنى القَوْلِ الَّذِي تَبِعَ فِيهِ مُجاهِدًا، وابْنَ زَيْدٍ ما نَصُّهُ: ولَقَدْ دَلَّ بِما أرْدَفَهُ مِن ذِكْرِ آياتِ عِلْمِهِ وتَقْدِيرِهِ الأشْياءَ عَلى قَضايا حِكْمَتِهِ، أنَّ إعْطاءَ كُلِّ مُنْذِرٍ آياتٍ أمْرٌ مُدَبَّرٌ بِالعِلْمِ النّافِذِ، مُقَدَّرٌ بِالحِكْمَةِ الرَّبّانِيَّةِ. ولَوْ عَلِمَ في إجابَتِهِمْ إلى مُقْتَرَحِهِمْ خَيْرًا أوْ مَصْلَحَةً لَأجابَهم إلَيْهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أيْضًا في مَعْنى أنَّ الهادِيَ هو اللَّهُ تَعالى أيْ: بِالإلْجاءِ عَلى زَعْمِهِ (p-٣٦٨)ما نَصُّهُ: وأمّا هَذا الوَجْهُ الثّانِي فَقَدْ دَلَّ بِهِ عَلى أنَّ مِن هَذِهِ القُدْرَةِ قُدْرَتَهُ وهَذا عِلْمُهُ، هو القادِرُ وحْدَهُ عَلى هِدايَتِهِمُ العالِمُ بِأيِّ طَرِيقٍ يَهْدِيهِمْ، ولا سَبِيلَ إلى ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، انْتَهى. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الهادِي: عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وإنْ صَحَّ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِمّا ذَكَرْناهُ في صَدْرِ هَذِهِ الآيَةِ، فَإنَّما جَعَلَ الرَّسُولُ ﷺ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ مِثالًا مِن عُلَماءِ الأُمَّةِ وهُداتِها إلى الدِّينِ، فَكَأنَّهُ قالَ: أنْتَ يا عَلِيُّ هَذا وصْفُكَ، لِيَدْخُلَ في ذَلِكَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ وسائِرُ عُلَماءِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم، ثُمَّ كَذَلِكَ عُلَماءُ كُلِّ عَصْرٍ، فَيَكُونُ المَعْنى عَلى هَذا: إنَّما أنْتَ يا مُحَمَّدُ مُنْذِرٌ، ولِكُلِّ قَوْمٍ في القَدِيمِ والحَدِيثِ دُعاةٌ هُداةٌ إلى الخَيْرِ. وقالَ أبُو العالِيَةِ: الهادِي: العَمَلُ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى: ولِكُلِّ قَوْمٍ سَبَقَهم إلى الهُدى إلى نَبِيِّ أُولَئِكَ القَوْمِ. وقِيلَ: (هادٍ) قائِدٌ إلى الخَيْرِ أوْ إلى الشَّرِّ، قالَ تَعالى في الخَيْرِ: ﴿وهُدُوا إلى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وهُدُوا إلى صِراطِ الحَمِيدِ﴾ [الحج: ٢٤] وقالَ في الشَّرِّ: ﴿فاهْدُوهم إلى صِراطِ الجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٢٣] قالَهُ أبُو صالِحٍ. ووَقَفَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلى (هادٍ) و(واقٍ) حَيْثُ وقَعا، وعَلى (والٍ) هُنا و(باقٍ) في النَّحْلِ بِإثْباتِ الياءِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِحَذْفِها. وفي الإقْناعِ لِأبِي جَعْفَرِ بْنِ الباذِشِ عَنِ ابْنِ مُجاهِدٍ: الوَقْفُ عَلى جَمِيعِ البابِ لِابْنِ كَثِيرٍ بِالياءِ، وهَذا لا يَعْرِفُهُ المَكِّيُّونَ. وفِيهِ عَنْ أبِي يَعْقُوبَ الأزْرَقِ، عَنْ ورْشٍ أنَّهُ خَيَّرَهُ في الوَقْفِ في جَمِيعِ البابِ بَيْنَ أنْ يَقِفَ بِالياءِ وبَيْنَ أنْ يَقِفَ بِحَذْفِها. والبابُ هو كُلُّ مَنقُوصٍ مُنَوَّنٍ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب